الحكمة من عدم رواية أبي هريرة رضي الله عنه أحاديث الفتن


السؤال : ورد في صحيح البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : ( حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعائين، أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فكتمته ولو بثثته لقطع هذا الحلقوم ) فما معنى هذا الحديث ؟ ولماذا يكتم أبو هريرة هذا العلم ؟ أرجو الشرح والتفصيل .

الجواب :

الحمد لله : روى البخاري (120) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ : فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ ) .
قال الحافظ رحمه الله :
"قَوْله : (وِعَاءَيْنِ) أَيْ ظَرْفَيْنِ ... أَيْ : نَوْعَيْنِ مِنْ الْعِلْم , ومُرَاده : أَنَّ مَحْفُوظه مِنْ الْحَدِيث لَوْ كُتِبَ لَمَلَأَ وِعَاءَيْنِ" انتهى ملخصا .
وبثثته : أذعته ونشرته .
والبلعوم : مجرى الطعام
قال الحافظ في "الفتح" (1/216) :
"حَمَلَ الْعُلَمَاء الْوِعَاء الَّذِي لَمْ يَبُثّهُ عَلَى الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا تَبْيِين أَسَامِي أُمَرَاء السُّوء وَأَحْوَالهمْ وَزَمَنهمْ , وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَكُنِّي عَنْ بَعْضه وَلَا يُصَرِّح بِهِ خَوْفًا عَلَى نَفْسه مِنْهُمْ , كَقَوْلِهِ : ( أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ رَأْس السِّتِّينَ وَإِمَارَة الصِّبْيَان ) . يُشِير إِلَى خِلَافَة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، لِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَة سِتِّينَ مِنْ الْهِجْرَة . وَاسْتَجَابَ اللَّه دُعَاء أَبِي هُرَيْرَة فَمَاتَ قَبْلهَا بِسَنَةٍ .
قَالَ اِبْن الْمُنِير : وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَة بِقَوْلِهِ : " قُطِعَ " أَيْ : قَطَعَ أَهْل الْجَوْر رَأْسه إِذَا سَمِعُوا عَيْبه لِفِعْلِهِمْ وَتَضْلِيله لِسَعْيِهِمْ, وَيُؤَيِّد ذَلِكَ أَنَّ الْأَحَادِيث الْمَكْتُومة لَوْ كَانَتْ مِنْ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَا وَسِعَهُ كِتْمَانهَا . وَقَالَ غَيْره : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ مَعَ الصِّنْف الْمَذْكُور مَا يَتَعَلَّق بِأَشْرَاطِ السَّاعَة وَتَغَيُّر الْأَحْوَال وَالْمَلَاحِم فِي آخِر الزَّمَان, فَيُنْكِر ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَأْلَفهُ, وَيَعْتَرِض عَلَيْهِ مَنْ لَا شُعُور لَهُ بِهِ " انتهى ملخصا .
وقال العيني :
" أراد به نوعين من العلم، وأراد بالأول الذي حفظه من السنن المذاعة لو كتبت لاحتمل أن يملأ منها وعاء، وبالثاني ما كتمه من أخبار الفتن كذلك .
ويقال : حمل الوعاء الثاني على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء الجور وأحوالهم وذمهم " انتهى . "عمدة القاري" (3/364) .
وقال القرطبي رحمه الله : " حُمل على ما يتعلق بالفتن من أسماء المنافقين ونحوه، أما كتمه عن غير أهله فمطلوب بل واجب " انتهى .
"التيسير بشرح الجامع الصغير" (2/852) .
وقال ابن بطال رحمه الله :
" قال المهلب ، وأبو الزناد : يعنى أنها كانت أحاديث أشراط الساعة، وما عَرَّف به صلى الله عليه وسلم من فساد الدين، وتغيير الأحوال، والتضييع لحقوق الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم : ( يكون فساد هذا الدين على يدى أغيلمة سفهاء من قريش )، وكان أبو هريرة يقول : لو شئت أن أسميهم بأسمائهم، فخشى على نفسه، فلم يُصَرِّح . وكذلك ينبغى لكل من أمر بمعروف إذا خاف على نفسه في التصريح أن يُعَرِّض . ولو كانت الأحاديث التي لم يحدث بها من الحلال والحرام ما وَسِعَهُ تركها، لأنه قال : " لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم"، ثم يتلو : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ) البقرة /159 " انتهى .
"شرح صحيح البخارى" لابن بطال (1/195) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :

" ولقائل أن يقول : كيف استجاز كتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال :
( بلغوا عني ) ؟ وكيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما إذا ذُكِرَ قُتِلَ راويه ؟ وكيف يستجيز المسلمون من الصحابة الأخيار والتابعين قتل من يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فالجواب : أن هذا الذي كتمه ليس من أمر الشريعة؛ فإنه لا يجوز كتمانها وقد كان أبو هريرة يقول : " لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم " وهي قوله : (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) " فكيف يظن به أن يكتم شيئا من الشريعة بعد هذه الآية وبعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ عنه ؟ وقد كان يقول لهم : ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) وإنما هذا المكتوم مثل أن يقول : فلان منافق، وستقتلون عثمان، و ( هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش ) بنو فلان، فلو صرح بأسمائهم لكذبوه وقتلوه " انتهى .
"كشف المشكل من حديث الصحيحين" (ص/1014) .

والخلاصة :
أن ما كتمه أبو هريرة رضي الله عنه من العلم مختص بأخبار الفتن وأمراء السوء وأحوالهم وزمانهم، وأسماء المنافقين، وما يحصل آخر الزمان من تغير الأحوال ووقوع الفتن ونحو ذلك مما لا يألفه الناس .
وإنما كتمه أبو هريرة رضي الله عنه ولم ينشره للمصلحة الراجحة؛ فإنه لو ذكر أمراء السوء، أو عين أحدا منهم، أو كنّى عنه بما يدل عليه لوقع الناس في الفتن ولكثر القيل والقال، ولتعرض أبو هريرة للأذى، ولتحمس بعض هؤلاء الأحداث ممن لا علم لهم ولا روية عندهم وأثار القلاقل وأحدث الفتن، بدعوى أن هؤلاء أمراء السوء الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بد من تطهير الأرض منهم وإراحة الناس من شرهم وأذاهم، فيخرجون على الخلفاء والأمراء، ويحدثون الفتن .
وكذا لو أخبر أبو هريرة رضي الله عنه بما يحصل من الملاحم والفتن آخر الزمان لسارع كثير ممن لا علم له من السفهاء والدهماء إلى تكذيبه، ولكثر الجدل ولاحتدّ النقاش فيما يرويه ويقوله، فينصرف الناس – كما هي عادتهم في مثل ذلك – عن الانشغال بما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم إلى أندية الجدل ومحاطّ الخصام .
وقد كانوا لا يقبلون بعض ما يروي من أحاديث الأحكام، ويستكثرون عليه ما يروي في الحلال والحرام، فكيف لو روى لهم شيئا من أحاديث الفتن ؟!
فكان كتمانه هذا النوع من العلم من حكمته وتمام فقهه وعلمه رضي الله عنه .

أما أحاديث الأحكام ونحوها : فلم يكن بدّ من روايتها، روى البخاري (2350) ومسلم (2492) عنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، وَيَقُولُونَ : مَا لِلْمُهَاجِرِين َ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ، وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وَأَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ ... إلى أن قال : وَاللَّهِ لَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا أَبَدًا : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .
وانظر لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم (126377)


والله أعلم