بسم الله الرحمن الرحيم ..
يقول الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه " هجر المبتدع " المبحث الثامن .. الضوابط الشرعية للهجر .
الأصل في الشرع هو
هجر المبتدع ،
لكن ليس عاماً في كل حال ومن كل إنسان ولكل مبتدع . وترك الهجر والإعراض عنه بالكلية ، تفريط على أي حال ، وهجر لهذا الواجب الشرعي المعلوم وجوبه بالنص ، والإجماع ، وأن مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد ، وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها واختلاف مبتدعها واختلاف أحوال الهاجرين ، واختلاف المكان والقوة والضعف ، والقلة والكثرة ، وهكذا من وجوه الاختلاف والاعتبار التي يرعاها الشرع .
وميزانها للمسلم الذي به تنضبط المشروعية هو : مدى تحقق المقاصد الشرعية من الهجر : من الزجر ، والتأديب ، ورجوع العامة ، وتحجيم المبتدع وبدعته وضمان السنة من شائبة البدعة ..
هذا محصل الضوابط الشرعية للهجر، لكن ليحذر كل مسلم من توظيف (هوى نفسه) وتأمير (حظوظها) على نفسه ، فإن هذا هلكة في الحق ، وهو شر ممن يترك الهجر عصياناً لأنه يعصي الله تعالى بترك الهجر الشرعي للمبتدع ، وإظهاره ترك الهجر باسم الشرع تحت غطاء وهمي باسم (المصلحة) و (تأليف القلوب) وهكذا ، فالتزام الهجر الشرعي للمبتدع بضوابطه الشرعية لا غير . وعلى هذا التأصيل تتنزل كلمات الأئمة كالإمام أحمد وغيره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله تعالى _ في المسلك الحق في الهجر :
( فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً ، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به ، فلا يجب ولا يستحب ، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات .
وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية ، بل تركوها ترك المعرض لاترك المنتهي الكاره ، أو وقعوا فيها ، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ، ولا ينهون عنها غيرهم ، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها ، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً ، فهم بين فعل المنكر أو ترك المنهي عنه ، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به ، فهذا هذا ، ودين الله وسط بين المغالي فيه والجافي عنه ، والله سبحانه أعلم ) الفتاوى .. 28/213 .
فباعتبار اختلاف مرتبة البدعة من الإثم هو من عدة جهات :
من جهة كونها كفراً أو غيركفر:
فالمكفرة مثل : البابية ، والبهائية ، والقاديانية .
وغير المكفرة مثل: عامة البدع في العبادات حقيقية كانت أو إضافية ، وتأتي .
ومن جهة كون صاحبها مستترا ًبها أو معلنا ًلها:
ففرق بين المعلن لبدعته الداعي لها ، وبين الكاتم لها ، لأن الداعية والمعلن لها ، أظهرها فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، هذا وهم في الدرك الأسفل من النار .. الفتاوى ( 14/175 ، 28/205 )
ومن جهة كونها حقيقية أو إضافية:
فالبدعة الحقيقية هي : البدعة التعبدية المحدثة استقلالاً كصلاة الرغائب ، وليست بدعة إضافية ، ومثل القول بالقدر ، وصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان ، وبدعة الموالد ، والأعياد الحكومية ، وعيد غدير خم لدى الشيعة ، وهكذا .
والبدعة الإضافية : هي الأمر المبتدع مضافاً إلى ما هو مشروع أصلاً بزيادة أو نقص ، مثاله :
الدعاء الجماعي بعد الصلاة ، فالدعاء مشروع وجعله جماعياً بدعة مضافة لم يرد بها النص ، وبناء العبادات على التوقيف ، وسجود الشكر جماعة ، واتخاذ التبليغ خلف الإمام سنة راتبة مع عدم الحاجة إليه ، وهكذا .
ومن جهة كونها بينة أو مشكلة :
أي كونها ظاهرة المأخذ فهي بدعة متمحضة كبدع المآتم والموالد ، وصلاة الرغائب ...
أو بدعة فيها احتمال لاستشباه مأخذها ، مثاله : القنوت في صلاتي العشاء والصبح فإنه كان ثم نسخ وبقي المشروع فيها عند النوازل ، وشبهة الخلاف لا تصيره مشروعاً راتباً . والحقيقة أن هذا الوجه : صوري لا حقيقي إذ البدع مشكلة المأخذ يلحق بها من الإشاعة والتعصب ما يجعلها بينة ، والله أعلم .. انظر الاعتصام (1/172-173) .
