لاشك أن بيان الحق واجب على كل من استطاع إلى ذلك سبيلا ( ولكن كل على حسب قدرته).
فعلى طالب العلم أن يحرص على تعلم ما ينفعه، وأن لا يضع وقته ونفسه في تعلم ما لا ينفعه، بل يضره، ويضر غيره، كما جاء في سير أعلام النبلاء{14 /59} في ترجمة ابن الرّيوندي الملحد، قال: << وكان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب، قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم>> إلى أن صار ملحدا، وحطّ على دين الملة، ومثله في السير أيضا {19/447} قي ترجمة ابن عقيل الحنبلي( وما أدرك من هو ابن عقيل)، حيث نقل عنه قوله:<< كان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علما نافعا>>، فعلق عليه الذهبي بقوله:<< كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة ويأبى، حتى وقع في حبالهم، وتجسر على تأويل النصوص نسأل الله السلامة>> فلا تغتر يأخي بكثرة علمك وصدق نيتك.
فهؤلاء كانوا علماء، واغتروا بعلمهم، فانظر إلى ما حدث لهم وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه: << السعيد من وعظ بغيره >>.
فالشبه كالجرب لا يكاد يبرأ منها واحد حتى يمرض بها آخر.
جاء في سير أعلام النبلاء(7/261): << عن سفيان الثوري أنه قال:
من سمع ببدعة فلا يحكيها لجلسائه، لا يلقيها بينهم{ذكره البغوي في شرح السنة1/227} وعقب عليه الإمام الذهبي بقوله:
أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أنّ القلوب ضعيفة والشبه خطاّفة).
ولهذا فإنّ مناظرة أهل البدع لمن له القدرة على دحضها واجب، لكن ليس أمام الملأ، لا يكون ذلك أمام عامة الناس، لأن سبيل أهل البدع قائم على التلبيس والتدليس.
فالبدع سموم، ونشرها أمام عامة الناس طاعون، قد لا ينجوا منها إلا خاصة الخاصة.
وكما هو معلوم في علم الأصول << أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة >>.
ولهذا كان لزاما على كل من أراد أن يدعوا إلى الله، أن يراعي المفسدة والمصلحة في ذلك.
قال الإمام أبو عثمان الصابوني في(عقيدة السلف أصحاب الحديث ص100):
<< ويرون(أي أهل الحديث)صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرّت بالأذان وقعت في القلوب، ضرّت وجرّت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرّت>>.
ولأن المناظر(طالب الحق) يكون قصده بيان الحق واتباعه، فيكفيه دليل واحد. بخلاف أهل البدع، فإنه لا يكفيهم ألف دليل لأن قصدهم خبيث.
فهم يصطادون في المياه العكرة، فتراهم يتربصون بالناس ينصبون لهم الفخاخ (خاصة ممن اشتهر من طلبة العلم في بعض القنوات).
فينبغي الحذر لأن مناقشة هؤلاء أمام الملأ بلية، و قد تزيد الطينة بلة ( كأن يصبح المناظر منهم، أو أن يصيبه سهم من سهامهم).
قال الإمام ابن بطة رحمه الله في (الإبانة 2/ 470):
<< لا يحملنّ أحدا منكم حسن ظنه بنفسه، وما عهدت من معرفته بصحة مذهبه، على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول أداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه، فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب و أحرق من اللهب>>.
فالصحيح الذي لا غبار علية: أنه لا ينبغي مناظرة أهل البدع لصغار طلبة العلم( فإننا لا نشك في غيرتهم على الدين وحرصهم على بيانه ونشره، و لكن كما قال الشاعر: خلي عنك العناء ........... واعط القوس باريها ) الذين بضاعتهم في العلم قليلة، كما فعل بعض المغرورين بمناظرات تلو مناظرات في الإذاعات و القنوات التلفزيونية، أقحم نفسه فيما هو بعيد عنه، فتغيرت بسببه الموازين.
فبعد أن كان يريد نصرة الحق أصبح سببا في قهره.
نهيك عن التشهير بالبدعة وأهلها، فبعد أن كانت في مهدها لا يعلمها إلا القليل، أصبحت عالمية دخل فيها كثير من الناس.
