الرد اللطيف على التعقيب والتوصيف
هذا رد لطيف على ما تفضل به الأخ الفاضل عبد الكريم بن عبد الرحمن وفقه الله للخير وسلمه من كل سوء عند تعقيبه على ما ذكرته وأنا العبد الفقير إلى مولاه في مقال " إتحاف السالك .." فيما يخص قولي برجحان صلاة تحية المسجد والإمام يخطب خطبة الجمعة وفق قواعد وأصول مذهب مالك رحمه الله ، وتوصيفه لهذا الأخير بالشذوذ فأقول وبالله التوفيق ومنه العون والتحقيق :
أولا: المسألة في إطار المذهب المالكي وأصوله فيما أرى من الاختلاف السائغ إن شاء الله، بحيث تسع لها الصدور وإن كان لا بأس بتقرير ما نراه صوابا فيها على السطور.
ثانيا : أقول أخي عبد الكريم بن عبد الرحمن: وصفي لما ذهبت إليه بأنه ضعيف أو وسمك لما سطرته بأنه كذلك أمر عادي في مثل هذه الاختلافات كما لا يخفى عليكم إن شاء الله فما منا إلا راد ومردود عليه .
ثالثا : يشهد الله أنني عند تحرير المسألة انتبهت إلى مراعاة الترجيح وفق قواعد المذهب وأدلتهم، بغض النظر عن الصواب والخطأ عند تخريج المسألة عن تلكم القواعد والأدلة ولذا نبهت بخصوصه في تلكم الإحالة 1 على رسالة " تبين المدارك .." لعبد الحي بن محمد بن الصديق رحمه الله حيث أقام رسالته وترجيحه لمشروعية صلاة تحية المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب وفق قواعد وأصول المالكية .
فتصور الراجح في المسألة وفق المذهب المالكي كان متحققا عندي بحمد الله تعالى بغض النظر كما قلت على الخطأ والصواب ، وكون هذه النقطة أخي عبد الكريم لاحت لك عند قراءة المقال مما يدل على جودة نظرك كذا نحسبك ولا نزكي على الله أحدا، هذا بغض النظر عن ضعفه في هذه المسألة فيما أرى والعلم عند الله.
رابعا: كما قلت لك أخي الكريم عبد الكريم أنني ملت إلى ترجيح مشروعية صلاة تحية المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب وفق أصول وقواعد المالكية وبسط ذلك وتفصيله في رسالة :" تبين المدارك لرجحان سنية تحية المسجد وقت خطبة الجمعة في مذهب مالك " ، فحبذا أن تطلع عليها غير مأمور 2 فهي موجودة وللتحميل كذلك على موقع شذرات شنقيطية في المنتدى ركن الفقه والأصول، هذا مع أنني لا أوافق المؤلف على شدته في الكلام على المالكية لهذة المسألة الفقهية والله المستعان.
وقد أحال على هذه الرسالة الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان حفظه المولى عند تحقيقه لكتاب الإشراف على نكت ومسائل الخلاف للإمام القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله وقد ارتضى الشيخ مشهور ما ذهب إليه عبد الحي بن محمد بن الصديق حيث قال :" ..وقال به ( أي : جواز صلاة تحية المسجد وقت خطبة الجمعة ) من أئمة المذهب أبو القاسم السيوري، ونصره عبد الحي بن محمد بن الصديق الغماري في رسالة مطبوعة بعنوان ( تبين المدارك لرجحان سنية تحية المسجد وقت خطبة الجمعة في مذهب مالك ) واعتنى بالأدلة النقلية على الجواز، وهي ظاهرة وصحيحة وصريحة ، والله الموفق " تحقيق الإشراف 2/ 11 – حاشية.