ومن جهة اجتهاده فيها أوكونه مقلداً:
فالمجتهد مفترع للبدعة ، فالزيغ أمكن في قلبه من المقلد ، وإن كان كل منهما
موزوراً لكن أثم من سن سنة سيئة أعظم وزراً ، والله أعلم .
ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه:
أما الإصرار عليها فيجعلها من باب : الدعوة إليها فيكون داعية معلناً لها .
وأما عدم الإصرار فهو من باب كونها : فلتة ، وزلة عالم ، إذا كانت منه ثم لم
يعاودها .
ويختلف باختلاف حال المبتدع وما فيه من خير وشر : ( وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر ، وفجور وطاعة ، ومعصية وسنة وبدعة : استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة ، فيجتمع له من هذا وهذا ، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته ، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة و الجماعة ... ) الفتاوى ( 28/209) وانظر ص 228 بأبسط من هذا .
وفرق بين عالم تشربت نفسه بالبدع ، لكنه لم يختلط بعلماء أهل السنة ولم يتلق عنهم ، وبين عالم تلقى عن المبتدعة فنالت منه منالاً ، ثم خالط أهل السنة وعلماءهم وجاورهم مدة بمثلها يحصل برد اليقين بل يكون عاشرهم عشرات السنين ، ثم هو يبقى على مشاربه البدعية يعملها ، ويدعو إليها ، ويصر عليها ، فهذا قامت عليه الحجة أكثر ، واستبانت له المحجة فما أبصر . فهو من أعظم خلق الله فجوراً ، وغيضاً على أهل السنة .
فالأول في تأليف قلبه وتودده للرجوع إلى السنة مجال . أما الثاني : فلا والله ، بل يتعين هجره ، ومنابذته وإبعاده ، وإنزال العقوبات الشرعية للمبتدعة عليه ، وأن يُهجر ميتاً كما هُجر حياً فلا يصلي أهل الخير عليه ، ولا يشيعون جنازته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في حق بعض العصاة المظهرين لفجورهم :
( وأما إذا أظهر الرجل المنكرات ، وجب الإنكار عليه علانية ، ولم يبق له غيبة ، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره ، فلا يسلم عليه ، ولا يرد عليه السلام ، إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك من غير مفسدة راجحة .
وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتاً ، كما هجروه حياً ، إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين فيتركون تشييع جنازته ، كما ترك النبى - صلى الله عليه وسلم - على غير واحد من أهل الجرائم ، وكما قيل لسمرة ابن جندب : إن ابنك مات البارحة ، فقال : لو مات لم أصل عليه ، يعني لأنه أعان على قتل نفسه ، فيكون كقاتل نفسه ، وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على قاتل نفسه . وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم في ترك الجهاد الواجب حتى تاب الله عليهم ، فإذا أظهر التوبة أظهر له الخير ... ) الفتاوى ( 28/217-218 ) .
وفرق في حال المهجور : بين القوي في الدين وبين الضعيف فيه ، فإن القوي يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين كما في قصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم-
وكذلك بالنسبة للأماكن : ففرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع ، كما كثر القدر بالبصرة ، والتنجيم بخراسان ، والتشيع بالكوفة ، وبين ما ليس كذلك . وهذا على ما أفتى به الأئمة أحمد وغيره بناء على هذا الأصل : رعاية المصالح الشرعية .
( ويختلف باختلاف الهاجرين أنفسهم في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم ) .. الفتاوى 28/206
فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت مشروعية هجر المبتدع قائمة على أصلها ، وإن كانت القوة والكثرة للمبتدعة - ولا حول ولا قوة إلا بالله - فلا المبتدع ولا غيره يرتدع بالهجر ولا يحصل المقصود الشرعي ، لم يشرع الهجر وكان مسلك التأليف ، خشية زيادة الشر .
وهذا كحال المشروع مع العدو ( القتال تارة ، والمهادنة تارة ، وأخذ الجزية تارة ، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح ) .
ومن أهم المهمات هنا : إذا كانت الواجبات لدى أهل السنة مثل : التعليم ، والجهاد ، و الطب ، والهندسة ، ونحوها متعذر إقامتها إلا بواسطتهم ، فإنه يعمل على تحصيل مصلحة الجهاد ، ومصلحة التعليم وهكذا ، مع الحذر من بدعته ، واتقاء الفتنة به وبها ما أمكن ، وبقدر الضرورة ، فإذا زالت عاد أهل السنة إلى الأصل في الهجر ، وأبعد المبتدع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في جوابه المحرر في الهجر المشروع :
( .. فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب : كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس ، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل ) الفتاوى 28/212.