إتحاف الأنيس بخلاف العلماء في دلالة (لا) النافية على الوحدة أو الجنس
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فاستجابة لوعد قطعته في طرح المسائل المشكلة في العربية فهذا بحث في خلاف العلماء في دلالة النكرة بعد (لا) النافية على نفي الجنس أو الوحدة أحببت أن أكتب هذا المبحث ليستفيد منه عموم طلبة العلم لعل الله جل وعلا يجعل ذلك ذخرا لنا يوم الدين .
من قواعد علماء اللغة والأصول أنّ النكرة في سياق النفي من ألفاظ العموم ([1])، لكن وإن كان هذا القول موافقاً لقول علماء اللغة في الدلالة على عمـوم النكرة متى وقعت بعد أداة من أدوات النفي إلا أنّ بعضهم له في ذلك ثلاثة مذاهب :
الْمذهب الأول : التفريق بين كـون النكرة بعد ( لا ) النافية للجنس ، وبين كونها بعد ( لا ) العاملة عمل ليس ، فمع ( لا ) النافية للجنس تكون النكرة نصاً في الدلالة على استغراق الجنس ، ومع ( لا ) العاملة عمل ( ليس ) تحتمل النكرة استغراق الجنس وعدمه ، وهو الدلالة على الوحدة ، وقال بهذا جـمعٌ من علماء النحو ، والأصول ، والتفسير ([2]).
المذهب الثاني : عدم التفريق ، وهو مفهوم قـول الأصوليين ؛ لعموم قولهم : النكرة في سياق النفي من ألفاظ العموم ، وصرّح بهذا بعض النحاة والأصوليين ([3]).
الْمذهب الثالث : أن ( لا ) العاملة عمل ( ليس ) لا تأتي إلا لنفي الوحدة ، وهذا الْمذهب قال به الحريري في درة الغواص ([4]).
الراجح ـ والله تعالى أعلم ـ الْمذهب الثاني ؛ لعدة أوجه :
الوجه الأول : وقوع النكرة في سياق النفي يقتضي العموم مطلقاً ، والتفريق بين أدوات النفي في ذلك فيه تكلفٌ لا يخفى ، ولهذا قال الشوكاني : (( وقد فرق بعضهم بين حروف النفي الداخلة على النكرة بفرق لا طائل تحته . )) ([5]).
الوجه الثاني : أن قولهم : إن النكرة الواقعة بعد ( لا ) العاملة عمل ( ليس ) تَحتمل الاستغـراق وعـدمـه ، هذا أمـرٌ راجـعٌ لقصـد الْمتكلـم فقـد يُرادُ بـالنكرة بعـد( لا ) النافية للجنس ـ أيضاً ـ هذا الْمـعنى ، ولِهـذا قـال ابن أمير حـاج ([6]): (( ( لا رجلَ ) ـ بالتركيب ـ غـاية أمـره أنَّ دلالته عـلى الاستغـراق أقــوى مـِن دلالة ( لا رجـلُ ) ـ بالرفـع ـ ، وفي كـل منهما يَجـوز أن يعتبر فِي نفي الْجنس قيد الـوحـدة فيقـال : ( بل رجلان ) . )) ([7])، ونقَـل الـزَّرْكَشِيّ فِـي كتابه البرهـان عن ابن الْحاجب قوله : (( ما قاله الزمَخشري لا يستقيم ، ولا خـلاف عند أصحاب الفهـم أنه يستفاد العمـوم منه كما في الْمبنية على الفتح ، وإن كانت الْمبنية أقوى في الـدلالة عليه إما لكونه نصاً ، أو لكونه أقوى ظهوراً ، وسبب العموم أنها نكرة في سياق النفي فتعم . )) ([8]).
وعلى هذا فقرينة السياق هي التي تجعل النكرة دالة على الْجنس ، أو الوحدة بعد النفي ، فمَن أراد بالنفي نفي الفرد ، كانت النكرة عنده تدل على ذلك ، ومَن أراد بالنفي نفي الْجنس كانت النكرة تدل عنده على ذلك .
الوجه الثالث : دلالة النكرة على الوحدة يقتضي معنى البعضية الْمنافي لِمعنى العموم ، ومِن ثَمَّ فدلالة النكرة على الوحدة يَحتاج إلى قرينةٍ خاصةٍ تدل عليه في سياق الكلام ؛لِمخالفتها للأصل الذي تدل عليه النكرة الواقعة بعد النفي .
الوجه الرابع : أنّ مـجيء آياتٍ كثيرة في كتاب الله عـزوجلّ بقراءات متواترة وردت النكرة في بعضها منصوبة بعد ( لا ) النافية للجنس ، ووردت النكرة في بعضها الآخر مرفوعة بعد ( لا ) العاملة عمل ( ليس ) يقتضي أن تدل فيها النكرة على العموم ؛ لأنه يستحيل التضاد بين القراءات ، قال أبوعمروٍ الداني : (( وجملة ما نعتقده من هذا الباب …أن هذه الأحرف السبعة المختلف معانيها تارة وألفاظها تارة مع اتفاق المعنى ليس فيها تضاد ولا تناف للمعنى ولا إحالة ولا فساد . )) ([9]).
ومن شواهد ذلك ـ مثلاً ـ قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) [البقرة : 197]، فقد اختلف القراء السبعة في قراءة ( رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ) ، قال ابن مـجاهد : (( قرأ ابن كَثِير ([10])وأبو عمرو :(رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ) ـ بالضـم فيهمـا والتنوين ـ ، وقـرأ الباقـون :( فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ) ـ بالنصب بغـير تنوين ـ ، ولَم يَختلفوا فِـي نصب اللام فـِي (ðجِدَالَ ) مـن قـوله :( وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) فـي نفس الآية . ))(4) .