كما أحال على الرسالة نفسها واعتمد عليها الشيخ المشارك بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي وأستاذ الفقه وأصوله قطب الريسوني عند تقريره لكون مشروعية صلاة تحية المسجد وخطيب الجمعة يخطب هو القول الراجح في المذهب المالكي مقابل القول المشهور انظر كتابه :" التعارض بين الراجح والمشهور في المذهب المالكي دراسة تأصيلية تطبيقية " ص : 83 فما بعدها.
خامسا : لا يخفى أنه من أصول المالكية التمسك بنص السنة ومن ذلك حديث جابر المعروف عند أهل العلم بحديث سليك الغطفاني رضي الله عنه إلا أن المالكية على عدم الأخذ به وتأوليه ببعض التأويلات لمعارضته عندهم لغيره ، إلا أن بعض هذه التأويلات للحديث محل نظر عند بعض محققي المالكية كالإمام القرطبي المالكي رحمه الله، حيث قال :" وقد تأول أصحابنا حديث جابر تأويلات في بعضها بعد " المفهم 2/514، وانظر شرح التلقين للمازري المالكي رحمه الله 3/ 1009 فما بعدها.
وأولى ما اعتمد عليه لعدم الأخذ بهذا الحديث المعارضة بعمل أهل المدينة الذي هو أصل من أصول المالكية كما نص عليه الإمام القرطبي وابن رشد رحمة الله عليهما مما يؤكد أن عموم ما عورض به الحديث عندهما باستثناء أصل عمل أهل المدينة مرجوح فتأمل.
قال الإمام القرطبي رحمه الله :" وأولى معتمد المالكية في ترك العمل به أنه خبر واحد عارضه عمل أهل المدينة " المفهم 2/514.
وقال الإمام ابن رشد رحمه الله :" ..لكن يشبه أن يكون الذي راعاه مالك في هذا هو العمل " بداية المجتهد 1/301.
لكن مما هو معلوم أن عمل أهل المدينة على قسمين :
قسم طريقه النقل أي : التواتر والاستفاضة.
قسم طريقه الاجتهاد .
أما الطريق الأول فهو حجة بلا خلاف عندهم ويقدم على خبر الواحد.
أما الثاني فمحل خلاف بين المالكية أنفسهم على ثلاثة أقوال:
أ. أنه ليس بحجة ولا بمرجح.
ب. أنه مرجح وإن لم يكن حجة بنفسه.
ت. أنه حجة ولكن يجوز خلافه.
وما استدلوا به من عمل أهل المدينة على القول بالمنع من صلاة تحية المسجد وخطيب الجمعة يخطب من القسم الثاني لا من القسم الأول، والاحتجاج به كما ذكرنا عند المالكية محل خلاف، وعليه فعدم الأخذ به في هذه المسألة لا يخرجنا عن تأصيلات المالكية.
وتمت إضافات أخرى بخصوص عمل أهل المدينة في هذه المسألة انظرها غير مأمور في " تبين المدارك...".
سادسا : علق الإمام ابن رشد المالكي رحمه الله العمل بما جاء في حديث جابر رضي الله عنه بصحة زيادة :" إذا جاء أحدكم " ، قال رحمه الله:" فإن صحت الزيادة وجب العمل بها فإنها نص في موضع الخلاف والنص لا يجب أن يعارض بالقياس " بداية المجتهد 1/ 301.
ولا يخفى أن هذه الزيادة صحيحة فهي عند البخاري ومسلم .
وقال ابن أبي جمرة الأندلسي المالكي رحمه الله في بهجة النفوس الجزء 2 ص: 58:" وقد خرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال:( من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين) . فإن صح هذا فهو نص في الباب لا يحتمل التأويل ).." ، والحديث كما سطره هو نفسه رحمه الله عند الإمام مسلم في صحيحه 3.