ولأن أهل البدع غاية دليلهم و مدلولهم هو اتباع الهوى، وهو سهل يسير مذاقه على عامة الناس.
أما استنباط الأدلة و الأحكام فإنه قد يخفى على بعض طلبة العلم، فضلا عن غيرهم من العامة، (ففهم وتدبر!!).
كان ذلك أعظم دليل على عدم جواز مناظرة أهل البدع و الأهواء، أمام الناس. ورضي الله عن أمير المؤمنين علي لمّا قال: << حدثوا الناس حسب عقولهم أتريدون أن يكذّب الله و رسوله>>.
فعدم إقحام الناس في ما هم أغنياء عنه هو سبيل سلامتهم.
وبالمقابل فإنّ تعليمهم يكون بالتصفية والتربية (التصفية: تصفية الدين مما دخل فيه من البدع والشبهات، والتربية: تربية الناس على هذا الدين الصافي)هو السبيل الوحيد لحمايتهم من أهل البدع والأهواء.
لقد كان السلف رضي الله عنهم يتركون مناظرة أهل البدع، حتى يموتوا غيظا، و حتى لا يكون ذلك سببا في نشر بدعتهم.
قال اللالكائي رحمه الله في (شرح أصول الإعتقاد 1/19):
<< فما جنى المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر و لا ذلّ أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة_}ْيقصد بالجملة: ما روي عن سعيد بن عامر قال: سمعت جدتي أسماء تحدث قالت: دخل رجلان على محمد ابن سرين من أهل الأهواء، فقالا يا أبا بكر نحدثك بحديث؟
قال: لا، قالا: فنقرأ عليك أية من كتاب الله؟
قال: لا، لتقومان عني أو لأقومن{رواه الدارمي 1/109)}_ يموتون غيظا، كمدا و دردا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا.
حتى جاء المغرورون، ففتحوا لهم إليها طريقا، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلا، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه في الحجج، وبلغوا من التدقيق في اللجج، فصاروا أقرانا وأخدانا، وعلى المداهنة خلانا وإخوانا، بعد أن كانوا في دين الله أعداءا وأضدادا، وفي الهجرة أعوانا: يكفرونهم في وجوههم عيانا ويلعنونهم جهارا، وشتانا ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين).
فكما أن الرد في بعض الأحيان أفضل من السكوت، فأيضا السكوت في بعض الأحيان أفضل من الكلام( على حسب المصلحة والمفسدة ) ينبغي يا طالب الحق أن تعلم أنّ_<< البدعة إذا كانت مقموعة خافتة، والمبتدع إذا كان منقمعا مكسور النفس (بكبت بدعته)، فلا يحرّك النفوس بتحريك المبتدع وبدعته، فإنها إذا حّركت نمت وظهرت، وهذا أمر جبلت عليه النفوس، ومنه في الخير: أنّ النفوس تتحرك إلى الحج إذا ذكرت المشاعر، وفي الشرّ إذا ذكرت النساء والتغزل والتّشبيب بهن، تحرّك النفوس إلى الفواحش.
وهذا الكتمان والإعراض من باب المجاهدة والجهاد، فكما يكون الحق في الكلام، فإنه يكون في السكوت والإعراض أيضا، فتنزّل كل حالة منزلتها والله أعلم (هجر المبتدع ص50)>>.
وكلامنا هذا لا يعني البتة عدم الرد عليهم (أي على أهل البدع) لمن له القدرة على كشف زيوفهم، ونقض شبههم، وإبطال تلبيساتهم وتدليساتهم، ممن توسعت مداركه ورسخ في العلم قدمه << لأنّ الرد على أهل البدع جهاد>>.
ولكن من المصلحة و الله أعلم أن لا يكون ذلك أمام عامة الناس، لأن الشبه خطافة، ورب وقاية خير من ألف علاج.
هذا ما تم لي جمعه وكتابته، فأرجوا من إخواننا طلبة العلم الكرام أن لا يبخلوا علينا بالنصح و الرشاد، ومن المشايخ الأفاضل التنبيه والتوجيه، والله هو الهادي للتوفيق والصواب.
سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك و أتوب إليه.