الحمد لله وحده..
هذه درة جديدة من درر ذلكم التحقيق النفيس الذي قام به الشيخ المحقق عبد الرحمن بن حسن قائد على كتاب : ((منتخب المنثور من الحكايات والسؤالات))،وموض وع هذه الدرة هو تهمة الإمام الدارقطني بالتشيع ،قال حفظه الله : ((قال ابن حجر في ترجمة يحيى بن الحسين , المتقدِّم قبل قليل :
« ونقل ابنُ طاهر عنه أنه سمع الخطيبَ يقول : في الدارقطنيِّين [ في مطبوعة الهند : الدارقطني ] تشيُّـع . وما أظنُّ هذا يصحُّ عن الخطيب , إلا إن كان أراد أهل المَحَلَّـة , فأما أبو الحسن الدارقطنيُّ فكان من المتدينين [ في مطبوعة الهند : فكان شيخا ] . هكذا نـبَّـه عليه ابن طاهر » .
قلت : أحسبُ أن الصواب هو ما وقع في الأصل , ويقويه أمران :
الأول : أن الأصل منسوخٌ عن خط المصنِّـف , والخطأ فيه نادر .
الثاني : أنه تأيَّد بما وقع في بعض نسخ « اللسان » , وهي التي طبعت عنها المطبوعتان المشار إليهما .
أما ما وقع في مطبوعة أبي غدة , فيشبه أن يكون تصرُّفًا من أحد النسَّاخ , أو من المحقق , ظنَّ أن السياق لا يستقيمُ إلا بالجمع , وهو ظنٌّ فائل , فإن النسبة إلى البلد تحتمل التعيين والوصف , كما تقول : « في الكوفيِّ تشيُّـع , وإذا رأيت الكوفيَّ يفعل كذا ... » , فيحتمل أن تكون قصدت كوفيًّا بعينه , وأن تكون قصدت كلَّ من اتصف بكونه كوفيًّا .
ولو كانت الكلمة بالجمع : « الدارقطنيين » لما كان لقوله : « إلا إن كان أراد أهل المَحَلَّـة » معنى , لأنها ستنصرفُ إليهم بداهةً .
وإذن , فقول الخطيب : « في الدارقطني تشيُّـع » يحتمل ثلاثة أوجه :
الأول : أن لا يصحَّ عنه , إلا إذا كان قد أراد الوجه الآتي . وأبدى هذا الاحتمال ظنًّا ابنُ حجر , وذكر في آخر كلامه أنه من تنبيه ابن طاهر , لكنه لم يسق ألفاظه حتى نتبين كلامه .
والأصل ثبوتُه عن الخطيب , وقد رواه الثقةُ عنه , ويشهدُ له أن الخطيب هو من روى خبر نسبة الدارقطني إلى التشيُّع عن حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق , دون تعقُّب , كما سيأتي , فلعله تأثر بتلك المقولة .
الثاني : أن يكون أراد بقوله : « الدارقطني » : ساكنَ محلَّة دار القطن ( وهي محلَّـةٌ بالجانب الغربي من بغداد ) دون تعيين , أي : أهل تلك المحلَّة .
وهذا خلافُ الظاهر المتبادر , ولا يُعْرَفُ للدارقطنيين مزيدُ اختصاصٍ بالتشيُّـع أو اشتهارٌ به .
الثالث : أن يكون أراد بقوله : « الدارقطني » : الإمامَ المعروف أبا الحسن علي بن عمر , والألف واللام للعهد الذهني .
وهذا هو الظاهر المتبادر , وهو الأولى بالاعتبار .
فلننظر في هذه الدعوى , ودليلها , وما يقتضيه النظر المنصفُ فيها .
قال الخطيب في « تاريخ بغداد » ( 12 / 35 ) : « وسمعتُ حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق يقول : كان أبو الحسن الدارقطني يحفظُ ديوان السيِّـد الحِمْيري في جملة ما يحفظُ من الشعر ؛ فنُسِبَ إلى التشيُّـع بذلك » .
ونزل الحافظ ابن حجر في « اللسان » ( 6 / 249 ) , فنقل هذا القول من تاريخ إسماعيل بن علي الأيوبي , وهو أبو الفداء ( ت : 732 ) , وقد أورده فيه ( 2 / 130 ) دون أن ينسبه لحمزة .