سابعا : ذكرت أخي الحبيب في تعقيبك أن العبرة بالدليل وقد صدقت حفظك الله وأعي أنك تقصد الدليل وفق قواعد وأصول المالكية في خصوص هذه المسألة ، وعليه فعدم اعتبار ما ملنا إلى ترجيحه صوابا ورده بكون محققي المذهب لم يقولوا به محل نظر كبير في هذا السياق لأنه كما لا يخفى عليكم قد نخالف مذهب الجماهير أخدا بما نراه دليلا وكذا قد نخالف جمهور علماء مذهب من المذاهب أخدا بما نراه دليلا وفق قواعد ذلك المذهب فضلا على مخالفة المحققين فيه مع علمنا أنه غالبا ما يكون الصواب مع الجماهير والحق مع المحققين فتأمل فإني أراك بالعلم تتجمل وفقنا الله وإياك.
ثامنا : اعتبار ما ملنا إليه في هذه المسألة هو الراجح قد أخد به من المالكية أبو القاسم السيوري رحمه الله 4 كما نص عليه المالكية في كتبهم، ففي الفواكه الدواني 3/199:" وعليه السيوري من علمائنا "، وفي شرح مختصر خليل للخرشي 3/83 :" ..مع أن السيوري يقول الركوع للداخل وقت خطبة الجمعة أولى "، وفي حاشية الدسوقي 4/1:" ..لأن السيوري جوزه للداخل حال خروج الإمام للخطبة وهو من أهل المذهب " ..في آخرين، والسيوري رحمه الله من المبرزين النظار في المذهب المالكي.
قال القاضي عياض رحمه الله في ترجمته :"واسمه عبد الخالق بن عبد الوارث قيرواني آخر تبعاته من علماء إفريقية، وخاتمة أئمة القيروان. وذوي الشأن البديع في الحفظ والقيام بالمذهب والمعرفة بخلاف العلماء. وكان زاهداً فاضلاً ديناً نظاراً. وكان آية في الدرس والصبر عليه. ذكر أنه كان يحفظ دواوين المذهب الحفظ الجيد، ويحفظ غيرها من أمهات كتب الخلاف. حتى أنه كان يذكر له القول لبعض العلماء، فيقول: أين وقع هذا. ليس في كتاب كذا، ولا كتاب كذا. ويعدد أكثر الدواوين المستعملة من كتب المذهب والمخالفين والجامعين. فكان في ذلك آية وكان نظّاراً. ويقال إنه مال أخيراً إلى مذهب الشافعي، وله تعليق على نكت من المدونة أخذه عنه أصحابه " ترتيب المدارك 2/60.
تاسعا: القول بمشروعية صلاة تحية المسجد عند خطبة الإمام يوم الجمعة ليس ببعيد عن قول الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله وهو من المحققين حيث يقول بالتخيير بين صلاتها وعدم ذلك ، ففي بحثنا لم نقصد كما لا يغيب عنك القول بالوجوب فهذا بحث آخر، وإنما الغرض تقرير الاستحباب لا غير ، أما المشهور في المذهب فالقول بالمنع.
عاشرا: رد ما قلناه بأنه لم يقرره أهل التحقيق في المذهب محل نظر إذا تصورنا أن كثيرا من محققي المالكية كالمازري والشاطبي عليهما رحمة الله يأخذون بالمشهور مع ظهور الراجح في المسألة عندهم لاعتبارات خاصة معلومة عند أهل الشأن فتأمل.
الحادي عشر: وصفك أخي الكريم القول بمشروعية صلاة تحية المسجد والإمام يخطب بالشذوذ مقبول إذا ظهر لك ذلك وفق قواعد وأصول المالكية ، لكن على غرار ما ذكرت من تضعيف ما قلناه بأنه لم يقله أهل التحقيق في المذهب يحق أن أقول لك مقابلة أخي المكرم : من حكم من محققي المالكية بشذوذ ما ذهبنا إليه ، ولا أراك تظن أن وصفهم القول بالمنع بالشهرة أن يكون مقابله شاذا لأمور:
أولهما : ما مر ذكره من أن بعض محققي المذهب يأخذون بالمشهور مع ظهور الراجح عندهم في تلك المسألة.
