تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 12 من 12

الموضوع: لطائف من القرآن الكريم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [1/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي





    الحلقة الأولى:
    الحمد لله الذي نوّر بكتابه القلوب، وأنزله في أحسن لفظ وأعجز أسلوب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، خيرة الله من خلقه وخليله، وعلى صحابته الأبرار وآله الأطهار، والتابعين لهم بإحسان.
    أحبتي في الله: إن أولى ما عنيت به القرائح والأفهام هو التدبر في كلام المولى العزيز العلام، والفحص عن حقائق التنزيل وأسرار التأويل.
    إن أفضل ما عنيت له، وتعنيت أن تهتم بكتاب مولاك سبحانه، وأن تنظر في خطاباته الموجهة لك، فتقرأها كما تقرأ الرسالة توجَّه لك، فهذا هو منهج السلف مع كتاب الله.
    ألا وإن من السعادة –والله- أن تعيش مع كتاب الله الكريم، فتتلوه وترتله، وتفهمه وتتدبره، وتتأمل في بلاغته وفصاحته، وترقب بديع إشاراته وعجيب انتقالاته.
    هذا وكم فيه من مزايا *** وفي زواياه من خبايا
    وكما أن الله تعالى لا يوصف بحد يُنتهى إليه في الكمال والجلال، فكذا لا نهاية لفهم كلامه سبحانه، يضيق به الوصف والعلم، وإنما يفهم كلٌ بمقدار ما يفتح الله عليه، وكلام الله غير مخلوق، لا تبلغ نهاية فهمه فهومٌ مُحدثةٌ مخلوقة.
    أحبتي في الله: سيدور حديثنا حول تدبر كلام الله تعالى، وفهم معانيه، وبالتحديد يتركز الحديث عن دقائق التفسير ولطائف المعاني وحِكم الألفاظ..
    يقول الله سبحانه: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" وفي آية أخرى "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا " وقال سبحانه: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر".
    كما ذم الله تعالى المعرضين عن تدبره وعقله وفهمه، قال تعالى:"ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل. فأبى أكثر الناس إلا كفورا"، وقال:"وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه".
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه..." الحديث.
    وقال الحسن البصري –رحمه الله-:"والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيما أُنزلت وما يعني بها ".
    وقال الحسن بن علي رضي الله عنه: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدارسونها بالليل وينفذونها بالنهار".
    أحبتي في الله: إن فهم كتاب الله وتدبر آياته في المنزلة العالية، ولكن هنالك أقفال تمنع منه، ولهذا قال: "أم على قلوب أقفالها" بعد قوله سبحانه: "أفلا يتدبرون القرآن".
    وأعظم هذه الأقفال هو التكذيب بالدين، أي التكذيب بيوم القيامة، وبما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – من عند الله، فهذا القفل يستحيل معه عقل وفهم، كما قال الله سبحانه:"وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً. وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً" فكيف يفقه من أُغلق عليه بالحجاب وبالأكنة وبالوقر؟!
    ومن الأقفال:البدعة، وهي تغيير حقيقة الدين، فإنها من أعظم الصوارف عن تدبر القرآن بل من أعظم البواعث لتحريف آياته ومعانيه، ولهذا لا تجد صاحب بدعة في الدين إلا يحرف كتاب الله تعالى ويبدله على حسب معتقده، فهو يمشي على قاعدة ومنهج (اعتقد ثم استدل) أي يجعل الدليل من الكتاب والسنة بحسب الهوى والمذهب.
    ومن الأقفال: (الهوى) والولوغ في المعاصي، فهذا ينسلخ من آيات الله، ويحرف معانيه، ويُمنع من الفهم الصحيح والاستقبال الحسن لآيات الله، فإن القرآن كلام الله وهو نور، والمعصية ظلمة، والنور والمعصية لا يجتمعان أبداً.
    ومن الأقفال: أن ينكب الشخص على الدنيا، ويجعلها أكبر همه، فهذا يُصرف عن التدبر ولا ريب، قال الإمام سفيان الثوري – رحمه الله -: "لا يجتمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب مؤمن أبداً" انتهى.
    والله تعالى من صفاته أنه يغار على دينه، ومن غيرته عل دينه وكتابه أنه لا يعطي مكنون حكمته المعرض عنه وعن كلامه ودينه.
    ولهذا نرى أن العالم التقي يفهم ما لا يفهمه غيره، من معاني التنزيل ومن دقائق التفسير، يُفهم ما لا يفهمه الجاهل وما لا يفهمه الفاسق وغير الصالح، قال أهل السنة: إن للتزكية والتقوى أثراً ظاهراً في فهم العلم وفي بركته لاسيما في علم الدين والقرآن.
    وهذه البركة في العلم ليست مطلقة يدعيها من شاء ويقول بها ما شاء، بل إن الإنسان كلما كان للشرع أطوع، وللنبي صلى الله عليه وسلم أتبع كان فهمه وعلمه أقرب وأعمق.
    فإن سألت: ما هو أفضل الطرق للكشف عن معاني التنزيل ومعرفة أسرار التأويل والوقوف على حقائق الألفاظ؟
    فالجواب: أن أحسن ما يُعرف به كلام الله هو كلام الله، وأقرب ما يُفسر به القرآن هو القرآن، فما أجمله الله في آية أوضحه في أخرى، وقد يكون هذا إيضاحاً متصلاً به وقد يكون منفصلاً عنه.
    فمن الأول يقول سبحانه: "ويل للمطففين" ثم قال تفسيرا لها: "الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " وكقوله تعالى: "الله الصمد" قال محمد بن كعب القُرضي: "تفسيره" لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد".
    ومن البيان المنفصل أنه قال في سورة الفاتحة:"مالك يوم الدين" وبينه في سورة الانفطار بقوله:"وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذٍ لله".
    فإن لم يهتد للتفسير في القرآن، فعليك بكلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – فهو أعرف الناس بكلام الله عز وجل، وهو القائم على بيانه كما قال سبحانه:"وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم" قال الإمام الشافعي – رحمه الله: "كل ما حكم به رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فهو مما فهمه من القرآن.
    فإن لم تجد في كلام الله ولا كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – تفسيراً، فنقدم كلام أصحاب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم -، فهم أفقه هذه الأمة وأعلمها، وأولى من جهة التنزيل، ومن جهة اللسان، ومن جهة الخشية والتقوى، ومن جهة السماع، ومن بعد الصحابة التابعون.
    فإن سألت: فإن لم يوجد تفسيرٌ بالمأثور، لا من الكتاب والسنة ولا من أقوال الصحابة والتابعين، فهل يجوز أن نذكر قولاً في معنى آية أو بيان حكمه أو استخراج لطيفة أو بيان دقائق ذلك بما لم يكن منقولاً بنصه عن السابقين؟
    فالجواب عن ذلك: أن الكلام على معاني الآيات على نوعين:
    نوع لا يُستغنى فيه عن النقل مثل: أسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، أو تخصيص عموم آية بآية أخرى أو الجزم بمعنى مُعيّن دون غيره مما يحتمله اللفظ.
    وأما النوع الثاني: وهو مما يقبل الاجتهاد الصحيح من غير الأمور المذكورة فلا يُشترط فيه أن يكون منصوصاً عليه في الشرع، فهو باب واسع، ورزق سائغ للمتأهلين من ذوي العلم إلى يوم الدين، قال بعض السلف: " للقرآن نزول وتنزل، فالنزول قد انقضى، وأما التنزل فهو باقٍ إلى يوم القيامة.
    وفي الحديث الذي رُوي مرفوعاً وموقوفاً والصحيح وقفه: أنه الذكر الحكيم الذي لا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه.
    الحلقة الثانية:
    في هذه الحلقة نواصل الحديث عن التدبر لكلام الله تعالى، ونُبيّن أقسام الناس منه، وكيف نتعرف على الأقوال الصحيحة في معاني الآيات وحِكَم التفسير ودقائقه.
    قال الله تعالى في سورة الفرقان: "وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً" قال أهل التفسير: "والهجر للقرآن على مراتب أربع: هجر للإيمان به، وهجر للفهم والتدبر، وهجرٌ للقراءة والترتيل، وهجر للعمل انتهى.
    والناس على أقسام أربعة من كتاب الله تعالى:
    فمن الناس من يتلو كلام الله حق تلاوته ويتدبره ويعمل به، فهؤلاء هم السعداء حقاً - جعلنا الله منهم – وهؤلاء هم المؤمنون حقا، الذين يتلونه حق تلاوته.
    ومن الناس من لا يؤمن به أصلا ولا يلتفت إليه، فلم يقرأه وينظر إليه، وإن قرأه وتفهمه فمن غير إيمان وتصديق ولو أُعجب به كما قال المشرك الجاهلي الأول: سجدت لفصاحته، وكما قال أحد أرباب الشعر الحديث: إنما أُؤمن من القرآن ببلاغته وفصاحته.
    فهؤلاء قد توعدهم الله بأشد الوعيد، وبشّرهم بالذلة والعذاب يوم الدين، و قبل ذلك بشرهم الله بالخزي والضنك في الدنيا، قال الله سبحانه: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" أي في الدنيا
    "ونحشره يوم القيامة أعمى".

    ومن الناس:من يؤمن بالقرآن، ولكنه لا يتلوه ولا يقرأه إلا نذرا يسيرا، وهذا –والله- هجر عظيم للقرآن، وخذلان عظيم.
    ومن الناس من يؤمن بالقرآن ويتلوه، ولكن من غير تدبر وفقه في معانيه، ومن غير اعتبار وخشية، ومن كان هذا ديدنه، وهو لم يتلُ كتاب الله حق تلاوته، وفعله أشبه بفعل اليهود، الذين ذمهم الله بقوله: "لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإن هم إلا يظنون" قال أهل التفسير: "أي يتلونه تلاوة مُجرّدة، عن الفهم والعمل.
    أحبتي في الله: لقد تعددت صور تقصيرنا في تلاوة كتاب الله، فمنا مَن يقرأ القرآن وكأنه يقرأ كلام بشرٍ مثله، ومنا من يقرأ وكأن المخاطب أحداً غيره، وبعضنا يقرأ القرآن وهو ساهٍ لاهٍ غافل القلب، وأصبح كثير منا يقرأ القرآن وهمه الوصول إلى آخر السورة أو الجزء.
    كان سلفنا – رضوان الله عليهم أجمعين – آية واحدة تُمرضهم، وآية واحدة تقض مضاجعهم، أما نحن فيُقرأ علينا كتاب ربنا من أوله إلى آخره، من فاتحته لخاتمته، فلا يُحرك في القلوب ساكناً.
    التفكر في كتاب الله، باب مفتوح بين العبد وبين ربه، ما لم يقفله العبد بفعله، قال الحسن البصري – رحمه الله -: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الزكاة، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وإلاّ فاعلموا أن الباب مُغلق".
    التفكر براءة من النفاق، وفكاك من أسر الهوى، وجسر يصل به العبد مولاه، وما أعده الله من النعيم المقيم.
    التفكر لكلام الله أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يصل إلى القلب، وأسمى ما يتعلق به العقل الواعي.
    يُحيي نفوس الناس ويكشف عنها العناء.
    هنالك من الناس من يذكرون الله، ولكنهم لا يفهمون معنى الذِكر، فتصبح قلوبهم بعيدة من استشعار جلال الله، وقدره حق قدره.
    فإن سألتْ: كيف نصل إلى فهم بلاغة القرآن، ومعرفة حِكَمه؟ وكيف نصل إلى معرفة الدقائق في التفسير، واللطائف في التأويل؟
    فالجواب: قال العلماء: إن مآخذ التفسير خمسة: القرآن ثم السنة ثم أقوال الصحابة والسلف المأخذ الخامس التفسير بالمقتضى من معنى الكلام، والمقتضى من قوة الشرع، أي ما يُفهم من اللغة ومن الشرع بلطيف الدلالة، ودقيق المعنى، وما ينقدح في النفس عند سماع الآية مُستنداً على الدليل.
    قالوا: وهذا النوع هو الذي دعا به النبي – صلى الله عليه وآله وسلم –لابن عباس–رضي الله عنه – بقوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وهو الذي عناه علي بن أبي طالب –رضي الله عنه– بقوله: (إلا فهما يؤتيه الله تعالى رجلا في كتابه) عندما سُئل: هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – بشيء؟
    فإن قلتَ: ما علامة صحة التفسير بالرأي والاجتهاد، وصواب الحِكَم والدقائق واللطائف المُستنبطة من الآيات، وكيف نُميّز ما يصح منها وما لا يصح؟
    فالجواب: لابد لهذا من شروط خمسة:
    أولها: الموافقة للسان العربي، فإن كان التفسير لم يشهد له اللسان العربي، فهو تفسير باطل؛ لأن القرآن نزل بلسان العرب، وعلى أساليب بلاغتهم ووصفه الله بذلك، في قوله تعالى: "لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي، وهذا لسانٌ عربي مُبين".
    ومن هنا نعرف بطلان القول: بأنه يوجد في القرآن أسرار لا يعرفها إلا أشخاص بأعيانهم، يُزعم أنهم من الخواص، أو أنهم من الأولياء، يقولون في القرآن بهواهم وأذواقهم.
    ويُعرف كذلك بطلان الاعتماد على التفسير المبني على كل ما يُخالف لسان العرب ولم يكن معهودا عندهم، مثل حساب الجُمل، ومثل الرمز الذي لا يرتبط بلغة صحيحة،كقول بعضهم: "المر" معناها: أنا الله الرحمن الرحيم.
    الشرط الثاني: أن يكون للتفسير شاهد من الشرع يدل عليه، فإن كان مخالفاً للشرع يُعد مردودا على صاحبه، وإن من قواعد التفسير المعلومة: أن من شرط صحة التفسير بالرأي والاجتهاد، ألا يُخالف التفسير بالمأثور.
    فإذا قلنا في الآية: الحكمة كذا وكذا، أو المقصد منها كذا، ولم يشهد لهذا نص أو قاعدة عامة أو خاصة فلا يُقبل هذا القول.
    الشرط الثالث: ألا يُخالف التفسير تفسير جمع علماء السلف، ولا يُضاد منهجهم في فهم الذين، فهم أعلم هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن مُلزمون باتباع منهجهم، ونحن نقول في كل صلاة: "اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم" والمنعم عليهم من هذه الأمة هم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – والصحابة بشهادة الله تعالى لهم.
    ولو فُسر لفظٌ أو آيةٌ من القرآن بما يُخالف تفسير الصحابة وهديهم، لرددنا هذا التفسير، فلو قال قائل في قوله تعالى: "واذكر اسم ربك" أي قل: الله، الله، الله تعبداً وتقرباً إلى الله، لحكمنا أن هذا التفسير باطل؛ لمخالفته الصريحة لفهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – والصحابة، فلم يؤثر عنهم ذكراً مُفرداً.
    الشرط الرابع: إذا كان التفسير لم يُنقل عن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولم تدل عليه اللغة صراحة، فإننا نذكر هذا التفسير غير جازمين بأنه مراد الله، فلا نقول: مراد الله كذا إلا باليقين، لكن نقول: من الفوائد كذا؛ لأن هذا مقتضى التدبر والتفكر والاجتهاد، أما مقام الجزم فهو مقام النقل والنص.
    الشرط الخامس: أن يكون المتكلم في معنى الآية عالماً أو ينقل عن العلماء. صحيحٌ أن كل شخص له أن يتدبر ويتفكر في كلام الله، بل هو مأمور بذلك ؛ لأن الله تعالى قد أمر بذلك أمراً عاماً، لم يستثنِ منه أحداً، وهذا بلا شك من خصائص كلام الله المعجز، أن يفهمه كل شخص بقدر ما آتاه الله، فهذا مقام التدبر.
    وأما مقام البيان للغير، والتفسير لكلام الله للناس، فهذا لابد فيه من أن يعلمه الشخص علماً صحيحاً ثابتاً باتفاق العلماء.
    وقد ذكر العلماء أنه يجب على المتكلم في الآيات، أن يكون عالماً بأسباب النزول، وعارفاً بالناسخ والمنسوخ، وإلا وقع في الغلط. ذكر ابن تيمية – رحمه الله – في المنهاج وغيره: "أن عليًّا –رضي الله عنه– رأى رجلاً يقص في المسجد، وكأنه يتطرق لمعاني القرآن فقال له: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: إذاً أنت أبو اعرفوني، أي تريد الشهرة.
    الحلقة الثالثة:
    في هذه الحلقة نتناول الحديث عن الاستعاذة، أي الاستعاذة من الشيطان، وهي قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو قولك: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فأنت إذا قلت بأحد القولين فقد أصبت ؛ لصحة وروده في السنة، وإن قلت هذا مرة وهذا مرة، فهذا أحسن ؛ لأن التنويع في صيغ الذكر المشروع من كمال اقتدائك بفعل رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -.
    لنسأل: هل الاستعاذة آية أم ليست آية من القرآن؟
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ليست آية بالاتفاق، لكن الله تعالى أمرنا إذا أردنا أن نقرأ القرآن أن نستعيذ، قال تعالى: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" أي إذا أردت أن تقرأ القرآن، كما قال تعالى: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" أي: إذا أردتم القيام للصلاة.
    وبما أن لفظ الاستعاذة ليست آية، فلا يصح لك أن تقول: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بل تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تقرأ. أو تقول: قال الله تعالى، وتقرأ الآية مُباشرة، أما إذا قلت: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأنت نسبت إلى الله كلاماً لم يقله.
    ومُلحظٌ آخر: إن هذا المعنى لا يصح، أي لا يصح أن تنسب الاستعاذة لله عز وجل، يعني أن الله لا يستعيذ من الشيطان الرجيم، ولا من غيره من المخلوقات، فالله هو ذو القوة المتين، والذي يستعيذ هو العبد الفقير، أما القوي القادر فلا يستعيذ، فلا يصح نسب الاستعاذة إلى الله تعالى بحال.
    قال أهل اللغة:عاذ به يعوذ، أي لاذ به ولجأ إليه واعتصم، وعُذتُ بفلان واستعذتُ به أي: لجأت إليه.
    وأعوذ بالله: أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو أن يصدني عن فِعل ما أُمرتُ به، ويحضني على ما نُهيت عنه.
    والشيطان هو إبليس؛ لأن (أل) هنا للعهد، أي ذلك المعهود لديكم، والشيطان مأخوذ من شَطَن أي بَعُد عن رحمة الله، والرجيم هو المرجوم، وهو المُبعد المهان الذليل، وهذا هو أصدق وصف يستحق أن يوصف به الشيطان، الذي عصى الله تعالى وخالف أمره عناداً واستكباراً.
    بعد أن تبيّن لنا معنى الاستعاذة نقف عند بعض المعاني وبعض الحِكم المستنبطة من الاستعاذة، وهذا ليس من باب التفسير، ولكنه من باب الاعتبار ومن باب التدبير ومن باب تلمس الحِكم.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [1/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي



    نبدأ بذكر فوائد الاستعاذة وحِكمها.
    قال بعض العلماء: الحكمة في مشروعية الاستعاذة، أنك تطهر لسانك قبل تلاوة كلام الله تعالى، فالإنسان قد كُتب حظه من اللغو والباطل، وربما وقع في معصية صريحة كالكذب والغيبة وقول الزور، فإذا أراد أن يتلو كتاب الله بلسانه وقد تنجس بالمعصية فلابد إذاً أن يُطَهره، كيف يُطهره؟ يكون ذلك بذِكر الله تعالى، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، فالتعوذ إذاً، يُمكن أن يُسمى تطهيراً للسان كما أن التوضؤ تطهير للبدن قبل الشروع في الصلاة.
    قال بعض السلف: الحِكمة في الابتداء بالتعوذ قبل القراءة، أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة، فأمر الله العبد بالتعوذ ليصير طاهراً، فيقرأ بلسانٍ طاهر كلاماً أنزله رب طيب. انتهى.
    ومن الفوائد: أن في التعوذ قبل التلاوة دلالة على فضيلة الفرآن الكريم، فأنت لا تقرأ هذا القرآن إلا بعد أن تستعد لقراءته، وتتعوذ من الشيطان الرجيم، وهكذا كل عمل عظيم تستعد له.
    ومنها أيضاً: الإشارة إلى أن التلاوة لكلام الله عبادة محضة لله، لا يُشرك معه غيره، فلهذا يُطرد الشيطان قبل التلاوة فيكون التالي لكلام الله المتعوذ مخلصاً بلسانه وقلبه، أو هكذا ينبغي أن يكون.
    ومن الفوائد: أن الاستعاذة توجب على صاحبها أن يكون حاضر القلب، وأن يكون مُصغياً بسمعه للتلاوة، مُتعبداً عن الاشتغال بغير التلاوة.
    لماذا؟
    لأنك إذا أردت أن تقرأ قلت بلسانك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأنت إذاً أخبرت عن نفسك، أنك مُقبل على كلام الله تعالى، مُبتعداً عن الشيطان، وعن وسوسته، مُستعيناً بالله على ذلك، فتحقيق القول بلسانك أن يوافق ذلك فعلك وعملك، وإلا كنت غير صادق في استعاذتك.
    ومن فوائد الاستعاذة: أنه يعلم العبد حاجته إلى مولاه، وعدم غناه عنه ولو لحظة واحدة، فأنت أيها الإنسان لا يُمكن أن تتغلب على شيطانك لوحدك، ولست بمستطيع أن تنجو منه بقدرتك، فلابد إذاً أن تستعين بقدرةٍ أعظم من قدرتك وأعظم من قدرته.
    فمن استعان بنفسه على شيطانه فقد قابل بين قدرة مخلوقٍ ومخلوق، وقد يغلب أحدهما، فإن استعان بالله واستجار بقدرته سبحانه، كانت الكفة لصالحه ؛ لأن قدرة الله ومعونته تصبح مع قدرة العبد، وكانت قدرة الشيطان في جهة، ومن كان الله معه فهو الغالب لا محالة.
    ويتفرع من هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي أن المؤمنين لا يتمكنون من النصر على أعدائه من أولياء الشيطان، إلا بعد أن يستعينوا بالله وبدينه وكتابه، فتكون قدرة الله وقوته معهم.
    وفي الاستعاذة: درس لأصحاب القلوب الحية، وقاعدة نافعة للمصلحين الذين يُريدون أن يسلكوا طريق الدعوة على بصيرة، وأن يُصلحوا ما أفسده غيرهم.
    ففي الاستعاذة قبل القراءة بيان أن الإقدام على الطاعات لا يتوافر إلا بعد الفرار من الشيطان وغوايته، وتصفية القلوب وتهيئتها، وهذا من أنجع الوسائل لنجاح الدعوة وحصول الأثر الطيب في النفس.
    اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا وعلمنا منه ما لم نعلم، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.

    الحلقة الخامسة
    الحديث في هذه الحلقة عن أول آية من فاتحة الكتاب، فاتحة كتاب الإسلام، يقول الله تعالى: "الحمد لله رب العالمين".

    ما هو الحمد؟

    "الحمد لله" معناه: الشكر لله خالصاً دون سائر ما يُعبد من دونه، و "الحمد لله" هو الثناء على الله بصفات الكمال له، وعظيم الأفعال الصادرة منه سبحانه، "الحمد لله" هو الثناء على الله بالوصف الجميل على وجه التعظيم والتبجيل. قال الجوهري رحمه الله: الحمد نظير الذم، والحمد أعم من الشكر. وقال غيره: الحمد هو المدح والوصف بالجميل، والحمد والمدح أخوان.
    فهذه كلمات ثلاث وهي: المدح والشكر والحمد، والكلمة القرآنية هنا هي الحمد، يعني: الكلمة التي اُختيرت في هذا الموضع هي لفظ الحمد، ولهذا حكمة وسرّ، فقول الله: "الحمد لله" لا يُوازيه أي مقولة أخرى، ولا يُغني عنها ولو في المعنى أن نقول الشكر أو المدح أو غيرها. لماذا؟
    قال العلماء: الفرق بين الحمد والمدح من وجوه:
    الأول: أن المدح قد يحصل للحي وغير الحي، فأنتَ تقول للبستان الأنيق: مدحته. ولا تقول: حمدته ألبته، والحمد أيضا: يتعلق بالإشارة إلى إحسان المحمود عندك، وهذا ما لا يتضمنه لفظ المدح، وثالثاً: أن المدح قد يكون بحق أو بغير حق ولهذا نهي عن كثير منه، بخلاف الحمد فإنه لم يأتِ في الشرع إلا وله معنى لائق ودلالة صحيحة.
    وأما الفرق بين الحمد والشكر، فإن معنى الشكر فيه قصور عن معنى الحمد ؛ لأن الشكر لا يكون إلا لأجل إحسان وصل إليكَ أنتَ بشخصك، بخلاف الحمد فهو شكر عام وصل إليكَ أم وصل إلى غيرك، وهذا هو المنطق.
    وأيضاً: لم يقل في الآية الكريمة: أحمد الله. وإنما قال: "الحمد لله". لماذا؟ وما الفرق بينهما؟
    قالوا: إن عبارة "الحمد لله" أجود، وتدل على معان أعظم؛ لأن القائل لو قال: أحمد الله. لأخبر بذلك عن نفسه فقط، ولفُهم منه أنه قادر على حمده. وأما لو قال: "الحمد لله" ففي هذه العبارة إيضاح أن الله محمود في الأزل وفي الأبد، حمده الحامدون أو لم يحمدوه. ولفظ "الحمد" يُنبئ عن استحقاق الله له سبحانه أي للحمد، بخلاف لفظ (أحمد) فلا تدل على الملكية والاستحقاق.
    ونحن إذا تأملنا قول الله تعالى: "الحمد لله". جزمنا أن لفظ الحمد الذي جاء في القرآن هو أكمل العبارات، وهو أفضل الصيغ التي يُمكن أن تُعبر عن الثناء الجميل للمُنعم سبحانه، كيف يكون هذا؟
    لنتأمل ونُركز النظر!!
    "الحمدُ" جاءت أولاً مُعرفة بألف ولام، وهذه تُسمى (أل) التي لاستغراق الجنس، وهي تدل على معنى كل، ومعنى جميع، يعني: جميع المحامد، وكل المحامد فالحمد لله توازي قولك كل حمد لله. هذه واحدة.
    وثانيا: "الحمد لله" جملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الاستمرار والدوام، فلفظ " الحمد " يُنبئ عن استمرار الحمد لله في كل آن وفي كل زمان، وهذا هو عين الصواب وعين الحكمة ؛ فإن مقتضى الحكمة أن يظل الخالق سبحانه محموداً، وأن يظل العبد حامداً شاكراً، قال ابن أبي الصلت:
    الحمد لله حمداً لا انقطاع له *** فليس إحسانه عنا بمقطوع

    وثالثاً: قال الله سبحانه: "الحمدُ " بالرفع، ولم يقل: الحمدَ بالنصب، وفرق بين الاثنين، قال سيبويه: أن الذي يرفع الحمد؛ يُخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق، وأن الذي ينصب يُخبر أن الحمد منه وحده لله تعالى.
    يتلخص أن لفظ "الحمدُ" دلنا على ثلاثة أشياء في الحمد:- الأول: أن كل حمد لله وليس حمداً دون حمد. الثاني:أن هذا الحمد مستمر لا ينقطع ألبته. الثالث: أن هذا الحمد يجب أن يكون من كل مخلوق.
    ننتقل إلى لفظ الجلالة "الله":
    قال سبحانه:"الحمد لله" ماذا يعني هذا؟
    يعني أن جميع المحامد مستحقة لله وحده، فلا يستحق الحمد حقيقة غير الله. كيف عرفنا هذا من اللفظ؟
    (أل) في لفظ (الحمد) تدل على استغراق كل حمد –كما مرّ– واللام في لفظ الجلالة (لله) هي للاختصاص، أي: تُفيد حصر الحمد في ذات الله.
    فقول (الحمد لله) يستلزم انحصار أفراد الحمد كلها في اسم الله تعالى؛ لأنه إذا اختص الجنس اختصت الأفراد، ولو فرض أن فرداً من أفراد الحمد استحقه غير الله لتحقق الجنس في ضمنه، ولما صح دخول لام الاختصاص عل لفظ الجلالة.
    فإن قيلَ: ألا يستحق غير الله الحمد؟
    قلنا: لا يستحق حقيقة الحمد إلا الله وحده، ولا يستحق الحمد حقيقة إلا الله سبحانه، يعني: لا يخلص الحمد لغير الله، ولا يكمل إلا لله. وهذا المعنى لا ينفي أن نشكر مَن أسدى إلينا المعروف، وأن نحمد الناس على جميل صفاتهم وحُسن أفعالهم، ولكن ينبغي أن نتيقظ لمسألة مهمة، وهي غاية في الدقة، وهذه المسألة: أن كل مَن استحق الحمد من البشر فإن الحمد له ناقص، وأن الحمد له موصول بحمد الله ؛ لأننا إن حمدناهم على عمل صالح فإن الذي وفقهم هو الله، وإن حمدناهم على إحسان ومعروف فإن الدافع له هو الثواب من الله، فآل الحمد كله لله.
    "الحمد لله" كلمتان خفيفتان في اللسان، قليلتان في الحروف والألفاظ، ولكنهما عظيمتان جداً في المعنى والمضمون، وثقيلتان جداً في الميزان عند الله.
    "الحمد لله" افتتح الله بها كتابه العزيز – القرآن الكريم – وهذا الافتتاح له دلالات عظيمة، من دلالاته: الإشارة إلى أن القرآن هو أعظم النعم وأجل الهبات الربانية للبشر؛ ولهذا أوجب أن يُستفتح بالمدح والثناء لله والتحميد والتمجيد لمُنزل القرآن صاحب النعمة.
    القرآن هو كلام الله وذكره سبحانه، وهو حبل الله الذي يصل العباد بربهم ؛ فيُذكرهم بفضله وآلائه، و" الحمد لله " هو أول شعور يجيش في قلب الإنسان عند ذكر الله وعند تذكر آلائه ونعمه.
    "الحمد لله " €€افتتح الله بها كتابه قولا وثناءً منه سبحانه لنفسه، إذ لا يُمكن أن يبلغ حمده حقيقة إلا نفسه. قال الإمام القرطبي رحمه الله: معنى: "الحمد لله رب العالمين" أي: سبق الحمد مني لنفسي قبل أن يحمدني أحد من العالمين. وقيل: لمّا علم سبحانه عجز عباده عن حمده حَمَدَ نفسه بنفسِه، ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: (لا أُحصي ثناءً عليك). وأنشدوا:

    إذا نحن أثنينا عليكَ بصالحٍ*** فأنتَ كما نثني وفوق الذي نثني

    "الحمد لله" افتتح الله بها كتابه، وهذا تنبيه لنا أن نحمده سبحانه بما حمَدَ به نفسه. قال الإمام الطبري رحمه الله: "الحمد لله" ثناء أثنى الله به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يُثنوا عليه، كأنه قال: قولوا الحمد لله، وههنا لطيفة ينبغي أن تستوقفنا، وينبغي أن نشكر الله تعالى ونحمده عليها. هذه الطيفة: أن الله سبحانه من حكمته ورحمته بنا أن جمع لنا غاية الحمد والثناء عليه في كلمتين اثنتين (الحمد لله) ورضي لنا في هذه العبارة المختصرة أن تقوم مقام الشكر له والثناء عليه
    كيف لو أوكل الله لنا الحمد؟
    لو وقف الواحد منّا أمام عظيم من عظماء الدنيا، لعجز أن يثني عليه بالحق أو بالباطل، ولتكلف من الكلام الطويل ومن العبارات المُنمقة، وربما نظم القصائد ودبج الخطب. فكيف يبلغ الحمد لله وهو ولي كل نعمة وصاحب كل مزية ؟!
    "الحمد لله" تعليم من الله لنا أن نستفتح عملنا بالحمد،كلامنا بالحمد،كتبنا بالحمد، خطبنا بالحمد، وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان في جميع أحواله حامدا لله، وفهم المسلمون ذلك قاطبة، ولهذا كل خطبة لم تبتدئ بحمد الله فهي خطبة جذماء عندهم، وقد لقبوا خطبة زياد بن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بـ (البتراء) ؛ لأنه لم يفتتحها بالحمد.
    "الحمد لله" ذكر وفكر، عقيدة وشعور وعمل، هي ليست حروف تُلفظ وأقوال تُردد، وهي ليست عقيدة مُكتنزة لا عمل معها، قال بعض السلف في تفسير "الحمد": هو على ثلاثة أوجه:
    أولها: إذا أعطاكَ الله شيئاً، تعرف مَن أعطاك. والثاني: أن ترضى بما أعطاك. والثالث: ما دامت قوته في جسدك، ألا تعصيه. فهذه شرائط الحمد.انتهى.
    اللهم لكَ الحمد حتى ترضى، ولكَ الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، اللهم لك الحمد مثل ما نقول، ولك الحمد فوق ما نقول، لا نُحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيت على نفسك.
    الحلقة السادسة:
    الحمد هو الثناء كله لله تعالى وليس لغيره، وهذا الثناء يكون لله تعالى لجليل صفاته وعظيم أفعاله الدائرة بين العبد والفضل، وقد كان موضوع الحلقة السابقة: الكشف عن دلالات كلمة (الحمد لله)، وما تحويه من إشارات ولطائف ودقائق.
    وقد خلصنا إلى أن هذه الكلمة العظيمة والآية الكريمة لا يوازيها كلمة في شكر الله، وأن "الحمد لله" هو أفضل ما ينبغي أن يُحمد به الله، وليس لفظ يوازيه في المعنى أبداً، وقد توصلنا إلى ذلك من خلال الدلالة اللغوية والأسلوب البلاغي العربي، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحمد لله تملأ الميزان" فهذا نص في أن هذه الكلمة قد بلغت الغاية في الأجر والثواب حتى ملأت الميزان، وما كانت تكون كذلك إلا لأنها قد بلغت الغاية في الثناء على الله والشكر له، فهذا من دلالة لحن الحديث وفحواه.
    وقد روي عن بعض السلف رحمهم الله أنه قد ضاع له مال أو متاع فأقسم بالله تعالى إن وجد ضيعته تلك، أن يحمده بقولٍ لم يُحمد الله بمثله، ثم وجد ضيعته تلك فما كان منه إلا أن قال: الحمد لله، فقال له أصحابه: إنكَ قد قُلتَ إن رد الله لك ضيعتك لتحمدنه بقول لم يُحمد بمثله، وإنك لم تقل سوى: الحمد لله؟!! فقال هذا الرجل – وقد كان فقيهاً رحمه الله – كلمة فيها بلاغة عظيمة وهي حق محض، ماذا قال؟ قال: وهل مثل الحمد لله حمد. ونحن نقول: نعم ليس مثل الحمد لله حمد.
    ننتقل إلى تفسير قوله سبحانه: "رب العالمين".
    الرب هو: السيد، والرب هو: المُصلح والمُدبر والجابر، يُقال لمن قام بإصلاح شيء وأقامه: هو ربٌ له، والعالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله عز وجل.
    ماذا نستفيد من قوله تعالى: "رب العالمين"؟
    من فوائد "رب العالمين": أن نُقر لله بالغنى المطلق، وقد فهمنا هذا من لفظ (رب) ودلالاته على ذلك التزام، يعني: لا يكون رباً حتى يكون غنياً، فإذا أضيفت الربوبية للعالمين كان الغنى في غايته التي لا يصل إليها حد.
    ومن فوائدها: أن نعلم فقر العبيد إلى الله، وحاجة المخلوقين إلى الخالق، وأنه لا يوجد أحد ينفد عن تصرف الله، وعن ملكه وربوبيته، أو يكون له شيء من الاستقلالية والغنى عن الله ولو لحظة، فإن المربوب لا قيام له إلا بالرب.
    ولفظ (العالم) يدل على كل ما سوى الله تعالى، فلو قال: رب العالم لدل على أن كل موجود تحت ربوبية الله، ولكن لفظ (العالمين) أكد في العموم وأعظم في الدلالة على الربوبية لله والعبودية لغيره، بحيث لا يخرج أحد عن هذه الربوبية، وبحيث لا يبقى مجال لمتأول، فيقول مثلا: العالم قد يُعنى به هذا العالم المشهود فينفي هذا التأويل وغيره لفظ "العالمين".
    وهذه الفائدة والتي قبلها تتضمن تأسيس توحيد الربوبية، وإبطال مذهب المشركين بالله تعالى في ربوبيته، وهؤلاء كُثر لا كثرهم الله، ومنهم مَن ينسب الخلق إلى الطبيعة، ومنهم مَن ينسب الرزق إلى الأفلاك والنجوم، ومنهم مَن يحيل التصرف في الكون إلى الجن، ومنهم مَن يزعم أن الذي يدير هذا الكون ويتحكم فيه الأولياء والأقطاب، وهؤلاء كلهم مُفترون على الله، ويُبطل مذهبهم كله قول الحق سبحانه: "رب العالمين"
    ومن فوائد "رب العالمين": بيان طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوقين، وأن هذه العلاقة قائمة على الإحسان إلى المخلوقين كما هو مُقتضى الربوبية، فالله هو ربهم وهو مُصرف أمورهم والمُحسن لهم على الدوام، ورعايته لهم أعظم من رعاية أقرب الناس لهم كالوالدين وغيرهم.
    وفي هذا إبطال لمذهب فلاسفة اليونان، وفلاسفة الغرب الذين تخبطوا في إثبات ربوبية الله، فمنهم مَن يُنكر الربوبية بالكلية، وأمثلهم طريقة كأرسطو يزعم أن الله تعالى بعد أن خلق الخلق لم يعد يعتني به، ويُفكر فيه، فهو أعظم من ذلك، فهو عندهم - عياذاً بالله - لا يُفكر إلا في نفسه، وهذا كذب يرده النقل، ويرده الواقع المشاهد المحسوس.
    من فوائدها: إبطال أساطير فلاسفة الإغريق الوثنية التي يرونها عن الرب سبحانه، وأنه بزعمهم - تنزه وتعالى عما يقولون - يطارد عباده ويتربص بهم الدوائر ويُدبر لهم المكائد والحيل في قصص غريبة وافتراءات عجيبة منكرة.
    فهذا كله مما يعتقده أهل الأوثان القدماء، وقد تلقفه عنهم –للأسف- أهل الكتاب ونقلوه وسطروه في الكتاب المُقدس، وخصوصاً العهد القديم (التوراة) وقد نعى الله عليهم صنيعهم هذا، قال تعالى:"قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" [المائدة: 77].
    وبهذا البيان القرآني "رب العالمين" تنتفي أيضاً صفة الصراع بين الخالق والمخلوق، كما يصور ذلك فلاسفة الغرب، ويبنون عليه مناهجهم في التفكير وفي التصور، ويُرى على ذلك أثره في إنتاجهم الأدبي، من شعر وقصص وتمثيل.
    وللأسف الشديد قد تلقف كثيراً من هذه التصورات الفاسدة بعض أبناء المسلمين، وانحرفوا بها في تفكيرهم وفي مُعتقدهم، وفي سلوكهم وأخلاقهم، وفي علمهم وأدبهم وفنونهم، وبنوا على ذلك فكرة الصراع في الحياة، فمرة بين الخالق والمخلوق، ومرة بين الدنيا والدين، ومرة بين الحاكم والمحكوم، ومرة بين الرجل والمرأة، وهذه هي نقطة الانطلاق في فكر القوم (دعاة التغريب).
    فهذا كله خرافة، يردها دين الإسلام، ويُبطلها قول الحق سبحانه: "رب العالمين"، والعقل والواقع المحسوس دليل صادق على ذلك، وشاهد على أنه سبحانه رب العالم ومُدبرهم ومالكهم وراعيهم، كما يحس بذلك مَن له أدنى شعور من الإنسانية، فضلا عمن يعرف نور الوحي والقرآن، قال بعض العلماء: سمي العالم عالما ؛ لأنه علامة على وجود الخالق سبحانه.
    سؤال: ما المُناسبة بين "الحمد" وبين ما بعده "الله" و "رب العالمين"؟
    نقول: إن الحمد لله هو الثناء، والثناء على شيء لا يكون إلا لأحد سببين: إما لصفة عظيمة في المحمود تستحق الحمد، وإما لإحسان من ذلك المحمود لغيره يستحق عليه الشكر والثناء، ونحن إذا تأملنا لفظ "الله" و "رب العالمين" وجدنا أنها تشتمل على كلا الأمرين؛ تشتمل على الوصف بالجميل، وعلى الإحسان إلى الغير.
    فالله هو: الإله، وهو أكبر أسماء الله وأجمعها، وينبئ هذا الاسم العظيم عن كل صفة كمال وكل صفة جلال وجمال، فبهذا يستحق الحمد من هذا الوجه.
    ولفظ "رب العالمين" هو يقتضي الحمد كذلك ؛ لأن الربوبية تشمل على كل إحسان وعلى كل فضل ونعمة وصلت إلى الناس، فكأنه قال: "الحمد لله"؛ لأنه الإله المُتصف بالصفات العظيمة، "والحمد لله"؛ لأنه رب العالمين المُحسن إليهم في كل حين.
    وقوله: "الحمد لله رب العالمين" فيه تقرير عقيدة الإسلام.
    تضمنت هذه الآية تقرير التوحيد بنوعيه:- الخبري، والعملي. فالتوحيد إما أن يختص بالعمل والعبادة، وهذا يُسمى توحيد الألوهية أو توحيد العبادة، وإما أن يختص بالعلم والاعتقاد، وهذا يتضمن الإيمان بالربوبية وبالأسماء والصفات.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [1/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي


    كيف دلت الآية على نوعي التوحيد؟
    قوله تعالى: "الحمد لله" هذه دلتنا على توحيد العبادة وتوحيد الألوهية، وهذه الدلالة من وجهين ومن طريقين: الأول: أنها أثبتت صفات الإله لله وحده بقوله تعالى: "لله"، فهذا اللفظ يدل على إثبات الألوهية له سبحانه، وإبطال ألوهية ما سواه، والألوهية تتضمن أول ما تتضمن: استحقاق العبادة له وحده دون سواه.
    الطريق الآخر نستفيده من لفظ "الحمد لله"، يعني: أن الحمد الخالص الذي هو عبادة وقُربة، وهو الحمد المطلق، لا يكون إلا لله تعالى، يعني: أن صرف العبادة لا يكون إلا لله، فإن الفرد يدل على الجنس، لأنه إذا كان الحمد لا يكون إلا لله، فكذلك الدعاء والاستغاثة وبقية العبادات.
    وأما قوله سبحانه: "رب العالمين"، فهذا فيه إثبات للتوحيد الخبري، المبني على الاعتقاد، وفيه الوصف له سبحانه بالربوبية التي تشمل صفات الخلق والرزق والتدبير وغيرها.
    وعند التفصيل نقول: "رب العالمين" دلنا على توحيد الربوبية، ولفظ "الرحمن الرحيم" دلنا على توحيد الأسماء والصفات، "والحمد لله" دلنا على توحيد العبادة كما تقدم، وبهذا يحصل التنبيه على أنواع التوحيد الثلاثة في هذه الآية العظيمة.
    ومن الاعتبار بذلك، أن يعي المسلم حقيقة التوحيد، وأن يستشعر أهميته وعظمته، ويُقدمه في جميع أحواله، كما قدمه الله تعالى بالذكر في ابتداء كتابه وبنى عليه دينه.
    ويتأكد هذا المعنى بالنسبة إلى الداعية إلى دين الإسلام، فإنه يدعو إلى دين الله تعالى مُقتفياً هدى كتاب الله تعالى، وهاهو كتاب الله قد ابتدأ دعوته للخلق بذكر التوحيد والتنويه بشأنه وتثبيته في القلوب وذلك في أول سوره وأول آياته.
    اللهم وفقنا للعمل بكتابك، واقتفاء سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

    الحلقة السابعة:
    الكلام في هذه الحلقة عن الآية الثانية، قوله سبحانه: "الرحمن الرحيم".
    لفظ هذه الآية الكريمة هي جزء من البسملة، وقد سبق الحديث عنها بشيء من التفصيل فلمَ الإعادة؟
    هذا وقد جرت عادة المُصنفين وعادة المُفسرين أن يقولوا في مثل هذا المقام: قد سبق تفسير قوله تعالى: "الرحمن الرحيم" عند تفسير البسملة، أو يقولون: قد تقدم الكلام على معاني هذه الآية بما يُغني عن التكرار وعن الإعادة.
    ونحن إن أردنا التحقيق وأردنا التدقيق، وإن أردنا كمال النظر قي كلام الله ومقام التدبر، فإننا نجزم أن إعادة الألفاظ - لا سيما في كلام الله - لا يُغني بعضها عن بعض، وليس هو من باب مُجرد التكرار أو لا يحسن أن يُعاد ولا يفيد.
    إن الكلمة الواحدة في القرآن تكون في عدة مواضع، ويكون في كل موضع منها دلالات وإشارات ومعاني ليست في غيرها من المواضع، وهذا شيء طبعي وأمر منطقي ! لماذا؟
    لأن الكلمة مُجردة لها دلالة، وإن أُضيفت فلها دلالة أُخرى، وإن جاءت في سياقٍ زادت دلالتها ومضمونها بحسب السياق والسباق لها. أيضاً لو نظرنا إلى قائل هذه الكلمة سنفهم دلالةً غير التي نفهمها من كلام غيره والقرآن كلام وهو القائل له سبحانه.
    نقرأ قول الله سبحانه: "الرحمن الرحيم".
    ِنتدبر الآية الكريمة:
    على أي شيء يدل الاسمان الكريمان؟ ما المُناسبة بين هذه الآية والتي قبلها؟

    "الرحمن الرحيم" اسمان لله يدلان على صفة الرحمة له تعالى، هذه الصفة لله تعالى صفة عظيمة جداً، ومن عظمها أنها عمت الخلق ووسعت كل شيء، وأنها عمت الدنيا والآخرة، بل إنها غلبت بعض صفات الله الأخرى وسبقتها كما يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ورحمتي سبقت غضبي، وقد قرنها الله بصفة العلم له سبحانه، وهي الصفة التي لا يحدها شيء. قال سبحانه في مُحكم التنزيل: "وسعت كل شيء رحمة وعلماً". [غافر: 7] .
    جاء السياق القرآني هنا ليدلنا على عظم هذه الصفة، هذا السياق يُبين شمول هذه الصفة ويُبين قوّتها، وأسبقيتها لغيرها، فقال تعالى: "الرحمن الرحيم". كيف هذا؟
    أولاً: أن الله تعالى عندما ذكر قوله: "رب العالمين" عقب عليه بقوله: "الرحمن الرحيم".
    قال بعض العلماء: هذا التعقيب فيه تحديد، وفيه لفت للأنظار وفيه ترغيب للقلوب.
    فيه بيان أن ربوبية الله للعباد ربوبية رحمة وربوبية عطف وإنعام وربوبية إحسان. فكأنه يقول: أنا ربكم جميعاً، أنا المُتصرف في أحوالكم و تصرفي لكم مبني على الرحمة وعلى الإحسان وعلى العطف.
    أيضاً: اللفظ الدال على الربوبية لفظ واحد وصفة واحدة (رب)، ولكن اللفظ الذي يدل على الرحمة لفظان (الرحمن) و (الرحيم)، فهذه الزيادة لا شك تدل على معنى، تدل على الغلبة وعلى السبق، قال بعض المُفسرين: الحكمة من تكرير الرحمة كأنه قيل: اذكر أني إله رب مرة، واذكر أني رحمن رحيم مرتين، ليُعلم أن العناية بالرحمة أكثر من سواها.
    وأمر ثالث: قرن الله بين اسم الرحمن واسم الرحيم لِيكتمل معنى الرحمة في حقه سبحانه، ولِيدل كل من اللفظين على ما لا يدل عليه الآخر، ليدلان على عموم الرحمة وشمولها وعلى قوتها وأسبقيتها.
    أن لفظ (الرحمن) كلفظ شبعان في الوزن، وما كان كذلك فهو يدل على الامتلاء في الصفة، وعلى السعة والزيادة.
    ولفظ (الرحيم) أخص في المعنى على الرحمة، لكنه يدل على الفعل وعلى إيصال الرحمة للخلق.
    إذاً فبهذا اللفظ وبذاك يكتمل المعنى العظيم من الرحمة، ويدل على كمال الرحمة في ذات الله تعالى، ويدل على كمال الرحمة في فعله وإيصالها للمخلوقين.
    وهاهنا لطيفة. لماذا قدم لفظ (الرحمن) على لفظ (الرحيم)؟
    قالوا: لأن لفظ (الرحمن) في الدلالة على ذات الله تعالى، فالرحمن لا يُسمى به غير الله بحال من الأحوال، والرحيم قد يُسمى به الله ويُسمى به غيره، ومن قواعد اللغة: أن ما دل على الاتصاف الذاتي فهو أولى بالتقديم.
    ننتقل إلى ذكر المُناسبة:
    ما المُناسبة بين (الحمد) وبين (الرحمن الرحيم)؟
    الحمد هو الثناء بالقول الجميل، وهذا الثناء له سببان: أما الاتصاف بعظيم الصفات، وأما الإحسان إلى الغير، ودل على المعنى الأول لفظ الجلالة (الله)، ودل على المعنى الثاني لفظ (رب العالمين) ولفظ (الرحمن الرحيم)، ولهذا جاء سياق الآيات مُتسقاً ورُبط الحمد بهذه المعاني.
    قال سبحانه: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم" يعني: الحمد لمن كانت هذه صفاته ولمن كانت هذه أفعاله، فالكلام في قوة: الحمد لله ؛ لأنه الإله. والحمد لله؛ لأنه رب العالمين. والحمد لله ؛ لأنه الرحمن. والحمد لله؛ لأنه الرحيم.
    ومن المقرر بلا جدال أن الله موصوف بالحمد على جميع أفعاله وجميع صفاته، وهو الذي لا يُحمد على مكروه سواه، وإن كان شيئاً من الصفات يستوجب الحمد فإن الرحمة من أعظم ما يستوجب الشكر والثناء، لماذا؟
    لأن الحمد سببه الرئيس هو الإحسان، والإحسان سببه الرئيس هو الرحمة، ولهذا جاء في الحديث (أن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تُصيبه). أي من الرحمة.
    وفي الحديث الآخر: أن امرأة وجدت صبياً في السبي، فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها. وفي السياق أيضاً قوله تعالى: "رب العالمين، الرحمن الرحيم" فما المُناسبة بينهما؟ وما الفوائد المُترتبة على ذكر (الرحمن الرحيم) بعد (رب العالمين)؟
    قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: وصف نفسه تعالى بعد (رب العالمين) بأنه (الرحمن الرحيم)؛ لأنه لما كان في اتصافه بـ (رب العالمين) ترهيب، قرنه بـ (الرحمن الرحيم) لما تضمنه من الترغيب، لِيجمع في صفاته بين الرهبة منه والترغيب إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع، كما قال تعالى: "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم" وقال: "غافرِ الذنب وقابلِ التوب شديدِ العقاب ذي الطول".
    نختم الحديث عن "الرحمن الرحيم" بالتنبيه على أعظم ما دلت عليه وبيان المقصد الأول لها على أي شيء؟ دلت على إثبات صفة الرحمة لله تعالى، هذه الصفة العظيمة يجب أن نؤمن بها على الحقيقة ومن غير تشبيه لها بصفات المخلوقين، ومن غير تحريف أو تعطيل عن معناها الحقيقي، وهذه قاعدة جليلة تجري على جميع آيات الصفات.
    من الخطأ الكبير أن نُنكر هذه الصفة أو نفهمها كما نفهم الصفات التي يتصف بها المخلوقون، فبذلك نحدث بالتشبيه بين الخالق والمخلوق، هذا التشبيه لا يُقره عقل ولا دين.
    ولهذا التشبيه تجد بعض الناس يعترض على أقدار الله، ويستنكر بعض أفعاله سبحانه، ويظن أنها خالية من الرحمة.
    بعض الناس إن قُلتَ له: إن فلاناً قدر الله له بكذا من مرض أو حادث، تجده يبادرك بالكلام: فلان والله مسكين، فلان والله ما يستاهل ما أصابه.
    وبعض الناس يتساءل مُنكراً على الله تعالى – عياذاً بالله – لماذا لم يحصل كذا وكذا؟ لماذا لا يُعطي الله المسلمين كما يعطي الكافرين؟
    وهذا كله والله من الشيطان، وكله من الجهل، وأساسه تشبيه صفة الخالق بالمخلوق، ورحمة الله برحمة البشر، وسببه عدم التسليم له سبحانه.
    اللهم ارحمنا برحمتك، وجنبنا الزلل وألهمنا الرشد ووفقنا إلى كل خير.

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم


    لطائف من القرآن الكريم [1/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي


    الحلقة الثامنة:


    حديثنا في هذه الحلقة عن قول الحق سبحانه وتعالى: "مالك يوم الدين".
    هذه الآية الكريمة تتكون من ثلاث كلمات: "مالكْ" و "يومْ" و "الدينْ". والتفسير لألفاظ القرآن والكشف عن معانيها، لابد فيه من النظر إلى ثلاثة أمور: إلى اللفظ بمفرده، وإلى اللفظ مُركباً مع غيره، وإلى الجملة كاملة، والأمر الثالث: أن ننظر إلى ارتباط الآية أو الجملة بما قبلها و بما بعدها، وأن نتأمل في الدلالات المحيطة باللّفظ، والإشارات التي تُفهم من السياق.
    ولنبدأ بذكر معاني الآية كلمة كلمة:
    "مالك" فيها قراءتان سبعيتان، قراءة عاصم والكسائي "مالك" بالألف، اسم فاعل من المِلك، كقوله سبحانه: "مالِك المُلك" [آل عمران:26]. وقرأ الباقون السبعة "مَلِكْ "، كقوله سبحانه: "المَلِكُ القدوسُ" [الحشر:23]. و "مالك" مأخوذة من المِلْك، ومَلِك مأخوذة من المُلك، والمالك هو المتصرف بالأعيان المملوكة كيف شاء وبما شاء، والمَلِك هو الذي يأمر وينهى فيُطاع.
    وقد طوّل أهل التفسير الكلام على ترجيح أحد القراءتين، وأشهر ما قيل:
    إن المَلِك أبلغ في الدلالة على الملكية ؛ لأن أمره نافذ على المالك في ملكه.
    وقيل: لفظ (المالك)أبلغ ؛ لأنه يكون مالكٌ للناس وغيرهم، والمَلِك لا يكون إلا على الناس، فلا يُقال: ملكٌ على البهائم وعلى الحجارة!
    ومن أوجه الترجيح اللطيفة أن (مالك) أكثر حروفاً من (مَلِك) والزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، وأيضاً قيل: أنها تدل على الزيادة في الأجر فإن لقارئ:(مالك) عشر حسنات زيادة على مَن قرأ (ملك).
    فإن قيل: هل يصح الترجيح بين القراءات، وكلها كلام الله؟
    فالجواب: أن الترجيح إن كان على وجه التنقيص من القراءة الأخرى، فهذا لاشك حرام، ولا يستحله مسلم عالم ذاكر لما يقول.
    وأما إن قُصد المُقارنة بين لفظ (مالك) و (ملك)، وأن نُبيّن ما يتضمنه كل منهما من مزية، فهذا لا بأس به.
    فإن قيل: ما الفائدة من وجود القراءتين، من جهة اللفظ والبلاغة؟
    فالجواب: إن القراءتين للكلمة القرآنية بمثابة الآيتين، وهذه قاعدة ولعله من كمال بلاغة القرآن أن يجيء في الموضع الواحد بالكلمتين، فتُقرأ هذه مرة وهذه مرة، وبذلك تكتمل الدلالة على ملكية الله تعالى لذلك اليوم العظيم. قال الإمام القرطبي – رحمه الله –: إن وُصِفَ الله سبحانه بأنه (مَلِك) كان ذلك من صفات ذاته، وإن وُصِفَ بأنه (مالك) كان ذلك من صفات فعله.
    ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جامع الترمذي أنه يقرأ بـ (ملك) ويقرأ بـ (مالك)، قال العلماء: ومن كمال الاقتداء به صلى الله عليه وسلم أن نفعل ذلك فنقرأ بهذه تارة وبتلك تارة ؛ لكن بشرط أن لا يحصل به التشويش على العامة والتشكيك لهم في كلام الله تعالى.
    جاء بعد لفظ (مالك) لفظ (يوم). فما هو اليوم؟
    اليوم يُطلق في لغة العرب على الجزء من الزمن. واليوم في الشرع: هو ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والأيام عند الله يقدرها بما شاء سبحانه، فيوم عند ربك بألف سنة، ويوم بخمسين ألف سنة وهكذا.. لكن ما هو اليوم الحقيقي؟ إن اليوم الحقيقي، وإن اليوم الحق هو يوم القيامة، كما قال سبحانه:"ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا" وقال: "اليوم تُجزى كل نفس ما كسبت".
    وأما لفظ (الدين) فهو يدل على الجزاء ؛ لأن الله تعالى يدين الناس على أعمالهم،، ويوم الدين هو يوم القيامة ومبدأ الآخرة.
    وقوله تعالى: "مالك يوم الدين" فيها فوائد جمة، فمن فوائدها: إثبات القدرة العظيمة لله عز وجل، وأنه يُعيد الخلق كما بدأه.
    ومن فوائدها: تخويف الناس من يوم القيامة.
    ومن فوائدها: إثبات العدل لله سبحانه، فإنه قال: "يوم الدين". ولم يقل: يوم الحساب ؛ لأن لفظ الدين أدل على إثبات المُجازاة بالعدل.
    ومن فوائدها: إظهار العجز التام للناس، وإثبات العبودية المحضة لجميع الخلق، ففي يوم الدين لا حرية لأحد، ولا إرادة لأحد، ولا ملك لأحد، ولا تصرف لأحد، إلا لله الواحد الأحد.
    وإن قيل: لما قال سبحانه: "مالك يوم الدين" وهو سبحانه مالك لجميع الأيام؟
    فهذا له أجوبة:
    من أجوبته: أن التخصيص لا يعني الحصر، يعني تخصيصنا لشيء بالذكر لا ينفي غيره، فلو قلنا: فلان يملك كذا من الإبل، فهذا لا يعني أنه لا يملك غيرها.
    وقد تقرر أن الله تعالى مالكٌ لجميع الأيام، ومالكٌ لجميع الأوقات، مالك للدنيا والآخرة، وفي سياق الآيات إثبات الملكية التامة لله، وهذا حاصل بقوله تعالى: "رب العالمين"، فالعالمين كل ما سوى الله تعالى، وهو عام في الدنيا والآخرة.
    ومن الأجوبة البديعة: أن يوم الدين يوم لا يُنازع الله في ملكيته أحد، في الدنيا كانوا يُنازعونه في الملك ولو بالكذب، أما في الآخرة وفي يوم القيامة فلا يجرأ أحد أن يُنازع الله في شيء ولو بالكذب، لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار. لمَن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار.
    في الدنيا هنالك ملك مجازي، وهنالك حرية وتصرف من المخلوقين، وهنالك أسباب ومُسببات، أما يوم القيامة، فإن الله تعالى يتصرف لوحده لا أحد يتصرف غيره، والله يملك لوحده لا أحد يملك غيره، والله يُجازي لوحده لا يُنازعه أحد، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا حقيقة ولا مجازاً.
    قوله: "يوم الدين" إثبات لهول يوم الدين وتعظيم ليوم القيامة، فإن الله مالكٌ ليوم الدين ولغيره ولكن خصه بالذكر لتعظيمه ولعظمته، ميّزه لهوله وميّزه لجلالته وأهميته.
    وهذا التميُّز فيه إظهار عظمة الخالق ، أيضاً فيه إظهار عظيم الملك لله. فنحن مثلاً إن أردنا فإننا ننسب الملك إلى شخص فننسب إليه أعظم الأشياء وأفضلها. لو أننا نعلم شخصاً من الناس يملك الذهب العظيم الخالص، ويملك بإزائه شيئاً حقيراً كخزف أو قش، فنحن نقول: فلان مالك الذهب. ولا نقول: مالك الخزف. فإن الخزف أمام الذهب لا شيء، والدنيا أمام الآخرة لا شيء، ولهذا قال: "مالك يوم الدين".
    بقي الحديث عن المُناسبة بين الآيات:
    لننظر في ارتباط الآية بما قبلها، ارتباط "مالك يوم الدين" بـ "الحمد لله".
    بينهما تناسب، لو تأملنا لوجدنا أن الكلام في قوة: الحمد لله لأنه مالك يوم الدين. لماذا؟
    يوم الدين يُقيم الله تعالى فيه العدل، يوم الدين يقتص فيه المظلوم من الظالم حتى الشاة العجماء، العدل والإنصاف لا يكون إلا في يوم الدين، لا يكون في الدنيا عدل تام حتى لو نُفذ الشرع، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنني أقضي بما أسمع).
    أيضاً يوم الدين هو الذي يصلح أهل الدنيا، كيف هذا؟
    لولا يوم الدين لرأينا غير الذي نراه، يوم الدين يجعلنا نستقيم فلا ننحرف، يجعلنا لا نظلم، لا نسرق، لا نغتاب، لا نقتل.
    وهاهنا لطيفة دقيقة: أن الله ذكر في أول السورة خمسة أسماء له: الله، الرب، الرحمن، الرحيم، الملك أو المالك. لماذا؟ أو ما الفائدة؟
    قال في التفسير الكبير: السبب فيه كأنه يقول: خلقتك أولاً، فأنا إله. ثم ربيتك بوجوه النعم، فأنا رب. ثم عصيتَ فسترتُ عليكَ، فأنا رحمن. ثم تُبتَ فغفرت لك، فأنا رحيم. ثم لابد من إيصال الجزاء إليكَ، فأنا مالك يوم الدين.
    وقال تعالى: "الرحمن الرحيم" ثم قال: "مالك يوم الدين". فما فائدة التعقيب هنا؟
    قال العلماء: لمّا بيّن الرحمة المُضاعفة، فكأنه قال: لا تغتروا بذلك، فإني مالك يوم الدين، فهذا جمع بين الترغيب والترهيب، وقدم (الرحمن) على (مالك) ؛ لأن الرحمة سبقت في علم الله غضبه وعقوبته. *

