تعد «إستراتيجية تطوير العلوم والتقنية في الوطن العربي» التي اعدت قبل نحو عقدين من الزمن، الانطلاقة الهامة والركيزة الأساس للعمل العربي المشترك في مجال العلوم والتقنية، ومع انها لم تنل نصيبها بشكل كاف في التطبيق لظروف ومتغيرات متسارعة على المستويين العربي والعالمي، فما زالت تعكس في جوهرها الاوضاع الراهنة للعلوم والتقنية في الدول العربية، والتطلعات والآمال التي تبنى عليهما للنهوض بمختلف جوانب التنمية الشاملة في الوطن العربي.
الا ان ما تتصف به هذه الاستراتيجية من اسلوب علمي منهجي مرن قابل للتطوير من جانب، وما يطرأ على البيئة المحيطة بالعلوم والتقنية من متغيرات ومستجدات وما تعكسه من تحديات من جانب آخر، تستدعي جميعها اعادة النظر الدورية والمتواصلة بأهداف وسياسات وتوجهات هذه الاستراتيجية لتواكب التطورات والمستجدات والتحولات الكبرى ذات الاثر المباشر على الدول العربية مثل عولمة الاقتصاد، والتحول نحو الاقتصاد المبني على المعرفة، وظهور التكتلات الاقليمية، وتفعيل ضوابط وانظمة حماية حقوق الملكية الفكرية، والنظم المتصلة بالقيم الانسانية وببعض الآثار البيئية، والجرائم المستحدثة المرتبطة بالتقنيات الجديدة وغيرها.
< الاستراتيجية بين الواقع والطموحات < تشير دراسات الوضع الراهن للعلوم والتقنية في الدول العربية خلال السنوات القليلة الماضية ومقارنتها بمؤشرات العلوم والتقنية خلال فترة اعداد استراتيجية تطوير العلوم والتقنية في الوطن العربي، الى ان هناك اهتماما متزايدا من الدول العربية لبناء منظومة العلوم والتقنية والابتكار، كما ان هناك اهتماما متزايدا بالدور الذي يمكن ان يقوم به القطاع الخاص والاستثمارات الاجنبية في تنمية بعض وظائف تلك المنظومة. ومع ذلك، فالمنظومات الوطنية للعلوم والتقنية تتفاوت في تطورها من بلد عربي الى آخر، ولم تصل في مجملها الى درجة التقدم الذي وصلت اليه المنظومات في الدول المتقدمة او الناهضة، خاصة في ما يتعلق بدعم ورعاية الابتكار واندماجه في النسيج الاقتصادي والاجتماعي.
وعلى الرغم من توصيات الاستراتيجية العربية للعلوم والتقنية بضرورة التنسيق بين انشطة العلوم والتقنية من جهة، وربطهما باحتياجات التنمية من جهة ثانية، فما زالت الدول العربية تعاني من ضعف التنسيق الفاعل في مجالات العلوم والتقنية، سواء على المستوى الوطني ام العربي. فمؤسسات البحث العلمي، التي في معظمها متوسطة وصغيرة الحجم وذات طاقات علمية وتقنية وتمويلية محدودة تكاد لا تصل العتبة الحرجة اللازمة للانطلاقة الفعلية للبحث والتطوير، تتوزع بين جهات متعددة تمارس في اغلب الاحيان انشطة متشابهة دون ان يربط بينها اي رابط فعلي. مما قد ينجم عنه بعض الازدواجية غير المبررة، وبعض الهدر في الموارد والقدرات النادرة. وباستعراض اهم مدخلات العلوم والتقنية في الدول العربية ومقارنتها مع بعض دول العالم، يمكن استنتاج ما يلي:
* ارتفاع نسبة الانفاق على التعليم العالي مقارنة بالدخل القومي الاجمالي، من (690.69)1 في عام 1984 الى (1.25%) في عام 19962، مع استمرار الحاجة لمزيد من الانفاق للتوسع في استيعاب الطلبة وتحسين اداء المؤسسات التعليمية.
* الضعف الواضح في انفاق الدول العربية على البحث والتطوير، اذ لم يتجاوز 0.4% من اجمالي الانفاق العالمي الذي وصل الى 470 بليون دولار عام (1998)3، اذ قدرت نسبة انفاق الدول العربية على البحث والتطوير الى الناتج المحلي الاجمالي بحوالي (0.2%)4 في عام 1984، وبقيت هذه النسبة ذاتها حتى عام 1996 مقارنة بنسبة (3.1%) في اليابان والولايات المتحدة الاميركية والسويد، و(2.7%) في بقية الدول الصناعية5 عام 1996.