وحمزة بن محمد بن طاهر , الحافظ المفيد , من أصحاب الدارقطني , المعظمين له , المعترفين بفضله . انظر : « تاريخ بغداد » ( 12 / 39 ) .
والسيِّـد الحِمْيريُّ هذا شاعرٌ شيعيٌّ غالٍ , مات ذكرُه , وهجر الناسُ شعره ؛ لما كان يفرطُ فيه من سبِّ الصحابة وأمهات المؤمنين , عامله الله بعدله .
فهذا هو سببُ نسبة الدارقطني إلى التشيُّـع , وهو في الدلالة على المراد سببٌ واهٍ من وجوه كثيرة :
أولها : أنه لو صحَّ حفظُ الدارقطني لهذا الديوان , فهو من جملة دواوينَ كثيرةٍ حَفِظَها , والرجلُ فكان محبًّا للأدب , موصوفًا بالفصاحة , مطبوعًا على العربية , بصيرًا بالشعر , ذوَّاقةً للبيان , فلا يُسْتَـنْـكَـرُ أن يكون في جملة محفوظه ديوانٌ لشاعرٍ شيعيٍّ محكم الشعر جيِّـده ( انظر : « طبقات الشعراء » لابن المعتز : 32 , و « الأغاني » :
7 / 224 ) .
ولهذا قال محمد تقي التستري , وهو شيعي , في « قاموس الرجال » ( 12 /
33 ) : « ومن الغريب أن السمعاني قال : كان يحفظ كثيرًا من دواوين العرب , منها ديوان السيد الحميري , فنُسِبَ إلى التشيُّع بذلك ! فإنه كما عرفتَ من السِّبط [ يعني : سبط ابن الجوزي ] كان ناصبيًّا , ولا بدَّ أن حفظه ديوان السيِّـد كان من حبِّـه للأدب » .
ثانيها : أن الدارقطني بيَّـن موقفه من هذا الشاعر , وأعلن إنكاره عليه , ورغبته عن مسلكه .
فقال في « المؤتلف والمختلف » ( 3 / 1309 ) : « السيِّـد الحِمْيري ,الشاعر , اسمه : إسماعيل بن محمد بن يزيد ، كان غاليًا , يسبُّ السلفَ في شعره , ويمدحُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب » .
ثالثها : أن للدارقطني من العبارات والأقوال المنبئة عن صحَّة عَـقْده , وسداد نهجه , ما تطيشُ معه تلك الشبهة الواهية , إذا ما وزنت بميزان العدل .
فمِنْ ذلك قوله : « اختلف قومٌ ببغداد من أهل العلم ، فقال قوم : عثمانُ أفضل ، وقال قوم : عليٌّ أفضل ، فتحاكموا إليَّ فيه ، فسألوني عنه ، فأمسكتُ , وقلت : الامساكُ عنه خير ، ثم لم أُرِد السكوتَ وقلتُ : دَعْهم يقولون فيَّ ما أحبُّوا ، فدعوتُ الذي جاءني مستفتيًا ، وقلت : ارجع إليهم , وقل : أبو الحسن يقول : عثمان بن عفان رضي الله عنه أفضلُ من علي بن أبي طالب ، باتفاق جماعة أصحاب رسول الله ^ ، هذا قولُ أهل السنة ، وهو أولُ عَـقْدٍ يُـحَلُّ في الـرَّفْض » . « سؤالات أبي عبد الرحمن السلمي » ( 238 ) .
فماذا بعد هذا البيان الذي لم يرضه الذهبي , ورأى فيه بعض الغلوِّ في الإنكار على من يقدِّم عليًّا على عثمان ؟!