    الحلقة التاسعة:
    يقول المولى سبحانه وتعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين".
    هذه الآية هي الآية الرابعة من سورة الفاتحة سبقتها ثلاث آيات، وستتلوها ثلاث آيات أو اثنتان، وقد جعل الله تعالى الفاتحة نصفين، وجعل هذه الآية نصفين. فالآيات الثلاث الأول كلها ثناء على المولى سبحانه وتمجيد، والآيات الثلاث الأخيرة كلها دعاء من العبد إلى ربه ومولاه.
    وأما هذه الآية فهي نصفان نصفها للرب، ونصفها للعبد، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين. قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
    "إياك نعبد" أي لك يا ربنا نُصلي ونسجد ونحفد ولا نعبد سواك ولا نتوجه إلى غيرك. معناها: نُخلص العبادة لك ونُخلص التوحيد لك، ولا نُشرك معك غيرك، معناها: أنت المُستحق للعبادة وحدك.
    و " إياك نستعين " أي نستمد العون منك في جميع الأمور ولا نستعين بأحد سواك، ولا نطلب العون إلا منك. معناها: نُعلن لك عجزنا وضعفنا، ونُعلن براءتنا من كل حول ومن كل قوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
    هذه الآية دلتنا على أساس ديننا، دلتنا على لب شريعتنا، ودلتنا على سر وجودنا.
    هذه الآية بمثابة قولنا: لا إله إلا الله، هي توازي كلمة التوحيد في المعنى، تتضمن إثبات العبادة لله وحده، وتتضمن نفي العبادة عما سواه سبحانه، وهذا المعنى هو أساس الدين وسر الوجود، وهذا المعنى هو الغاية التي أُنزل القرآن لأجلها.
    ولهذا جاء عن بعض السلف تعظيم هذه الآية، روي عن بعضهم: أن معاني القرآن الكريم تعود إلى هذه الآية. وقال بعضهم: "إياك نعبد وإياك نستعين" سر القرآن.
    هذه الآية الكريمة مع قصر ألفاظها قد حوت المعاني العظيمة، وقد حوت البلاغة العجيبة، عجائب هذه الآية لا تقضى.
    نذكر منها ما يتسع له المقام:
    هذه الآية جاءت بصيغة موجزة، ولكن بأسلوب بليغ جداً، ومن بلاغتها أنها تدل على حصر العبادة في عبادة الله، وعلى اختصاص التوحيد به سبحانه ونفي الشريك عنه.
    قال تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين" تقديم "إياك" هنا يفيد الحصر، ويفيد الاختصاص، قالوا: لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، و"إياك" هنا مفعول به وحقه التأخير، وعامله "نعب " و "نستعين". قال ابن القيم – رحمه الله -: فهو في قوة: لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك.
    من فوائد تقديم "إياك" كذلك: العناية والاهتمام، فإن شأن العرب أن تقدم الأهم، قالوا: ولئلا يتقدم ذكر العبد على ذكر الرب سبحانه.
    وقال سبحنه: "إياك نعبد وإياك نستعين" ولم يقل: أعبد وأستعين، لماذا؟ يعني ما الفائدة من نون الجمع هنا؟
    هذا التعبير القرآني فيه فوائد، وفيه دلالات عظيمة، وفيه إشارات لطيفة.
    فيه تنبيه العابد على صلاة الجماعة فيقال له: احضر إلى بيت الله وصلي مع المسلمين. كيف؟ لأنه يقول: نعبد ويقول نستعين. في صلاته، وهذا اللفظ يدل على الجماعة، فلزم منه أن يكون المُصلي في الجماعة، ليكون أصدق وأدق في التعبير.
    من فوائد (نون الجمع) تعلم العبد حُسن السؤال من الله، وتعليمه أدب الخطاب بين يدي مولاه، قال بعض المفسرين: كأن العبد يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث تُستحق أن أذكرها وحدها ؛ لأنها ممزوجة بالذنوب والتقصير، ولكن أخلطها بعبادات جميع العابدين، وأذكر الكل بعبارة واحدة، وأقول: "إياك نعبد" قالوا: وهذا أدعى للقبول.
    وقد فرع الفقهاء مسألة: وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة عبيد فإن المُشتري إما أن يقبل الكل أو لا يقبل واحداً منها، وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة بتلك الصفة. بل جاء في الحديث: هم القوم لا يشقى جليسهم.
    ومن الفوائد: أن لفظ نعبد بالجمع يدلنا على إثبات علم الغيب لله. لماذا؟ لأن الفاتحة قد فرض الله قراءتها في صلاة الجماعة في الجهر وفي السر، وقد نزلها قبل فرض صلاة الجماعة بهذه الصفة. والصياغة "نعبد" و "نستعين".
    ومن الفوائد: أن لفظ "نعبد" بالجمع يدلنا على الاجتماع يدلنا على إيجاب التعاون بين المؤمنين. كيف؟
    من وجوه، منها: أن المؤمنين الذين يجتمعون على عبادة الله وهي أعلى المطالب، يجب أن يجتمعوا على غيرها. ومنها: أن المؤمنين الذين يعبدون إلهاً واحداً ويستعينون به حري أن تكون كلمتهم واحدة، وأن يكون رأيهم ووجهتهم واحدة. ومنها: أن العبادة لفظ جامع لكل عمل يُحبه الله ويرضاه، وقد جاء هنا بلفظ الجمع، فدل على التعاون في كل عمل يُحبه الله.
    قال تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين" ولم يقل: إياك نستعين وإياك نعبد.
    قال العلماء: تقديم العبادة هنا على الاستعانة من باب تقديم الغايات على الوسائل، فالعبادة غاية والاستعانة وسيلة لها، والغاية أحق وأولى بالتقديم.
    وقيل: إن العبادة حق لله، والاستعانة حق للعبد، وما كان حق لله فهو أولى بالتقديم.
    فإن قيل: لمَ كرر الضمير "إياك" مرتين؟ أي ما فائدة تكرار الضمير؟
    قيل جواباً: إن التكرار هنا له فوائد:
    من فوائده: العناية بالمعبود وتعظيمه وتقديمه.
    ومن فوائده: تأكيد الاختصاص والحصر، ليتأكد أن العبادة والاستعانة لا تكون إلا لمن دل عليه ضمير إياك وهو الله سبحانه وتعالى.
    ومن فوائده: ليحصل شيء من التفريق بين العبادة والاستعانة، فالعبادة لا تكون إلا لله، والاستعانة قد تكون بالمخلوق فيما يقدر عليه، وقد قال الله سبحانه: "وتعاونوا على البر والتقو ".
    هذه الآية وردت بأسلوب الحاضر، والآيات التي قبلها كلها بأسلوب الغائب "الحمد لله" غيب" رب العالمين "غيب" الرحمن الرجيم "غيب" مالك يوم الدين "غيب" إياك نعبد وإياك نستعين " حاضر. انتقل الخطاب من الغيب إلى الحضور. ومن الغياب إلى الشهود. لماذا؟
    أولاً: التنقل في أسلوب الخطاب له فائدة عامة، وهذه الفائدة: هي لفت الأنظار وتنبيه السامع وحضه على مزيد التركيز والعناية، يعني أن هذه الجملة وهذا المعنى عظيم فتنبه عنه وأصغ له سمعك.
    لماذا قال: "إياك نعبد" بأسلوب الحاضر؟
    "إياك نعبد وإياك نستعين" سؤال ودعاء والتجاء إلى الله، وما كان كذلك فالأليق فيه المُشافهة والمُخاطبة المُباشرة، والآيات قبلها هي ثناء ومدح وتمجيد، والأليق في شأن الثناء هو خطاب الغيبة لا الحضور.
    ومن اللطائف: أن يقال: مقام العبادة هو مقام الحضور بين يدي المولى، وهو ميدان المُراقبة لله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". فناسب لأجل هذا أن يأتي بأسلوب الحضور والشهود.

    الحلقة العاشرة:
    الحديث في هذه الحلقة عن قول الحق سبحانه وتعالى: "اهدنا الصراط المُستقيم".
    لنتدبر الآية ونقف عند ألفاظ الآية كلمة كلمة. اهدنا. الصراط. المُستقيم. ونعرض القول في معانيها ودلالاتها الإجمالية، ونقف على الفوائد منها.
    "اهدنا" فعل أمر بمعنى دلنا، والأمر هنا بمعنى الدعاء. لماذا؟ لأن الأمر إن جاء من الأدنى إلى الأعلى، ومن الأقل إلى الأعظم فهو يدل على الدعاء وعلى الترجي.
    الفاعل هنا ضمير مستتر تقديره (أنت) أي يا ربنا اهدنا. و (نا) في "اهدنا" ضمير متصل في محل نصب مفعول أول، والصراط مفعول ثانِ.
    قال العلماء: الهداية في اللغة: هي الدلالة إلى الخير، والهداية في الشرع قسمان: هداية بيان وإرشاد وتوضيح، وهداية توفيق وإلهام وقبول. هداية البيان هي التعريف بالحق وهذه الهداية مُثبتة للخالق ومُثبتة للمخلوق، وهداية الإلهام والتوفيق وهذه لا تكون إلا للخالق سبحانه، ولا يقدر عليها إلا الله سبحانه، حتى نبيه صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء".
    الهداية في هذه الآية بمعنى: ألهمنا دينك الحق، ووفقنا للعمل به، ودلنا دلالة التوفيق ودلالة العمل والإلهام. لماذا؟
    قال بعض العلماء: لأن الهداية إذا كانت مُتعدية بإلى فهي للدلالة وللبيان وللإرشاد فقط كما قال الله:" وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم". وإن كانت مُتعدية بنفسها فهذه تكون الإلهام والتوفيق والعمل. والهداية هنا مُتعدية بنفسها.
    الهداية هي الدلالة بلطف، وهي الدلالة إلى الخير، والتخصيص هنا فيه نكتة. والنكتة هي: اختصاص الدلالة بالدلالة إلى الخير ؛ لأن التلطف يُناسب مَن أُريد به الخير.
    وقال سبحانه: " اهدنا " بصيغة الجمع. لماذا؟ لأن الذي يدعو به يدعو به في الصلاة، وقد تكون الصلاة جهرية، واللائق بالإمام أن يدعو له ولغيره، وهذا فيه إثبات علمه سبحانه بالغيب، وإثبات رحمته بالخلق.
    وقيل: إن الدعاء للمؤمنين حسن في كل حال، ولكن هذا من حقوق الأخوة الإيمانية، وجاءت بلفظ الآية.
    وقيل: إن الدعاء بصفة الجمع؛ لأنه هو أقرب إلى القبول. والكل جائز والكل معنى صحيح.
    قال سبحانه: " اهدنا الصراط " فما هو الصراط؟
    [or=******text]الصراط هو الطريق الذي لا اعوجاج فيه، قال الإمام الطبري – رحمه الله -: وهذا المعنى مُتفق عليه.[/or]
    والصراط هنا هو دين الإسلام، فإن الله يقول: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم. ديناً قيماً" [الأنعام: 161]، فقوله: "ديناً قيماً" تفسير لقوله: "صراط مستقيم" وهكذا هنا، والقرآن يُفسر بعضه بعضاً.
    وقد اتفقت كلمة العلماء على تفسير الصراط بهذا المعنى، ولكن اختلفت تعبيراتهم، قال بعضهم: الصراط هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: هو القرآن. وقال بعضهم: هو طريق العبودية.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ما معناه: هذا الاختلاف تنوع في العبارة، واختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وإلا فإن المعنى والمُسمى واحد.
    وروي عن بعض السلف أنه قال: الصراط هو الحج. وهذا التفسير لا يُقصد به التعيين ولكن يُقصد به التمثيل. فمثاله: لو سأل رجل من العجم عن معنى الخُبز؟ فجاء شخص وأشار له إلى رغيف. فهذا الجواب يقصد به المثال ولا يقصد به الحصر والتعيين، يعني الرغيف كهذا. وهكذا قوله: الصراط الحج.
    ولهذا استعير لفظ الصراط ليدل على دين الإسلام. وإلا فإن الصراط هو الطريق، ولكن الطريق لا يُسمى صراطاً إلا إذا جمع بين أربع خصال ما هي؟ الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والسعة، والقرب.
    إذاً التعبير عن الإسلام بالصراط له معانٍ، وله دلالات وإشارات.
    الصراط في اللغة: الطريق الواسع، والإسلام هو الدين الحق وهو الطريق الحق، ومن صفاته: أنه الطريق الواسع، وسع الخلق ووسع الحق فهو الدين الذي دعا جميع الخلق إلى جميع الحق، وهو الطريق الذي لم يحوج سالكيه إلى غيره، لم يُحوجهم أن يخرجوا منه ويسلكوا طريقاً غيره.
    ولهذا نقول: في هذه الآية رد وتكذيب، رد على مَن قال: إن أحداً من الناس يسعه الخروج عن طريق الإسلام. وتكذيب لمن قال: إن دين الإسلام قاصر، أو أنه عاجز في وقت من الأوقات أو في زمن من الأزمان.
    ومن فوائد لفظ "الصراط المستقيم": الإخبار بأن دين الإسلام هو أقرب الطرق وهو أقصر وهو أسرع الطرق. فإن لفظ "الصراط" من صفاته القرب، ولفظ "المستقيم" هو أقرب خط وأقرب طريق بين نقطتين.
    ومن الفوائد: أن لفظ " المستقيم " يتضمن الإشارة إلى أنه يوجد طرقاً غير مستقيمة، ويوجد مناهج ملتوية، ولعل هذا تبكيت لليهود والنصارى..
    [or=******text]ومن الفوائد اللطيفة: إيضاح أن الحق واحد لا يتعدد، فإن لفظ " المستقيم " لفظ يدل على الفرد، وأل فيه للعهد، وأن لفظ المستقيم يدل أيضاً على الانفراد، فالمستقيم كما يُعرفه أهل الهندسة هو: أقرب خط يصل بين نقطتين، وهذا لا يكون إلا واحداً، وهكذا طريق الحق لا يكون إلا واحداً كما أخبر الله سبحانه " فماذا بعد الحق إلا الضلال ".[/or]
    ومن الفوائد: الإبانة بأن طرق الباطل كثيرة وهذه واحدة، وأن طرق الباطل ملتوية ومُجهدة ومُتعبة لأصحابها وهذه ثانية، وأنها طرق لا توصل إلى المقصود الصحيح وهذه ثالثة.
    هذه الفوائد الثلاث تؤخذ من لحن العبارة، تؤخذ من مفهوم المخالفة للفظ "الصراط المستقيم".
    من فوائد الآية الكريمة: التنبيه إلى عظم هذا الدعاء، الدعاء بالهداية إلى الدين، وفضل هذا الدعاء. لماذا؟
    لأن هذا الدعاء دعاء قرآني، قد تكلم به الله تعالى في مُحكم التنزيل.
    وثانياً: هذا الدعاء قد فرضه الله، فرضه سبحانه في كل صلاة فرضه في كل ركعة أن تقوله وأن تدعو به.
    وإن قيل: لمَ قال: "اهدنا الصراط المستقيم " أليس المُصلي مهتدِ، أليس المسلم على الصراط المستقيم هل هذا من تحصيل الحاصل؟
    أجاب عنه العلماء بأجوبة، كلها أجوبة صحيحة، وأجوبة مُتقاربة.
    منهم مَن قال: "اهدنا الصراط المستقيم" أي طريق المُتقدمين الأولين، وهي طريقة عظيمة ومنازل رفيعة، وهذا تدل عليه الآية التي بعدها "صراط الذين أنعمت عليهم".
    ومنهم مَن قال: "اهدنا" أي ثبتنا.
    ومنهم مَن قال: أي زدنا. فإن الطريق المستقيم هو الطريق الوسط تماماً، وهذه الوسطية الدقيقة غير مُتحققة لكل مُهتدِ. ولهذا جاء وصف الصراط المستقيم في الآخرة أنه صراط دقيق، أحدّ من السيف وأدقّ من الشعرة.
    ومنهم مَن قال: المقصود على الحقيقة، أي طلب الهداية لماذا؟ الإنسان محتاج إلى طلب الهداية في كل وقت وفي كل حين. هو محتاج إلى هداية جديدة في كل وقت ؛ لأنه مكلف في كل وقت بعمل جديد، ولهذا من أحسن ما فُسر به "الصراط المستقيم" هو العلم والعمل في كل وقت بما أمر الله.
    هذا التوجيه ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، وهذا توجيه جيد، وفيه نكتة ولطيفة. ولكنه لا يُعارض ما قيل من التوجيهات، بل يوافقها تماماً، وهو لا يُعارض التفسير بمعنى: زدنا أو ثبتنا.
    قال الله سبحانه: "إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم".
    بين الآيتين تناسب وبينهما ترابط وتكامل، بينهما توافق في الغاية. كأن المعنى: نحن نعبدك وحدك ونستعين بك وحدك فاهدنا لأجل ذلك إلى الطريق الحق، فهو قد جعل ذكر العبادة المُتقدمة وسيلة لقبول الدعاء.
    وأيضاً المعنى: اهدنا الصراط المستقيم والطريق الحق الذي هو طريق عبادتك وإخلاص الاستعانة بك. فعلى هذا، العبادة تفسير للصراط، ولكن جاء ذكرها مُتقدماً عليها. وفي سورة الأنعام جاء ذكر الصراط أولاً ثم العبادة، كما قال سبحانه: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، ديناً قيماً". [الأنعام: 161].
    وأيضاً المعنى: إياك نعبد ولا نعبد غيرك، فنحن لأجل هذا نطلب الهداية منك لا من غيرك، فالآية الأولى توافق الثانية تمام الموافقة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [2/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي




    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما وبعد:
    يقول الله سبحانه:"اهدنا الصراط المستقيم" ثم قال: "صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين".
    أخي الكريم: سبق الحديث عن قوله سبحانه: "اهدنا الصراط المستقيم"، وفي هذه الحلقة نفصِّل القول عن قول الحق سبحانه: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين".
    هذه الآية الكريمة تضمَّنت فوائد جليلة، هذه الآية الكريمة أشارت إلى معانٍ عظيمة، وإلى لطائف بديعة.
    من فوائد الآية: إيجاب أن نلتزم بطريق السلف، بطريق الصحابة رضي الله عنهم، فيها فرض الاقتداء بمنهجهم وبطريقهم في فهم الدين وفي العمل به، وأن يكون المسلمون مقتدين بالسلف الصالح.
    وجه الدلالة:[] أن الله تعالى أمرنا أن نطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم، إلى الهداية إلى الإسلام، الهداية إلى الكتاب والسنة.[]
    ثم لم يقف الطلب عند هذا الحد، بل زادت وأوضحت وبينت "صراط الذين أنعمت عليهم".
    كأنه يقول: الصراط المستقيم، والهدي المستقيم، والدين المستقيم هو طريق الذين أنعمت عليهم، والذين أنعم الله عليهم من هذه الأمة كثير، وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الله زكّاهم، ولأن الله مدحهم.
    من فوائد الآية:[] إثبات حجية الإجماع، لاسيما الصحابة؛ لأن إجماعهم من الطريق الذي أمر الله أن نسلكه، وأن ندعو الله أن يهدينا إليه، وهذا واضح لا إشكال فيه، وفيه إثبات حجية قول الصحابي إذا لم يُخالف أحداً من الصحابة، ولم يُخالف الدليل، وهذا في الدلالة أقل من الذي قبله.[]
    ومن التفريع على هذه الفائدة: إثبات خلافة الصديق رضي الله عنه فإنه من الذين أنعم الله عليهم. قال تعالى:"مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين" وهو الصديق الأكبر في هذه الأمة.
    قال سبحانه: "الصراط" وقال: "صراط الذين" جاء كلا اللفظين مُعرفاً، الأول بـ(أل) والثاني بالإضافة، قال العلماء: التعريف يدل على الإفراد وفي هذا تنبيه إلى أن الطريق الحق واحد وأنه لا يتعدد، وأما طرق الشر فهي كثيرة ومتشعبة كما قال الله سبحانه: "وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ". [الأنعام: 153].
    وقال الله سبحانه: "أنعمت عليهم" الإنعام إيصال النعمة، والإنعام لا يُطلق على غير ابن آدم، ولا يُسمى إيصال النعمة إلى البهائم إنعام، لا نقول: أنعمتُ على الحمار، أو على الفرس، ولكن على بني آدم، قال تعالى: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه".
    قال هنا: "أنعمت عليهم" بالضمير الصريح، وهذا في حق المهتدين، في بيان الفضل، وقال بعدها: "المغضوب عليهم" وقال: "الضالين" لماذا؟
    هذا لأجل الأدب مع الله، من حُسن خطاب المولى سبحانه: في حال الخير يُنسب القدر إليه، وينسب الفعل إلى الله، وفي حال الشر وفي حال الضر ينسبه إلى المخلوق، هذه السنة لا ننفي أن الله لم يُقدره ولكن من حُسن الأدب.
    ولهذا قال العلماء: من حُسن أدب الجن المؤمنين أنهم قالوا: "وأنا لا ندري أشر أُريد بمن في الأرض "هذا بدون نسبة، وقالوا: " أم أراد بهم ربهم رشداً " فنُسب الخير والرشد إلى الله، وهكذا هنا.
    قال: "غير المغضوب عليهم" وقال: "ولا الضالين " مَن هم المغضوب عليهم؟ ومَن هم الضالون؟
    المغضوب عليهم مَن استوجبوا غضب الرب سبحانه، والضال هو الذي خطئ الطريق الصحيح، وعلى رأس المغضوب عليهم اليهود، وعلى رأس الضالين النصارى. قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: "غير المغضوب عليهم " قال: (هم اليهود)، و "لا الضالين" قال: (هم النصارى).
    []قال العلماء: لا يُقصد بهذا الحصر، لكن اليهود من المغضوب عليهم والنصارى من الضالين. والسبب أن اليهود عرفوا الحق فكتموه ولم يعملوا به؛ فاستحقوا غضب الله، والنصارى جهلوا الحق وضيعوه وعملوا بغير علم؛ فاستجوبوا الضلال والخروج عن الصراط.[/]
    ولهذا علينا أن نتنبه، علينا ألا نتشبه بهم، علينا أن نعرف الحق وأن نعمل به، عرفنا هذا من الآية الكريمة.
    إذاً من فوائد الآية: أنها أوجبت علينا أن نتعلم حتى لا نكون ضالين، وأوجبت علينا أن نتعبد حتى لا نكون مغضوباً عليهم، أوجبت علينا أن نعلَم وأن نعمل حتى نكون من الذين أنعم الله عليهم، وأن نكون على الصراط المستقيم.
    قال الله تعالى: "ولا الضالين " ولم يقل: والضالين. يعني أضاف كلمة: (لا).
    قال العلماء إضافة كلمة (لا) هنا لها فوائد:
    منها: أنها تدل على التأكيد، أي تأكيد انحراف الضالين عن أصحاب الصراط المستقيم، الذين أنعم الله عليهم، لنعلم أن لفظ " الضالين " ليس معطوفاً على الذين أنعمت عليهم.
    ومنها: أن نعلم أن الضالين فرقة مستقلة، ليست داخلة في فرقة المغضوب عليهم.
    ومنها: لئلا يتوهم متوهم أن المقصد هو الجمع بين الغضب والضلال، لتعلم أن المغضوب عليهم منحرفون، وأن الضالين منحرفون، يعني يتحقق التحذير والانحراف منهم مجتمعين ومتفرقين.
    الآية الكريمة تدلنا على أن الدين هو أعظم النعم. كيف؟
    قال: " أنعمت عليهم " لفظ عام ثم حدد فقال " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " يعني كأنه سلب عن المغضوب عليهم وعن الضالين كل نعمة، كأنه أخرجهم من كل نعمة. لماذا؟ لأن مَن فقد نعمة الدين كأنه لا نعمة عنده ألبته.
    الآية الكريمة تدلنا على أن أصحاب الصراط المستقيم في غاية الانشراح في غاية الانبساط في غاية التلذذ. كيف؟
    قال: "اهدنا الصراط المستقيم" ثم وصفهم وحددهم بقوله: "الذين أنعمت عليهم" قال: أنعمت عليهم بصفة العموم، وهذه تدخل فيها النعمة في الدنيا، وتدخل فيها معنى النعمة في اللغة، النعمة في كلام العرب: الحالة التي يستلذها الإنسان، ويهنأ بها.
    وهذا المعنى يوافق قول الحق سبحانه: "ومَن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحيينه حياة طيبة (أي في الدنيا) ولنجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (أي في الآخرة)".
    في الآية الكريمة إثبات صفة الغضب لله سبحانه، إثبات هذه الصفة على ما يليق بجلاله سبحانه، فلا نقول: إن غضبه كغضب البشر، ولا نقول: إن الغضب لله لا يليق به. أو أن نقول: معناه الانتقام، هذا تغيير لمعنى كلام الله، ويرده كلام الله، قال تعالى: فلما آسفونا (أي أغضبونا) انتقمنا منهم"، انظر رعاكَ الله كيف فرَّق الله بين المعنيين. ورتب الثاني على الأول، وهذا التفريق يدلنا على الاختلاف في المعنى.
    قال الله تعالى: "الضالين" ولم يقل: المُضلين؟
    قالوا: أيهما أبلغ هنا: الضالين أو المضلين؟ يعني ما الأفضل والأعم والأقوى أن يستعيذ العبد من أن يكون من المضلين أو الضالين؟
    الجواب: الضالين. لماذا؟ لأن كل مُضل فهو ضال، وليس كل ضال مُضل، وبهذا يتبين لنا مزية اللفظ القرآني.
    []في هذه الآية: هدم لغرور العبد، هدم لقول أهل الزيغ: أن الإنسان له القدرة التامة، هدم لمذهب نفاة القدر، قال القرطبي رحمه الله: قد كذبهم الله في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، فلو كان الأمر والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة.[]
    وفي الآية لطيفة بديعة: دلت الآية على وجوب أن يكون أهل الحق طائفة واحدة، أن يكونوا على طريق واحد. كيف؟ الآية ذكرت أقسام الناس كلهم، جعلت المقبولين طائفة واحدة " الذين أنعمت عليهم " وجعل المردودين طائفتين "المغضوب عليهم" و"الضالين ".

    الحلقة الثانية عشرة
    حديثنا في هذه الحلقة عن أول آية من سورة البقرة.
    []افتتح الله هذه السورة العظيمة بقوله: " الم ". هذه الأحرف تُسمى حروفاً مُقطعة، يعني أننا نقرؤها قراءة مُقطعة من غير إعرابٍ لها، نُسكن آخرها على الدوام، ونحن أيضاً في القراءة ننطق بمسماها، فنقول: ألف لام ميم، ولا نقول ألم.[]
    الحديث عن هذه الأحرف ينطبق على الأحرف المُقطعة في كتاب الله، في هذه السورة وفي غيرها.
    هذا الحديث يتضمن ثلاثة مباحث:-
    الأول: عن معناها وتفسيرها. الثاني: عن الحكمة منها. الثالث: عن الفوائد والاعتبار بها. نبدأ بالعنصر الأول:
    ما هو معنى هذه الأحرف؟ وما هو تفسيرها؟
    نقول: قد خاض في تفسيرها كثير من الناس، وجزموا فيها بأقوال مُتعددة، ونقول أيضاً: ينبغي لنا أن نجزم بأن التفسير لها لا يصح، وليس له مُستند مُعتبر.
    فإن قلتَ: ولمَ؟
    فالجواب: إن التفسير لكلام الله لا يسلم إلا إذا جاء عن أحد طريقين: إما عن طريق اللسان الذي نزل به القرآن، وإما عن طريق الرسول الذي نزل عليه القرآن. وما لم يعتمد على أحد هذين الطريقين فسبيله هو الهوى ومُجرد الظن.
    إذا رجعنا إلى اللسان العربي لم نجد في قواعد هذه الأحرف بهذه الكيفية، ولا نجد في أساليب بلاغته تفسيراً لهذه الأحرف، لم يكن النطق بأسماء الحروف معهوداً عندهم للتخاطب، هذه الأحرف هي حروف المباني، وحروف المباني غير حروف المعاني، حروف المباني لا تدل على معنى إذا لم تقترن بغيرها، وحروف المباني لا تدل على معنى إذا لم يسبقها كلام.
    إذاً تفسير هذه الأحرف من جهة اللغة ليس له مدخل.
    أيضاً: من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُنقل عنه نقلاً صحيحاً في تفسير حرف منها، قال العلماء: والعلم والعمل الذي يتقرب به العبد والذي يتعبد به إذا لم يكن عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد على صاحبه.
    لو كان بيان هذه الأحرف مقصوداً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً الواجب من باب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلمأن نسكت عنها كما سكت، وأن لا نخوض في تفسيرها.
    إذاً لا نقول شيئاً في تفسيرها، والذين جزموا بتفسير شيء منها لم يكن عندهم علم.
    فلا يصح لنا أن نقول: هذه الأحرف أسماء لله. ولا نقول: إنها رموز على جُمَل ومعاني عقدية إيمانية، كقول القائل: " الم " يعني أنا الله العلم أو خلاف هذا من المعاني والتفاسير المظنونة بغير علم.
    أسوأ من هذا، استغلال هذه الأحرف في إدخال عقائد فاسدة في التفسير، زعم بعض الضلال أن هذه الأحرف تدل على أسرار، وأنها تدل على وقائع وغيوب، وأنه يُستخرج بها حوادث مُستقبلية. فصاحب هذا القول – كما قيل – قد تقوّل ما ليس له، وقد طار في غير مطاره، وادعى علم ما لا يعلمه إلا الله.
    هذه الطريقة الحسابية طريقة باطلة، يُسمونها (حساب الجُمّل) أو (حساب أبا جاد)، طريقة مأخوذة عن السحرة، سحرة بابل نقلها عنهم اليهود، ثم انتقلت إلى المسلمين. أخرج الإمام البيهقي وابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن قوماً يحسبون أبا جاد وينظرون في النجوم، ولا أرى لِمَن فعل ذلك من خلاق.
    ننتقل إلى الحديث عن تلمس الحكمة في إيراد هذه الأحرف. هذا الحديث ليس من الخوض في التفسير لها أو تحديد معانيها.
    ما الحكمة في إيرادها؟
    أكثر العلماء قالوا: إيراد هذه الأحرف يتضمن معنى الإعجاز ومعنى التحدي. قالوا: تدلنا هذه الأحرف على أن القرآن كلام الله. تدل على أن البشر عاجزون عن الإتيان بمثله، هذه الأحرف رمز للتحدي والإعجاز.
    فإن قلتَ كيف نفهم ذلك منها؟
    قالوا: دلالة هذه الأحرف أن الكلام المتلو عليكم كلام منظوم مما تنظمون منه كلامكم، هذا القرآن مُركب من هذه الحروف التي هي مادة كلامكم، وهذا أبلغ في الإعجاز، وأقوى في التحدي.
    وزاد البعض في بيان الدلالة فقال: كأنه بهذه الأحرف يُغريهم بمحاولة المُعارضة، وكأنه يستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك. يتهجى الأحرف أمامهم، ويُلقنهم كتلقين الصبيان.
    قالوا: إن سياق الآيات بعدها يدلنا على مقصد الإعجاز. كيف؟
    يأتي بعد ذكر الأحرف غالباً خبر القرآن، وذكر تنزله وبيان إعجازه وعظمته، وبيان أنه كلام الله سبحانه.. فكأن الأحرف هذه إجمالاً لمعنى ما يأتي بعدها أو تنبيه وتقديم له.
    ننتقل إلى البحث الثالث في هذه الأحرف، هذا البحث هو من باب الاعتبار، من باب الاستفادة العامة، وليس تفسيراً، وليس ذكراً للمعاني، ولا الدلالات، يُفهم من جهة المُقتضى واللازم والاعتبار بالشيء.
    إن تأملنا هذه الأحرف وجدنا فيها فوائد، وجدنا فيها عبراً تتعلق بحياتنا، وتتعلق بتلاوتنا للقرآن، وتتعلق بإيماننا وعقيدتنا في الله تعالى.
    من الفوائد: أن يتبرأ العبد من نفسه، وأن يتعلق بربه ويُقر لنفسه.
    يعني أن أول درس لنا في هذه الأحرف أن نعلم عظمة الخالق سبحانه، وأن قدرته سبحانه مُطلقة، وأن علمه سبحانه لا يحده شيء.
    يعلم العبد أنه مخلوق، وأن قدرته ضعيفة ومحدودة، وقدرته أقل من أن يُفسر هذه الأحرف، أو يعلم معناها، قدرته أقل وأضعف أن يأتي بشيء من مثل هذا الكتاب الذي أُنزل بهذه الأحرف.
    ننتقل إلى فائدة ثانية، هذه الفائدة تتعلق بقراءتنا للقرآن، وبالتحديد بطريقة تلاوة القرآن، يتبين من خلالها كيف نتلوا القرآن، يتبين لنا أن الطريقة الصحيحة لتلاوة القرآن هي طريق التلقين، طريق المُشافهة والتلقي المُباشر عن الأشياخ وأهل العلم، يعني لا يجوز لنا أن نعتمد في قراءة القرآن على مُجرد الكتابة، بل لابد أن يكون الاعتماد على التلقي والتلقين.
    فإن قلتَ: كيف عرفنا هذا من هذه الأحرف؟
    نقول: أولاً، هذه الأحرف إن نظرنا إلى مُجرد اسمها، وإلى مُجرد كتابتها فإننا لا نعرف أن ننطقها نطقاً صحيحاً، فنحن لا نُفرق بين "الم" في سورة البقرة، و "ألم" في سورة الفيل في الكتابة.
    لكن الفرق يتبين لنا حين النطق بها، كيف عرفنا أن نُطق هذه (ألف لام ميم) وعرفنا نُطق تلك (ألم)؟**لم نعرف ذلك إلا بالتلقين، فإذاً طريق التلاوة الصحيح لكلام الله هو طريق التلقين.
    []مسألة أخرى: ألف لام ميم، هذه لها خصيصة ليست لغيرها من كلمات القرآن.[]
    كل كلمات القرآن تُبنى على الوصل، أما هذه الأحرف فإنها لا تكون موصلة أبداً، يعني لا نُحرك أواخرها، بل دائماً نسكت آخرها، فنقول: (ألف) بالسكون، (لام) بالسكون، و (ميم) بالسكون، على جميع الأحوال.
    كيف عرفنا هذا؟ لم نعرفه عن طريق الكتابة، وإنما عرفنا عن طريق التلقين والمُشافهة والتلاوة المُباشرة عن الأشياخ.
    ننتقل إلى فائدة ثالثة في هذه الأحرف، وهذه الفائدة عزيزة، نختم بها الكلام عن الأحرف المُقطعة.
    هذه الأحرف نتعلم من قراءتها أن الله رحيم بنا، نعلم عظم عطاء الله لنا في قراءة كلامه.
    إننا نقرأ هذه الأحرف ونحن لا نعلم معناها، ولا نُدرك تفسيرها، ومع هذا فإن الله تعالى يأجرنا على تلاوتها، نعم يأجرنا بكل حرف نتلوه منها حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أقول: ألف لام ميم حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".
    ماذا يعني هذا؟
    يعني أنا لو قرأنا القرآن للتعبد والتلاوة فنحن مأجورون، ولو قرأنا مع الفهم والتدبر فنحن مأجورون أكثر، فهذا جائز، وهذا جائز. لكن الأصل هو قراءة التدبر والفهم؛ لأن القرآن أُنزل لأجل الفهم، ولأن الغاية منه العمل.
    []قد يأتي للإنسان وقت لا يُمكن أن يتدبر كل ما يقرأ. فهل يؤجر؟ نعم ! يؤجر على مُجرد القراءة، وقد عرفنا هذا من هذه الأحرف، فهذا من فوائدها، وهذا من رحمة الله.[/or]
    اللهم ارزقنا تلاوة كتابك على الوجه الذي يُرضيك عنا، وعلمنا منه ما لم نعلم، وذكرنا منه ما نسينا واجعله حجة لنا يا رب العالمين.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [2/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي


    الحلقة الثالثة عشرة:
    الحديث في هذه الحلقة يكون عن الآيات الأول من سورة البقرة. من قول الحق سبحانه: "ذلك الكتاب لا ريب فيه" إلى قوله تعالى: "إن الله على كل شيء قدير".
    حديثنا عن الآيات يتناول العبر والفوائد، يتناول اللطائف والنكات، يتناول الدقائق في التفسير.
    يقول تعالى:"ذلك الكتاب" في قوله: ذلك. إشارة إلى علو منزلة هذا الكتاب وإظهار لرفعة مكانته، قال العلماء: أشار إليه بلفظ: (ذا) الدال على البعيد؛ لبعد مكانته وعلو درجته.
    وفي قوله: الكتاب، فوائد فقهية ولطائف ونكات:
    الأولى: تسمية القرآن بالكتاب، إشارة إلى جواز كتابة القرآن، وقد اتفق العلماء على أن كتابة القرآن فرض كفاية على الأمة.
    الثانية: جواز جمع القرآن الكريم لتسميته كتاباً، وهذا ما فعله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
    الثالثة: "أل" في الكتاب للعهد، أي ذلك الكتاب المعهود عندكم المعروف لديكم، المحفوظ، فدل ذلك على أن القرآن محفوظ لدى المسلمين.
    وقد فرّع العلماء على هذه الفائدة حكمين:
    الأول: وجوب حفظ القرآن الكريم عن الضياع والدرس والتحريف.
    الثاني: أن مَن أنكر شيئاً من ذلك الكتاب - ولو حرفاً واحداً - فهو كافر مرتد.
    الفائدة الرابعة: إن لفظ (الكتاب) يدل على تعظيم شأن الكتاب، لأن الله أطلق عليه لفظ الكتاب، فهو الكتاب الكامل، الذي لا يستحق غيره أن يُسمى كتاباً في جنسه.
    وفي قوله تعالى: "هدى للمتقين" إثبات أن هداية القرآن هداية عامة في كل شيء؛ لأن لفظ (هدى) جاء مُنكّراً، والتنكير يدل على الإطلاق وعلى العموم.
    ويتفرع عن هذه الفائدة الرد على المكذبين بهداية القرآن العامة، فبينت هذه الآية الكريمة أن القرآن هادٍ للمسلمين في جميع أمورهم وفي جميع أحوالهم وشؤونهم.
    قال أهل السياسة المُنحرفة: القرآن ليس هداية في سياسة الأمة. وقال أهل الكلام المذموم: القرآن ليس هدىً في إثبات المعاد والصفات والنبوات. وقالت الشرذمة اللادينية: إن هداية القرآن محصورة بين العبد وبين ربه.
    وقد أكذبهم الله جميعاً في هذه الآية، وأثبت للقرآن الهداية التامة العامة بلفظ موجز.
    وفي قوله تعالى:"هدى للمتقين" دليل على أن الاهتداء بالقرآن مرتبط بتقوى الله تعالى، ومرتبط بالخوف من عقابه، وأن غير المهتدي لا ينتفع بهداية القرآن.
    ويتفرع عن هذه الفائدة: أن الداعية إلى كتاب الله، وأن المُتصدي لإصلاح الناس ينبغي له أولاً أن يزرع في قلوبهم التقوى والخوف من الله، وأن يسعى لإزالة القسوة وأسباب الإعراض عن دين الله، فإذا نجح في هذا وُفق للموعظة بالكتاب، ونجح في التجاوب والتأثير.
    وفي قوله تعالى: "هدى للمتقين" إيضاح المقصد من القرآن، وأنه أُنزل لسوق الناس إلى الآخرة وتخويفهم من الله ومن عذابه، فهو كتاب موعظة وهداية إلى التقوى. ويتفرع عن هذا أن القرآن ليس كتاباً في العلوم التجريبية، لا في الطب ولا في الفلك، ولا في الجغرافيا ولا في علوم الأحياء، وأن مَن تكلف لأجل إخضاع آيات القرآن لهذه العلوم ليس بمُصيب ولم يعرف مقاصده. نعم قد يوجد فيه إشارات إلى مسائل علمية مُعجزة، وهذا لا يُخرجه عن مقصده الأساس.
    قال الله سبحانه: "هدى للمتقين" ثم بين معنى التقوى فقال: "الذين يُؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم يُنفقون" فهذه الآية تفسير للتي قبلها، وفيها بيان معنى المتقين، وتفسير لفظ التقوى في كتاب الله الكريم.
    والله تعالى قد وصف المتقين بثلاث صفات، هذه الصفات تتضمن كمالات العبد، فـ (الإيمان بالغيب) حظ القلب، و(إقامة الصلاة) حظ البدن، و (مما رزقناهم يُنفقون) حظ المال.
    في قوله تعالى: "يؤمنون بالغيب" الإشارة إلى أن كل عمل صالح أساسه الإيمان بالغيب، وتقدّم ذِكْره هنا لتقدم أمره، ولبناء غيره عليه.
    وقال الله: " يؤمنون بالغيب " ولم يقل: ( الغائب )، فالغيب يدخل فيه الإيمان بالله، وأما الغائب فلا يدخل فيه. قال بعض العلماء: فرق بين الغيب والغائب، فالغيب: هو مالا تراه أنت، وأما الغائب: فهو ما لا تراه ولا يراك.
    وفي قوله: "ويُقيمون الصلاة " إشارة إلى وجوب المحافظة على الصلاة، وإدامة أدائها في كل مرة بدون تخلف؛ لأن مادة الإقامة تدل على المواظبة والتكرار، والإقامة بمعنى جعلها قائمة.
    قال العلماء: في قوله يُقيمون الصلاة دليل على أن المطلوب من المسلم هو إقامة الصلاة، وليس مجرد أدائها، وفرق بين مجرد الأداء والإقامة.
    قالوا: وإقامة الصلاة تشمل أداء الصلاة في وقتها كل مرة، والإتيان بها ظاهراً وباطناً كما أمر الله، وحصول الأثر بها على عمل العبد وسلوكه.
    وفي قوله: "ومما رزقناهم يُنفقون" ثلاث فوائد ولطائف:
    الأولى: أن الرزق كله من عند الله، وأن الرزاق هو الله وحده لا شريك له، فلا نُسمي غيره رزاقاً، ولا نقول: فلان يقطع رزق فلان.
    الثانية: أن يستشعر العبد في حال التصدق والنفقة، أن المال هو مال الله، وأنه عنده عارية.
    الفائدة الثالثة: (مما) أصلها (من ما) و (من) هنا للتبعيض، فيكون الكلام في قوة: من بعض أموالهم يُنفقون، وفيه دليل على أن المطلوب من العبد أن يُنفق بعض ماله لا كله.
    وفي قوله: "وبالآخرة هم يوقنون" الإشارة إلى فضيلة التفكر والتدبر في أمور الآخرة، وإعمال العقل وغوص الفكر للتوصل إلى اليقين بالآخرة، لا مجرد التقليد، وقد عرفنا هذا من مادة (يوقنون) قال أهل اللغة والبلاغة: اليقين هو العلم بالشيء عن طريق النظر والاستدلال.
    وفي قوله تعالى: "أولئك على هدى" فائدتان عزيزتان:
    الأولى: أن المؤمن متمكن من الهداية ومستمر عليها، فشُبهت حاله وتمسكه بالحق، بحال مَن اعتلى شيئاً وركبه. فهو ثابت فوقه مستمر في السير عليه.
    الفائدة الثانية: فيها الإشعار بأن صاحب الحق في حال العلو والارتفاع؛ لأن لفظ (على) يدل على الاستعلاء، ولفظ (في) يدل على السُفل والانحطاط، ولهذا جاء في القرآن: "وإنا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مُبين".
    وفي قوله تعالى: "أولئك هم المُفلحون" دلالة على أن الفلاح مرتبط بالتقوى، وأن غير المتقي لا يفلح أبداً. قال العلماء: لفظ (هم) في الآية يدل على حصر الخبر في المبتدأ، فإنك لو قلتَ: الإنسان ضاحك. فهذا يُفيد أن الضاحكية تحصل من الإنسان ومن غيره. وأما لو قلتَ: الإنسان هو الضاحك. فهذا يُفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا من الإنسان.
    ننتقل إلى الكلام عن الآيات النازلة في شأن الكفار والمنافقين.
    قال الله في شأن الكافرين: "ختم الله على قلوبهم" ففيها دلالة على أن القلب هو محل العلم، وهذا هو الموافق لقوله سبحانه: "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين" وغيرها من الآيات.
    وقال الله في شأن المنافقين: "وما هم بمؤمنين" وذلك بعد أن حكى قولهم: " آمنا بالله وباليوم الآخر" قال العلماء: في الآية الكريمة رد على الكرّامية وأشباههم ممَن يقول الإيمان هو قول باللسان وإن لم يقترن به الاعتقاد بالقلب.
    وقال الله تعالى عن المنافقين أيضاً: " ألا إنهم هم المفسدون " هذا التعبير فيه فائدتان لطيفتان:
    الأولى: حذف معمول (يُفسدون) ليدل على أن فسادهم عام في كل شيء، فهو لم يقل: مفسدون في كذا. بل أطلق لفظ (مفسدون).
    الثانية: في الآية حصر الإفساد فيهم دون غيرهم، وذلك ليكون أبلغ في الرد على دعواهم: "إنما نحن مصلحون" هم حصروا أنفسهم في الصلاح، وهو رد عليهم بحصر الإفساد فيهم، وهذا أبلغ.
    وقال الله عن المنافقين: "ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون"وقال قبل ذلك: "ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون " قال مرة: يعلمون. وقال مرة: يشعرون؟
    قيل: هاهنا ناسب ذكر السفه مع ذكر الجهل الذي هو خلاف العلم، لأنه لا يتسافه إلا جاهل، وقال عند ذكر فساد المنافقين: لا يشعرون؛ لأن النفاق وما فيه من البغي المُفضي إلى الفساد أمر ضروري جاري مجرى المحسوس الذي يُعلم من غير حاجة إلى العلم النظري.
    وقال الله عن المنافقين: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا " وقال: "وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ".
    عند المؤمنين قالوا: آمنا. وعند شياطينهم قالوا: إنا معكم. أيهما أبلغ؟ قولهم للكفار أبلغ وآكد.
    قال أهل اللغة: الجملة الاسمية تدل على الاستمرار والثبوت، والجملة الفعلية تدل على التجدد. فقولهم للكفار: إنا معكم. جملة اسمية تدل على الثبات والتأكيد والاستمرار على الكفر. وقولهم للمؤمنين: آمنا. ليست كذلك في اللفظ إشارة مع ما بعده إلى أن إيمانهم إيمان متذبذب غير ثابت وليس بمستمر.
    وقال عنهم: "اشتروا الضلالة بالهدى" فلفظ (اشتروا) فيه معنيان لطيفان:
    الأول: أن لفظ (الشراء) هو الاستبدال، فكأنهم امتلكوا الحق فتخلوا عنه، وفي هذا زيادة في توبيخهم.
    الثاني: لفظ (الشراء) يدل على محبتهم للشيء الذي اشتروه، فهم قد اختاروا الضلالة محبة ورغبة – عياذاً بالله -.
    وقال تعالى: "ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون" هاهنا لطيفة دقيقة: ربط سبحانه بين النور وبين الإبصار، أي إذا لم يكن ثمة نور، لا يكون إبصار. وهذا المعنى قد ثبت بواسطة العلم التجريبي الحديث، قال أهل الطب: إن العين لا تُبصر بذاتها، لكن تُبصر بانعكاس النور على الأشياء، ثم انعكاسه على العين، ولهذا فإن الإنسان لا يُبصر في الظلام.

    الحلقة الرابعة عشرة:
    حديثنا اليوم من قول الله تعالى: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون" إلى قول الحق سبحانه وتعالى في آخر قصة آدم: "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
    حديثنا عن الآيات يتناول العبر والفوائد، يتناول اللطائف والنكات، يتناول الدقائق في التفسير.
    في قوله تعالى: "لعلكم تتقون" إثبات الغاية من العبادة، وبيان أن غاية عبادة العباد هي تقوى الله تعالى واتقاء عذابه وعقابه في الآخرة، وهذا البيان يتضمن التكذيب لمن يزعم خلافه، ويرد على مَن يقول إنه يعبد الله لا خوفاً من عقابه ولا طمعاً في جنته، وفيه أيضاً الرد لمَن يعيد فوائد العبادات ومصالحها إلى مصالح دنيوية وفوائد جسمانية.
    وفي قوله تعالى: "جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً "

    فوائد ونكات:
    الفائدة الأولى: إثبات كمال رحمة الله بالخلق في الدنيا، وإثبات أن النعم كلها من عند الله. قال العلماء: إن النعم الحاصلة للعباد إما أن يكون سببها الإيجاد، وإما أن يكون سببها الإمداد، فأما الإيجاد فقد بينه الله تعالى في قوله: "الذي خلقكم والذين من قبلكم"، وأما الإمداد بالنعم فذكره في هذه الآية: " الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً ".
    الفائدة الثانية: إن قيل: جعل هنا بمعنى صيّر. فهذا فيه دليل على انتقال الأرض من حال إلى حال، وهكذا السماء حتى صارتا كما هي، وقواعد علم طبقات الأرض المسماة بـ (الجيولوجيا) توافق هذا المعنى تمام الموافقة.
    الفائدة الثالثة: يُستنبط من الآية لطيفة فقهية، وهي أن الإنسان إذا مَلَك أرضاً فإنه يملك قرارها، ويملك ما يُقابله أيضاً من سمائها، فالأرض له فراش والسماء له هواء كما أشارت إليه الآية.
    وقد فرّع الفقهاء على هذه المسألة مسائل منها: أن الجار لا يتعدى على هواء جاره، ومن المسائل المستحدثة، البحث عن حُكم مرور وسائل النقل الجوية من فوق الأراضي المملوكة للغير، وهل يلزم الإذن بذلك أم لا؟ وهل يملك صاحب الأرض الإذن في جميع الأحوال أم لا؟
    الفائدة الرابعة: قال الإمام القرطبي – رحمه الله – قد دلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق. وقال غيره: أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر، وهو أن يجعل الأرض وطاء والسماء غطاء، والماء طيباً والكلأ طعاماً، ولا نعبد أحداً في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا.
    وفي قوله تعالى: "فأخرج به من الثمرات " إثبات المسببات وأسبابها، أي أن الله تعالى جعل في بعض المخلوقات خواصاً وأسباباً يُتوصل بها إلى الغير، كما جعل في النار خاصية الإحراق، وجعل في الماء خاصية الإحياء للنبات، ولهذا قال تعالى: "فأخرج به" أي بالماء، بسببه، ولو لم يكن الماء سبباً ولم يكن الله قد أودع فيه خاصية الإحياء للنبات لما قال: به، وإنما قال: عنده أو نحو ذلك.
    وفي قوله تعالى: "فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون " بيان أن المعاصي مع العلم أقبح وأشد من وقوعها مع الجهل، وأن ذنب العالم أعظم من ذنب غيره.
    وقال تعالى مُتحدياً: "فأتوا بسورة من مثله" أي من مثل القرآن الكريم وهذا فيه غاية التحدي، بأن يأتوا بمثل سورة، وليس بسورة، وهو أقل ما وقع به التحدي، وقد ظن البعض أن التحدي قد وقع بآية، وهذا ليس بصحيح وليس في كتاب الله الكريم، ومن الآيات ما يكون حروفاً مقطعة كقوله تعالى: "الم" وقوله: "طه".
    وقوله تعالى: "وادعوا شهداءكم من دون الله" فيه فائدتان لطيفتان:
    الأولى: أن الله أعظم لهم التحدي بأن يأتوا بشهداء من حزبهم هم، لا من حزب الله يشهدون بذلك.
    الثانية: استدل بعض الفقهاء بالآية على عدم اشتراط العدالة في إثبات العيوب والسلامة لأهل المعرفة، وعللوا ذلك بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور، وقد قام الوازع العلمي أو العرفي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني، لأن العارف حريص ما استطاع ألاّ يؤثر عنه الغلط والخطأ (أفاده ابن عاشور في تفسيره).
    وقال تعالى: "فإن لم تفعلوا " أي في الحاضر، وهذا تحدٍّ عظيم، ثم قال: "ولم تفعلوا" أي في المستقبل وهذا تحدٍّ أعظم. قال العلماء: قد تضمنت الآية إعجازين:
    الأول: التحدي لهم بأن يأتوا بمثل سورة من القرآن.
    والإعجاز الثاني: أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل سورة من القرآن.
    وفي قوله تعالى: "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة" توبيخ للمشركين بتغليظ وتبليد، كأنه يقول لهم: أنتم والحجارة سواء في نار جهنم، كما كنتم في الدنيا كالحجارة لا تفهم ولا تعي عن الله، وكما كانت قلوبكم قاسية كقسوة الحجارة لا تتأثر بمواعظ الله.
    وفي قوله تعالى عن النار: "أعدت للكافرين" إثبات أن النار موجودة مخلوقة الآن، وهذا هو المذهب الحق الذي عليه أهل السنة، وخالف فيه بعض أهل البدع.
    وقوله سبحانه: "وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات" دليل على أن العمل من الإيمان ويُعرف هذا من وجهين: الأول، أن الجنة تُنال بالإيمان وبالعمل الصالح معاً، ولهذا جمع الله بينهما في الآية، والإيمان المُتنازع فيه هو الإيمان الذي يُدخل الجنة.
    الوجه الثاني: قال القرطبي – رحمه الله -: قوله تعالى:"وعملوا الصالحات " رد على مَن يقول: إن الإيمان يقتضي الطاعات؛ لأنه لو كان ذلك ما أعادها. انتهى.
    وقال سبحانه:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " قال ابن عاشور– رحمه الله-: أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريق الطعن في المعاني.
    وقوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" فيه فوائد:
    الأولى: صحة مذهب جمهور الفقهاء في إباحة كل ما في الأرض مما يُنتفع به، وليس فيه ضرر، ولم يحرم، وأن الأصل في الأشياء الإباحة لا التحريم. قال الفقهاء: لو اشتبه علينا حل حيوان وحرمته فالأصل إباحته، ولو اشتبه علينا حل عمل دنيوي أو حرمته فالقول لمَن قال بالإباحة حتى يأتي المُحرم بدليل.
    الثانية: في قوله: "لكم" إظهار تكريم الله لعباده، وتفضله عليهم، وأنه سبحانه قصدهم بالانتفاع.
    الثالثة: قال القرطبي – رحمه الله -: قال علماؤنا – رحمهم الله – خوف الإقلال من سوء الظن بالله، لأن الله خلق الأرض بما فيها لولد آدم.
    الرابعة: في الآية إثبات أن الإنسان هو الكائن الأعلى في الأرض، وأنه هو المخلوق الأول الذي يُخدم ولا يَخدم في هذا الميدان الواسع، وأنه هو سيد الأرض وسيد الآلة.
    ويتفرع عن هذه الفائدة: أن القيم الإنسانية مُقدمة على القيم المادية، وأن فيها هدماً لمناهج الغربيين في تقديس المادة، وإبطال كل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان، وأن المادة مُسخرة للإنسان لا أن تستذله أو تستعلي عليه
    الفائدة الخامسة: في الآية الكريمة الحث على إثارة الأرض، والعمل في استعمارها، والتقدم في بنائها وعمرانها والانتفاع بها. وقال تعالى: " جميعاً " ليتحصل الانتفاع بكل الأرض لا ببعضها. وفي هذا غاية التقدم المادي والتطور الحضاري.
    الفائدة السادسة: في قوله تعالى: "لكم" إثبات تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض. وقد نقل الشاطبي – رحمه الله – في الموافقات عن جمهور علماء المسلمين: أن أحكام الله تعالى مُعللة بالمصالح ودرء المفاسد.
    ننتقل إلى قصة آدم عليه السلام وذكر خلقه وخلافته.
    قال تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " قال القرطبي – رحمه الله -: هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة ليُسمع له ويُطاع، لتُجمع به الكلمة، وتستفيد به أحكام الخليقة.
    وفي الآية: إثبات أن الملائكة مخلوقات لها عقول مُدركة، ولها إرادات وهم يتحاورون ويتكلمون، فلهم القدرة على الأعمال، وفي هذا إبطال لقول بعض الفلاسفة: أن الملائكة عبارة عن القوى الخيرية وأنها ليست أجساماً تعقل وتتكلم.
    وفي الآية: إثبات صفة الكلام لله تعالى، وأن كلامه سبحانه مسموع، سمعته الملائكة، وأجابوا عليه، وهذا هو الحق.
    وفي قوله تعالى: " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " إثبات كمال عبادة الملائكة، وإثبات كمال تعظيمهم لله سبحانه، ويُفهم هذا من جهات مُتعددة:
    الأولى: قوله: " نُسبح بحمدك " أي بالقول. " ونُقدس لك " أي بالاعتقاد، فجمعوا في تعظيم الله بين القول وبين الاعتقاد.
    الثانية: لفظ (نسبح بحمدك ونُقدس لك) جملة اسمية والجملة الاسمية تفيد الدوام والثبات، بمعنى نحن ملازمون لتسبيحك وتحميدك مستمرون على ذلك.
    الثالثة: قالوا: "نُقدس لك" ولم يقولوا: نُقدسك. قال بعض العلماء: فائدة اللام هنا لمزيد الاختصاص، أي نُقدسك أنت ولا نُقدس غيرك.
    وقوله: " اسكن أنت وزوجك الجنة" أي اتخذا الجنة مسكناً، قال بعض العلماء: في لفظ (اسكن) تنبيهاً على الخروج، لأن السكنى لا تكون ملكاً، وهذا معنى عُرفي لا لغوي، ولهذا لو أسكن رجلا منزلا له، لم يكن بذلك قد ملكه.
    في قوله تعالى: "ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين"فائدتان أصوليتان:
    الأولى: دلت الآية على أن النهي من الشرع يقتضي التحريم، لأن الله خلقه على الظلم، والظلم محرم.
    الثانية: أن الله لم ينهِ عن أكل الشجرة فقط، ولكن عن كل ما يدعو إلى الأكل منها، قال ابن عطية – رحمه الله -: وهذا مثال يبين في سد الذرائع.
    وقوله تعالى عن الملائكة: "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " استنبط منه العلماء فائدتين:
    الأولى: أن الواجب على مَن سأل عن علم لا يعلمه أن يقول: الله أعلم، لا علم لي ولا أدري، اقتداء بالملائكة عليهم السلام.
    الثانية: في قوله تعالى: "مما نزلنا على عبدنا" إثبات صفة العلو لله تعالى، لأن التنزيل لا يكون إلا من عند الأعلى إلى الأدنى.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [2/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي


    الحلقة الخامسة عشرة:
    الحديث في هذه الحلقة عن قول الله تعالى: "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " إلى قول الحق سبحانه: "فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ".
    ولنذكر لك أخي الكريم من فوائد الآيات، ومن لطائف الإشارات، ونكات التأويل.
    في قوله: "يا بني إسرائيل" تهييج للمدعوين أن يستجيبوا للحق، وترغيب لهم أن يمتثلوا أمر الله ويدخلوا في دينه كما كان أبوهم إسرائيل، الذي هو يعقوب بن إبراهيم عليهم السلام، قال ابن كثير – رحمه الله -: تقدير الآية: يا بني العبد الصالح المُطيع لله كونوا مثل أبيكم في مُتابعة الحق.
    ويتفرع عن هذه الفائدة قاعدة دعوية وطريقة شريفة في مُخاطبة الناس، فإذا أردنا أن ندعوهم إلى الحق فإن الواجب أن نتخير أحسن اللفظ، وأن نأتي بأفضل الكلمات التي تُرغبهم في قبول الحق.
    وقال سبحانه: "أوفوا بعهدي أوف بعهدكم"بينه في سورة المائدة بقوله تعالى:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمَن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل".
    وفي قوله تعالى: "واركعوا مع الراكعين" فوائد:-
    الأولى: الإرشاد إلى شهود الجماعة، والخروج إلى المساجد، استدل بها بعض الفقهاء على وجوب الجماعة، قالوا: لأن الأمر يقتضي الوجوب، ولفظ (مع) يقتضي الوجود والمصاحبة، ويقوي هذا المسلك أن الأمر بوجوب مطلق لصلاة قد مضى في أول الآية. ولا معنى هنا لتكراره سوى الإرشاد إلى الجماعة.
    الفائدة الثانية: تضمنت الآية الإشارة إلى وجوب أن يدخل اليهود في دين محمد صلى الله عليه وسلم وفي صلاته وعبادته. ولفظ الأمر بالركوع دال عليه، إذ إن صلاتهم لا ركوع فيها. قال مُقاتل: أمرهم أن يركعوا مع أمة محمد، يقول: كونوا معهم ومنهم.
    الفائدة الثالثة: دلت الآية على إيجاب الصلاة كاملة بأركانها وشروطها، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، وكما يفعله المسلمون العابدون الله تعالى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
    ووجه الدلالة: إن الله تعالى أمر بركن الركوع، والأمر ببعض أركان الصلاة دالٌ على غيره من الأركان والشروط، وهذا من باب دلالة الفرد على النوع والجنس.
    ويتفرع عن هذه الفائدة: وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلمفي تفسيره لمجمل القرآن الكريم، لاسيما في أمر العبادة.
    ويتفرع كذلك من الفوائد: وجوب اتباع سبيل المؤمنين والاقتداء بهم في العبادات الشرعية، واتباعهم لا مُخالفتهم.
    وفي قوله تعالى: "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً " الإشارة اللطيفة إلى أن جميع ما في الدنيا ثمناً قليلاً مهما عظم ومهما كبر.
    وفي قوله تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة" الإشارة إلى أن في الصلاة سراً إلهيّاً عظيماً في تجلية الأمر وفي كشف الغم عن النفس. وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلمأنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
    وقوله: "وإنها لكبيرة" أي مجموع الصبر والصلاة، فهما كالدواء الواحد يُشار إليه بضمير الفرد. كما قال سبحانه: "والله ورسوله أحق أن يرضوه".
    وفي قوله تعالى: "يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" فائدتان:-
    الأولى: أنه نسب الذبح إلى آل فرعون، والآمر به هو فرعون؛ وذلك لأنهم هم الذين يُباشرون الذبح.
    ويتفرع عن هذه فائدة وقاعدة، وهي أن مَن أمره ظالم بقتل أحد أو ظلمه فقتله فإن المُباشر للفعل مؤاخذ بالفعل، كما يؤاخذ الآمر سواء بسواء، إلا في أحوال خاصة بيّنها العلماء.
    الثانية: قال: "ويستحيون نساءكم" ولم يقل: بناتكم كما قال: "أبناءكم"!
    قال بعض أهل التفسير: لأن الغرض من إبقاء عنصر الإناث وهو الاستمتاع بهن والتلذذ المحرم وهذا أعظم في الابتلاء كما أخبر الله سبحانه: " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ".
    وقال سبحانه: "وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون" قال أهل اللغة: فائدة " مِن " الإشارة إلى استعجالهم في المخالفة، وبيان أنهم اتخذوا العجل ابتداء من أول زمن بعد مغيب موسى - عليه السلام - عنهم.
    في قوله تعالى: "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" فائدة، قال رشيد رضا – رحمه الله -: تضمنت الآية تقريراً لقاعدة مهمة، وهي أن كل ما يطلبه الدين من العبد فهو لمنفعته، وأن كل ما نهاه عنه فإنما يقصد به دفع الضرر عنه.
    ويتفرع عن هذه القاعدة: إثبات التعليل لأوامر الله الشرعية، وبناءً عليه إثبات صحة القياس في شرعنا، وأن ما لم ينص الشرع على إباحته أو تحريمه، فهو مُلحق بنظيره مما نص عليه الشارع.
    وقال سبحانه: "فبدل الذين ظلموا" ثم قال: " فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً " كرر لفظ (الظلم) هنا مرتين، لماذا؟
    قال العلماء: تشنيعا عليهم ولتعظيم الأمر عليهم، وإشارة إلى أنهم كانوا ظالمين فيما بدلوه، وإلى أنهم استحقوا الرجز بسبب الظلم.
    وفي قوله عز وجل: "فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم " فائدة شرعية، وهي أن الألفاظ التي أمر الله تعالى بها عباده أن يقولوها، وأراد منهم أن يلتزموا بها لفظاً ومعنى، لا يجوز تبديلها ولا تغييرها ولا تحريفها.
    قال العلماء: من ذلك في شريعتنا ألفاظ القرآن الكريم، والذكر المخصوص في الصلاة، والأذكار الشرعية النبوية.
    وقال سبحانه: "وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر … الآية " ذكر العلماء فيها فوائد وأحكاماً:
    أولاً: مشروعية الاستسقاء والتوسل بدعاء الرجل الصالح كما قال بعد ذلك: "فادع لنا ربك".
    الفائدة الثانية: جواز توزيع الماء بين الناس إذا حصل بينهم تشاحٌ عليه وتكاثر على طلبه.
    الفائدة الثالثة: في قوله تعالى: "قد علم كل أُناس مشربهم" دليل على صاحب البئر والنبع من الماء وهو أحق به من غيره، وهذه الفائدة من قوله: " مشربهم " فأضاف المشرب إلى صاحبه.
    في قوله تعالى: "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" فائدتان تتعلق بآداب الأكل:-
    الأولى: جواز تخير الأطيب من الطعام، ويتفرع عن هذا أن العاقل لا يتخير الأدنى على الأعلى من أمور الدين من باب أولى.
    والثانية: من لفظ الآية نستفيد جواز قول القائل: هذا الطعام أطيب من هذا، وذاك الطعام أدنى من ذاك، وليس في هذا اللفظ ازدراء لنعمة الله كما يُفهم من سياق الآية وتقريرها.
    وقال سبحانه: "اهبطوا مصراً " لماذا قال "مصراً" ولم يقل: مصر؟
    قال علماء البيان: التنوين يدل على التنكير، وعدمه يدل على العلمية، والعلم ممنوع من الصرف، يعنى لفظ (مصرَ) بدون تنوين يعني البلدة المعروفة، و (مصراً) يعني بلدة من البلدان، وهذا هو المراد.
    وقال سبحانه: "ويقتلون النبيين بغير الحق" في قوله: "بغير الحق" نكتتان:-
    الأولى: زيادة التشنيع عليهم.
    الثانية: أن فعلهم هذا منكر حتى في معتقدهم ودينهم، فهو بغير حق حتى عندهم، وأنه لم يكن لهم فيه عذر ولا تأويل ولا جهل، قال بعض المفسرين: دل لفظ الآية على شدة التقبيح لفعلهم، فهو أولاً: قتل نبي لا أي نفس، وثانياً: قتل جماعة لا واحد، وثالثاً: كونه بغير حق. والله تعالى أعلم.

