لطائف من القرآن الكريم [1/3]
د. صالح بن أحمد الغزالي
كيف دلت الآية على نوعي التوحيد؟
قوله تعالى: "الحمد لله" هذه دلتنا على توحيد العبادة وتوحيد الألوهية، وهذه الدلالة من وجهين ومن طريقين: الأول: أنها أثبتت صفات الإله لله وحده بقوله تعالى: "لله"، فهذا اللفظ يدل على إثبات الألوهية له سبحانه، وإبطال ألوهية ما سواه، والألوهية تتضمن أول ما تتضمن: استحقاق العبادة له وحده دون سواه.
الطريق الآخر نستفيده من لفظ "الحمد لله"، يعني: أن الحمد الخالص الذي هو عبادة وقُربة، وهو الحمد المطلق، لا يكون إلا لله تعالى، يعني: أن صرف العبادة لا يكون إلا لله، فإن الفرد يدل على الجنس، لأنه إذا كان الحمد لا يكون إلا لله، فكذلك الدعاء والاستغاثة وبقية العبادات.
وأما قوله سبحانه: "رب العالمين"، فهذا فيه إثبات للتوحيد الخبري، المبني على الاعتقاد، وفيه الوصف له سبحانه بالربوبية التي تشمل صفات الخلق والرزق والتدبير وغيرها.
وعند التفصيل نقول: "رب العالمين" دلنا على توحيد الربوبية، ولفظ "الرحمن الرحيم" دلنا على توحيد الأسماء والصفات، "والحمد لله" دلنا على توحيد العبادة كما تقدم، وبهذا يحصل التنبيه على أنواع التوحيد الثلاثة في هذه الآية العظيمة.
ومن الاعتبار بذلك، أن يعي المسلم حقيقة التوحيد، وأن يستشعر أهميته وعظمته، ويُقدمه في جميع أحواله، كما قدمه الله تعالى بالذكر في ابتداء كتابه وبنى عليه دينه.
ويتأكد هذا المعنى بالنسبة إلى الداعية إلى دين الإسلام، فإنه يدعو إلى دين الله تعالى مُقتفياً هدى كتاب الله تعالى، وهاهو كتاب الله قد ابتدأ دعوته للخلق بذكر التوحيد والتنويه بشأنه وتثبيته في القلوب وذلك في أول سوره وأول آياته.
اللهم وفقنا للعمل بكتابك، واقتفاء سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
الحلقة السابعة:
الكلام في هذه الحلقة عن الآية الثانية، قوله سبحانه: "الرحمن الرحيم".
لفظ هذه الآية الكريمة هي جزء من البسملة، وقد سبق الحديث عنها بشيء من التفصيل فلمَ الإعادة؟
هذا وقد جرت عادة المُصنفين وعادة المُفسرين أن يقولوا في مثل هذا المقام: قد سبق تفسير قوله تعالى: "الرحمن الرحيم" عند تفسير البسملة، أو يقولون: قد تقدم الكلام على معاني هذه الآية بما يُغني عن التكرار وعن الإعادة.
ونحن إن أردنا التحقيق وأردنا التدقيق، وإن أردنا كمال النظر قي كلام الله ومقام التدبر، فإننا نجزم أن إعادة الألفاظ - لا سيما في كلام الله - لا يُغني بعضها عن بعض، وليس هو من باب مُجرد التكرار أو لا يحسن أن يُعاد ولا يفيد.
إن الكلمة الواحدة في القرآن تكون في عدة مواضع، ويكون في كل موضع منها دلالات وإشارات ومعاني ليست في غيرها من المواضع، وهذا شيء طبعي وأمر منطقي ! لماذا؟
لأن الكلمة مُجردة لها دلالة، وإن أُضيفت فلها دلالة أُخرى، وإن جاءت في سياقٍ زادت دلالتها ومضمونها بحسب السياق والسباق لها. أيضاً لو نظرنا إلى قائل هذه الكلمة سنفهم دلالةً غير التي نفهمها من كلام غيره والقرآن كلام وهو القائل له سبحانه.
نقرأ قول الله سبحانه: "الرحمن الرحيم".
ِنتدبر الآية الكريمة:
على أي شيء يدل الاسمان الكريمان؟ ما المُناسبة بين هذه الآية والتي قبلها؟
"الرحمن الرحيم" اسمان لله يدلان على صفة الرحمة له تعالى، هذه الصفة لله تعالى صفة عظيمة جداً، ومن عظمها أنها عمت الخلق ووسعت كل شيء، وأنها عمت الدنيا والآخرة، بل إنها غلبت بعض صفات الله الأخرى وسبقتها كما يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ورحمتي سبقت غضبي، وقد قرنها الله بصفة العلم له سبحانه، وهي الصفة التي لا يحدها شيء. قال سبحانه في مُحكم التنزيل: "وسعت كل شيء رحمة وعلماً". [غافر: 7] .
جاء السياق القرآني هنا ليدلنا على عظم هذه الصفة، هذا السياق يُبين شمول هذه الصفة ويُبين قوّتها، وأسبقيتها لغيرها، فقال تعالى: "الرحمن الرحيم". كيف هذا؟
أولاً: أن الله تعالى عندما ذكر قوله: "رب العالمين" عقب عليه بقوله: "الرحمن الرحيم".
قال بعض العلماء: هذا التعقيب فيه تحديد، وفيه لفت للأنظار وفيه ترغيب للقلوب.
فيه بيان أن ربوبية الله للعباد ربوبية رحمة وربوبية عطف وإنعام وربوبية إحسان. فكأنه يقول: أنا ربكم جميعاً، أنا المُتصرف في أحوالكم و تصرفي لكم مبني على الرحمة وعلى الإحسان وعلى العطف.