فقال في « السير » ( 16 / 457 , 458 ) : « قلت : ليس تفضيلُ عليٍّ برفضٍ ولا هو ببدعة ، بل قد ذهب إليه خلقٌ من الصحابة والتابعين ، فكلٌّ من عثمان وعلي ذو فضلٍ وسابقةٍ وجهاد ، وهما متقاربان في العلم والجلالة ، ولعلهما في الآخرة متساويان في الدرجة ، وهما مِنْ سادة الشهداء , رضي الله عنهما ، ولكنَّ جمهور الأمَّة على ترجيح عثمان على الإمام علي , وإليه نذهب , والخطبُ في ذلك يسير ، والأفضلُ منهما بلا شكٍّ أبو بكر وعمر ، من خالف في ذا فهو شيعيٌّ جلد ، ومن أبغض الشيخين واعتقد صحة إمامتهما فهو رافضيٌّ مَـقِيت ، ومن سبَّـهما واعتقد أنهما ليسا بإمامَيْ هدًى فهو من غلاة الرافضة ، أبعدهم الله » .
ومن ذلك : أنه جعل الميل إلى الشيعة ضارًّا , إلا ما كان منه قليلًا .
قال السلمي : وسألته عن محمد بن المظفر ، فقال : « ثقة ، مأمون » . فقلت : يقال : إنه يميل إلى الشيعة ، فقال : « قليلًا ، مقداره ما لا يضرُّ إن شاء الله » . « سؤالات السلمي » ( 313 ) .
رابعها : أنه صنَّـف كتابًا مفردًا في « فضائل الصحابة ومناقبهم وقول بعضهم في بعض » , طُبِع ما وُجِد منه , والموجود كلُّه في ثناء عليٍّ وأهل بيته على الشيخين وعثمان رضي الله عنهم أجمعين !
خامسها : أنه جرح جماعةً من الرواة بسبب رفضهم وتناولهم للصحابة .
ومن ذلك : قال السهمي : سألت أبا الحسن الدارقطني عن بكار , الذي يروي عنه المقانعي ؟ فقال : « لا يساوي شيئًا ، رافضي » . قلت : رافضيٌّ وحده ؟ قال : « لا ، يجيء بمثالب الصحابة » . « سؤالات السهمي » ( 225 ) .
وقال البرقاني : ذُكِرَ أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي عند أبي الحسن الدارقطني ، فقال أبو الحسن - وأنا أسمع - : « كان خبيثًا رافضيًّا » . « تاريخ بغداد »
( 11 / 51 ) .
وقال السلمي : وسألته عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، فقال : « ضعيف الحديث ، ضعيف الدين ؛ رافضي ، قدري » . « سؤالات السلمي » ( 11 ) .
وقال في يونس بن خباب : « رجلُ سوء , فيه شيعيَّـةٌ مفرطة , كان يسبُّ عثمان » . « العلل » ( 4 / ق 36 /ب ) .
وتكلَّم في رواةٍ آخرين , وأنكر عليهم تشيُّعهم .
ومن ذلك : قوله في رُشَيْد الهجري : « من الشيعة ، أدرك علي بن أبي طالب , ولم يكن مستقيمًا في مذهبه » . « المؤتلف والمختلف » ( 2 / 1066 ) .
سادسها : أن الشيعة لا يعدُّونه منهم , بل هو عندهم ناصبيٌّ , متعصِّب , من محدِّثي العامَّة ( أي : أهل السنة ) !!
انظر : « قاموس الرجال » للتستري ( 12 / 33 , 436 ) , و « الفوائد الرجالية » لبحر العلوم ( 4 / 57 ) , و « مستدركات علم رجال الحديث » للشاهرودي ( 8 / 514 ) , و « تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي » للأبطحي ( 5 / 306 ) .
وبذا يتبيَّـن للمنصف براءةُ الإمام الدارقطني من هذه التهمة .
وممن تعقَّـب تلك النسبة الباطلة بالنفي :
* الذهبيُّ , فقال في « معرفة القراء » ( 1 / 351 – طبعة الرسالة ) : « قلت : هو بريءٌ من التشيُّـع » , وكأنه لم ير عبارته هذه شافيةً لصدره , فأصلحها في نسخةٍ أخرى ( 2 / 667 – الطبعة التركية ) إلى : « قلت : كان سُنِّــيًّـا محضًا » .
وقال عنه في كتابه « العلو » ( 234 ) : « كان إليه المنتهىٰ في السنة ومذاهب السلف » .
* ابن حجر , وقال في « لسان الميزان » ( 6 / 249 ) : « وهذا لا يثبتُ عن الدارقطني » )).