بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..

الحج و قطرات الدم ، لماذا ... .؟

الحياة عبارة عن محطات يتزود الإنسان منها ليكمل المسير ، ولكل منا دورة حياة لها بداية ولها نهاية محددة ، ثم يكافأ ويثاب على كل عمل خير قدمه ، ويعاقب على كل سوء فعله وقدمه .

لذلك جعلت الفرصة متاحة ومبذولة للجميع ، بغض النظر عن أي اعتبار آخر، ولا يلزم لكي تكون في المقدمة أن تحصل على شهادات معينة ، أو تكون من أسرة معينة ، أو تملك أموالاً طائلة ، كل هذا ليس له اعتبار عند المناقشة والمسابقة والحصول على الدرجات ، فالاعتبار لما يقدم أثناء الفرصة المتاحة لك في مشوار الحياة ، وكيف تغتنم هذه الفرص بشكل ذكي ؛ لتزيد من رصيدك الثوابي ، فهناك أوقات ومحطات تمر بنا في حياتنا يكون العمل المقدم فيها مضاعف ، وهذه فرص يمنحها الله لعباده ، وهي متاحة للجميع .

ونحن الآن في أجواء إحدى هذه الفرص ، وهو موسم الحج ، فمن يستغل هذه الأوقات يحصل على أعلى الدرجات ، بل قد يحصل على محو كل الذنوب والآثام التي ارتكبها ، إذا هو أتى بالحج على ما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » ، « من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » .

و سأقف مع عملين فقط في هذه المناسبة ، وفيهما فرص متاحة عظيمة لمن استغلهما ، مع بيان بعض الأسرار في أعماقها .

الحج ، لو نتأمل فريضة الحج لم تفرض بهذه الكيفية إلا في السنة التاسعة من هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ، وحج هو في السنة العاشرة ، وقال في حجته : « خذوا عني مناسككم ... » الحديث .

تعالوا نتأمل أركان الإسلام الخمسة ؛ نجد لكل ركن كيفية في التأدية يختص بها .

الركن الأول : الشهادتان ، يكفي فيهما الاعتقاد والتلفظ فقط ، ثم تكون ضمن الدائرة الإسلامية .

الركن الثاني : الصلاة ، تؤدى عبر الجوارح ، اليدين ، الرجلين ، الوجه ، مع ما فيها من الأذكار والتلاوة داخلها .

الركن الثالث : الزكاة ، عبادة مالية ، أي : أن المسلم يدفع من ماله لمن يستحقه من المحتاجين ، بتنظيم فريد وتوزيع منطقي عادل .

الركن الرابع : الصوم ، والصوم هو امتناع عن تناول مباحات في وقت محدد ، والصوم نوعان : صوم حسي ، وصوم معنوي .

الركن الخامس : وهو الحج ، الحج بأعماله وأقواله يجمع هذه الأركان ، أي : أن كل أعمال أركان الإسلام تجتمع في الحج .

الشهادتان : بوابة الدخول في الحج ، هو الإحرام ، ولا بد في الإحرام من التلبية : "لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك" ، لا حظ التوحيد هنا ، هو نفسه بوابة الدخول في الإسلام ، فلا يمكن أن تكون ضمن دائرة الإسلام إلا بالتلفظ بالشهادتين .

الصلاة : لابد أن يؤدي الحاج فعل الصلاة كأحد أعمال الحج : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) .

الزكاة : وهي العبادة المالية ، تعتبر من الأهمية بمكان في فريضة الحج ، كيف لا ومن لم يجد المال يعتبر غير مستطيع ، فيسقط عنه الحج حتى يجد المال .

الصوم : وهو الامتناع ، وقلنا إن الصوم صوم حسي وصوم معنوي ، الصوم الحسي الامتناع عن المباحات من الآكل والشرب وممارسة الملذات ، كالزواج والجماع ، والصوم المعنوي ، كقول الزور والعمل به أو قول الغبية والنميمة والسباب والشتائم وما في بابها ، كل ذلك ورد النهي عنه في سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- .