ثانيا : ليس المراد بالشذوذ عند المالكية القول الذي أخذ به القلة وإنما المراد ما ضعفت أدلته عندهم مع قلة من أخذ به فتأمل، أما الوصف بالشذوذ لمجرد أخذ القلة به فهو غير صحيح و إلا حملنا ذلك على وصف الراجح بالشذوذ ذلك لأن تعريف الراجح عند المالكية هو :"ما قوي دليله، وقيل ما كثر قائله، والصواب هو القول الذي يستند إلى دليل قوي ، وإن كان عدد القائلين به قليلا" . انظر مواهب الجليل للحطاب المالكي 1/36.
ثالثا : عند حكم المالكية على القول بأنه مشهور المذهب وفق ما ذهب إليه جماهيرهم لا يعني أن خلافه يحكم عليه بالشذوذ ذلكم لأنه قد يكون خلاف هذا المشهور مساويا .
قال الهلالي المالكي رحمه الله:" ما به الفتوى هو ما ليس بشاذ ولا ضعيف من أقوال أهل المذهب، فيصدق بالمتفق عليه والمشهور والراجح والمساوي " نور البصر 147.
هذا خلاصة ما عندي في هذه المسألة والعلم عند الله 5 ، وهي على ما أظن في إطار المذهب المالكي فحسب كما قلت أعلاه من الأمور الاجتهادية.
ولا أخفيك أخي الكريم عبد الكريم بن عبد الرحمن أنني سعدت بتعقيبك لأن مثله مما يثري المادة العلمية فنسأل الله لي ولك ولأخي الحبيب عادل التوفيق والسداد .
.........................
1. لم يكن قصدي من هذه الإحالة الرد وإنما إخبار أخي عادل وفقه الله أنني سأوضح موقفي تجاه تعقيبك بشيء من التفصيل كما هو واضح.
2. فائدة : قال العلامة عطية سالم رحمه الله:" إذا تحرى الدارس في النقل وصور الخلاف في المسألة لا ينبغي له المبادرة بالإنكار لأي قول في المسألة، مهما عظم في نظره، أو استنكره لأول وهلة، حتى يقف على وجهة نظر قائله فيه، وعلام بناه، و إلا فقد يكون هو الأولى بالإنكار عليه في هذا الإنكار " موقف الأمة من اختلاف الأئمة 78.
3. والحديث عند الإمام مسلم رحمه الله يختلف اختلافا قليلا غير مؤثر في المعنى عن اللفظ الذي ذكره ابن أبي جمرة رحمه الله ولعل مسلما رحمه الله ذكر ه في موضع آخر لم أقف عليه والله أعلم.
4. فائدة : في طرح التثريب شرح التقريب 4/74 عند ذكر حديث سليك رضي الله عنه :" فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِلدَّاخِلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَكْحُولٍ وَسُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَالْمُقْرِئِ يَعْنِي أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحُمَيْدِيّ ِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو الْقَاسِمِ السُّيُورِيِّ عَنْ مَالِكٍ وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ".
5. وقد كنت قريبا في سفرة علمية إلى مدينة تطوان وطنجة قصد مجالسة بعض الأفاضل من شيوخ العلم فيسر الله لي مع ثلة من الأصحاب مجالسة الشيخ الجليل محمد الجردي حفظه الله بمدينة طنجة في بيت الشيخ حمامو حفظه الله ، وكذا مجالسة الشيخ الجليل أبي أويس محمد بوخبزة حفظه الله في بيته بمدينة تطوان وطرحت عليهما من جملة ما طرحت مسألة رجحان صلاة تحية المسجد يوم الجمعة والخطيب يخطب وفق قواعد المالكية فوافقاني على ذلك والحمد لله رب العالمين.
أبو أويس الإدريسي عامله الله بلطفه الخفي وكرمه الوفي.