    الحلقة السادسة عشرة:

    قال الله سبحانه: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " في هذه القصة فوائد ولطائف:
    قال علماء التفسير: إن الله تعالى جازى اليهود من جنس صنيعهم، هم لم يمتثلوا أمر الله حقيقة وإنما فعلوا فعلاً مشابهاً له في الظاهر، والله تعالى حوّلهم إلى أقرب الحيوانات شبهاً بالإنسان.
    اليهود أشبهوا البشر في الصورة دون الحقيقة، هم لم يتلقوا أمر الله بفهم مقصده ومغزاه، وأخذوا بصورة اللفظ فأشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات، فهم أشبهوا الحيوان في المعنى، ولهذا استحقوا أن يكونوا مثلهم في الصورة.
    اليهود ألغوا آدميتهم، وأسقطوا المعاني البشرية عن عقولهم، فنقلهم الله من الإنسانية إلى البهيمية في القيم والإرادة والخِلْقَة.
    الفائدة الثانية: دلت الآية على إبطال القول بالظاهر الذي يتنافى مع المقصد الشرعي والتكليف الإلهي، وقد ذهب إلى بعض هذه المعاني ابن حزم وطوائف، وهذه الآية من أعظم الأدلة على إبطال هذا المسلك وإسقاطه من أبواب الفقه والأصول و الاستنباط.
    الفائدة الثالثة: في الآية إبطال نظرية دارون في النشء و الترقي، والتكذيب لِمَن يزعم أن البشر أصلهم قردة، قال العلماء: ومَن قال بذلك فإنه يكون كافراً بمجرد قوله. لماذا؟ لأنه مكذب لله، ولأنه مُنكرٌ لما علم من دين الإسلام بالضرورة.
    وفي قوله تعالى: "وموعظة للمتقين" الإشارة إلى أن غير المتقين لا تنفع فيهم الموعظة، ولا تجدي معهم النصيحة.
    ويتفرع عن هذه الفائدة فائدة دعوية علمية وهي: إيجاب السعي على الدعاة والمصلحين إلى استصلاح الناس بالتقوى لأجل أن تنفع فيهم الموعظة والنصيحة والتذكير بكلام الله تعالى.
    ننتقل إلى قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها.
    قال الله سبحانه: "وإذ قال موسى لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. قالوا: أتتخذنا هزواً؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " فيها فوائد ولطائف:
    الأولى: اختلف الفقهاء أيهما أفضل النحر أم الذبح؟ واتفقوا على أن الجميع مُجزئ، وعلى أن الذبح أولى للغنم، وأن النحر أولى للإبل، واختلفوا في البقر، ورجح البعض في البقر الذبح استناداً إلى لفظ الآية.
    اللطيفة الثانية: قال الماوردي – رحمه الله -: إنما أُمروا بذبح بقرة دون غيرها؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العجل، ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه.
    الثالثة في قوله تعالى: "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" الإشارة إلى تحريم الاستهزاء بالغير والسخرية بهم.
    وقال سبحانه في وصف البقرة: "لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك" قال بعض الفقهاء: يُستحسن في النسيكة أن تكون فوق الصغيرة ودون الكبيرة؛ لأن الله وصفها بقوله: "لا فارض ولا بكر "أي ليست كبيرة وليست صغيرة، ثم أكد ذلك بقوله: " عوانٌ بين ذلك " أي وسط بين الكبيرة والصغيرة.
    وقال سبحانه عن البقرة أيضاً: " صفراءُ فاقعٌ لونها تسرُّ الناظرين " قال بعض السلف: إن الصفرة في الألوان السارة التي تُذهب الهم عن النفس وتُدخل إليها السرور بدلالة هذه الآية.
    وأُعترض على هذا بأن الله تعالى أضاف إدخال السرور إلى البقرة، وليست إلى مُجرد لون الصُفرة، وهذا على كل حال من مليح العلم وليس من متينه.
    وقال بعض الفقهاء: دلت الآية على استحسان الصورة الجميلة في النسيكة التي يُتقرب بها إلى الله تعالى، وأن ما كان جميلاً من الحيوانات فهو أولى بالقربة.
    ومن فوائد الآيات: إثبات أن الأمر في الشريعة يقتضي الوجوب، وهذا ظاهر.
    ومن الفوائد أيضاً: إثبات أن الأمر يقتضي الفورية، ويوجب المُبادرة إلى الفعل، وهذا مأخوذ من قول موسى لقومه: "فافعلوا ما تُؤمرون "ومن قول الله سبحانه: " فذبحوها وما كادوا يفعلون " ففي الآية الأولى حض لهم على المُبادرة إلى الفعل، وفي الآية الثانية تعريضٌ لهم بسوء تلقيهم الأمر وتباطؤهم في تنفيذه.
    ومن فوائد القراءة: أن القارئ ينبغي له أن لا يقف عند قوله: " لا ذلول " ويبدأ بقوله: " تثير الأرض " لماذا؟
    لأن المقصود في الآية هو نفي كلا الجملتين، فهي بقرة وصفها الله بأنها ليست مُذللَةٌ بحيث تُثير الأرضَ، وتقدير الآية: لا ذلولٌ ولا تُثير الأرضَ ولا تسقي الحرثَ.
    وقال سبحانه: "مُسلمةٌ لا شية فيها " وذلك بعد قوله: "لا ذلولٌ تُثير الأرض ولا تسقي الحرث " قال علماء التفسير: هذا احتراس عن الظن بأن البقرة لا تُثير الأرض ولا تسقي الحرث بسبب علة بها أو عيب ككونها هزيلة أو عجفاء.
    ومن الفوائد الفقهية: قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته، وإذا ضُبط بالصفة وحُصر بها جاز السلم فيه. وبه قال مالك وأصحابه والشافعي رحمهم الله.
    ويتفرع عن هذه الفائدة قاعدة وهي: جواز تعيين المعقود عليه بالوصف، كالتعيين في عقد البيع وفي عقد النكاح، فلو قال الرجل: بعتك بيتي ووصفه بما يتميز به صح البيع، ولو قال الأب: زوجتك ابنتي ووصفها بما تتميز به، صح التعيين، بدلالة صحة التعيين في الآية الكريمة.
    وفي الآيات فائدة من دقائق علم أصول الفقه، وقواعد علم القياس، قال ابن عاشور – رحمه الله -: فيها الأخذ بالأوصاف المؤثرة في التشريع، دون الأوصاف الطردية التي ليس لها تأثير.
    وفي قوله تعالى: "إن شاء الله لمهتدون" ردٌّ على المعتزلة وإبطال لقولهم في القدر، وإنكارهم للمشيئة الإلهية والإرادة الربانية، قال في التفسير الكبير: احتج أصحابنا بهذا على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى، فإن عند المعتزلة أن الله تعالى لمّا أمرهم بذلك فقد أراد اهتداءهم لا محالة، وحينئذ لا يبقى لقولهم إن شاء الله فائدة، أما على قول أصحابنا فإنه تعالى قد يأمر بما لا يُريد (أي قدراً) فحينئذ يبقى لقولنا: إن شاء الله فائدة، انتهى.
    وقال سبحانه: "وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مُخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه ببعضها … الآية " احتج بعض المالكية بها على اعتبار قول المقتول: دمي عند فلان. وأنه موجب للقسامة، واعتُرض عليه بأن هذه الآية مُعجزة، والخوارق الخارجة عن العادات لا يُقاس عليها.
    وأجاب ابن العربي المالكي بأن المُعجزة في إحياء الميت: فلما صار حيًّا كان كلامه ككلام سائر الأحياء. وفي الجواب نظر. والله تعالى أعلم.

    الحلقة السابعة عشرة:
    في قوله تعالى: "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم … الآية " فوائد:
    الأولى: الإشارة إلى أن الإيمان لا يملكه الناس، لا أهل الدعوة ولا غيرهم، وأن التكليف على الدعاة هو الدلالة للحق وتبليغ الدعوة، لإدخال الإيمان في قلوب الناس.
    الثانية: قوله: "لكم" يتضمن الإشارة إلى أن اليهود يعتقدون في قرارة أنفسهم بصحة القرآن والنبوة، ولكنهم لا يُقرون بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، قال علماء البلاغة: فائدة (اللام) في " لكم " لتضمين " يُؤمنوا " معنى يُقروا.
    ويتفرع عن هذه الفائدة: الرد على مذهب غلاة المرجئة، وتفنيد مزاعمهم في تعريف الإيمان الشرعي قالوا: الإيمان هو مجرد المعرفة. والآية نفت عن اليهود الإيمان مع معرفتهم التامة بذلك.
    الفائدة الثالثة: أشارت الآية بلحن الخطاب فيها: أن أفضل الطرق الدعوية هي إسماع الناس كلام الله تعالى وإفهامهم له، وقد دلت الآية كذلك على أن مَن لم تُجْدِ معه هذه الوسيلة فهو أجدر ألاّ تُجْدِي معه غيرها، ولا تؤثر فيه.
    ثم قال الله سبحانه: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" أي من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وقد جاء التعبير عنه بالفتح للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق (أفاده الألوسي رحمه الله في تفسيره).
    ثم قال موبخاً لهم: "أفلا تعقلون" قال بعض المتأخرين: هذا ختام منطقي للآية؛ لأن مَن يتصرف تصرفهم ويقول كلامهم لا يكون عنده عقل، الذي يقول: "لِيُحاجوكم به عند ربكم" يكون مؤمناً بأن له رباً، ثم لا يخاف هذا الإله ولا يخاف عقابه، هذا لا يُمكن أن يتصف بالعقل.
    وقال الله تعالى عنهم: " ومنهم أُميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني "فُسرت الأماني: بالتلاوة المجردة، وهي التلاوة التي لا يكون معها فهم ولا عمل، وفي هذا أدل دليل على ذم القوم الذين ليس لهم حظ من كتاب الله غير التلاوة المجردة.
    ويتفرع عن هذا الذم: الذم لكل عمل يكون فيه وضع القرآن في غير موضعه، ويتجرد صاحبه عن الفهم والعمل به، فيدخل في هذا الذم: تعليق القرآن على الصدور للحفظ من العين، وتعليقه على ألواح لأجل الزينة، أو قراءته في المحافل كرسوم وطقوس خاوية.
    وفي ختام الآية قال: "وإن هم إلاّ يظنون " وفُسرت الآية: بإطلاق الذم على اليهود الذين لا يعلمون الكتاب إلا بما يظنون به.
    ويتفرع عن هذا التفسير فائدة عزيزة: وهي الترغيب في معرفة كلام الله عز وجل معرفة يقينية، ويدخل فيه إتقان الحفظ لآياته، وإتقان الفهم لمعانيه وتفسيره.
    ويتفرع من هذا أيضاً: الجد في طلب العلم لا سيما علم كتاب الله، وتلقيه عن أهل العلم الموثوقين في تلقينه وتفسيره وتزكية الناس على معانيه وآدابه.
    وقال سبحانه: "يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله" لماذا قال بأيديهم؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد؟
    أجاب عنه العلماء بأجوبة لطيفة:
    الجواب الأول: أن هذا اللفظ يتضمن التأكيد مثل: "يقولون بأفواههم "وقوله: " ولا طائر يطير بجناحيه " والمقصد منه تحقق وقوع الكتابة ومنع المُجاز عنه.
    الجواب الثاني: أنه تصوير للحالة في النفس كما وقعت، حتى يكاد المُستمع لذلك أن يكون مشاهداً للهيئة، فهو من بديع التصوير القرآني.
    الجواب الثالث: أنه يتضمن الإخبار عن اهتمام القوم بتزييف كلام الله وتزويرهم، فهم يقومون به بأيديهم ليتأكدوا من وقوعه ومن إتمامه على ما أرادوا.
    وختم الآية بقوله: "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون " هذا تفصيل للويل السابق.
    ومن الفوائد المستنبطة منه إثبات قاعدة شرعية: وهي أن العبد كما يُعاقب على نفس فعله، فهو أيضاً يُعاقب على أثر فعله؛ لأن الله غاير بين الأمرين، فإنه بيّن في الأول استحقاقهم العذاب بنفس الفعل، وفي الثاني ذكر استحقاقهم له بأثره.
    ومن الفوائد منه: قال القرطبي رحمه الله: في هذه الآية والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في الشرع، فكل مَن بدل أو غيّر أو ابتدع في دين الله ما ليس منه فهو داخل تحت هذا الوعيد.
    وقال سبحانه: "بلى مَن كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" تضمنت الآيتان قاعدة جليلة، وأصلاً من أصول الإيمان، وهي أن الأحكام الأخروية مُترتبة على الأوصاف لا على الأعيان.
    وفي قوله تعالى: "وبالوالدين إحساناً" الأمر بتعظيم الوالدين والإحسان إليهم من غير قيد أو شرط ولو كانا غير مؤمنين. كيف يُفهم هذا من الآية؟
    الجواب: أن الله تعالى علّق الإحسان إليهم بصفة كونهما (والدين)، ومن المعلوم في قواعد الأصول: أن الحكم المترتب على الوصف مُشعر بعليّة ذلك الوصف.
    وفي قوله تعالى: "وذي القربى" لطيفة دقيقة: لم يقل: ذوي القربى مع أنه سبحانه قال: "اليتامى والمساكين" كلها بصيغ الجمع، وهاهنا إفرد اللفظ (ذي)؟
    قيل: كأن فيه إشارة إلى أن ذوي القربى وإن كثروا فهم كشيء واحد، لا ينبغي أن يضجر من الإحسان إليهم.
    وفي قوله تعالى: "وقولوا للناس حُسناً " فائدتان لطيفتان:
    الأولى: عند ذكر الوالدين وذي القربى واليتامى كان الأمر بالإحسان إليهم بالفعل، وهاهنا تحول الخطاب من الإحسان الفعلي إلى الإحسان القولي. قالوا: والسر في ذلك أن الإحسان بالفعل إلى جميع الناس ليس في المقدور، ومن حكمته سبحانه ورحمته أنه لا يأمر بغير المقدور؛ ولهذا أمر هنا بما يُمكن وهو الإحسان القولي دون ما لا يُمكن وهو لا الإحسان الفعلي لجميع الناس.
    الثانية: تضمنت هذه العبارة الإشارة إلى جميع الآداب. قال الرازي في التفسير: قال أهل التحقيق: كلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية، أو في الأمور الدنيوية.
    فإن كان في الأمور الدينية فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان، وهو كما قال تعالى لموسى وهارون: " فقولا له قولا ليناً لعله يتذكر أو يخشى "أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله تعالى، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: "ولو كُنتَ فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك … الآية ".
    وإما في دعوة الفساق فالقول الحسن فيه مُعتبر قال تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " وقال "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".
    وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله: "وقولوا للناس حُسناً".انتهى.
    وفي قوله سبحانه وتعالى: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" التوبيخ الشديد لِمَن يُقرُّ ببعض الشريعة ويُنكر البعض الآخر، وأن فعله مثل فعل اليهود – قبحهم الله -.
    ومن الفوائد العزيزة: أن هذا اللفظ من الآية قد تضمن الرد على جميع أهل البدع في شريعتنا، والإنكار على جميع أهل الأهواء بأقوى دليل وأوضح برهان، لماذا؟
    لأن جميع البدع مبنية على إنكار بعض الشرع، وجميع البدع سببها الرئيس هو تجزئة أحكام الدين والإيمان ببعض الكتاب.
    وفي هذه الآية الكريمة أدل دليل على إبطال القول بإقصاء الدين والشريعة من شؤون السياسة والحكم والحرب، والآية الكريمة نص في ذلك قال سبحانه: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تُسفكون دماءكم ولا تُخرِجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون". قال أهل التفسير: كان الله قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المُظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أُمروا به إلاّ الفداء، فوبخهم الله توبيخاً يُتلى فقال: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ". والله تعالى أعلم.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [2/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي

    الحلقة الثامنة عشرة:
    يقول الله تعالى عن اليهود: "فلما جاءهم ما عرفوا " أي محمد صلى الله عليه وسلم " كفروا به فلعنة الله على الكافرين "كفّر اليهود بعد أن بيّن كونهم عارفين بالحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلنا على أن الكفر ليس محصوراً في الجهل.
    وقال الله عنهم: "واُشربوا في قلوبهم العجل" أي حب عبادته وتأليهه، ومن النكت البديعة: أن التعبير عن حبهم للعجل جاء بلفظ (الشراب)، فقال: " واُشربوا ".
    قيل: المقصود هو التنبيه على أن حبهم للعجل قد بلغ بهم كل مبلغ، وأنه تمكن من جميع أجزائهم، وتغلغل في جميع أعضائهم، كما يتغلغل الشراب في الأعضاء فيصل إلى باطنها.
    وقال لهم مُتحدياً: "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " يؤخذ منها فائدتين متقابلتين:
    الأولى: عدم جواز تمني الموت؛ لأن الله علّق تمنيه على أمر غيبي، وهو كون الدار الآخرة خالصة له عند الله، ولما كان هذا ممتنعاً علمه، امتنع المُعلق عليه وهو جواز تمني الموت.
    الفائدة الثانية: أن يُعكس الاستدلال، فيُقال: يؤخذ من الآية جواز الاشتياق إلى الموت الموصل إلى الجنة وإلى الدار الآخرة؛ لأن الله لم ينف التمني مُطلقاً، ولكنه ذكر أن السبب القاضي له هو خلوص الأجر في الآخرة.
    وقوله: "ولن يتمنوه أبداً" خبر قاطع من الله تعالى أن اليهود لا يتمنون الموت في تحدي النبي صلى الله عليه وسلم لهم، قال بعض العلماء: وفي هذا إعجاز علمي غيبي؛ لأن ذلك لم يقع مع توفر الدواعي عندهم على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وسهولة الإتيان به.
    وفي قوله تعالى: "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة … الآية " فوائد:
    الأولى: تنكير لفظ (حياة)؛ ليدل على حرص اليهود الشديد على أدنى حياة، ولو كانت حياة قليلة حقيرة، فإن لفظ التنكير هنا يدل على العموم ويُشير إلى القلة والحقارة.
    الثانية: قال: "ومن الذين أشركوا " أي أن حرص اليهود على طول العمر أكثر من حرص المشركين، قيل: لأن اليهود يعلمون أنهم صائرون إلى النار، والمشركون لا يعلمون ذلك، أو هم لا يعلمونه كعلم اليهود.
    الثالثة: قال: "وما هو بمزحزحه " ولم يقل بمبعده أو بمُخرجه. لماذا؟
    "وما هو بمزحزحه" معناها: لا يؤثر في إزالة العذاب عنه أقل تأثير وأدنى إبعاد، ولو قال: ما هو بمُبعده أو مُنجيه لما دل على هذه الآية كدلالة لفظ (مزحزحه).
    وفي قوله تعالى: "أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم " وصفٌ لليهود بالغدر المستمر، ونعتهم بنكث العهد على الدوام، قال علماء اللغة: (كلما) تُفيد التكرار، وأنه وصف لازم. والمعنى: كلما حصل منهم عهد، حصل منهم نكث.
    ويتفرع عن هذه الفائدة: تحذير المسلمين من الاغترار بعهود اليهود، ووجوب الاحتياط في معاملتهم، وعدم الركون والوثوق بهم، مهما قالوا ومهما قيل عنهم.
    ومن الفوائد: أن الله خاطب اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل أسلافهم ونسب الفعل إليهم، فنسب إليهم قتل النبيين، ونسب إليهم تكذيب الرسل والغدر وغير ذلك، قال القرطبي يرحمه الله: وإنما توجه الخطاب لأبنائهم لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا.
    ويتفرع عن هذه الفائدة: قاعدة خطيرة وهي: أن مَن تولى الظلمة فهو مثلهم في الحكم ومثلهم في العقوبة، وأن مَن رضي بالمعاصي نُسبت إليه ولو لم يُباشر فعلها.
    ومن قوله تعالى: "وما كفر سليمان " يُستنبط أن السحر كُفر ولابد في جميع الأحوال، وأن مُتعاطي السحر كافر بالله العظيم، ووجه الدلالة: أن اليهود اتهموا سليمان عليه الصلاة والسلام بالسحر ونسبوه إليه، فرد الله عليهم دعواهم بنفي الكفر عنه، فدل هذا على أن كل سحر كُفر، ولو لم يكن ذلك كذلك لم تحصل التبرئة التامة لِسليمان عليه السلام، وهذا مُحال في كلام الله تعالى، قال القرطبي رحمه الله: ولم يتقدم في الآية أن أحداً نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر.
    وفي قوله تعالى: "وما هم بضارين به من أحد إلاّ بإذن الله " فوائد:
    الأولى: إثبات أن للسحر حقيقة. وإثبات أن الله تعالى أودع فيه ضرراً من جهة الأسباب الكونية، وهذا هو الحق الذي عليه أهل السنة، وخالفهم في ذلك المعتزلة ودعاة العقلانية.
    الثانية: في الآية الإشارة إلى علاج السحر، وهو الالتجاء إلى الله تعالى، قيل لما كان الضرر حاصلاً بإذن الله، فلابد أن يكون دفعه بإذن الله أيضاً.
    وفي قوله تعالى: "يُفرقون به بين المرء وزوجه" فائدتان:
    الأولى: قال الشوكاني رحمه الله: ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر، وبيّن ما هو الغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره.
    الثانية: في الآية إشارة إلى أن المحبة بين الزوجين عظيمة جداً، وأن سكون الرجل إلى زوجته، وسكون المرأة إليه أمر شديد، وهو معروف زائد على كل مودة، ولا يُقاس غيره به.
    وفي قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا " فوائد:
    الأولى: إثبات قاعدة (سد الذرائع) وهي من قواعد الشريعة العظيمة. وقد اعتنى بها الإمام مالك رحمه الله وأصحابه عناية فائقة، وبنوا عليها كتاب الآجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها.
    الثانية: استدل علماء التوحيد بالآية على النهي عن الألفاظ المجملة، الدائرة بين معاني حقة ومعاني باطلة. قالوا: كما أن الله تعالى نهى عن لفظة (راعنا) في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فيُنهى أيضاً عن إطلاق كل لفظ يُحتمل لمعنيين أحدهما باطل .
    الثالثة: استدل بالآية بعض الفقهاء على إيجاب حد القذف بالتعريض، قالوا: مَن ورّى أو كنّى أو أتى بلفظ يُحتمل قذف المُحصن، فهو مُستحق للعقوبة، والاستدلال في الآية مبني عن النهي الوارد فيها.
    وفي قوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها " فوائد:
    الأولى: استنبط الفقهاء منها أكثر أحكام النسخ، ومنها: صحة وقوع النسخ في شريعتنا، والرّد على المُنكرين له من المُبتدعة، والآية صريحة في ذلك، لا يُمكن دفع دلالتها على وقوع النسخ إلاّ بالتكذيب لها أو بما يُشبه التكذيب.
    الثانية: اُستدل بالآية على أن النسخ في القرآن لا يكون إلاّ إلى بدل، ودلالة الآية تُفيد الحصر في إتيان البدل، إما مثل المُبدل منه، أو بخير منه.
    الثالثة: من دلالة الآية، إثبات وقوع التفاضل في سور القرآن الكريم وفي آياته، وهذا التفاضل يُثبت كما أثبته الشرع فنقول مثلاً: سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن، وآية الكرسي أعظم آية، و " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن، وأنكر ذلك أهل الكلام، وقولهم ليس بشيء مع قول الله تعالى.
    الرابعة: استدل الإمام الشافعي رحمه الله بالآية على أن الكتاب لا يُنسخ بالسنة ولو كانت متواترة. قال: لأن الله يقول: "نأتِ بخير منها أو مثلِها" والسنة لا تكون خيراً من القرآن بحال.
    []
    الحلقة التاسعة عشرة:
    يقول الله تعالى: "وقالوا لن يدخل الجنة إلاّ من كان هوداً أو نصارى " يحكي الله مقالة اليهود والنصارى، ثم رد عليهم سبحانه فقال: "تلك أمانيهم ".
    أي هي مجرد أماني، وهاهنا نكتة بلاغية: جمع لفظ ( الأماني ) مع أن ما أُشير إليه أمنية واحدة، لماذا؟
    قال صاحب الانتصاف: ليُفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم، بالغة منهم كل مبلغ. وقال غيره: ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم مرة بعد مرة.
    قال أهل اللغة: الجمع هنا يدل على الزيادة وعلى التأكيد، والجمع يُفيد بوضعه الزيادة في الآحاد، فينتقل هنا إلى تأكيد الواحد، وإلى إبانة زيادته على نظرائه.
    وقوله: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " هي أيضاً رد على دعواهم السالفة، وإبطال لمقولتهم الفاسدة، والتأكيد على أنها مقولة مُجردة عن البرهان.
    وقد أشارت الآية إلى أصول النظر والمُحاجة، وإلى تقعيد الأدلة والبينات.
    فهذه الآية دلت على بطلان القول بغير علم ولا برهان، قال في الكشاف: هذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وأن كل قول لا دليل عليه فهو غير ثابت.
    واستُنبط منها قاعدتان في أصول النظر: الأولى، إثبات حجية النظر، والرد على مَن ينفيه. والثانية، مُطالبة المُدعي بالدليل والبرهان، نفياً وإثباتاً.
    وفي قوله سبحانه: "بلى مَن أسلم وجهه لله وهو محسن" الإشارة إلى سر قبول الأعمال عند الله، وهو توافر شرطين: الأول: الإخلاص وأشار إليه بقوله: "أسلم وجهه لله" أي أخلص توجهه وقصده.
    والشرط الثاني: الموافقة لهديه صلى الله عليه وآله وسلم وسنته، وأشار إليه بقوله: "وهو مُحسن" أي مُحسن في عمله.
    وفي قوله تعالى: "كذلك قال الذين لا يعلمون" النعي على أهل الكتاب، وأنهم والمشركون الذين لا يعلمون سواء، كأنه يقول لهم: من المُفترض أن يُميزكم العلم، ومن المُفترض ألاّ تكونوا وأنتم أهل كتاب كمَن لا كتاب لهم ولا علم لديهم.
    وفي قوله تعالى: "ومَن أظلم ممن منع مساجد الله " فوائد:
    الأولى: الإشارة إلى أن منع الذكر في مساجد الله هو أعظم الظلم، قال العلماء: "مَن أظلم" أي: لا أحد أظلم منه.
    ويتفرع عن هذا الإشارة إلى أن الأصل هو جواز الذكر في المسجد في جميع الأوقات، وأنه لا يجوز منع الذكر فيه إلاّ بدليل يصلح لإخراجه من العموم.
    الفائدة الثانية: استُدل بالآية على حُرمة منع المرأة من الحج إذا كانت صرورة – أي لم يسبق لها الحج – استدلوا بها أيضاً على عدم منع المرأة من حضور المساجد لصلاة الجماعة، ولِسماع الموعظة؛ إذا لم يخف الفتنة منها أو عليها.
    الفائدة الثالثة: قال القرطبي رحمه الله: دلت الآية على تعظيم أمر الصلاة، وأنها لما كانت أفضل الأعمال كان منعها أعظم الآثام.
    وفي قوله تعالى: "أن يُذكر فيها اسمه" الإشارة إلى أن المساجد إنما وُضعت للذكر والعبادة والصلاة، ويتفرع عنه: النهي عن كل ما ليس من الذكر، كإيقاع البيع والشراء والإجارة وإنشاد الضالة، وغيرها من أعمال الدنيا المحضة.
    وقوله: (ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين (إرشاد المؤمنين إلى حماية بيوت الله من الكافرين، وأن يجعلوهم بحالة إذا أرادوا الدخول كانوا على وجل وخوف من أن يفطن لهم أحد من المسلمين فيُنزلون بهم الأذى والإذلال.
    ويتفرع عن هذا الإرشاد: إرشاد المسلمين إلى العزة والقوة، وإلى المحافظة على مُقدساتهم، وإلى حماية شعائرهم، وتطهيرها من تدنيس المشركين من يهود ونصارى وثنيين وغيرهم.
    وفي قوله سبحانه: "وقالوا اتخذ الله ولداً" لطائف وفوائد:
    الأولى: في لفظ (اتخذ) الإشارة إلى بطلان قولهم وتناقضهم؛ لأن الولد لا يُتخَذ ولا يُصنع، ولكن يحصل بالولدية والمُجانسة، كما في قوله سبحانه: " أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ".
    الفائدة الثانية: استدل بها بعض الفقهاء على أن مَن مَلَكَ ولده أُعتِقَ عليه؛ لأن الله تعالى نفى الولدية بإثبات العبودية، فدل ذلك على تنافي الماهيتين، وهو استرواح حسن.
    الفائدة الثالثة: ويتفرع من الفوائد: الإرشاد إلى حُسن تربية الأولاد، وأن الولد لا يُعامل كما يُعامل العبد، ولا يخضع كخضوع العبد فإن هذا يتنافى مع الولدية، وهو أيضاً يتنافى مع التربية السليمة وغرس الشخصية والعزيمة.
    وقال سبحانه: "بل له ما في السماوات والأرض" وقال: "كل له قانتون" ففي الأول جاء بلفظ (ما) الدال على غير العاقل، وفي الثاني جاء بلفظ (كل) الدال على العاقل، لماذا؟
    في الجملة الأولى: إشارة إلى المِلك، والمعهود في الذائقة أن الملك عادة يتعلق بما لا يعقل، وفي الجملة الثانية: كان الكلام متوجهاً للقنوت والخضوع لله، والقنوت هو من عمل العقلاء. قال في المنار: وهذا كما ترى من أدق التعبير وألطفه، وأعلى البيان وأشرفه.

    وفي قوله تعالى: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " فوائد:
    الأولى: تكرار النفي بقوله: "ولا النصارى" للإشارة إلى أن رضا النصارى قد يكون غير رضا اليهود، وللتأكيد بأن النصارى يتصفون بنفس صفة اليهود في هذا الأمر، ولو كانوا أقل عداوة كما أخبر في آية أخرى.
    الثانية: استدل كثير من الفقهاء بقوله: "حتى تتبع ملتهم" على أن الكفر ملة واحدة، وفرّعوا عن هذه مسائل أهمها: مسألة توارث اليهودي والنصراني إذا كانا قريبين.
    الثالثة: من فوائد الآية: التحذير من صنوف الغزو الفكري والغزو الأخلاقي من قِبل اليهود والنصارى، إلى أهل الإسلام والإيمان، وهذه مسألة المسائل في عصرنا هذا.
    الرابعة: في الآية كذب مَن يقول: أن عداوة الكفار لنا ليست دينية، وإنما هي عداوة اقتصادية أو سياسية أو أطماع استعمارية. ونحن إما أن نُصدقهم ونكذب الله – عياذاً بالله – أو أن نُكذبهم ونُصدق الله، ومَن أصدق من الله قيلاً.
    وفي قوله تعالى: "يتلونه حق تلاوته " فوائد:
    الأولى: دلت الآية على وجوب الاستهداء بالقرآن، وأن كل مَن يتلو القرآن ويتدبره بصدق يستهدي به. ويتفرع عن هذا: إثبات أن القرآن مُعجز بهدايته العامة التي لا يُشاركه فيها كتاب ولا كلام.
    الثانية: فُسر لفظ (يتلونه) أي يتبعونه، قال ابن عباس: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأ "والقمر إذا تلاها". وقال ابن مسعود: يُحلون حلاله، ويُحرمون حرامه، ولا يُحرفونه عن مواضعه.
    ومن اللطائف: أنه عبّر عن العمل بالقرآن وبتدبره وفهمه عن طريق لفظ (التلاوة) لِيدلنا على أن ذلك هو المقصود من التلاوة التي يشترك فيها أهل العلم والفهم وغيرهم.
    الثالثة: إيجاب تلاوة القرآن تلاوة صحيحة، وإقامة حروفه من غير اعوجاج، والترتيب بين آياته وألفاظه، فهذا كله يدخل في حق التلاوة.

