قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بدائع الفوائد (3/664) :
في كشف المرأة في الإحرام :
سئل ابن عقيل عن كشف المرأة وجهها في الإحرام مع كثرة الفساد اليوم ، أهو أولى أم التغطية مع الفداء ؟ وقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : لو علم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ما أحدث النساء لمنعهن المساجد .
فأجاب : بأن الكشف شعار إحرامها ، ورفع حكم ثبت شرعاً بحوادث البدع لا يجوز، لأنه يكون نسخاً بالحوادث ويفضي إلى رفع الشرع رأساً .
وأما قول عائشة فإنها ردت الأمر إلى صاحب الشرع ، فقالت : لو رأى لمنع ، ولم تمنع هي ، وقد جبذ عمر السترة عن الأمة ، وقال : لا تشبهي بالحرائر ، ومعلوم أن فيهن من تفتن لكنه لما وضع كشف رأسها للفرق بين الحرائر والإماء جعله فرقاً ، فما ظنك بكشف وضع بين النسك والإحلال ، وقد ندب الشرع إلى النظر إلى المرأة قبل النكاح ، وأجاز للشهود النظر فليس ببدع أن يأمرها بالكشف ويأمر الرجال بالغض ليكون أعظم للابتلاء ، كما قرب الصيد إلى الأيدي في الإحرام ونهى عنه .
قلت : سبب هذا السؤال والجواب خفاء بعض ماجاءت به السنة في حق المرأة في الإحرام، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره ، وإنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصة ، كما جاء بالنهي عن القفازين ، وجاء بالنهي عن لبس القميص والسراويل ، ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء لم يرد أنها تكون مكشوفة لا تستر ألبتة ، بل قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها ، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء وأسافله بالإزار ، مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد ، وكيف يزاد على موجب النص .
ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهاراً ، فأي نص اقتضى هذا أو مفهوم أو عموم أو قياس أو مصلحة ، بل وجه المرأة كبدن الرجل يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب والبرقع ، بل وكَيَدِها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفاز .
وأما سترها بالكم وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب فلم ينه عنه ألبتة .
ومن قال : إن وجهها كرأس المحرم . فليس معه بذلك نص ولا عموم ، ولا يصح قياسه على رأس المحرم لما جعل الله بينهما من الفرق .
وقول من قال من السلف : إحرام المرأة في وجهها إنما أراد به هذا المعنى ، أي لا يلزمها اجتناب اللباس ، كما يلزم الرجل بل يلزمها اجتناب النقاب فيكون وجهها كبدن الرجل ، ولو قدر أنه أراد وجوب كشفه فقوله ليس بحجة مالم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك وأراد به وجوب كشف الوجه ، ولا سبيل إلى واحد من الأمرين .
وقد قالت أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ : « كنا إذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها » ، ولم تكن إحداهن تتخذ عوداً تجعله بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعض الفقهاء ، ولا يعرف هذا عن امرأة من نساء الصحابة ولا أمهات المؤمنين ألبتة لا عملاً ولا فتوى .
ومستحيل أن يكون هذا من شعار الإحرام ولا يكون ظاهراً مشهوراً بينهن يعرفه الخاص والعام .
ومن آثر الإنصاف وسلك سبيل العلم والعدل تبين له راجح المذاهب من مرجوحها وفاسدها من صحيحها ، والله الموفق والهادي " .