إن فقه الواقع والظرف الذي يعيش فيه المسلمون أمر ضروري؛ لأن دراسة الواقع بمفهومه الواسع وفهمه الدقيق هو السبيل لحسن تطبيق الأحكام الشرعية,ذلك أن للواقع الأثر في تحديد مسار الأحكام الفقهية الاجتهادية فتارة يؤثر عليها فيغيرها بما يتناسب مع الواقع المتغير, وتارة يقيدها, أو ينقلها من الحالة العادية إلى حالة استثنائية, أو ييسرها أو يشددها, أو يوقف أو يؤجل العمل بها مؤقتاً, وذلك على النحو التالي:
1- تغيير الحكم :
تبين مما سبق أن الفقه الإسلامي يتميز بالمرونة وعدم الجمود على حرفية النصوص,وقد بنيت الأحكام الفقهية بناء على معرفة العلل والمقاصد منها,وبنا العلماء بناءً على ذلك قاعدة تغير الأحكامالاجتهادية بتغير الأزمنة والأمكنة,تبعاً لتغير عللها,وعدم تحقق المقصد منها(1).
ومن الأمثلة على تغير بعض الأحكام في الظاهر, وربطها بالمعنى الحقيقي, أو بعلة الحكم المنصوص عليه اعتباراً لتغير الأزمنة والأمكنة واختلاف الظروف والأحوال,إيقاف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سهم المؤلفة قلوبهم, وتقدير الدية نقداً بدل الإبل, وإباحة التقاط الإبل الضالة(2).
فاختلاف الواقع والظروف أدى لتغير الحكم وفق مقاصد الشارع.
2- تقييد الحكم:
إن المصلحة العامة هي قطب الرحى لأحكام السياسة الشرعية، ولذلك أجاز الفقهاء لولي الأمر أن يقيد بعض الأحكام بالقدر الذي يصون به المصلحة العامة, ومن الأمثلة على ذلك :تقيد عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- الناس من أكل اللحوم بعض الأيام دون بعض, وذلك بأن بمنعهم من أكلها يومين متتاليين, مع العلم أن أكل اللحوم مشروع؛ وذلك حتى يكون هناك مجال لتداولها بين الناس(3).
3- نقل الحكم من الحالة العادية إلى حالة استثنائية:
قد يؤثر الواقع على الحكم وذلك بنقله من الحالة العادية إلى حالة استثنائية وذلك لتغير الظروف والأحوال, ومن الأمثلة على ذلك : الحكم بجواز التسعير في حالة الغلاء وندرة السلع., حيث ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في التسعير هو الحرمة والمنع وذلك في الأحوال العادية,كرخص الأسعار واستقرار الأسواق ووفرة السلع,واختلفوا في حكم التسعير في الأحوال غير العادية كحالة الغلاء وندرة السلع واحتكار التجار إلى قولين:
القول الأول: جواز التسعير عند الحاجة إليه,وبهذا قالت الحنفية,وقول عند الحنابلة(1).
القول الثاني: منع التسعير مطلقاً,وهذا قول الأصح عند الشافعية,وقول متقدمي الحنابلة,وبه قالت الظاهرية(2).
فاختلاف الواقع والظروف قد يؤدي إلى نقل الحكم من الحالة العادية إلى حالة استثنائية وفق مقاصد الشارع محققاً مقصد التيسير ورفع الحرج,ومحققاً مقصد العدل في حرية البائع في تحديد الربح زمن النبي –r-.
4- تيسير الحكم :
من رحمة الله تعالى بعباده أن ربط تكليفهم بالوُسع, ولم يكلفهم فوق طاقتهم, فقال سبحانه:[لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ... ](3) , وتحقيقاً لهذه التوسعة جاءت التكاليف الشرعية مناسبة لجميع أحوال الإنسان العادية وغير العادية, فحيثما وقعت المشقة والحرج على المكلفين في المعاملات يأتي الشارع ليزيلها, ولذلك جاء الترخيص في الضروريات, والتخفيف لأصحاب الأعذار ورفع المؤاخذة عنهم.
5- تشديد الحكم:
نص الفقهاء على أن فساد الزمان أحد أسباب تغير الأحكام (4), ولذلك نرى أن شارب الخمر في عهد النبي- r - كان يضرب بالجريد والنعال, وفي عهد أبي بكر جلد أربعين, وفي عهد عمر جلد ثمانيين(1) , فقد كان الضرب بالجريد في زمن النبي, والأربعين جلدة زمن أبي بكر تكفي لزجر الناس وردعهم, واجتهد عمر في تشديد العقوبة فوق الأربعين عندما لم تكن الأربعون رادعة أو زاجرة كما من قبل, ومن هنا فهم العلماء قاعدة اختلاف الفتوى بسبب فساد الناس (2).
6- إيقاف أو تأجيل العمل بالحكم مؤقتاً:
إن الفقيه لا يتحرك في فراغ عند استنباط الحكم من الآيات والأحاديث, وإنما في واقع, وهذا الواقع غالباً ما يكون مليئاً بالعقبات, ومن هنا يصبح التكيف معه واعتباره أمراً ضرورياً, وقد يكون الظرف الواقعي غير مناسب لإنزال الحكم , فيتعين على الفقيه إيقاف أو تأجيل بعض الأحكام بناءً على قاعدة المصالح والمفاسد, كما يقول العز بن عبد السلام حول التكليف: "تارة يسقط بالامتثال, وتارة يسقط بتعذر الامتثال"(3).
ومن الأمثلة على إيقاف تنزيل الحكم على الواقع وتأجيله مؤقتاً اعتباراً لظرف الواقع: عدول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- عن تطبيق حدّ السرقة في عام الرمادة ريثما يرتفع ذلك المانع بزوال المجاعة(4).
وبذلك يتبين أن أسلوب التعامل مع الأحكام الاجتهادية القابلة للتغيير, أسلوب حيوي يقوم على اعتبار روح النص ومقصوده فيعمل بالحكم الأولى في كل ظرف بما يحقق مقاصد الشريعة.

(1)ابن القيم :أعلام الموقعين(3/11).

(2)الزحيلي: تجديد الفقه الإسلامي ص 218.

(3)الدريني: الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده ص 111-112.

(1)الزيلعي:تبيين الحقائق (6/28)؛ المرداوي:الإنصا (4/338)؛ابن قيم :الطرق الحكمية ص 253.


(2)النووي :روضة الطالبين(3/413)؛ المرداوي:الإنصا (4/338)؛ ابن حزم:المحلى(9/40).


(3)سورة البقرة:286.

(4)فقه الأولويات ص 73.

(1)البخاري: صحيح البخاري (8/196).

(2)القارئ: فقه النوازل والواقعات؛ بشير: الرأي وأثره في الفقه الإسلامي ص 223.

(3)قواعد الأحكام (1/51).

(4)النجار: مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة ص 237.