    الحلقة العشرون:
    الحديث في هذه الحلقة عن قصة خليل الرحمن إبراهيم في سورة البقرة:
    يقول الله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" يُخبر الله أنه امتحن عبده إبراهيم فوفى الامتحان وبادر إلى الامتثال. قال العلماء: جيء (بالفاء) في قوله:"فأتمهن "للدلالة على الفورية في الامتثال إلى أمر ربه.
    " قال: إني جاعلك للناس إماماً. قال: ومن ذريتي؟ " في الآية مشروعية التخصيص بالدعاء للقرابة في موضع لائق به. ومن فوائدها: العناية الفائقة بالأقربين في توجيه أسباب الدعوة وإنالتهم للخير، ومُباشرة إصلاحهم بالوسائل الدعوية النافعة.
    ومن فوائدها: بيان أدب الدعاء مع الرب سبحانه، فهو لم يقل: ذريتي. بل قال: ومن ذريتي. مُراعاة لحكمة الله وسنته الجارية المعروفة، التي تقتضي ألاّ يكون نسل الرجل الواحد كلهم أئمة.
    وقال: "ومن ذريتي" ولم يقل: أبنائي! ليُشرك في ذلك اللفظ أبناء البنات، ولا يخص به العصبة، وهو خلاف العصبية القبلية لأبناء الأبناء دون أبناء البنات.
    وقال سبحانه جواباً على دعاء الخليل: "لا ينال عهدي الظالمين" قال المُفسرون: أي لا يستحق الإمامة مَن تلبس بالظلم. وقد استدل الفقهاء بها على اشتراط العدالة في منصب الإمامة، وأن غير العدل لا يصلح أن يكون قاضياً ولا مُفتياً ولا شاهداً ولا حاكماً ولا إمام صلاة، وفي هذا تفصيل عند كتب الفقهاء.
    وفي قوله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً " ثلاث فوائد:
    الأولى: قوله: "مثابة" أي يثوبون إليه من البلدان كلها، مرة بعد مرة، مع المحبة والاشتياق، كما قيل: جعل البيت مثابة لهم، ليس منه يقضون الوطر.
    ويتفرع عن هذه الفائدة: إقرار الشوق للأعمال الصالحة، والسرور بالعبادات والطاعات، ويتفرع عنه: بأن مَن يأتي إلى البيت يشتاق إلى الرجوع إليه، وإذا لم يكن كذلك؛ فليُراجع الإنسان نفسه، وقد علمنا وعلم غيرنا من حال الناس، حرصهم الشديد على الذهاب إلى هذا البيت، وأداء العبادة فيه، وتكليف النفس لذلك حتى من غير المستطيع، أكثر من غيره من العبادات، ولعل السر في هذا عند قوله: " مثابة للناس ".
    الفائدة للثانية: قوله: "وأمناً " استدل به أبو حنيفة وجماعة على ترك إقامة الحدود في الحرم. قالوا: أمناً، أي اجعلوه أمناً.
    الفائدة الثالثة: قال: "مثابة للناس" ولم يقل: أمناً للناس، لماذا؟
    ليُشير إلى أن الأمن عام للناس ولغيرهم، أي أن البيت يأمن فيه حتى غير الناس، من النبات والحيوان والوحش وغيرهم.
    وقال سبحانه: "طهرا بيتي" أضاف الباري سبحانه البيت إليه لفائدة التشريف والتعظيم له، ولاِهتمام إبراهيم وإسماعيل به لكونه بيت الله، وللإشارة إلى أن هذه الإضافة هي السبب في كونه مثابة للناس وأمناً، وفي كونه تهفو القلوب إليه والأفئدة.
    وقال سبحانه: " للطائفين والعاكفين والركع السجود" رتبهم بحسب اختصاصهم، فالطائف لا يكون إلاّ في المسجد الحرام، والعاكف يكون في كل مسجد، والركع السجود في كل مكان.
    وقال سبحانه: "الركع السجود" ولم يقل المصلين، مع أن لفظ (المصلين) أخصر وأدل، لماذا؟
    قيل: لفائدة عظيمة: وهي أن المقصود الصلاة ذات الركوع والسجود، أي صلاة المسلمين الحنفاء لا صلاة اليهود والنصارى.
    ومن الفوائد الفقهية في الآية: الإرشاد إلى كون الطائف بالبيت مُتطهراً، كيف؟ لأن الأمر بتطهير البيت لأجل الطائف يقتضي تطهر الطائف نفسه ومن باب أولى.
    ومن الفوائد الفقهية أيضاً: استدل جماعة من السلف بالآية على جواز أداء صلاة الفريضة في جوف الكعبة، كجواز أداء النافلة فيها؛ لعموم لفظ الآية، عموم لفظ (الركع السجود)، وعموم لفظ (بيتي)، فالأول يدخل فيه كل صلاة، فريضة أو نافلة. والثاني يدخل فيه كل موضع من البيت جوف الكعبة وغيره.
    وقوله: "طهرا" لفظ يُفيد العموم والمُبالغة، فيدخل فيه كل تطهير حسي ومعنوي، ويدخل فيه ما يُمنع منه شرعاً، كالحائض والجنب والمُشرك.
    وقوله: "اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات " الإشارة إلى أهم عنصرين من عناصر المدنية الفاضلة والحياة السعيدة في الدنيا، وهما: الأمن والرزق. قال بعض المتأخرين: هذه أول مظاهر تكوين المدينة الفاضلة التي دعا أفلاطون لإيجادها بعد بضعة عشر قرناً.
    وقيل: إن الخليل عليه السلام أراد بهذه الدعوة الإعانة على إقامة الدين وتحقيق الملة الحنيفية وخدمة البيت العتيق، فلا يضطر أهله إلى الخروج منه، ولا إلى الانشغال عنه. ويتفرع عن هذه الفائدة: أن من أعظم الوسائل في تقوية الدعوة إلى الله وتهيئة الناس للإصلاح والعبادة، أن يتوفر لهم الأمن وأن يتوفر لهم الرزق. فالأول فقده يستتبع انشغال القلب، والثاني فقده يستتبع انشغال البدن بالبحث عن الرزق.
    وقد أجاب الله إبراهيم في دعائه الأول بقوله: "لا ينال عهدي الظالمين" . وأجابه هاهنا بقوله: "ومَن كفر" أي وأرزق كذلك مَن كفر، كما أرزق مَن آمن في الدنيا.
    والنكتة هاهنا: أن عطاء الألوهية غير عطاء الربوبية، العطاء الذي يكتبه الله للبشر بصفة الألوهية والعبودية الخاصة، هو خاص بأهل الإيمان، لا يناله الظالمون. وأما العطاء الذي تكفله الله للخلق بصفة كونه رباً وخالقاً، فهذا يناله المؤمن والكافر، ويناله العدل والظالم، كما قال: "ومَن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار".
    وفي قوله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" فوائد:
    الأولى: "يرفع" جاء بلفظ المضارع؛ ليحكي أمراً قد قُضي، والمضارع دال على زمن الحال، قالوا: الفائدة هي استحضار صورة البناء في ذهن السامع.
    الثانية: قال: "يرفع " ولم يقل: يبني، وبينهم فرق. قال أهل الهندسة: كل بناء له طول وله عرض وله ارتفاع، والرفع هو الصعود والإعلاء، والرفع لا يكون إلاّ لشيء موجود من قبل. وقد اُستُفيد من هذا اللفظ: أن البيت كان قد بُني من قبل، وإنما هُدم وطُمر فجاء الخليل عليه السلام لِيرفع قواعده، وأصرح منه في الدلالة قوله عليه السلام: " ربِّ إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم " قاله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يبني البيت، وكان إسماعيل إذ ذاك رضيعاً.
    الثالثة: تأخر ذكر إسماعيل بعد ذكر البيت، لماذا؟ قيل: للإشارة إلى أن المأمور من الله ببناء البيت هو إبراهيم، وأن إسماعيل هو إنما كان مُساعداً له.

    ومن فوائد التكرار هذا: الإفادة بأن كل طلب من هذه المطالب هو مقصود لذاته.

    وفي قوله تعالى: "أرنا مناسكنا" الإشارة إلى العناية بمعرفة مكان العبادة، إذا كانت مُقيدة بمكان مُعين، مثل الطواف بالبيت، ومثل السعي بين الصفا والمروة، ومثل الوقوف بعرفة، ورمي الجمار.
    ومن الفوائد: إثبات الصفة المُختصة بالعبادات، وأن مَن جاء بها بغير هيئتها المخصوصة، فهو لم يأتِ بها على الوجه الصحيح.
    ويتفرع عن هذه الفائدة: الرد لجميع البدع التعبدية الدينية، وأن الله تعالى لم يرض بها. والله تعالى أعلم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [3/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي


    الحلقة الحادية والعشرون:


    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد:
    قال تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" وقال: "ربنا واجعلنا مسلمين لك" كرر النداء بـ "ربنا"؛ لإظهار التضرع، وإظهار الفقر إلى الله، وحُسن التملق والسؤال.
    وقوله:"واجعلنا مسلمين" فيه دليل على خلق الله لأفعال العباد، قال أهل التفسير: الجعل يقتضي الخلق.
    وقالا: "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" أي: ومن ذريتنا فاجعل. قال أهل التفسير: قالا: ومن ذريتنا ولم يقولا: وذريتنا ! هذا من حُسن السؤال وأدب الدعاء.
    وقالا: "وأرنا مناسكنا وتب علينا" قرن بينهما، قيل: الفائدة في ذكر التوبة بعد ذكر التوسل والعبادة؛ لِيدل على أن ذلك الموقف وتلك المواضع، مكانٌ للتنصل من الذنوب وطلب التوبة.
    وفي قوله تعالى: "ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم" إثبات أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من العرب بأوضح الدلائل.
    وفي قوله تعالى: "منهم" الإشارة إلى استحسان أن يكون الداعية والمصلح من أهل المدعوين ومن مجتمعهم.
    وقوله سبحانه: " يُعلمهم الكتاب والحكمة ويُزكيهم" فيه الإشارة إلى أن التعليم وحده لا يكفي، وأنه لابد في دعوة الإصلاح من التزكية والتربية الصحيحة، قال صاحب المنار: عَلِم إبراهيم وإسماعيل أن تعليم الكتاب والحكمة لا يكفي لإصلاح الأمم وإسعادها، بل لابد أن يقترن التعليم بالتربية على الفضائل، والحمل على الأعمال الصالحة بحُسن الأسوة والسياسة، فقالا: "ويزكيهم".
    ويتفرع عن هذا إبطال منهج التعليم من غير تزكية، أو التزكية من غير تعليم، وأن الداعية الناجح لابد أن يجمع بين المنهجين: التزكية والتعليم، وأن هذا هو منهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو منهج أبينا إبراهيم عليه السلام، ومَن يرغب عنه فقد سفه نفسه.
    وقوله تعالى: "ومَن يرغب عن ملة إبراهيم إلاّ مَن سَفِه نفسه" استُدل بها على حجية شرع مَن قبلنا، وخصوصاً ملة أبينا إبراهيم، وأنها شريعة لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخها.
    واستُدل بالآية على أن النصرانية واليهودية بدعة، ما أنزل الله بها من سلطان، قال قتادة: "إلاّ مَن سفه نفسه" هم اليهود والنصارى، رغبوا عن ملة إبراهيم، واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى.
    قال تعالى: "إذ قال له ربه أسلم قال أسلمتُ لله رب العالمين" فيه إشارتان:
    الأولى:فضيلة إبراهيم عليه السلام، وأنه بادر إلى الامتثال لأمر الله، دون تردد أو تباطؤ، كما يُفيده وقوع الجواب: "قال: أسلمتُ لرب العالمين".
    الثانية: أنه قال: "أسلمتُ لرب العالمين" ولم يقل: لك. لِيكون قد أتى بالإسلام وبدليله. فيكون قد ذكر الحكم وهو: الإسلام، وذكر دليله وتعليله وهو: كون الله رب العالمين وخالقهم وموجدهم، كأنه يقول: أسلمتُ لك؛ لأنك ربي ورب العالمين.
    وقوله سبحانه: "أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوبَ الموتُ" فيه فوائد:
    الأولى: فضيلة الدعاء إلى التوحيد، وإلى الحنفية ملة إبراهيم عليه السلام، وفضيلة يعقوب عليه السلام، حيث لم يُشغله الموت والاحتضار عن الوصية بالدين والتوحيد.
    الثانية: الاعتبار بقول المحتضر، وأن قوله يُعتبر به ما لم يعترضه دليل آخر يُخرجه عن هذا الأصل.
    وقوله تعالى:"ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" يُستفاد منه فائدتين:
    الأولى: الحض على التمسك بالإسلام في كل وقت، وعدم مُفارقته ولو لحظة واحدة؛ لأن الموت يُمكن أن يأتيك في أي لحظة.
    قيل: أُدخل النهي على الموت لنكتة أخرى: وهي الإشارة إلى أن هذا الموت، وهو الموت بغير الإسلام، لا خير فيه، وأن من حق هذا الموت ألاّ يحل بكم.
    الفائدة الثانية: تضمنت الآية كذلك الإشارة إلى أن غير المؤمن لا ييأس من الدخول في هذا الدين، وعليه أن يُبادر بالدخول فيه، فهاهو لم يمت؛ فليُبادر إليه حتى يتوفاه الله عليه.
    وقوله تعالى: "آباءك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" استدل به الفقهاء على تسمية الجد أباً، وفرعوا عليه القول بتوريثه كتوريث الأب، عند فقده، وأنه يحجب الأخوة في الميراث كما يحجبهم الأب والقول الآخر التشريك بينهم، وفي المسألة خلاف قديم.
    وفي قوله تعالى: "قولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا … الآية" فوائد:
    الأولى: جواز التصريح بالمعتقد الصحيح، وإعلان الدين الحق للناس، والصدع بالحق؛ ليحصل الإقتداء والأسوة.
    الثانية: الإشارة إلى أن الإيمان واجب جماعي على الأمة، فيجب عليهم تحمله جميعاً، ويجب عليهم الاعتصام به، والاجتماع عليه.
    الثالثة: اُستُدل بالآية على جواز قول القائل: (آمنت)، وهذا بخلاف قوله: (أنا مؤمن)؛ فالأول إخبار بالواقع الماضي والحاصل الحاضر، ولا إشكال فيه.
    وفي قوله تعالى: "لا نُفرق بين أحد منهم" تبكيت على أهل الكتاب، والتشهير بهم، فهم آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وفرقوا بينهم.
    وقال تعالى: "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به" ولم يقل: فإن آمنوا بما آمنتم به. يعني: ما فائدة (مثل) هنا؟ وعلى أي شيء تدل؟
    أن أهل الكتاب يؤمنون بالله، ويؤمنون بما أُنزل على الأنبياء، ولكن إيمانهم بذلك إيمانٌ مُنحرف، وإيمانٌ دخلته الأهواء والبدع والتحريفات.
    إذن المطلوب هو الإيمان إيماناً صحيحاً، إيماناً كإيمانكم، ليس مجرد الإيمان، لو قيل لهم: آمنوا بالله وما أُنزل على الأنبياء. لقالوا: نحن نؤمن بذلك.
    إذن تقول لهم: آمنوا بالله وما أُنزل على الأنبياء إيماناً صحيحاً، كما بينه القرآن، وكما آمن به المسلمون الصادقون، وهذه فائدة قوله: (بمثل). قال بعض العلماء: لفظ (مثل) هنا هو الذي يقطع عرق الجدل.
    وفي قوله تعالى: "صبغة الله ومَن أحسن من الله صبغة" فائدتان:
    الأولى: الرد على اليهود والنصارى فيما يعتقدونه صبغة، وما ابتدعوه في ذلك من الدين مع تضييع أصول الشرع. كأنه يقول لهم: الصبغة الحقة هي صبغة الله، المتضمنة الإيمان بالله وبما أنزل وبالعمل الصالح، لا هذه الرسوم والطقوس الخاوية من الإيمان. وقال لهم: "قولوا: آمنا" وقال: " ونحن له مسلمون" وقال: "ونحن له مخلصون".
    الفائدة الثانية: الصبغة في العادة تنفذ إلى المصبوغ، وتطبع به جميعَ جسمه. فالتشبيه هنا يدل على شدة التمسك بالدين، كأنه يقول لهم: لِيكن إيمانكم وتمسككم بملة إبراهيم وبدين الإسلام كالصبغة، فهو يتغلغل فيكم وفي أعمالكم كما تتغلغل الصبغة في المصبوغ.
    الفائدة الثالثة: يُستفاد من الآية: الأمر بإظهار شعائر الدين وعلامات الاستقامة؛ لأن الله عبّر عن الدين بالصبغة. قال القرطبي – رحمه الله -: سمى الدين صبغة استعارة ومجاز، من حيث تظهر أعماله وسَمْتُه على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب.
    وقوله تعالى: "تلك أمة قد خلت" كررها هنا بعد ذكرها قبل آيات لفوائد:
    الأولى: قال الراغب: إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مُستحكمة في الناس، صالحهم وطالحهم أن يفخروا بآبائهم، ويقتدوا بهم في مُتحرياتهم لاسيما في أمور الدين.
    الفائدة الثانية: إن المعنى يختلف باختلاف السياق الذي جيء بالآية فيه، ففي المرة الأولى رَدّت الآية على أهل الكتاب بأنه لا شفاعة لهم يوم القيامة في نسبتهم إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وأن النسب لا يُفيد.
    وفي المرة الثانية: رد عليهم من جهة ادعائهم النسبة الدينية، وقولهم: أنهم يهود ونصارى فهو يقول لهم: لن ينفعكم الانتساب إلى دين اليهودية والنصرانية، وأن إبراهيم كان مسلماً حنيفاً.


    الحلقة الثانية والعشرون:
    في قوله سبحانه: "سيقول السفهاء" إخبار لهم عما سيكون، أي إخبار بالغيب الذي سيقع من اعتراض السفهاء على تغيير القبلة، ففيه مُعجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتأييد للوحي بما يوافق الواقع.
    وفيه إثبات أن هؤلاء المُعترضين سفهاء على الحقيقة، وبشهادتهم على أنفسهم وإقرارهم.
    قال بعض المفسرين: برغم أن الله تعالى قال: "سيقول السفهاء". أي: أنهم لم يقولوها إلا بعد أن نزلت هذه الآية مما يدل على أنهم سفهاء حقاً، ولو أنهم امتنعوا عن القول – وهذا مُحال – لكان في ذلك تشكيك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لأنهم سفهاء فعلاً قالوا ذلك.

    وقوله سبحانه: "قل لله المشرق والمغرب" تتضمن الإشارة إلى حقيقة الطاعة وإلى حقيقة التشريع. كيف هذا؟
    كل الجهات لله، المشرق والمغرب، إذن ما الذي يُميز هذه الجهة من غيرها؟ الذي يُميزها هو أمر الله تعالى، إن قال الله للعبد: ارمِ هذا الحجر. رماه، وإن قال: قَبِّل هذا الحجر. قبّله، وإن قال: توجه إلى هذه القبلة. توجه، أمر الله هو الذي يعطي هذه الجهة الخصوصية وليس ذات الجهات.. فلا وجه للاعتراض بحال.

    وقوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" فيه الإشارة إلى توسط الكعبة للكرة الأرضية، قيل المعنى: كما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً، وسطية الكعبة وسطية المكان، وهذا فيه عدل، ووسطية الأمة وسطية عدالة وخيار.
    وفي الآية الكريمة دليل على أن إجماع الأمة حجة قاطعة، وأنهم معصومون في جملتهم عن الخطأ؛ لأن الله تعالى أطلق على مجموعهم لفظ (وسطاً)، قال العلماء: فلو قدر اتفاقهم على الخطأ لم يكونوا وسطاً إلاّ في بعض الأمور، والآية بخلافه.

    وقال سبحانه: "لتكونوا شهداء على الناس" وقال: "ويكون الرسول عليكم شهيداً" أخَّر لفظ (على) في شهادة الناس، وقدَّمها في شهادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليهم. لماذا؟
    قال صاحب الكشاف: لأن في الأول إثبات شهادتهم على الناس، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شهيداً عليهم.
    ومن الفوائد: الاستدلال بها على أنه لا يشهد إلاّ العدول، وأنه لا يعتد بقول الغير على الغير إلاّ أن يكون عدلاً.
    ومن الفوائد: أن الشاهد يشهد بما حصل له من العلم، وإن لم يُشهده المشهود عليه، وأن الشاهد يشهد على العلم بالسماع والأدلة اليقينية، وإن لم يره بعينه.
    ومن الفوائد: أن التزكية أصل عظيم في الشهادة، وأن المُزكِّي يجب أن يكون أعدل وأفضل من المُزكَى.
    ومن الفوائد: أن المُزكِّي لا يحتاج إلى تزكية.
    ومن الفوائد اللطيفة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشهد على الأمة، وأن الأمة لا تشهد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال بعض العلماء: ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: (ألا هل بلغت ؟) فيقولون: نعم. فيقول: (اللهم اشهد) فجعل صلى الله عليه وآله وسلم الشاهد عليههو الله سبحانه لا أمته.
    ومن الفوائد: إيجاب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووجوب اتباعه في كل أمر صغيراً كان أو كبيراً، وهذا من مُقتضيات شهادته صلى الله عليه وآله وسلم على أمته.
    ومن الفوائد: إثبات اشتراط العدالة في الحكم وفي الشهادة و الإفتاء وما كان من نحو ذلك.

    وقال سبحانه: "وما كان الله لِيُضيع إيمانكم" أي صلاتكم السابقة إلى بيت المقدس، قال القرطبي: فسمى الصلاة إيماناً؛ لاشتمالها على نية وقول وعمل. وقال مالك رحمه الله: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الإيمان! يعني: أن هذه الآية ترد على المرجئة في قولهم: العمل ليس من الإيمان.
    ومن فوائدها الفقهية: أن مَن لم يبلغه الناسخ فهو مُتعبد بالحكم الأول، ولا يصح أن يُقال: إن الحكم الأول يرتفع عنده بوجود الناسخ لا العلم به.

    وقوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" فيه فوائد:
    الأولى: إثبات علو الله تعالى على خلقه، وأن السماء قبلة الدعاء.
    الثانية: أدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم العظيم في دعاء ربه ومناجاته.
    الثالثة: المنزلة العظيمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه في قوله: "ترضاها" لم يقل: أرضاها. ولكن قال:" ترضاها". قال صاحب التفسير الكبير: وفي الشاهد إذا وصف واحد من الناس محبة آخر، قالوا: فلان يحول القبلة لأجل فلان، على جهة التمثيل.
    ومن اللطائف: أن الله تعالى خص الكعبة بإضافتها إليه في قوله: "بيتي"، وخص المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه، وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم، فكأنه تعالى يقول: يا مؤمن! أنت عبدي، والكعبة بيتي، والصلاة طاعتي، فأقبل بوجهك في طاعتي إلى بيتي وبقلبك إليَّ.

    وقوله تعالى: "شطر المسجد الحرام" فيه فائدة فقهية: وهي إثبات أن التكليف إلى جهة الكعبة، لا إلى خصوصية الكعبة لِمن كان خارج المسجد الحرام، قالوا: وإلا لم يكن لكلمة (شطر) فائدة، ولكان لفظ (فول وجهك المسجد الحرام) يُغني عنه.

    وقوله تعالى: "ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك" فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه إخبار بحال المُعاندين من أهل الكتاب، وأن كفرهم كفر عناد لا بسبب البرهان أو بسبب عدم فهم الإسلام، إن كثيراً من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه، أو لأنه لم يُقدم لهم في صورة مُقنعة، وهذا وهم، إنهم لا يُريدون الإسلام لأنهم يعرفونه، يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم، وعلى سلطانهم، ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر.
    وقوله تعالى: "وما أنت بتابع قبلتهم" قال الراغب: فيه إشارة إلى أن مَن عرف الله حق معرفته، فمن المحال أن يرتد، ولهذا قيل: ما رجع مَن رجع إلاّ من الطريق، أي ما أخل بالإيمان إلاّ مَن لم يصل إليه حق الوصول.
    وقوله تعالى: "ولئن اتبعت أهواءهم "استُنبط منه: الترهيب من اتباع أهل الأهواء والبدع، قال الشوكاني رحمه الله: اتباع أهوية المبتدعة يشبه أهوية أهل الكتاب، كما يُشبه الماء الماء، والتمرة التمرة، وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على الملة؛ لِكونهم ينتمون إلى الإسلام وهم على العكس.
    ومن الفوائد في الآية: النهي الصريح عن اتباع منهج اليهود والنصارى ومنهم المستشرقون، وفي تفسير هذه الآية: وما أجدرنا اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير، ونحن في بلاهة منقطعة النظير، نروح نستفتي المستشرقين في أمر ديننا، ونتلقى عنهم تاريخنا، ونأمنهم على القول في تراثنا، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراسة لقرآننا، وحديث نبينا وسيرة أوائلنا، ونُرسل إليهم البعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام!

    وقوله تعالى: "ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات" استُدل به على أفضلية الصلاة في أول الوقت، قال المُستدل: ربط الله بين التوجه إلى القبلة وبين الأمر باستباق الخيرات، فعلمنا أن المقصود هو المُبادرة إلى الصلاة.

    وقوله تعالى: "ولأُتم نعمتي عليكم" فيه البشارة بدخول الجنة لأهل الإيمان، وللعبد الذي يواظب على الطاعة والصلاة، قال سعيد بن جبير يرحمه الله: ولم تتم نعمة الله على عبده حتى يُدخله الجنة.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [3/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي



    الحلقة الثالثة والعشرون:
    في قوله تعالى: "ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات" أعظم حض وأبلغ ترغيب على الجهاد في سبيل الله، وتعريض النفس على القتل فيه سبحانه، وفيه إثبات أن الشهيد له حياة خاصة غير حياة غيره.

    وقوله: "ولكن لا تشعرون" يدل على أن هذه الحياة تكون للشهداء قبل يوم القيامة، أي في حياة البرزخ. كيف هذا؟ لأن الله أخبر أننا لا نشعر بوجود هذه الحياة والإحياء، والإحياء يوم القيامة نشعر به كما نشعر به في هذه الدنيا وأبلغ.

    وقال سبحانه: "ولنبلونكم" ثم قال: "وبشر الصابرين" ففي الآية الأولى: أسند البلوى إلى الله تعالى، وفي الآية الثانية: أسند البشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
    ومن الفوائد في ذلك: أن إسناد البلوى إلى الرب سبحانه يُخفف من آلامها، ففي استشعار العبد أن البلوى من عند الله تعالى دلالاته على أنها خير محض. إذ إن أفعال الرب سبحانه وتعالى كلها خير وكلها صلاح، ولا يدخل فيها شيء من الشر والفساد.
    وأما إسناد البشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هو تكريم له صلى الله عليه وسلم ورفعة لشأنه صلى الله عليه وسلم عند المؤمنين، بحيث تحصل خيراتهم بواسطته.
    ومن فوائد الآية: إثبات المحاسبة في حياة البرزخ، وأن القبر إما روضة من رياض الجنان، وإما حفرة من حفر النيران. نسأل الله حسن الخاتمة.
    قيل: ولو كان المراد إحياءهم يوم القيامة لقال: سيحيون. ولم يقل: أحياء. الذي يدل على الحاضر الناضر، وفرق بين اللفظين.

    وقال سبحانه: "ولنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع " وقال في سورة (النحل): "فأذاقها الله لباس الجوع والخوف"ففي الآية الأولى: يُخاطب الله تعالى عباده المؤمنين، فأتى لهم بلفظ (شيء) ليدل على المواساة والتعليل والتهوين.
    وأما آية سورة (النحل): فإن الخطاب فيه عن المكذبين الذين كفروا بأنعم الله، فأتى عند الإخبار بلفظ (لباس) وهو لفظ يدل على التكلف واللزوم. نسأل الله لنا العافية.

    وفي قوله تعالى: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا" لطيفة ونكتة: وهي الإشارة إلى صاحب المصيبة يجمع بين الصبر بالفعل وبين الصبر بالقول، قال صاحب التحرير والتنوير: لأن الاعتقاد يُقوى بالتصريح؛ لأن استحضار النفس للمدركات المعنوية ضعيف، يحتاج إلى التقوية بشيء من الحس.

    وفي التعبير القرآني الدقيق: " إذا أصابتهم مصيبة قالوا" فائدة بليغة: وهي أن الاسترجاع يكون عقب المصيبة مُباشرة، وأن الصبر عند الصدمة الأولى، وأن الثواب الأعظم الذي يترتب على الصبر هو ما كان في أول الأمر، وهذا هو الصبر، لهذا قيل: إن الذي يفعله العاقل عند المصيبة، يفعله الجاهل بعد ثلاث.

    " إنا لله" أي نحن مملوكون لله، وهو سبحانه المالك لنا ولغيرنا، وأن من حق المالك أن يتصرف في ملكه بما يشاء، وأن لا يعترض المملوك على المالك في شيء. هذه واحدة.
    والثانية: أن العقل والمنطق يقتضي أن المالك لا يتصرف في ملكه إلا بما هو الأصلح له، وأنه لا يكون مُفسداً لملكه بحال من الأحوال.
    وفي هذا اللفظ الجليل: "إنا لله وإنا إليه راجعون" ما ليس في غيره من الألفاظ الدالة على الاسترجاع، وفيه من التسلية والتعزية للنفس ما ليس في غيره من الجمل والعبارات، فتتجلى فيه بلاغة التفسير القرآني وروعته.

    وفي قوله: "إنا لله وإنا إليه راجعون" كمال التعزية والترضية للنفس المصابة، نقول: نحن وغيرنا سنرجع إلى الله، ويُجزينا على كل صبر وفقد.
    ونقول: إننا سنرجع إلى الله، وسيعوضنا ما فقدناه أو خيراً منه، وإن كانت المصيبة في عزيز وقريب فستلتقي به عند الله، ولا أحسن من هذه المواساة.
    وقال سبحانه: "أولئك عليهم صلوات من ربهم" ولم يقل لهم صلوات! لفظ (عليهم) أبلغ في الدلالة وأعظم في المزية، فهو هنا يدل على اختلاط الصلوات بهم، وإشارة إلى أنهم منغمسون في رحمة الله قد غشيتهم وتجللتهم، كما يقول ذلك الألوسي رحمه الله، في روح المعاني.

    واستنبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: "إن الصفا والمروة " البدء بالصفا قبل المروة، قال صلى الله عليه وسلم:(نبدأ بما بدأ الله به). قال العلماء: فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يُجزئه.

    وقوله تعالى: "فمَن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" فيه دليل على أنه لا يُشرع السعي مُفرداً، بل لابد أن يكون مُقترناً بكونه حج البيت أو اعتمر.

    وفي قوله سبحانه: " ومَن تطوع خيراً" إبطال لجميع البدع. لماذا ؟
    لأن الله قيّد التقرب إليه بما هو (خير) والبدع في الدين شر محض ليس فيه خير ألبته، والآية نصت على أن المتطوع إلى الله بالخير يناله الشكر من الله، وعليه: الذي يتطوع بالبدع لا يكون مثله ولا يناله الأجر والشكر، لا يناله غير العناء والنصب.

    وفي قوله سبحانه: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" الوعيد الشديد لكتمان العلم، قال العلماء: دلت الآية على أن كتمان العلم من الكبائر؛ لأن الله تعالى قد رتب عليه اللعن الشديد المتتابع منه سبحانه ومن الملائكة والناس أجمعين.
    وفرّعوا عليه: أن تبليغ العلم الواجب لا يُستحق الأجرة عليه بذاته، كما لا يُستحق الأجرة على الإسلام، وعلى ما هو واجب فعله.
    ومن فوائد الآية: وجوب العمل بخبر الواحد خلافاً لمذهب أهل الكلام، قال المستدل: لم يوجب عليه تبليغ البينات إلا وقد وجب قبول قوله، ولو لم يجب العمل ببيانه لم يكن إظهار هذا البيان واجباً بالنسبة له.
    ويؤكده قوله: "إلاّ الذين تابوا وأصلحوا وبينوا". حَكَم سبحانه بوقوع البيان بخبرهم. والبيان يجب العمل به بالاتفاق.