أيضاً: اللفظ الدال على الربوبية لفظ واحد وصفة واحدة (رب)، ولكن اللفظ الذي يدل على الرحمة لفظان (الرحمن) و (الرحيم)، فهذه الزيادة لا شك تدل على معنى، تدل على الغلبة وعلى السبق، قال بعض المُفسرين: الحكمة من تكرير الرحمة كأنه قيل: اذكر أني إله رب مرة، واذكر أني رحمن رحيم مرتين، ليُعلم أن العناية بالرحمة أكثر من سواها.
وأمر ثالث: قرن الله بين اسم الرحمن واسم الرحيم لِيكتمل معنى الرحمة في حقه سبحانه، ولِيدل كل من اللفظين على ما لا يدل عليه الآخر، ليدلان على عموم الرحمة وشمولها وعلى قوتها وأسبقيتها.
أن لفظ (الرحمن) كلفظ شبعان في الوزن، وما كان كذلك فهو يدل على الامتلاء في الصفة، وعلى السعة والزيادة.
ولفظ (الرحيم) أخص في المعنى على الرحمة، لكنه يدل على الفعل وعلى إيصال الرحمة للخلق.
إذاً فبهذا اللفظ وبذاك يكتمل المعنى العظيم من الرحمة، ويدل على كمال الرحمة في ذات الله تعالى، ويدل على كمال الرحمة في فعله وإيصالها للمخلوقين.
وهاهنا لطيفة. لماذا قدم لفظ (الرحمن) على لفظ (الرحيم)؟
قالوا: لأن لفظ (الرحمن) في الدلالة على ذات الله تعالى، فالرحمن لا يُسمى به غير الله بحال من الأحوال، والرحيم قد يُسمى به الله ويُسمى به غيره، ومن قواعد اللغة: أن ما دل على الاتصاف الذاتي فهو أولى بالتقديم.
ننتقل إلى ذكر المُناسبة:
ما المُناسبة بين (الحمد) وبين (الرحمن الرحيم)؟
الحمد هو الثناء بالقول الجميل، وهذا الثناء له سببان: أما الاتصاف بعظيم الصفات، وأما الإحسان إلى الغير، ودل على المعنى الأول لفظ الجلالة (الله)، ودل على المعنى الثاني لفظ (رب العالمين) ولفظ (الرحمن الرحيم)، ولهذا جاء سياق الآيات مُتسقاً ورُبط الحمد بهذه المعاني.
قال سبحانه: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم" يعني: الحمد لمن كانت هذه صفاته ولمن كانت هذه أفعاله، فالكلام في قوة: الحمد لله ؛ لأنه الإله. والحمد لله؛ لأنه رب العالمين. والحمد لله ؛ لأنه الرحمن. والحمد لله؛ لأنه الرحيم.
ومن المقرر بلا جدال أن الله موصوف بالحمد على جميع أفعاله وجميع صفاته، وهو الذي لا يُحمد على مكروه سواه، وإن كان شيئاً من الصفات يستوجب الحمد فإن الرحمة من أعظم ما يستوجب الشكر والثناء، لماذا؟
لأن الحمد سببه الرئيس هو الإحسان، والإحسان سببه الرئيس هو الرحمة، ولهذا جاء في الحديث (أن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تُصيبه). أي من الرحمة.
وفي الحديث الآخر: أن امرأة وجدت صبياً في السبي، فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها. وفي السياق أيضاً قوله تعالى: "رب العالمين، الرحمن الرحيم" فما المُناسبة بينهما؟ وما الفوائد المُترتبة على ذكر (الرحمن الرحيم) بعد (رب العالمين)؟
قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: وصف نفسه تعالى بعد (رب العالمين) بأنه (الرحمن الرحيم)؛ لأنه لما كان في اتصافه بـ (رب العالمين) ترهيب، قرنه بـ (الرحمن الرحيم) لما تضمنه من الترغيب، لِيجمع في صفاته بين الرهبة منه والترغيب إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع، كما قال تعالى: "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم" وقال: "غافرِ الذنب وقابلِ التوب شديدِ العقاب ذي الطول".
نختم الحديث عن "الرحمن الرحيم" بالتنبيه على أعظم ما دلت عليه وبيان المقصد الأول لها على أي شيء؟ دلت على إثبات صفة الرحمة لله تعالى، هذه الصفة العظيمة يجب أن نؤمن بها على الحقيقة ومن غير تشبيه لها بصفات المخلوقين، ومن غير تحريف أو تعطيل عن معناها الحقيقي، وهذه قاعدة جليلة تجري على جميع آيات الصفات.
من الخطأ الكبير أن نُنكر هذه الصفة أو نفهمها كما نفهم الصفات التي يتصف بها المخلوقون، فبذلك نحدث بالتشبيه بين الخالق والمخلوق، هذا التشبيه لا يُقره عقل ولا دين.
ولهذا التشبيه تجد بعض الناس يعترض على أقدار الله، ويستنكر بعض أفعاله سبحانه، ويظن أنها خالية من الرحمة.
بعض الناس إن قُلتَ له: إن فلاناً قدر الله له بكذا من مرض أو حادث، تجده يبادرك بالكلام: فلان والله مسكين، فلان والله ما يستاهل ما أصابه.
وبعض الناس يتساءل مُنكراً على الله تعالى – عياذاً بالله – لماذا لم يحصل كذا وكذا؟ لماذا لا يُعطي الله المسلمين كما يعطي الكافرين؟
وهذا كله والله من الشيطان، وكله من الجهل، وأساسه تشبيه صفة الخالق بالمخلوق، ورحمة الله برحمة البشر، وسببه عدم التسليم له سبحانه.
اللهم ارحمنا برحمتك، وجنبنا الزلل وألهمنا الرشد ووفقنا إلى كل خير.
يتبع