وفي الحج ورد النهي الصريح في القرآن عن هذا : قال الله تعالى : ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) ؛ لاحظ الصوم الحسي والمعنوي ، وهناك صوم تعويضي ، لمن حج متمتعاً ولم يجد الهدي ، يعوض هذا بالصوم ، يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، بنص القرآن .

هذه العظمة لهذه الفريضة جعلت لها مزية خاصة ، ومجالاً عظيماً للتعويض لمن قصر خلال العام ، حيث فيه يوم عرفة ؛ فضّله الله على سائر أيام العام ، وفيه خاصية للحاج أن الله يشهد ملائكته وهم في المشهد العظيم وقبل لحظات من انصرافهم ، حيث يقول الملك الديان الرحيم الرحمن ، مخاطباً ملائكته : « أشهدكم أني قد غفرت لهم » ، فيقول لأهل المشهد : « انصرفوا مغفوراً لكم » ، فكم من العثرات تقال ، وكم من الزلات تغفر ، وكم من مسيء تعمه بركات المحسنين ، فيا له من مشهد عظيم ، ويالها من فرص قد لا تمر مرة أخرى !

هذه الفضائل لمن لبس ثياب الإحرام ولبى ، ولكن ما هي الفرص الأخرى المتاحة لغير الملبين ؟

هناك عبادة أخرى أشد خطورة ، وهي الأضحية ، والتي تمر علينا كل عام ، وكثيرٌ منا يؤديها دون أن يتمعن في أسرارها وحكمها ، فتأمل شيئاً من هذه الأسرار..

قطرات دم تراق على الأرض ثمنها أغلى من الذهب والفضة ، فلماذا ؟

قال الله تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) ، لاحظ : يناله التقوى منكم ، إذاً قد تمارس التقوى بعفوية دون أن تشعر بها ، لأن خطواتك الدافعة لك لإنجاز هذه المهمة دافعها شيء خفي في نفسك ، وتأمل أنك تدفع أعلى قيمة ، وتنتقي أكمل ذبيحة ، وعندما تظفر بها تجد شعوراً خفياً ينساب إلى نفسك يشعرك بالطمأنينة ، لماذا ؟ لأنك حققت الاستجابة بفعل هذه العبادة الغريبة ، وهي إراقة الدم ، تقربا لله ، الله أكبر.

فكيف يكون هذا التقرب في هذه الإراقة ..؟

تأمل :

عندما تضجع الأضحية على جنبها الأيسر ، كم المسافة بين رقبتها والأرض ..؟ أظنها لا تتعدى سنتيمترات قليلة جداً ، ثم إذا مررت السكين على رقبتها ونزل الدم بغزارة ، كم الوقت الذي يستغرقه الدم حتى يصل إلى الأرض ؟ إنه جزء من الثانية ، أليس كذلك ؟ الله أكبر ، عمل مخصص ، ووقت مخصص لو تعداه ليوم آخر لكان عملاً عادياً ، وهذا العمل هو إراقة الدم تقرباً لله -سبحانه- ، مقروناً بذكره -جل وعلا- ، ومن لم يذكر اسم الله في هذه اللحظات قد لا يُعتد بها ، ثم تأمل مرة أخرى قوله تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ) ، إذاً قطرات دم تجلب معها عنصر التقوى بكل عفوية .

هذه الكنوز العظيمة المخبأة لنا وراء هذه الأعمال اليسيرة ، وهكذا هو الإسلام ؛ أجور عظيمة مقابل أفعال يسيرة يقدمها العبد لربه ، فتأمل آيات المضاعفة في كثير من مواضع القرآن العظيم ، مثل قوله تعالى : ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيرة ) وقوله سبحانه : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) .

إذاً الفرص لا تلوح في الأفق إلا قليلاً ، فمن يستثمرها يحقق أرباحاً عظيمة ، والخطير في الأمر أنها متاحة للجميع ، وأنها فرص لا تحتاج إلى رأس مال ، ولا إلى دراسة جدوى ، فقط تحتاج إلى همة عالية ، وانتهاز للفرص ، فأين هم التجار ..؟

الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .

بقلم فضيلة الشيخ عبد الله العياده