المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو الفداء
أخي خالد .. أين - في هذا الإنشاء الطويل الذي تفضلت بنقله - مفهوم صيانة العلوم - سائر العلوم والمعارف وليس العلم الشرعي فحسب - من عدوان الدخلاء عليها؟؟
يقول الكاتب
وهذا إطلاق فاسد لا يصح! فكل مجال من مجالات العلم فيه كلياته وجزئياته التي لا ينبغي أن يكون القول فيها لغير أهلها!!
الذي بذل عمره في دراسة علم من العلوم أو فلسفة من الفلسفات، فصار من أهل تلك الصناعة، فهو أحق الناس بالكلام والتفكير والإبداع فيها! وهكذا في كل الصناعات!
أما المتثقف الذي قرأ شيئا من هنا وشيئا من هناك، فحصل ما لا يزيد على القدر الذي تجده في الموسوعات التي تُنشر للعوام ليتعرفوا تعرفا عاما على مختلف العلوم والصناعات، فتراه يتكلم ويكتب في كل شيء، فإذا به كحاطب بليل لا يدرى ما تمسكه يده، يتكلم في "الكليات" فإذا ما نظرنا في كلياته تلك وجدنا قوام أغلبها فلسفات باطلة لا يدري - لقلة علمه الشرعي - أنها باطلة، أو أصول مدخولة لا يقبلها أهل تلك العلوم التي خاض فيها خوض القارئ المتثقف، فهذا في الحقيقة مفسد ينبغي ألا يسمح له بالإفساد في الأرض! وكون الصحافة والإعلام يحتفي به، هذا لا يدل على شيء! فالجاهل لا يأتم به إلا جهلة أمثاله!!
التفكير الخلاق مطلب ولا ريب.. ولكن لكلّ إنسان في دائرة اختصاصه!
أما أن يطلق الكلام ويقال فلانٌ هذا مفكر متخصص في التفكير الخلاق في الكليات التي يجمعها من مختلف العلوم والمعارف، فهذا إفساد لجميع العلوم والمعارف!!!
هناك فرق ضروري يغفل عنه كثير من إخواننا بين فهم الواقع بغية إصلاحه وبين الرضوخ لما في ذلك الواقع من فساد والدوران في ساقيته!! وحتى لا يتهمني أحدهم بشيء، أقول لا مانع من أن يكتب من عنده ما ينفع به الناس ينشر كلامه في الصحف والمجلات والفضائيات وفي كل مكان دخله هؤلاء المفكرون، ولكن هل عنده ما ينفع الناس حقا؟؟ وما الذي يحتاج الناس - العامة - إلى قراءته، ومن الذي يرجح في ذلك وعلى أي أساس علمي، ومن الذي يكون له الأمر والمرجع في ذلك إن لم يكن أهل العلم؟؟؟
ما معنى أن يخرج علينا إنسان يقول أنا كاتب إسلامي فيتكلم في كليات أصول الفقه وكليات وفرعيات السياسة الشرعية وكليات أبواب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من القضايا العلمية الدقيقة للغاية، وحاصل علمه هو ما جمعه من قراءات متفرقة مر فيها على مختلف المعارف والفنون العلمية مرور الصحفيين - لا يدري في كل فن من تلك الفنون أحكم ما به يبدأ فيه المبتدئ، ولا أي شيء يقدم وأي شيء يؤخر؟؟؟
ويقال إنه مبدع شمولي النظرة لا يتأطر بإطار ضيق كأصحاب الاختصاص - زعموا - فسيأتي لنا "بالكليات" التي لم يهتد إليها المتخصصون في تلك العلوم!! فهل هذا كلام عقلاء؟؟ أي شيء تعملناه من ديننا - وأخاطب بهذا إخواننا الذين يدندون حول فقه المقاصد - إن لم نتعلم إسناد الأمور إلى أهلها، وصيانة التخصصات العلمية من كلام من لا يحسن فيما لا يحسن، وصيانة دين الناس من التعرض لتأصيلات أقوام لما قصرت أفهامهم عن أصول دينهم وتخلفوا عن تعلمه راحوا يخترعون فيه من الأصول ما ليس منه؟؟
هذا النمط من الكتاب يا أخي الكريم إنما هو نتاج ثقافة "حرية الكلمة"، تلك الثقافة الاستهلاكية المستوردة التي فتحت الأبواب على مصاريعها أمام كل ناعق، فأفرزت لنا مسوخا لا وظيفة لهم إلا ملء الصحف الأسبوعية واليومية في "عواميد" بمادة مقروءة حتى يجد الناس ما يقرؤونه في تلك الصحف إلى جانب الأخبار اليومية والإعلانات!!! والدليل واضح، أنك لم تكن ترى ما يسمى "بالمفكر الإسلامي" قبل ما لا يزيد على المئة سنة!!