    وفي قوله تعالى: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا" بيان أن للتوبة شروطاً، وأن من شروطها: الإصلاح والبيان، وأن مَن يعصي الله علانية يجب عليه أن يتوب علانية، وأن مَن يُفسد في الأرض لابد في تصحيح توبته من إصلاح ما أفسد وتبينه.
    وقوله: "وماتوا وهم كفار"استدل به على أن الكافر الذي لم يمت لا يجوز لعنه؛ لأنه لا يُعلم بأي شيء يُختم له.
    وفي قوله تعالى: "أولئك عليهم لعنة الله" تجويز لعن مَن مات على الكفر بعينه؛ لأن الله أخبر على سبيل التقرير أن الناس يلعنونهم.

    ثم قال سبحانه: "وإلهكم إله واحد" جاءت هذه الآية بعد التحذير الشديد من كتم العلم والحق والهدى، قال الشوكاني رحمه الله: فيها الإشارة إلى أن أول ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد.

    وقوله تعالى:"وإلهكم إله واحد" عقبه بقوله: "لا إله إلا هو" للتأكيد والتقوية، ونفي الاحترازات الموهمة، قال الرازي: لما قال:"وإلهكم إله واحد" أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا*! فلا جرم أزال هذا الوهم ببيان التوحيد المعلق فقال: "لا إله إلا هو".

    وختم الآية بقوله: "الرحمن الرحيم" ليُعلم أن الألوهية الربانية ألوهية رحمة، وأن رحمته سبحانه تسبق عقابه.

    الحلقة الرابعة والعشرون:
    في قوله تعالى: "إن في خلق السموات والأرض" أعظم دليل على تحقيق معاني التوحيد التي ذكرها الله تعالى في الآية التي قبلها: "وإلهكم إله واحد" قال العلماء: دلت الآية على استحقاق العبودية لله وحده على سبيل اللزوم العقلي.
    فكما أنه سبحانه هو المُتفرد بالخلق والتدبير والإنشاء: فهو كذلك المُستحق للعبادة دون سواه، والمتفرد بالألوهية من غير شريك.

    وفي قوله تعالى: "إن في خلق" الإشارة إلى أن الاعتبار واجب، وأن النظر لا يكون قاصراً على المخلوق، بل يتعداه إلى الخلق نفسه والحكمة فيه.
    ويتفرع عنه: النفي على أولئك القوم الذين لا يتعدون في نظرهم إلى صفات المخلوقين، والذين لا يتجاوزون بعلمهم ظواهر الحياة.
    وفي الآية جواز النظر وجواز استعمال الأدلة العقلية الثابتة على الأوجه الصحيحة في الأمكنة المُناسبة.

    وفي قوله تعالى: "السماوات والأرض" جَمَعَ لفظ (السماوات) ولم يجمع لفظ (الأرض) فلم يقل: أرضين، مع أنه ثبت تعدد الأرض كما ثبت تعدد السماوات*!!
    قيل: إن الأرض وإن تعددت: فهي عالم واحد، وأما السماوات فهي عوالم عظيمة مُختلفة مُتباينة.
    وقيل: إن الأرض وإن تعددت: فإن طبقاتها غير مُتباينة ولا مُنفصلة وهي كالشيء الواحد، وأما السماوات فإنها مُتباينة جداً كما جاء في الأحاديث الصحيحة: أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام.
    وفي قوله تعالى: "اختلاف الليل والنهار" نص على أن العبرة أعظم ما تكون الاختلاف بين الليل والنهار، وكأنه يُشير إلى أن هذا الاختلاف فيه سر، وقد ااكتُشف شيء من هذا السر: وهو أن الاختلاف من آثار دوران الأرض حول الشمس.
    ومن إشارات اللفظ "اختلاف الليل والنهار" أنهما أعراض وأوصاف وليسا أجساماً كثيفة كما كان يتصورها أهل الجاهلية القدماء.

    وقوله تعالى: "والفلك التي تجري في البحر" استُدل به على جواز ركوب البحر مُطلقاً، سواء كان للتجارة أو للعبادة أو للجهاد أو لغير ذلك، وأن ركوبه ليس من الغرر، وليس فيه تعريض بالمُهج في جميع الأحوال.

    وفي قوله تعالى: "بما ينفع الناس" الإشارة إلى تحقيق الانتفاع في ركوب الفلك التي تجري في البحر، وفيه إشارة إلى أن الشيء الذي يحصل به النفع تحصل به النعمة الإباحة، قال القرطبي –رحمه الله -: قال بعض مَن طَعَن في الدين: إن الله تعالى يقول في كتابكم: " ما فرَّطنا في الكتاب من شيء" فأين ذكر الملح والفلفل وغير ذلك؟*!
    فقيل له: في قوله تعالى: "بما ينفع الناس"..

    وفي قوله تعالى: "وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض" دليل على أن الله جعل في الماء سبب إحياء الأرض، فهذا فيه إثبات الأسباب وتأثيرها بإذن الله تعالى، والرد على المُنكرين لها.
    وفي الآية: إشارة إلى أن الماء النازل من السماء هو الذي يُنبت الزرع، وهو الذي يُحيي به الأرض بعد موتها، وأما الماء الذي في البحر ولم ينزل من السماء: فهو ماء ملح أُجاج، لا تَحيى به الأرض، وكأن ماء البحر إذا صعد إلى السماء وُضع فيه من المواد والصفات والخصائص ما يجعله حياة للأرض.

    وفي قوله تعالى: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً" الإشارة إلى بطلان مُعتقدهم وفساد صنيعهم وهذا مُستفاد من لفظ (يتخذ) هنا، فغن الأنداد الحقة لا تُتَخذ ولا تُصنع، وإنما هي ثابتة بنفسها، وهذا في التعبير مثل قوله تعالى: "وقالوا اتخذ الله ولداً".

    وقال سبحانه: " من دون الله" ولم يقل: دون الله، يعني ما فائدة لفظ (من)؟
    قال أهل اللغة: أن (من) هنا بمعنى: وراء، وهي تُفيد الحيلولة، فقوله: اتخذه دون الله. أي: أفرد غير الله بالمحبة، وقوله: من دون الله. أي: أشركه مع الله في المحبة.
    وقال الله تعالى: "والذين آمنوا أشد حُباً لله " ولم يقل: أحب لله.
    ففي التعبير الأول: أكثر تأكيداً، وأعظم مزية، كما في قوله سبحانه عن قلوب المشركين: "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" ولم يقل أقسى.

    وفي قوله تعالى: "أن القوة لله جميعاً" إثبات صفة القوة لله تعالى، والآية نص في المسألة، وفيها رد على المُعتزلة وغيرهم ممَن يُنكر الصفات، تعالى الله عن قولهم.

    وقوله تعالى: "أن الله شديد العذاب" بعد قوله: " أن القوة لله جميعاً" تأكيد وإثبات لتحقيق العذاب في مَن كان يتخذ الأنداد، لعل قائل يقول: هب أن القوة لله جميعاً، لعل الله يعفو عنهم ولا يُعذبهم فقال الله سبحانه: "أن الله شديد العذاب".

    وفي قوله تعالى: "تقطعت بهم الأسباب" جاء التعبير بلفظ (بهم)؛ ليفيد أنهم قد فقدوا الأسباب التي اتخذوها في أشد ما يحتاجون إليه، أي: وهم مُتلبسون بها، قال صاحب التحرير: الباء في (بهم) للملابسة. أي: تقطعت الأسباب مُتلبسة بهم، أي: فسقطوا.

    وفي قوله تعالى: "وما هم بخارجين من النار" دليل قاطع على خلود أهل الكفر الدائم في نار جهنم – عياذاً بالله – ومَن خالف فيه لم يأتِ بطائل، وقد خالف صريح القرآن الذي لا يقبل التأويل.

    وفي قوله تعالى: "وما هم بخارجين من النار" إشارة إلى أن أهل الكبائر من الموحدين ليسوا أهل الخلود الدائم في النار، وأنهم خارجون منها، ووجه الدلالة أن لفظ (ما هم) يُفيد تخصيص المُشار إليهم بالحكم، وهم الكُفار دون غيرهم، قال الشوكاني - رحمه الله -: ظاهر هذا التركيب يُفيد الاختصاص.

    وفي قوله تعالى: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً" الإيماء إلى علة الإباحة ومناط التكليف، وفيه إبطال ما كان يعتقده الجاهلية من تحريم الطيبات، ونعيٌ عليهم وتوبيخ، واُستُدل بالآية إلى أن مَن حرّم طعاماً فإن تحريمه يكون لاغٍ، ولا يحرم عليه.
    وفي قوله تعالى: "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" الإشارة إلى ذم التقليد في الباطل والنهي الشديد عنه، قال القرطبي – رحمه الله -: قال علماؤنا: وقوة ألفاظ هذه الآية تُعطي إبطال التقليد.

    وفي قوله تعالى: "وإذا قيل" جاء التعبير بقوله: (وإذا)؛ لِيدل على أن تقليدهم الآباء في الباطل قاعدة ثابتة عندهم، وهي ليست حادثة واحدة، ولفظ (إذا) يُفيد التجدد والتكرار.

    وفي قوله تعالى: "فهم لا يعقلون" (الفاء) تُفيد الربط بين عدم العقل، وبين كونهم صُمٌ بُكمٌ عُميٌ، في هذا إشارة إلى نَعْتَهُم بـ (صُمٌ بُكمٌ عُميٌ) ليس لنفي أصل البصر والسمع والكلام، لكن نفى عنهم فائدة هذه الحواس وثمرة هذه الآلات: وهو العقل عن الله.

    وقوله سبحانه: " إن كنتم إياه تعبدون" استنبط منه أن الأكل من الحلال سبب لقبول العبادة، كما أنه سبب لقبول الدعاء، فالآية قد رتبت العبادة الحقة على الامتثال لله بالأكل من الطيبات، والشكر له سبحانه فقال: "كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون" .
    ومن الفوائد: أن الله عقَّب على الأمر بالأكل من الطيبات بالشكر له سبحانه، فدل هذا على أن الذي يستبقي النعم هو الشكر، وأن واجب التنعم هو الشكر.
    ومن الفوائد: أن الله قرن بين الشكر له سبحانه وبين عبادته ولازم بينهما فقال: "واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون" قال ابن القيم – رحمه الله -: المعنى: أن عبادتكم لله تستلزم شكركم له، فإن كنتم ملتزمين بعبادته، داخلين في جملتها؛ فكلوا من رزقه، واشكروه على نعمه. وهذا كثير ما يورد في الحجاج، كما تقول للرجل: إن كان الله ربك وخالقك؛ فلا تعصه. وإن كان لقاء الله حقاً؛ فتأهب له.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [3/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي

    الحلقة الخامسة والعشرون:
    قال الله تعالى: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر مَن آمن بالله واليوم الآخر" إلى قوله: "أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون".
    وقوله سبحانه "ولكن البر مَن آمن" تقديره: ولكن البر بر من آمن، كما قاله سيبويه وغيره، وهو أسلوب بليغ ومثله في القرآن: "أجعلتم سقاية الحاج كمَن آمن" أي: أجعلتم أهل سقاية الحاج كمَن آمن.

    وفي قوله سبحانه "وآتى المال على حبه" التقرير بأن حب المال أمر فطري، وأن النفس مجبولة عليه، وفيه أن إعطاء الصدقة في حال الشح والفقر أفضل من إعطائها في حال المرض والغنى.
    وفي قوله سبحانه "ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب" ترتيب لأهل المصارف بحسب حاجتهم، وتقديم بعضهم بحسب أحقيتهم في الصدقة وفي الإنفاق.
    فهو أولاً قدّم ذوي القربى؛ لكونهم أحق الناس بالمعروف، ولكون الإنفاق عليهم يجمع بين الصلة والصدقة، ثم عقبهم باليتامى، واليتيم: وهو أحق من سائر الفقراء؛ لكون اليتيم مع فقره وحاجته لا كاسب له فهو منقطع عن الأسباب، ثم ذكر المساكين وهم: مَن أسكنتهم الحاجة وفقرهم فقر تام، ثم ابن السبيل، وهو المنقطع عن ماله فهو فقير من وجه لا من كل الوجوه، ثم جاء بعدهم ذكر السائلين، والسائل قد يكون من الفقراء حقاً وقد لا يكون، وأخّر ذكر الرقاب؛ لكونهم لهم أرباب يعولونهم.
    واختلف العلماء في المراد بقوله: " وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب" هل هي الزكاة المفروضة أم هي غيرها ؟
    والصواب أنها غيرها بل هي صدقة والدليل عليه أن الله جل ذكره ذكر الزكاة عقب هذا الموضع قال: "وأقام الصلاة وآتى الزكاة" بعد قوله: "وآتى المال على حبه" ومن حق المعطوف والمعطوف عليه التغاير والتباين.

    وفي قوله سبحانه "آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى" تجويز إعطاء القريب واليتيم من المال ومن صدقة التطوع ولو كانا غنيين، قال أهل العلم: يُعطى القريب بحكم القرابة والهدية، ويُعطى اليتيم بحكم التحنن والصلة لليُتم.

    وفي قوله سبحانه: "وفي الرقاب" نكتة ولطيفة !! جاء بكلمة (في) هنا ولم يُذكر عند غيرهم من أنواع المصارف. قال: "وفي الرقاب" ولم يقل: في ذوي القربى وفي اليتامى. لماذا؟
    قيل: الحكمة في ذلك هي أن المال الذي يُصرف لأهل هذه الجهة (الرقاب المملوكة) لا يُقصد به تمليكهم، بل هو لتخليص رقابهم من الرق، لا لتمليكم فهم ليسوا من أهل التمليك.

    وفي قوله سبحانه: "والصابرين" نكتة عجيبة! ما قبله مرفوع وهو منصوب قال: "الموفون بعهدهم" ثم قال:" الصابرين" غيّر إعرابه إلى النصب، تنبيهاً إلى مزية الصبر.. قال أهل النحو: الصابرين منصوب على الاختصاص، والتقدير: أخص الصابرين بالذكر.
    لماذا خصهم؟
    قيل: لأن الصبر تتجمع فيه جميع الفضائل، وهو منشأ كل فضيلة، فكان له إعراب مختلف كأنه هو شيء مُستقل واحد وجميع الفضائل غيره شيء واحد.

    وقال: "والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس" قيل: البأساء الفقر، والضراء المرض، وحين البأس القتال، وقد رتبهم سبحانه في الذكر بحسب التدرج، قال الألوسي – رحمه الله -: هذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد، لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر، والصبر على القتال فوق الصبر على المرض.

    وفي قوله سبحانه: "كُتب عليكم القصاص" الإشارة على أن فريضة القصاص فريضة لازمة، وحتم واجب لابد منه، وقد دل على ذلك قوله: "كُتب" وقوله: "عليكم".
    وفي قوله سبحانه: "عليكم" حكم يعم مجموع الأمة، ويدخل فيه أولياء القاتل، ويدخل فيه القاتل نفسه، ففيه دلالة على أنه يجب عليهم تمكين أولياء الدم من القصاص.

    وفي قوله سبحانه: "القصاص" الإيماء إلى علة الحكم، وأن قتل القاتل إنما شُرع لقصد العدل والمماءلة والمساواة الحقة.
    وفي قوله سبحانه: "القصاص" إشارة إلى أن قتل القاتل ينبغي أن يكون بمثل الصفة التي قَتَل بها المقتول، قال أهل اللغة: القصاص: هو المماثلة، ومنه القِصة كأنه يُماثل المحكي، واقتص أثره: أي اتبعه، ومنه قوله تعالى: "وقالت لأخته قصيه".

    وفي قوله سبحانه: "فمَن عُفي له من أخيه شيء" إشارة بديعة إلى أن العفو الصادر من أولياء الدم يُسقط القَوَد ولو من أحدهم، قال الله: "فمَن عُفي له من أخيه شيء" ولم يقل سبحانه: فمَن عفا له أخوه. قال الراغب: العدول إلى ذلك للطيفة وهي: أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم قد عفا أو جماعة فعفا أحدهم، حيث القصاص يبطل ويعدل حينئذ إلى الدية، فقال: "فمن عُفي له من أخيه شيء" ليدل على هذا المعنى.
    وفي قوله سبحانه: "شيء" التأكيد على أن العفو يقع ولو من أحدهم، وفيه أن العفو يقع ببعض الدية كما يقع في الكل، قال الشوكاني – رحمه الله – تنكير شيء للتقليل فيتناول العفو عن الشيء اليسير عن الدية، ويتناول العفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة.
    وفي قوله سبحانه: "أخيه" ترقيق للنفس وتعطف داع لهم إلى العفو.
    وفي قوله سبحانه: "أخيه" إثبات قاعدة جليلة عند أهل السنة وهي: أن المعاصي لا تُخرج صاحبها من الإيمان مهما بلغت ولو كانت قتلاً عمداً.

    وقال تعالى: "ولكم في القصاص حياة" قال العلماء والبلغاء: هذه العبارة حوت الغاية من الفصاحة والبلاغة، ووجوه الإعجاز مما لا يمكن أن نستقصيه.
    وفي قوله سبحانه: "لكم" الإشارة إلى العناية الربانية بهذه الأمة على الخصوص لماذا؟
    لأن الله عز وجل صرّح أن هذا التشريع يحصل به حياتهم وهي مرادة له سبحانه.
    وقال تعالى: "ولكم في القصاص" ولم يقل: (في القتل)؟ قيل: لتعميم الحكم في القتل وفي غيره مما يحصل به القصاص، فيدخل فيه الجروح والضرب ونحوه.
    وقال تعالى: "فاتباع بالمعروف" ولم يقل: اتباعاً بالمعروف ؟ قيل: إن الرفع هنا دال على وجوب الحكم؛ لأن المعنى: عليه اتباع قال النحاس: "فمن عُفي له من أخيه شيء" شرط. والجواب: " فاتباع".

    وقال تعالى: "أداء إليه بإحسان" ولم يقل: أداء بإحسان؟ قيل: فائدة (إليه) إشارة إلى أنه لا يُمطله، وأنه يوصل الحق إليه ولا يكلفه الحضور بالمطالبة أو إرسال مَن يستقصيه.

    وفي قوله سبحانه: "إن ترك خيراً الوصية" الإيماء إلى أن المال الذي ينبغي أن تقع به الوصية هو المال الحلال المأذون فيه، لا مالاً خبيثاً لا خير فيه.

    وفي قوله سبحانه: "فإنما إثمه على الذين يُبدلونه" إبطال لما قد يتعلق به الموصي ويعدل من ترك الوصية بعلة خوف أن يُبدله غيره.
    ويتفرع من هذا: أن المكلف إذا أدى ما عليه فقد برئت ذمته ولو خان غيره، واستُدل بها على أن مَن كان عليه دين فأوصى بقضائه برئت ذمته وسلمت تبعته في الآخرة وإن لم يوصله الورثة، ما لم يكن مفرطاً في الحياة.
    ومن فوائد الآية: تجويز مقدار الوصية الصحيح دون مقدار الوصية غير الصحيحة، كمَن أوصى بأكثر من الثلث، فيجوز منها الثلث ويبطل ما زاد. قالوا: لأن الله تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها ما يصح.

    الحلقة السادسة والعشرون:
    قال الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
    في قوله: "كما كُتِب على الذين من قبلكم" تطييب لأنفس المخاطبين وتهويناً لمشقة الصوم، فهو يقول لهم: كما كُتب عليكم الصوم فقد كُتب على الأمم قبلكم. والأمر الشاق إذا عمّ على الجميع سهل وخف.
    وفي قوله تعالى: "لعلكم تتقون" الإشارة إلى أن الصوم يُضعف داعي العصيان، ويحصل به كسر باب الشهوة.
    وفي قوله سبحانه: "أياماً معدودات" تهوين – أيضاً – وتسهيل لِمشقة الصيام، فهو يقول لهم: هي أيام قليلة معدودة سهلة، والعرب تقول: الكثير لا يُعد وإنما يُعد القليل.
    ويتفرع عنه: أن الداعي إلى الإسلام يُرغب الناس في تكاليفه ويُسهل عليهم الالتزام بشرائعه الظاهرة والباطنة، ويقول لهم نحو ما قاله الله في هذه الآية.
    وقوله تعالى: "وعلى الذين يُطيقونه" أي لا يُطيقون الصوم إلاّ بجهد جهيد، وبمشقة عظيمة، كيف هذا؟
    الطاقة هي اسم لمقدار ما يُمكن أن يفعله الإنسان مع المشقة.

    وفي قوله تعالى: "شهر رمضان نص على أن الواجب هو استيفاء جميع الشهر بالصوم، لو قال: (رمضان) لدل على جميعه، ولكن دلالة الظاهر التي هي أقل من دلالة النص.

    وفي قوله تعالى: "شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن" إشعار بخصوصية قراءة القرآن في شهر رمضان قال الحرالي: أشعرت الآية أن في الصوم حُسن تلقٍّ لمعناه ويُسراً لتلاوته.
    و في قوله تعالى: "أُنزل فيه القرآن" إشارة إلى علو الله تعالى على خلقة، وأن الله جل جلاله فوق عباده.
    وفي قوله تعالى: "ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر" الإشارة إلى أفضلية الفطر للمسافر والمريض دون الصوم.
    كيف هذا؟
    ذكرت الآية أن حق المسافر القضاء دون الصيام، والقضاء يلزم منه الفطر، وما ذكره الله فهو أولى بالتقديم والتأخير.
    وفي قوله تعالى: "أو على سفر" دليل على إباحة الفطر لكل مسافر وفي كل سفر قصيراً أو طويلاً، سفر طاعة أو معصية، وبالوسائل الحديثة وبغيرها.
    وفي قوله تعالى: "أو على سفر" الإشارة إلى أن استباحة السفر لا تحل إلاّ إذا شرع في السفر. وهو لم يقل: (مسافر). ولكن قال: "على سفر" والعرب لا تقول: على سفر إلاّ لمَن شرع فيه، وربما قالوا: (مسافر) لمَن استقبل السفر وينويه.
    وقوله تعالى: "على" تأكيد لهذا المعنى وتقوية له، لأن لفظ (على) دال على الاستعلاء والتمكن، ولا يصح هذا في حق مَن نوى السفر فقط.
    وفي قوله تعالى: "أو على سفر" الإيماء إلى أن السفر لابد فيه من وجود النية والقصد بخلاف المرض فهو يحصل بنية وبغير نية.
    وفي قوله: "فعدة من أيام أخر" وجوب القضاء بعدد أيام الفطر من غير تعيين الزمان، فهو يقضي عدد ما أفطر في أي زمان شاء، شاءوا صيفاً، أياماً قصيرة أو طويلة، حارة أو باردة، متتابعة أو متفرقة. قال العلماء: لفظ عدة مسترسل لا يختص بزمان دون زمان، ومَن خصصه فلا دليل له، إلاّ أن يكون القضاء في نفس العام.
    وفي قوله تعالى: "فعدة من أيام أخر" الإشارة إلى وجوب القضاء بعدد الأيام التي أفطرها دون نقص. وأن مَن أفطر شهراً كاملاً فهو يقضيه كاملاً، وإن كان الشهر ناقصاً قضاه تسعةً وعشرين.
    وفي قوله سبحانه: "يُريد الله بكم اليسر" عقب قوله: "ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر" الإشارة إلى ترجيح الفطر على الصيام لمَن كان في حال المرض أو حال السفر، وأنه هو اليسر، وأنه هو مراد الله تعالى، إذ لا مذكور غيره.

    وفي قوله سبحانه: "ولِتكبروا الله على ما هداكم" إشارة إلى آكدية التكبير ليلة عيد الفطر. ووجهه: أن الله تعالى ذكر التكبير بلفظ: (ولتكبروا) رتبه على الشيء الذي أراده الله سبحانه، وما أراده الله تعالى من خلقه فلا يحسن التخلي عنه.
    وفي قوله سبحانه: "ولتُكملوا العدة ولتُكبروا الله على ما هداكم" دليل على أن وقت ابتداء التكبير من حين انقضاء غروب آخر يوم من رمضان، فهو الذي يحصل به إكمال العدة وإتمام الشهر.

    وقال الله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني" ولم يقل: وإن سألك عبادي عني. قال أهل اللغة: (إذا) تدل على الكثرة، و (إن) تدل على القلة، ففيه إشارة إلى استحباب كثرة السؤال لله الواحد القهار.
    وقال الله تعالى: "عبادي" ولم يقل: عبيدي. لماذا ؟ قيل: إن لفظ (العباد) أخص من لفظ (العبيد). العبيد هم: المقهورون بربوبية الله، وهم جميع المخاليق، والعباد هم: أهل الطاعة وأهل الكرامة فقط.

    وقال الله تعالى: "فإني قريب" ولم يقل سبحانه: (فقل إني قريب) لماذا؟
    قيل: للإشعار بفرط قُرب الله منهم، ولإسقاط الوسائط بين الخالق والمخلوق في شأن الدعاء.
    وفي قوله سبحانه:"فإني قريب" الإشارة إلى أدب المُناجاة والمُسارَّة في الدعاء، دعاء القريب يكون مُناجاة، ودعاء البعيد يكون مُناداة.
    وفي قوله سبحانه: "فإني قريب" إبطال لمناهج المُبتدعة في دعاء غير الله، وأن التوسط والتوسل بالغير إلى الله سبحانه لا فائدة منه، وعبث لا معنى له.
    وقال الله تعالى: "فإني قريب" ولم يقل سبحانه: فالعبد مني قريب. لماذا؟
    فيه الإشارة إلى أن القرب هو محض تفضل من الله، ومحض تكرم منه سبحانه لا منهم.

    وفي قوله سبحانه: "أُجيب دعوة الداع إذا دعان" الإشارة إلى وجوب إخلاص الدعاء لله وحده دون سواه، وأن مَن دعا غير الله فهو حريٌ بعدم الإجابة.
    وفي قوله سبحانه: "إذا دعان" إثبات النفع في الدعاء، وأنه من أعظم أسباب تحصيل الرزق وتغيير الحال.
    وفي قوله سبحانه: "إذا دعان" إبطال لمنهج المتفلسف الذي يَدَعَ الدعاء ويقول: حالي يُغني عن سؤالي، وهذا لا يصح عن الخليل عليه السلام، ولا عن أتباعه بإحسان رضي الله عنهم.

    وقال سبحانه: "فليستجيبوا لي" ولم يقل: فليُجيبوا لي. لماذا؟
    قال الراغب: أوثر (فليستجيبوا) على (فليجيبوا) للطيفة، وهي أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة وإن كان قد يُستعمل في معنى الإجابة، فتبين أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم.
    ومن فوائد الآية: إثبات آكدية الدعاء في حق الصائم، قال ابن كثير – رحمه الله -: لأن الله تعالى قد تخلل آيات الصيام بآية الدعاء. وقال غيره: وتدل على مشروعية الدعاء عند إتمام كل يوم من رمضان؛ لأن كل يوم صوم مُنفرد.

    وفي قوله سبحانه: "الرفث إلى نسائكم" الإشارة إلى أن المحرم على الصائم إنما هو الإفضاء إلى المرأة بالجماع لا ما دونه. كيف؟
    لفظ الرفث يدل على الجماع وعلى دواعيه، ولم يقل: الرفث بنسائكم وهو الشائع في الاستعمال، وإنما عداه بـ (إلى) ليتضمن معنى الإفضاء.

    وفي قوله سبحانه: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" الدليل الصريح على جواز معاشرة الرجل زوجه على كل وجه تحصل به المُلابسة.. إلاّ ما خصه الدليل.
    وفي قوله سبحانه: "هن لباس لكم" التقعيد لأهل الإيمان أن يتأدبوا في التلفظ فيما لا يحسن ذكره.

    وفي قوله سبحانه: "تختانون أنفسكم" الإشارة إلى أن المعاصي يعود ضررها على صاحبها لا على غيره، نسب الله الخيانة هنا إلى نفس العاصي لا إلى غيره.
    وفي قوله سبحانه: "وابتغوا ما كتب الله لكم" تحريض على مُباشرة النساء بقصد طلب الولد وحصول الإعفاف. وفيه الإشارة إلى قاعدة دينية نافعة وهي: ابتغاء المصالح الدينية من وراء مزاولة الأعمال الدنيوية واللذائذ الوقتية.

    وفي قوله سبحانه: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" دليل على استحباب السحور، ودليل على استحباب تأخيره إلى ذلك الوقت.
    وفي قوله سبحانه: "من الفجر" دليل على أن مَن طلع عليه الفجر وهو جُنب لم يُبطل صومه بل يغتسل ويُصلي.

    وفي قوله سبحانه: "ثم أتموا الصيام إلى الليل" الإشارة إلى أن مُنتهى الصوم في الشريعة هو الليل.
    وفرعوا عليه: أن الصائم يُفطر بمجرد غروب الشمس أكل أو لم يأكل، قال ابن العربي – رحمه الله -: وقد سُئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثاً أنه لا يفطر على حار ولا بارد. فأجاب: أنه بغروب الشمس يفطر ولا شيء عليه.
    وفي قوله سبحانه: "إلى الليل" النهي عن مواصلة الصوم في الليل. كيف؟ جعلت الآية نهاية الصوم هو الليل.

    وفي قوله سبحانه: "وأنتم عاكفون في المساجد" أدل دليل على مشروعية الاعتكاف في كل مسجد، وأنه لا يختص بمسجد دون مسجد وليس في السنة الصحيحة تخصيص.