والجدير ملاحظته هنا ان الدول العربية تنفق على التعليم العالي اكثر بكثير مما تنفقه على البحث والتطوير، وهو عكس ما يجري في العالم المتقدم. كما ان سياسات الانفتاح والتخصيص طرحت قضايا تتعلق باستمرارية التمويل الوطني والدولي للانشطة العلمية والتقنية مما جعل المؤسسات العلمية والتقنية تعاني من نقص في مواردها المالية. ومع ان القطاع الخاص يقوم بدور متنام في انتاج المعرفة، الا انه لم يضع كل امكاناته بعد، كما لم ينسق جهوده مع المؤسسات الوطنية.
* قُدر عدد الباحثين العاملين في مراكز البحوث والتطوير خارج الجامعات في البلدان العربية 8100 باحث عام 1985، كان يعمل ما يزيد عن نصفهم في مجالات الزراعة والموارد الطبيعية، و27 في المائة في مجالات الصناعة والتعدين والطاقة والنفط، في حين كان 9.5 في المائة فقط يعملون في البحوث الاساسية والتقنيات المتقدمة، و9.4 في المائة في قطاع الخدمات6. واشارت تقديرات اخرى الى ان اجمالي عدد الباحثين في الدول العربية اصبح 19100 باحث في عام (1996)7، اي ما يعادل 0.3 باحث لكل 100 ألف من القوى العاملة مقابل 4.6 في دول منظومة التعاون والتنمية
الاقتصادية. واصبح يعمل 44.2 في المائة من الباحثين في الزراعة، و16.3 في المائة في الصناعة، والطاقة والبترول، و14.3 في المائة في العلوم الاساسية والصحة، و11.9 في المائة في العلوم الانسانية والاجتماعية.
وتنعكس هذه المؤشرات على الانتاج العلمي والتقني كماً ونوعاً، وتصدر السلع المبنية على المعارف العلمية والتقنية، حيث تشير الاحصاءات العالمية الى ان:
ـ الانتاج العلمي ما زال قليلا على الرغم من تزايد البحوث العربية المنشورة في الدوريات العالمية مقارنة بالمتوسطات العالمية8: من 0.48 في المائة للسنوات 1986 ـ 1988 الى 0.52 في المائة للسنوات 1995 ـ 1997، علما بأن الدول العربية تمثل حوالي 4.5 في المائة من سكان العالم.
ـ نصيب الصادرات العربية من السلع ذات الكثافة التقنية المتوسطة والمتقدمة لا يتجاوز 45 في المائة من اجمالي الصادرات، في حين يشكل المتوسط العالمي (79%)9. ويعزى هذا الوضع الى ضعف تنمية قاعدة علمية وتقنية قادرة على التعامل مع التقنيات المنقولة واستيعابها وتطويرها، وإلى غياب المدن العلمية والتجمعات التقنية التي دعت الاستراتيجية العربية الى انشائها.
وما من شك ان اعطاء البعد الاقليمي اهمية خاصة في استراتيجية تطوير العلوم والتقنية، لم تواكبه اية اجراءات عملية وفاعلة على المستوى الوطني، وذلك للظروف السياسية والاقتصادية التي تعرضت لها المنطقة العربية منذ اقرار الاستراتيجية في عام 1988، مع ذلك فاننا نشاهد نقاط مضيئة عديدة تمثلت في ازدياد اعداد اتفاقيات التعاون العلمي والتقني المبرمة فيما بين الدول العربية، الامر الذي يتطلب دعم وتفعيل هذه الاتفاقيات لتتجسد في برامج ومشاريع علمية وتقنية كبرى على المستوى العربي.
كما ان حث استراتيجية الدول العربية على الدخول في المجالات العلمية والتقنية الجديدة والواعدة كالصناعات الالكترونية والمعلومات والاتصالات، والتقنيات الحيوية، والمواد الجديدة، لم تحظ بالاهتمام الكافي وما زالت هذه الدعوة قائمة وبالحاح اكبر اذا كان للدول العربية ان تتصدى لتحديات القرن الحادي والعشرين ومواكبة تطوراته وتحولاته الكبرى المتسارعة.