فأنت تَجـد ـ هنا ـ أنّ القـراء الخمسة قرأوا (رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ) على أنهما اسما ( لا ) النافية للجنس ، وقرأ ابن كثير ، وأبوعمرو البصري (رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌَ ) على أنهما اسْما (لا) العاملة عمل (ليس) ، وكلا القراءتين تدل على عموم منع الرفث ، والفسق ، ولا يجوز أن يُقال على قراءة الرفع : إنّ النكرة تدل على الوحدة ؛ لأنّ هذا يُفهم منه أن الممنوع بعض الرفث والفسق ، ويدل على أنّ القراءتين معناهما واحدٌ اتفاق القراء السبعة على فتح (ðجِدَالَ )، وهي بلا شك معطوفة على الرفث والفسق على كلا القراءتين مما يمنع دلالة قراءة الرفع على الوحدة ، ويُوجِبُ نفي الجنس ، والدليل ما جاء في حجة القراءات : (( النفي به أعم والمعنى عليه ؛ لأنه لم يرخص في ضرب من الرفث والفسوق كما لم يرخص في ضرب من الجدال . )) ([11]).
ومن شواهد ذلك ـ أيضاً ـ قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [البقرة : 254] فقد قـرأ ابن كثير ، وأبوعمـروٍ البصري:( لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ) ـ بالنصب ـ في كل ذلك ـ بلا تنوين ـ ، بينما قرأ بقية السبعة بالرفع ([12])، وعلى كلا القراءتين يقتضي الْمعنى نفي جنس الفداء والْخلة والشفاعة عن غير الله عزوجل يوم القيامة ، ولو حُمِلتُ قـراءة الْجمهور على الوحدة لَما أفادت نفي جنس المذكورات في الآية ، بل نفي بعضها ، وهذا لا يصح ، ويؤيد هذا قول الزركشي : (( قُرِئ ـ بالرفع والنصب فيهما ـ ، والْمعنى فيهما واحد . )) ([13])فهو ـ هنا ـ لَم يفرق بين دلالة النكـرة مـع اختلاف ألفاظ القـراءتين ؛ لأن الْمعنى يقتضي ذلك ، ولأن النفي يقتضي العموم مطلقاً .
كما أنّ مِن الْمُسَلَّمِ به أنّ القراءات وإن اختلفت ألفاظها فهي تفسر بعضها بعضاً ، وهذا ما يدل عليه عدم تناقضها .
يُعلمُ مِما تقـدّم أنّ الأصل دلالة كـل نكـرة وقعت بعد نفي عـلى الـعموم ، ولا تدل على الوحدة إلا بدليل خارجي .
وما ورد في القرآن الكريم مِما اختلف العلماء في عموم نكرته أو وحدته الراجح فيه أنه متى وردت قراءة أخرى فيه تدل على عمومٍ اتُفِقَ عليه بين العلماء وجب الْمصير إلى الدالة على العموم ؛ لاتفاق العلماء على دلالتها على الجنس ؛ ولأن الأصل فيما وقـع بعد النفي العمـوم ؛ ولأنّ القراءات يُفسِّر بعضها بعضاً ، ولا يُصَار إلى غيره إلا بدليل ـ والله تعالى أعلم ـ .
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
حرر في يوم 06/07/2007
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) ـ ـ ينظر : البرهان في أصول الفقه :1/232 .
([2])ـ كالزمخشري في الكشاف :1/76 ، وابن مالك في شرح التسهيل :2/53 ، والقرافي في الذخيرة :1/88 ، تح : محمد حجي ، دار الغرب ، بيروت ، لبنان ، د . ط ، 1414هـ/1994م ، وابن عقيل في شرحه على ألفية ابن مالك :2/5 ، وابن هشام في شرح شذور الذهب :272 ، والأسنوي في التمهيد :1/320 ، والزركشي في معنى لا إله إلا الله :92 ، والآلوسي في روح المعاني :13/223 .
([3])ـ كابن هشام في المسائل السفرية :14، تح : د ـ حاتم صالح الضامن ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان ، ط/1، 1403هـ/1983م ، وابن أمير حاج في التقرير والتحبير :1/242 ونقله عن علماء الأصول واللغة ، والشوكاني في إرشاد الفحول :208 ونقله عن سيبويه .
([4])ـ ينظر : درة الغواص في أوهام الخواص :238 .
([5])ـ إرشاد الفحول :208
([6])ـ هو محمد ابن أمير حاج الحلبي الحنفي ( 825 هـ ـ 879 هـ ) ، أصولي ، مفسر ، من كتبه : ذخيرة القصر في تفسير سورة والعصر ، والتقرير والتحبير . ينظر : الضوء اللامع :9/210 ، وشذرات الذهب :4/328 .
([7])ـ التقرير والتحبير :1/242 .
([8])ـ البرهان في علوم القرآن :4/352 .
([9])ـ الأحرف السبعة :60 .
([10])ـ هو أبوسعيد عبدالله بن كثير المكي المقرئ التابعي ( 45 هـ ـ 126 هـ ) ، أحد القراء السبعة ، قرأ على عبدالله بن السائب ، ومـجاهد ، وروى عنه : قنبل ، والبزي . ينظر : الفهرست :42 ، ومعرفة القراء الكبار :1/86 .
(4) ـ السبعة في القراءات :180.
([11])ـ حجة القراءات :129 .
([12])ـ ينظر : السبعة في القراءات :187.
([13])ـ البرهان في علوم القرآن :4/352 .