بدأ الأمر بالصحفي الإخباري، ثم بالتدريج أصبح الإخباري محللا للأخبار، إذ صار يتنبأ ويستنبط ما وراء تلك الأخبار كصنيع العوام ولكن بكلام منمق ولسان فصيح، ونسي قول الله تعالى: ((وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)) [النساء : 83]
ثم أصبح هذا كاتبا (ومفكرا) (عندما اجترأ وأصبح يخوض في "كليات" علوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتاريخ وعلم النفس فضلا عن علوم الدين) ثم لما أصبح هذا الغثاء واقعا مسيطرا على وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، خرج من ينظِّرون له ويجعلونه علامة على النشاط الثقافي "الصحي" الحميد الذي يصلح المجتمع وينميه!
ولما افتتن أناس من المشتغلين بالدعوة والعلم الشرعي بسطوة تلك الأوساط الصحافية الغوغائية على المصادر المعرفية للناس، رأينا منهم من يقبل من بعض أولئك الصحفيين أن يسمي أحدهم نفسه بالمفكر الإسلامي وهو ربما لا يكاد يحسن الطهارة!! ورأينا منهم من يُقَعِّد أصولا جديدة لاختصاص جديد اسمه "مفكر إسلامي" لا هو بالأصولي، ولا بالفقيه بل لم يستكمل العلم الشرعي الواجب على الأعيان، ولكنه يتكلم في الكليات الأصولية التي كان أهل العلوم الشرعية في أزمان سلفت يشيب الواحد منهم وينحني ظهره ولا يخوض فيها مثل خوض هؤلاء!! فإذا سألتهم قالوا علماء الأصول لا يفقهون الواقع، ولا يطالعون الفلسفات الحديثة ولا يقرؤون إلا في دائرة اختصاصهم!!
ونقول سلمنا لكم - تنزلا - بأن هذا صحيح .. فكيف يكون العلاج؟ أن نخترع اختصاصا جديدا للتنظير والتأصيل في كليات الشرع لا يشترط لصاحبه ما يلزم من الإلمام بعلوم الشرع، ولا يطلب من صحابه إلا القدرة على استيعاب أكبر كم ممكن من "الأفكار" من هنا وهناك وتقليبها في رأسه؟؟؟ أم أن العقل والحكمة يقتضيان أن نحرص على أن تتسع دائرة المعارف العلمية التي يتعلمها المختصون في علوم الشريعة، فيصبح عندنا فقهاء وأصوليون راسخو القدم في أصول الصناعات الشرعية، وهم في ذات الوقت على اطلاع واسع وثقافة ناضجة يحسنون تصور الأفكار الواردة للحكم عليها وللاستفادة بما يصلح منها، ويحسنون الأخذ عن أصحاب المعارف والتخصصات والصناعات عند النظر الفقهي في النوازل والمستجدات؟؟ وإن كان ذلك منهم فأين يكون؟ في الصحف والمجلات يعرضونه على كل أحد من العامة كما هو دأب هؤلاء المفكرين، أم في دوائر الاختصاص والحلقات الأكاديمية التي تضع أفكارها لخدمة غاية معلومة، ولإخراج منتوج فكري يذهب إلى من ينتفع به انتفاعا فعليا، كلٌ في مجاله؟
لو نحيتَ الإعلام الاستهلاكي وسطوته المعرفية الطاغية جانبا يا أخي الكريم، لسقطت أقنعة هؤلاء المفكرين عنهم ولانكشف لك خواؤهم وجهلهم! تخيل لو في يوم من الأيام أُغلقت جميع الصحف والمجلات والقنوات الفضائية.. سيكون المطلب الذي يوجهه الناس إلى هؤلاء "الكتاب" والمفكرين حينئذ وباختصار: أن أرونا الآن - بعيدا عن "كلام الجرايد" والإنشاء المنمق الكلام المزخرف الذي حشوتم به الكتب والصحف والمجلات، في أي مجال من المجالات يمكنكم أن تقدموا لنا النفع والفائدة! فإذا بهم حائرون ضائعون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، دخلاء على أصحاب العلوم والتخصصات، لا يسعهم - لقصورهم عن منزلة التأهل العلمي - أن يقدموا في أي من تلك الحقول المعرفية ما يرقى عند المشتغلين بها المؤهلين فيها لمرتبة النظر أو الاعتبار!!
وحينئذ نقول لهم كما قال الشاعر:
سوف ترى إذا انجلى الغبار .... أفرس تحتك أم حمار!!
لا يفهمن أحدكم أني أرد بهذا الكلام كل ما عند هؤلاء المفكرين من الخير، فهذا لا يقول به عاقل!! ولكن الكلام في تأصيل وتقعيد ما يسمى بالمفكر الإسلامي، والنظر في حقيقة ما يصنعه أصحاب تلك الصنعة وطبيعة التأهيل العلمي الذي يشترطونه! إذ يريد بعض أخواننا جعل "المفكر الإسلامي" قسيما للعالم الشرعي وطالب العلم، كما يكون الفقيه قسيما للأصولي، والنحوي قسيما للمحدث وهكذا، وليس هذا بالمطلب الرشيد!
هذا هو وجه الكلام، فليتأمله الإخوة جيدا قبل الانتهاض للاعتراض، والله الموفق.