أدركت الدول المتقدمة مبكرا الدور المحوري للعلوم والتقنية في التنمية، ولذا فقد حرصت على رسم وتطوير سياستها العلمية والتقنية بشكل مستمر يتفق ومصالحها الحيوية. كما اولت هذه الدول البعد الاقليمي والدولي اهمية خاصة وتنسق جهودها العلمية والتقنية من خلال منظمات وتجمعات اقليمية متعددة. فقد انتهج الاتحاد الاوروبي، على سبيل المثال، سياسة متواصلة للبحث العلمي منذ حوالي العقدين هدفها دعم السياسات الوطنية لدول الاتحاد وتوفير تفاعل بين برامج البحوث الوطنية والاتحادية، وذلك من خلال تشجيع البرامج التي تشترك فيها المؤسسات الجامعية والاقتصادية المنتمية الى الدول الاعضاء في الاتحاد.
ومنذ اقل من عقد من الزمن، يعيش العالم ـ والوطن العربي جزء منه ـ حركة تحول اساسية ومستمرة شملت مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، كما يشهد تطورات واكتشافات علمية وتقنية متسارعة ومذهلة ـ خاصة في مجالات تقنيات المعلومات والاتصالات، والتقنيات الحيوية، وتقنيات المواد المتقدمة، والتقنيات الفائقة الدقة (النانو تكنولوجي) ـ التي ستلعب جميعها دورا حاسما في تطور مسيرة الحضارة العالمية، كما انها ستعجل في تكوين منظومة تقنية جديدة تسمح بالانتقال من مرحلة الاختراعات المجتزأة الى مرحلة التحولات المنظومية (Systemic) للتقنيات كافة، وتنقلنا من مجتمع الثورة الصناعية الى مجتمع المعارف المبنية على تلبية احتياجات الانسان الذي هو غاية كل تطور وأداته الاساسية.
وما من شك ان تلك التطورات والتحولات لها تداعياتها الكبرى التي ستؤثر بشكل جوهري في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدول العربية خلال السنوات القادمة من القرن الحادي والعشرين، الامر الذي يتطلب من الدول العربية مواجهة هذه التحديات من خلال رسم سياسات علمية وتقنية فاعلة دعت الى وضعها الاستراتيجية العربية وأكدت على اهمية التعجيل في اعدادها.
ومع ذلك، فان كثيرا من الدول العربية لم تباشر بعد برسم سياسات وطنية لتنمية العلوم والتقنية والابتكار وربطها بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية (بالرغم من ضرورات ذلك بصورة ملحة). وتحاول بعض الدول العربية مقاربة هذا المطلب، ومن هنا يأتي اهتمام المملكة العربية السعودية باعداد سياسة وطنية للعلوم والتقنية تم رفعها الى المقام السامي لاقرارها
قريبا ان شاء الله، ومن ثم البدء في تنفيذها. وهذه السياسة تعد الجزء الرئيس من مشروع خطة وطنية شاملة للعلوم والتقنية بعيدة المدى لتطوير منظومة العلوم والتقنية والابتكار في المملكة لعقدين من الزمن.
تتكون الخطة الوطنية الشاملة للعلوم والتقنية بعيدة المدى من جزأين: يضم الجزء الاول سياسة وطنية للعلوم والتقنية، تشكل التوجهات الاساسية التي تضمن تواصل الجهد التنموي لمنظومة العلوم والتنقية والابتكار في المملكة واستمراريته على المدى البعيد، وفي الوقت نفسه توفر اطارا استراتيجيا يستمد منه الاولويات وتتكامل داخل سياقه استراتيجيات تفصيلية تناسب كل مرحلة من مراحل الخطة الوطنية الشاملة للعلوم والتقنية.
اما الجزء الثاني.. فيعنى بآليات تنفيذ هذه السياسة، ويضم استراتيجيات تفصيلية لوظائف وقطاعات العلوم والتقنية والابتكار; ينبثق عنها مبادرات وطنية وبرامج ومشروعات قطاعية يتم ادراجها في الخطط التشغيلية الخمسية للجهات المعنية، لتفسح بذلك مجالا واسعا لاستعراض مسارات العمل وبدائله، واتجاهاته ومتطلباته، ووسائله الموصلة الى بلوغ الغايات والاهداف المنشودة للمملكة في مجال العلوم والتقنية على المدى البعيد.
* رئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية
مع تحياتى ...... منقول للاستفاذة والافادة بانتظار ردكم وتعليقاتكم وربي يوفق الجميع ....
الاستاذة وفاء