    الحلقة السابعة والعشرون:
    قال تعالى: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون".
    في قول سبحانه: "ولا تأكلوا أموالكم" الإشارة إلى الأخوة الإيمانية، وإلى أن عصمة مال الغير كعصمة مال النفس، فهو يتضمن أن آكل مال غيره كآكل مال نفسه بالباطل. وعبر عن الائتلاف بالأكل. لماذا؟
    لأنه هو أهم الحوائج، ولأن به يحصل إتلاف المال غالباً.
    وقوله سبحانه "بالباطل" أُستدل به على تحريم كل معاملة ليست بحق. قال القرطبي: هذه الآية متمسك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدّعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز فجوابه أن يُقال: لا نسلم بأنه باطل حتى تثبته بالدليل. انتهى. كيف يُثبت كونه باطلاً بالدليل؟ الباطل في المعاملات على أوجه ثلاثة:
    الأول: ما يعلم جميع المستمعين أنه باطل كالغصب والسرقة.
    الثاني: ما حكم الشرع بأنه باطل، ويخفى كونه باطلا عند أكثر المستمعين، مثل كثير من أنواع الربا.
    الثالث: ما استنبطه العلماء وألحقوه بالباطل في الشرع، فهذا لا يستدل عليه بمجرد ذكر الباطل من الآية، بل لابد من الدليل على كونه باطلاً بعينه.
    وفي قوله سبحانه: "وتُدلوا بها إلى الحكام" أُستُنبط منه أن حكم الحاكم لا يُحلل حراماً وأن مَن حكم له القاضي بشيء مستدلا في حكمه على باطل كنحو شهادة زور أو يمين فجور فلا يُحلل له ذلك، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على ما أسمع فمَن قُضي له من أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار".
    وفي قوله سبحانه: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" الإشارة إلى أن الإحرام بالحج لا يُشرع في غير أوقاته، لو كن مشروعاً في كل وقت لما احتيج إلى معرفة الأهلة في توقيته، إنما احتيج لكونه خاصاً بأشهر معلومة متميزة لا في كل وقت لا يقع في غيرها.
    ومن اللطائف: أن يُعكس الاستدلال فيُقال: دلت الآية على جواز الإحرام بالحج في كل وقت، و(هي) ضمير يعود على جميع الأهلة وجميع الشهور وهذا قال به طائفة، والأول هو الأقوى. لماذا؟
    لأنه هو ظاهر الآية المتبادر إلى الفهم، وأن التفسير الثاني يضعف معنى الآية الكريمة ويُبطل فائدة التخصيص فيها.
    وقال الله تعالى: "مواقيت للناس والحج" ولم يقل مواقيت للصوم أو غيرها من العبادة التي يُشترط فيها التوقيت. لماذا خصص الحج بالذكر؟
    قيل: أفرد سبحانه الحج بالذكر لأن أهل الجاهلية من العرب كانوا يؤخرونه عن وقته وكانوا ينسئونه فأبطل الله النسيئة كما في سورة التوبة. وهنا أشار الله إلى أن ذلك لا يجوز تأخير الحج عن وقته، لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر غيرها، والحج مقصور على الأشهر التي عينها الله.
    قال الله تعالى: "وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البرَّ مَن اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" قال الله: " وليس البرُّ" بالرفع، وقال قبل ذلك في نفس السورة: "ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب.." رفع في هذا الموضع ونصب في الموضع الأول. لماذا؟
    قال أهل اللغة: يكون الاسم معروفاً لك فتلحق به الوصف، ومرة تجهل الاسم وتعرف الوصف فتلحق الاسم بالوصف وهذا سر اختلاف الرفع والنصب في كلمة البر و قال العلماء: في هذه الآية النفي لجنس البر عن هذا العمل ولهذا قال: "وأتوا البيوت من أبوابها" يعني: هذا الفعل ليس من البر بكل حال ليس فيه أي بر، وهناك نفي البر الأعظم، يعني: ليس البر الأعظم هو تولية الوجه للقبلة لم ينفعه، ولهذا لم يقل: وتولَّوا إلى أي جهة.
    ومن فوائد الآية: إنكار كل بدعة لم يشرعها الله، وإبطال كل محدثة في الدين، وأن كل ما لم يُشرعه الله لا يُعد قربة بأن يتقرب به متقرب.
    ومن فروعه: أن فعل المباح لا يجوز أن يتخذ قربة إلى الله بذاته، مثلاً: نحن لا نلبس زياً معيناً لم يخصصه الشرع ثم نزعم أنه قربة، ولا نتغنى بالشعر ثم نزعم أن التغني قربة.
    وفي قوله سبحانه: "وأتوا البيوت من أبوابها" الإشارة إلى تحسين اليسر في كل شيء، فيه تنبيه إلى أن الواجب على العاقل هو أن يأتي الأمر من الطريق السهل القريب الذي جُعل له موصلاً.
    ويتفرع عن هذا: الإرشاد إلى الحسن في جميع أحوال الناس وفي جميع أفعالهم من أمور الدين وشؤون الدنيا مثل: طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطريق العلم، وطريق الأكل والشرب والجماع وغيرها من الوظائف وغيرها. استدل بالآية إلى وجوب إتيان الأشياء من أبوابها وطرقها الصحيحة.
    وفي قوله سبحانه: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" استدل به على قتال كل مشرك وأنه كافر يستحق القتل بسبب الكفر، غير مَن استثنى الله وهم أهل الجزية. لماذا؟
    لأنه سبحانه أطلق فقال: "واقتلوهم" ولم يُعلق قتالهم بالاعتداء منهم، علق القتال بنفي الشرك بقوله: "حتى لا تكون فتنة" أي شركاً وأكده عموم القتال بقوله: "ويكون الدين كله لله" وأكده مرة أخرى بقوله:"فإن انتهوا" أي عن الشرك "فلا عدوان إلاّ على الظالمين" يعني أن كل مشرك هو مستحق للقتال بسبب شركه – غير الكتابيين – وبه قال طائفة من العلماء الفضلاء.
    وفي قوله سبحانه: "والحرمات قِصاص" أصل وقاعدة في جواز المقاصة بالمثل.
    وفي قوله سبحانه: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" تبيين صفة المقاصة، فهو أولاً أجمل ثم فصل.
    وفي قوله سبحانه: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" الإشارة إلى أن ترك الجهاد وترك الإنفاق هو التهلكة بعينها، كيف فُهم هذا؟
    سياق الآيات يدل عليه: قال: "وقاتلوا في سبيل الله" وقال "أنفقوا في سبيل الله" ثم قال عقبه: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
    وفي قوله سبحانه: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" النهي عن كل سبب يؤدي إلى التهلكة.
    وفي قوله سبحانه: "بأيديكم" لطيفة ونكتة، قال الألوسي: فائدة ذكر الأيدي: التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار.
    وفي قوله سبحانه: "وأتموا الحج والعمرة" أُستدل به على وجوب الحج والعمرة وفرضيتهما، واستدل به على وجوب إتمام الحج لمن شرع فيه، ولو كان نفلاً في أصله.
    وجه الأول: أن المراد من قوله: " أتموا" الإتيان بهما على وجه الكمال والتمام. ووجه الثاني يكون المعنى: أنكم إن شرعتم فيهما فلابد لكم أن تتموهما.
    وعلى الوجه الأول يكون حكم العمرة كحكم الحج واجبة لا مجرد نافلة.
    وفي قوله سبحانه: "لله" الإشارة إلى وجوب الإخلاص وزيادة تحقيقه لوجه الله تعالى، ولم يقل سبحانه في الصلاة والزكاة: (لله) وإنما خص الحج. لماذا؟
    قيل: لأنهم في الجاهلية كانوا يتقربون إلى أصنامهم ببعض أفعال الحج فخصها بالذكر.
    وقيل: لأن الحج عبادة ظاهرة ظهوراً عظيماً فهي أولى بمراعاة الإخلاص ومدافعة الرياء.
    وفي قوله سبحانه: "تلك عشرة كاملة" فوائد، فصل العلماء في ذكر بعضها:
    منها: نفي التوهم في أن يكون المقصود هو التخيير إما ثلاثاً وإما عشرة. لماذا ؟ لأن لفظ (الواو) قد يأتي للتخيير.
    ومنها: الإشارة إلى أن صوم الصائم الذي لم يجد النسك فعله وحجه كامل كما هو شأن الناسك الذي لم يذبح.
    ومنها: أن هذا الخطاب مع العرب ولم يكونوا أهل حساب، فبين الله ذلك بياناً شافياً قاطعاً للشك والريب، كما ورد مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الشهر: (هكذا وهكذا) وأشار بيديه ثلاثاً وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة.
    ومنها: إزالة اللبس في أن المراد بـ (السبعة) هو العدد لا الكثرة.
    وفي قوله سبحانه: "كاملة" إشارة إلى تأكيد قضية الصوم ولحصول
    الأجر فيه كما يحصل في الهدي. كيف هذا؟
    إن المعتاد أن يكون البدل أضعف من المبدل منه، فينفي الله هذا الاحتراز بقوله: "كاملة"، فهي كاملة في البدل عن الهدي، وهي كاملة في الثواب عند الله، وهي كاملة في صفة الحج ومناسكه.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,889

    افتراضي رد: لطائف من القرآن الكريم

    لطائف من القرآن الكريم [3/3]
    د. صالح بن أحمد الغزالي



    الحلقة الثامنة والعشرون:

    قال تعالى: "فمَن فرض فيهن الحج" نَسَبَ الفرض إلى العبد المكلَّف، والفرض لا يكون إلاّ من الله. لماذا؟
    قيل: السر في ذلك أن الحج عبادة تعرض بالشروع فيها ولو كانت في الأصل مندوبة، تقدير الآية: فمَن ألزم نفسه فيهن بالحج. كيف يلزم نفسه؟
    يلزم نفسه بالشروع في الحج، يكون بالنية قصداً باطناً، وبالإحرام فعلاَ ظاهراً، وبالتلبية نطقاً مسموعاً، ويكون بإشعار الهدي وتقليده.
    وفي قوله سبحانه: "فمَن فرض فيهن الحج" الإشارة إلى أن الحج لا يكون في غير أشهره، وأنه لا يجوز الإحرام بالحج إلاّ في تلك الأشهر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. قيل: لو جاز أن يكون في غير تلك الأشهر لما كان لذكر (فيهن) فائدة.
    وقال سبحانه: "وما تفعلوا من خير" ولم يقل: وما تفعلوا من شيء. قيل الفائدة في ذلك أن السياق يقتضيه، المحرم بالنسك يقتضي أن يُرغب في الخير ويُحض عليه، يقول للحاج: كل ما تتحمله من أنواع المشقة في سبيل الخير وكل ما تفعله من خير فإنني به عليم، أنا مطلع عليه أجزيك عليه.
    وفي قوله سبحانه: "من خير" الترغيب في فعل كل خير، والإشارة إلى أنه يجب على الحاج في ذلك الوقت أن يستغل كل فرصة لفعل الخير، وأن يستغل فضل الزمان والمكان. قال العلماء: (من) للتخصيص على العموم.
    وفي قوله سبحانه: "وما تفعلوا من خير" بعد قوله: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال" الإشارة إلى أنه لا يكفي المكلف الترك والاجتناب للمنهيات، لكن عليه أن يقرن ترك الشر بفعل الخير والمواظبة على الطاعة.
    وفيه إشارة إلى أن ترك الحرام لا يستحق عليه الأجر إلاّ من جهة أنه حرام وأن الله أمر بتركه. وإلاّ لم يُسمَ خيراً.
    وفي قوله سبحانه: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" الإشارة إلى مشروعية الجمع بين عمل الدنيا النافع وبين عمل الآخرة الخالص. التزود من القوت والتزود من الطاعة، وأن هذا من ذاك ولا يُعارضه.
    وفي قوله سبحانه: "فإن خير الزاد التقوى" الإشارة إلى أن الدنيا ليست بدار قرار وأنها دار سفر.
    وفي قوله سبحانه: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إباحة الاتجار في الحج، وأنه فعل لا يُنقص الثواب والأجر، ولا يُخرج المكلف من اسم الإخلاص ولب العبادة.
    وقال الله تعالى: "فضلاً من ربكم" ولم يقل: رزقاً أو زاداً!
    قيل: لأن ذكر الزاد، والمشار هنا أكثر منه. المعنى: أن الحاج يتزود للحج قبل مجيئه فإذا حضر لا بأس أن يبتغي فضلاً وزيادة من الرزق. قال: "من ربكم" زيادة في التحليل والإشعار بنعمة الخالق على المخلوق.
    وفي قوله سبحانه: "المشعر الحرام" الإشارة إلى أن عرفات ليست من الحرم، والتنصيص على أن مزدلفة منه. قال عنها (مشعر) لأنها علامة على مناسك الحج من المبيت والدعاء والذكر والصلاة.
    وفي قوله سبحانه: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" بعد قوله: "فإذا أفضتم من عرفات" الإشارة إلى وجوب المبيت في مزدلفة. لماذا؟
    قال: "فإذا أفضتم من عرفات" ثم قال: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" (ثم) تدل على التراخي وعلى التأخر، ومقتضى التراخي هنا بين الإفاضتين هو المبيت في منى ليلة العاشر.
    وقيل: لفظ (ثم) ليس للتراخي، وليس هنا إفاضتان، هي إفاضة واحدة تُسمى الحُمس كانوا يفيضون من مزدلفة الحرام ترفعاً وتكبراً أن يفيضوا مع الناس، فأكد الله عليهم مكان الإفاضة بقوله: " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" أي: أفيضوا من عرفات حيث أفاض الناس.
    ما وظيفة (ثم) على هذا القول؟
    (ثم) هنا ليست للتراخي، مستعارة لإظهار التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة، فلإشعار أن أحدهما صواب والأخرى خطأ.
    وفي قوله سبحانه عقبه: "واستغفروا الله" تعقيد لسنة شريفة وهي ختم العبادات بالتوبة والاستغفار، وأكدها بقوله: " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله".
    وفيه إشارة إلى إثبات قصور العبد في أداء حق الرب سبحانه.
    وفي قوله سبحانه: "ومن الناس مَن يقول" عقب قوله: "فاذكروا الله" الإشارة إلى أدب عظيم من آداب الدعاء، وهو تقديم الذكر والثناء على الله وتمجيده.
    وفي قرن الذكر بالدعاء فائدة عزيزة ونكتة، قال الألوسي – رحمه الله – قرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة، لا مجرد التفوه والنطق به.
    وفي قوله سبحانه: "كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً" التعريض بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاخر بالأنساب، وإبطال التفاخر بالآباء.
    ومن الفوائد في الآية: إثبات أن الدعاء ذكر، وأن الذكر دعاء؛ لأن الله سبحانه ربط بينهما فقال: "ومن الناس مَن يقول" بعد قوله: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم".
    ومن الفوائد: إثبات أن الدعاء يكون بخيري الدنيا والآخرة، وأن الاقتصار على طلب الآخرة لوحدها مع الإعراض عن خير الدنيا ليس هو المطلوب.
    ومن الفوائد: الرد على مَن يزعم أن عبادة الله منزهة عن الأغراض، لا لأجل ثواب ولا لخوف عقاب، وإنما هي لذات الله سبحانه.


    الحلقة التاسعة والعشرون:
    قال الله سبحانه: " من الناس مَن يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه" وفي قراءةٍ: "يشهد اللهُ على ما في قلبه" قوله سبحانه:"والله يشهد أن المنافقين لكاذبون" قال العلماء هذه الآية الكريمة في وصف حال المنافق، وهو من أدق وصف لحال أهل النفاق. ما المناسبة بينها وبين ما قبلها؟
    لما ذكر أهل الإيمان بقوله سبحانه: "ومن الناس مَن يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة" ثم ذكر أهل النفاق بقوله: "ومن الناس مَن يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وما له في الدنيا من خلاق" بقي صنف ثالث: وهم أهل النفاق ذكرهم هنا عقب الآيتين السابقتين.
    وفي قوله سبحانه: " يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" الإيماء إلى الذي لا يُحسا إلاّ الحديث عن الدنيا هو مظنة للتهمة، وأن الأمر الحسن حقيقة هو ما كان في الآخرة والأمر الباقي، في الحديث الشريف ما هو أبلغ من الذم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في مجلس لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة).
    وفي قوله سبحانه: "وهو ألد الخصام" التنفير ممَن كان هذا وصفه، وفيه الإشارة إلى ذم الخصومة الشديدة.
    واستدل به على ذم علم الجدل.
    ثم قال الله تعالى: "وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها" يعني إذا انصرف من عندك كان عمله عمل الفساد لا كقوله الذي يُعجبك.
    وقيل: "وإذا تولى" إي إذا غلب وصار والياً عمل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل.
    وهذا التفسير سائغ في اللغة، ولكن التفسير الأول هو الأولى هنا؛ لأنه هو المناسب للسياق قبله. قال: "ومن الناس مَن يُعجبك قوله" ثم قال: "وإذا تولى".
    وفي قوله سبحانه: "ليُهلك الحرث والنسل" الإشارة إلى زراعة الأرض وغرس الأشجار، وأن جلب النسل - وهو نماء الحيوان - أمر مطلوب.
    وفي قوله سبحانه: "ليُهلك الحرث والنسل" التوعد لكل عمل يحصل به فساد الأرض من غير حق وبلا مصلحة، قال بعض العلماء في الآية: أن مَن يقتل حماراً أو كدساً من الزرع فقد استوجب الملامة، ولحقه الشين إلى يوم القيامة.
    وقوله سبحانه "ليهلك الحرث والنسل" من الألفاظ الفصيحة جداً الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة.
    ومن فوائد الآية: تفطين أهل الإيمان لئلا يغترّوا بالمظاهر دون الحقائق، وأن يعتبروا بما وراء الكلام الحسن.
    ومن الفوائد: إثبات مشروعية تحرّية الشهود، وهذا مذهب المالكية. قال القرطبي – رحمه الله -: وفي هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة.. لأن الله بيّن أحوال الناس، وأن منهم مَن يظهر قولاً جميلاً وهو ينوي قبيحاً.
    ومن الفوائد في الآية: أن الاعتبار في التزكية هو الأفعال لا مجرد الأقوال، وأن الأقوال التي تصدر من الشخص لا تدل بمفردها على صلاحه أو فساده.
    واستدل المالكية بها أن القاضي يُخيِّر الشهود، وأنه لا يغتر بتمويههم وتزكية أنفسهم لأنفسهم.
    وفي قوله سبحانه: "والله لا يُحب الفساد" النهي عن كل فساد قلَّ أو كثر في الدين أو في الدنيا. ما هو الفساد؟
    الفساد هو: إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح، فكل ما حصل فساد فهو منهي عنه. قال عطاء – رحمه الله -: أن رجلاً أحرم في جبة فأمره النبيصلى الله عليه وسلم أن ينزعها. قال قتادة لعطاء: إنا كنا نسمع أن نشقها فقال عطاء: إن الله لا يُحب الفساد.
    وقال الله تعالى: "وإذا قيل له: اتق الله" أي إذا نُصح هذا المنافق "أخذته العزة بالإثم".
    وفي قوله سبحانه: "وإذا قيل له: اتق الله" إشارة إلى أن المذكور الموصوف يُخالف فعله قوله، فقوله حسن يُعجب، وفعله قبيح غير معجب.
    قال تعالى: "وإذا قيل له: اتق الله" لماذا؟ لأن فعله يدعونا إلى الإنكار عليه يدعونا إلى أن نقول له: اتق الله.
    سبحانه: " أخذته" تفسير عجيب: كأن العزة الباطلة قد أحاطت به، بل هي جذبته إليها جذباً شديداً وصار كالمأخوذ بها.
    وقال تعالى: "بالإثم" لماذا ؟
    لأن العزة قد تكون بحق بغير إثم، كما في قوله سبحانه: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين".
    ومن فوائد الآية: الذم البليغ لمَن يُعرض عن الموعظة.
    ومن الفوائد: الوعيد الشديد لمَن يستنكف من قول: اتق الله، قيل لبعض السلف: اتقِ الله. فوضع خده على الأرض. فقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتقِ الله. فيقول له: عليك نفسك.
    وقد فرّع الفقهاء على هذا المعنى مسائل. قالوا: إذا قال الخصم للقاضي: اعدل. فله أن يُعزره، وإن قال له: اتق الله. فلا يفعل به شيئاً.
    ثم قال الله سبحانه: "ومن الناس مَن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" هذا صنف والأول صنف، هذا مؤمن وذلك منافق، بين الله صفة الرجلين فكان مناسباً تمام المناسبة.
    قرأ رجل عند ابن عباس رضي الله عنهما الآيات:"وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة …" ثم قوله:"ومن الناس مَن يشري نفسه ابتغاء …" فقال ابن عباس: اقتتل الرجلان، أرى هذا أخذته العزة بالإثم بقوله: اتقِ الله. فيقول هذا: وأنا أشتري نفسي ابتغاء مرضاة الله. فيُقاتله.
    وفي قوله سبحانه: "ادخلوا في السلم كافة" التنصيص على أن الواجب هو العمل بجميع الدين، والدخول في جميع شرائعه وأحكامه.
    وفي قوله سبحانه: "كافة" الرد على جميع أهل البدع والأهواء. كيف هذا؟
    ما من صاحب بدعة إلاّ وهو تارك لبعض الدين وهو منكر لبعض الشرع جهلاً أو تأويلاً أو تكذيباً.
    وفي قوله سبحانه: "كافة" أدل دليل على إبطال مذهب اللادينيين، إبطال الفريا العظيمة التي جعلت الدين أجزاء، وعملت ببعض الشرائع وكفرت بالبعض. عملت بالعقيدة والعبادة كما يفهمون، وكفرت بالاقتصاد والسياسة.
    وفي قوله سبحانه: "ولا تتبعوا خطوات الشيطان" بعد قوله: "ادخلوا في السلم كافة" يعني أن مَن لم يدخل في الإسلام، فهو ولابد يتبع خطوات الشيطان.
    لما أمرهم أن يدخلوا في السلم حذرهم من اتباع الشيطان، كأنه يقول: إما الإسلام وإما طريق الشيطان، وليس ثمة خيار بين الطريقين " ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان".
    وقال تعالى: "خطوات الشيطان" ولم يقل الشيطان. لماذا ؟ ما فائدة ذكر الخطوات والتنصيص عليها؟
    ليُبيّن لنا سبحانه وهو الرؤوف الرحيم كيف يضلنا إبليس وجنده.
    إن للشيطان خططاً ومخططات فتزيينه ووسوسته كالخطوات واحدة تتلو الأخرى.
    وهي خطوات كذلك تندرج في الشر.
    وهي خطوات كذلك كل خطوة تتبع الأخرى.. كل معصية وإثم يورّث معصية وإثماً. وهي خطوات كذلك.
    ثم قال تعالى: " فإن زللتم".
    جاء التعبير هنا يناسب لفظ (خطوات) تمام المناسبة.
    الزلل: أصله الزلق. الذي يتبع خطوات الشيطان، الذي يتبع وسوسته يتضرر به ليحصل به الزلق.
    يشبه الذي يمشي على أثر غيره. يعني: يقع منه الزلل. كيف هذا؟
    طريق الرحمن طريق مستقيم، وطريق إبليس طريق منحرفة، الذي يتبع طريق إبليس يخرج عن الطريق المستقيم، يعني: يزل بخروجه إلى طريق الشيطان وإلى اتباع خطواته. قال بعض أهل البلاغة: إن ما يأمر به الشيطان بمنزلة الطريق المزلقة.
    وفي قوله سبحانه: "من بعد ما جاءتكم البينات" دليل على أن عقوبة العالم بالشيء أعظم من عقوبة غيره.
    وفي قوله سبحانه: "من بعد ما جاءتكم البينات" دليل على أن الحجة في مجيء الآيات لا في فهمها ومعرفتها. كيف هذا؟
    قال: "من بعد ما جاءتكم" ولم يقل: من بعد ما أيقنتم، يعني أن المعتبر هو حصول البيان لا حصول التبيين بها.
    ويتفرع عنه أن المكلف لا يُعذر بمجرد الجهل، الذي جاءته البينات والآيات لا يُعذر ولو لم يحصل منه العلم، يلحقه الوعيد كما يلحق العارف لأنه مفرط في طلب الحق.
    وفي قوله سبحانه: "فإن زللتم فاعلموا أن الله عزيز حكيم" تهديد بليغ، أبلغ من التصريح بالعقوبة.
    لو قال الوالد لولده: إن خالفت أمري فأنت تعرفني، تعرف بأني كذا وكذا. فهذا أبلغ.
    وقوله سبحانه "عزيز حكيم" تدليل مناسب للتهديد بالعقوبة، "عزيز حكيم" هنا تلويح بالعقوبة وتهديد بالكف عن المخالفة.
    روي أن أعرابياً سمع قارئاً قرأ هذه الآية وقال: فإن الله غفور حكيم، فأنكره - وهو لا يحفظ لفظ الآية – وقال: لا يقول الحكيم كذا، لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه.
    وفي قوله سبحانه:"حكيم" إيحاء أن ما أمر به لا يخرج عن مقتضى الحكمة، وأن شرع الله هو الخير المحض لا طرق الشيطان.
    وفي قوله سبحانه: "إنه لكم عدو مبين" تبيين وتنبيه لقوله: "خطوات الشيطان" يعني: إشارة إلى أن مَن لم يُدرك عداوته في مبدأ الخطوات، أدركه في العاقبة وفي الغايات، يعني: الشيطان عدو مبين لكم فلا تعتبروا به ولا تغتروا بخطواته، وهي خطوات لخفاء مكره لا لخفاء عداوته. ودّ العدو لو أهلك عدوه لأول وهلة، ولكن مقتضى الإضلال يقتضي التدرج والإمهال.

    الحلقة الثلاثون:
    [or=******text]قال الله سبحانه: [/or]"هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقُضي أمر الله وإلى الله تُرجع الأمور"[or=******text] هذا خطاب المكذبين، تهديد ووعيد، كقوله سبحانه: [/or][or=******text]"[/or][or=******text] وجاء ربك والملك صفاً صفاً وجيء يومئذ بجهنم".[/or]

    وقال: "الغمام" لماذا؟
    الغمام هو السحاب، أو هو السحاب الأبيض منه، والغمام عند اليأس مظنة الرحمة وهو رمز لحصول الخير، وتجد هذا في قصصهم وفي أشعارهم وفي صورهم. لو قيل لأحدهم: صوّر لنا منظر يستوحي منه الناظر معاني الرحمة. لما وجد شيئاً أحسن من تصويره لمنظر الغمام.
    أن الغمام هو مظنة للرحمة فإذا نزل منه العذاب كان أفظع، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يُحتسب فهو أهول، فكيف إن جاء من حيث يُحتسب أن يأتي منه الخير ! لا شك هذا أفظع وأهول.
    وفي قوله سبحانه: " وقُضي الأمر" إشارة إلى أن أحوال يوم القيامة إن جاءت فهي متتالية سريعة التتابع، كما جاء في وصف علامات الساعة الكبرى، يقع أمر الله تعالى ليس لقضائه دافع ولا لحُكمه مانع، سبحانه وتعالى ما أعظم شأنه.
    وقال تعالى: "زُيّن للذين كفروا الحياة الدنيا" ولم يقل: زُيّنت الحياة الدنيا. لفظ (زُيّنت) مؤنث والحياة مؤنثة. لماذا جاء اللفظ هنا (زين) المذكر ؟ ما هو الجواب ؟
    قيل: لأنه فصل بين لفظ (زُيّن) وبين لفظ (الحياة الدنيا) بقوله: " للذين كفروا" وإذا فُصل بين المؤنث وبين الاسم بفاصل، حسُن تذكير الفعل، لأن الفاصل يغني في هذا الحال عن تاء التأنيث.
    وفي قوله سبحانه: "زُيّن للذين كفروا" إشارة إلى الابتهاج بالدنيا هو من خصائص الذين كفروا، فلا ينبغي لنا أهل الإيمان أن نكون مثلهم.. وفيه أن هذه الدنيا هي آفة الخلق من الانقطاع عن الحق سبحانه.
    وفي قوله سبحانه: " زُيّن للذين كفروا الحياة الدنيا" إشارة إلى أن سبب الكفر هو تزيين الحياة الدنيا وشهواتها المحرمة وفي مثله قالوا: حب الدنيا رأس كل خطيئة. وفيه إشارة إلى أن الكفار وأن أعمالهم إنما هي لأجل الحياة الدنيا، وأنها لا لأجل القيم ولا المعاني السامية، ولا لأجل منطق ولا غيره من أغراض الخير، ولهذا يقول أهل الخبرة والحقائق: أن ما يستحسن من أخلاق الكفار إنما هي في الحقيقة أخلاق تجارية، تؤول في حقيقتها إلى مصالح دنيوية لا غير.
    وقال تعالى: "والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة" ولم يقل سبحانه: والذين آمنوا. لماذا؟
    قيل: لأجل أن بني إسرائيل هم يدعون الإيمان لأنفسهم، فجاء لهم لفظ لا يُمكن أن يدعوه.
    وقيل: آثر التعبير بالتقوى للإشعار بعلية الحكم.
    وفي قوله سبحانه: "يرزق مَن يشاء بغير حساب" الإيماء إلى أن مقدورات الله غير متناهية.
    وفي قوله سبحانه: "بغير حساب" إشارة إلى أن كل ما أعطاه فقد أعطاه بمحض الفضل والإحسان لا بسبب الاستحقاق، وهو تفضل وتكرم لا غير.
    وفي قوله سبحانه:"بغير حساب" إشارة إلى أن الرزق قد يكون له سبب ظاهر، وقد لا يكون له سبب، وأن الأمر في الحقيقة مرده كله إلى الله.
    وقال الله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مُبشرين ومُنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه إلاّ الذين أُتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".
    وفي قوله سبحانه: "فبعث الله" إشارة إلى كلام محذوف مقدر، يعني: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، فبعث الله النبيين.
    كيف فُهم؟ هذا ومن أين؟
    الفاء في قوله: "فبعث" تقتضي ذلك، تقتضي أن يكون بعثهم بعد الاختلاف. لو كانوا قبل ذلك أمة واحدة – كما يدل عليه اللفظ من غير تقدير لكان بعثة الرسل قبل هذا الاختلاف أولى وأحق؛ لأنهم لما بعثوا عندما كان بعضهم محقاً وبعضهم مبطلاً، فلأنْ يُبعثوا حين ما كانوا كلهم مبطلين مصرين على الكفر كان أولى.
    ويؤيده قوله تعالى: "وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" هو تأييد وتأكيد إلى وقوع الاختلاف قبل البعث.
    وفي قوله سبحانه: "ليحكم" التنصيص على علة إنزال الكتاب، أي أن الله تعالى أنزل الكتاب من أجل أن يحكم بين الناس، لم ينزل الكتاب ليُركن ويُعلق أو تُغطى به الجدر أو حتى ليُعتنى به ويُرتل فقط.
    نصت الآية على أن الكتاب أُنزل ليحكم.
    أسند الضمير في "ليحكم" إلى الكتاب. لماذا ؟ ليدل على أن الحاكم على الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى.
    وفي قوله سبحانه: "ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" إشارة بليغة إلى أن وحدة الأمة لا تكون إلاّ عن طريق إثبات الحق، ويُقدم حكم الكتاب على كل حكم.
    وفي قوله سبحانه: "ليحكم بين الناس" الرد على كل مَن أخر حكم الكتاب.
    وفي قوله سبحانه: "معهم" إيذان بالمصاحبة على جهة التأييد والنصر.
    هي أن الكتاب يحصل به النصرة والتأييد كما في قوله تعالى لموسى وهارون: "إنني معكما أسمع وأرى" وقال هنا: "أنزل معهم الكتاب".
    وقال تعالى: "فهدى الله" ولم يقل: ثم هدى الله. قيل: لأن للإيذان سرعة اهتداء المؤمنين في مواطن الاختلاف، وفيه التنبيه إلى عظم تدارك رحمة الله بهم.
    وقال سبحانه: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق" ولم يقل: فهدى الله الذين آمنوا إلى الحق فيما اختلفوا فيه، بمعنى: لماذا قدم لفظ الاختلاف ؟
    قال أهل التفسير: قدم لفظ الاختلاف على لفظ الحق للاهتمام به، إذ القضية المعتنى بها هنا هي قصة الاختلاف، كما في قوله سبحانه: "لم يكن له كفواً أحد" قدم كفء على أحد بنفي الكفء والمثيل والنظير عن الله.
    وقال سبحانه: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا، حتى يقولَ الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب".
    قال تعالى: "ولمّا يأتكم" ولم يقل: ولم يأتكم؟!
    قال كثير من المفسرين: (لمّا) هي مثل (لم) للنفي و (ما) زائدة!
    هل هذا صحيح ؟ الجواب: لا. ليس في القرآن حرف زائد، ولله في كتابه وألفاظ القرآن مقاصد.
    (ما) ليست زائدة؛ (لمّا) تقع في مواضع لا تقع فيها (لم).
    (لمّا) لما على التوقع، إذا قال القائل: لم يأتني زيد. فهو نفي لقولك: أتاك زيد؟
    وإذا قال: (لمّا) يأتيني. فمعناه: لم يأتِ بعد وأنا أتوقعه.
    وقال تعالى: "لمّا يأتكم مَثَل الذين خلوا" ولم يقل سبحانه: مِثْل.
    قال أهل البيان: إن لفظ (المَثل) فيه معنى المثلية، ولكن زيادة معنى الروعة والتعجب.
    وقال سبحانه: "مستهم الضراء" لفظ (مستهم) تدل على تحقق وقوع الضر وبلوغه كل مبلغ.
    وقال: "وزلزلوا" وفيه إيحاء بحقيقة الزلزلة، أعني: أن لفظ (زلزلوا) يوحي لنا عند نطقه بصورة الزلزلة وواقعية معناها.. وهذا من خصائص هذه اللغة ومن عجائب القرآن.
    "زلزلوا" يُشير إلى معنى الزلزلة، وهو الوقوع المتكرر المتخالف. لفظ (الزلزلة) يعني: تحرك الجسم من مكانه بشدة والتضعيف فيه (زل زل) يدل على تكرار الفعل، يعني: تكرار الوقوع.
    مثل لفظ(كُبكِبوا) يوحي هذا اللفظ بحقيقة معناه، نطقه يصور لنا واقعية المعنى وكيفية وقوع الحدث.
    ونختم هذا الحديث بجملة مناسبة للعالم ابن المنيّر - رحمه الله – يقول: فتنبه لهذا السر فإنه بديع، لا تجده يراعى إلاّ في الكتاب العزيز؛ لاشتماله على أسرار البلاغة، ونكت الفصاحة، ولا يُستفاد منه إلاّ بالتنقيب في صياغة البيان، وعلم اللسان.

    والله تعالى أعلم


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •