بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فهذا تخريج كتبتُه قبل فترة لهذا الحديث ، وهو مما اختلف فيه النظر ، وبان فيه الفرق بين منهج أهل الحديث المتقدمين النقاد ، ومنهج المتأخرين منهم .
والله المسدد والمعين .
أولاً: تخريج الحديثأخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب المواعظ (131) - ومن طريقه العقيلي في الضعفاء (2/10)، والطبراني في المعجم الكبير (5972)، والقضاعي في الشهاب (643)، والبيهقي في الشعب (10043) وسقط في الأخير "ثنا أبو عبيد" -، وابن ماجه (4102) من طريق شهاب بن عباد، وابن سمعون في أماليه (289) - ومن طريقه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1352) -، والحاكم (7873) - وعنه البيهقي في الشعب (10043) - من طريق أحمد بن عبيد بن ناصح، والطبراني في الكبير (5972)، وأبو نعيم في الحلية (3/252، 253، 7/136) من طريق منجاب بن الحارث، وابن حبان في روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص141)، والخليلي في الإرشاد (2/480-منتخبه) من طريق يوسف بن سعيد المصيصي، وابن عدي في الكامل (3/31) من طريق عمر بن يزيد السياري، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (3/203) من طريق أبي عمر الحوضي، وأبو نعيم في الحلية (3/252، 253، 7/136) وفي تاريخ أصبهان (2/215) من طريق متوكل بن أبي سورة،
ثمانيتهم - أبو عبيد وشهاب بن عباد وأحمد بن عبيد بن ناصح ومنجاب ويوسف المصيصي وعمر بن يزيد وأبو عمر الحوضي ومتوكل - عن خالد بن عمرو القرشي الأموي، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن دينار أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -وعظ رجلاً فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس". هذا لفظ القاسم بن سلام، وفي بعض الروايات: أن رجلاً قال: يا رسول الله، علمني أشياء إذا عملت أحبني الله وأحبني الناس، فذكره.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/31) عن محمد بن خلف بن المرزبان، وابن جميع الصيداوي في معجم شيوخه (ص312) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (36/339) - من طريق أبي المعتب عبد العزيز بن محمد، والخليلي في الإرشاد (2/479-منتخبه) من طريق عبد الملك بن محمد بن عدي، والبيهقي في الشعب (10044)، والبغوي في شرح السنة (14/237، 238) من طريق محمد بن عمر بن حفص، أربعتهم عن محمد بن أحمد بن الوليد بن برد الأنطاكي أبي الوليد، وابن أبي حاتم في العلل (2/107) - معلقًا - عن علي بن ميمون الرقي،
كلاهما - أبو الوليد الأنطاكي وعلي بن ميمون - عن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، به.
وأخرجه البيهقي في الشعب (10045) من طريق أبي عروبة، عن يزيد بن محمد، عن أبي قتادة، عن سفيان الثوري، به.
وذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/175) أن الخطيب البغدادي ذكر رواية مهران بن أبي عمر الرازي، عن سفيان الثوري، به.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/31) - تعليقًا - عن زافر بن سليمان الإيادي، عن محمد بن عيينة، عن أبي حازم، به.
وعلقه كذلك عن زافر، عن محمد بن عيينة، عن أبي حازم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، به.
وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/199) من طريق أحمد بن محمد بن المغلس، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، به.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في مداراة الناس (33) من طريق علي بن بكار، وأبو نعيم في الحلية (8/42) - تعليقًا - عن طالوت، كلاهما عن إبراهيم بن أدهم قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس عليه، قال: "أما العمل الذي يحبك الله عليه فازهد في الدنيا، وأما العمل الذي يحبك الناس عليه فانبذ إليهم ما في يديك من الحطام".
وأخرجه ابن منده في مسند إبراهيم بن أدهم (17)، وأبو نعيم في الحلية (8/41)، من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن الحسن بن الربيع، عن المفضل بن يونس، عن إبراهيم بن أدهم، عن منصور، عن مجاهد، بنحوه مرسلاً.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية (8/41) من طريق أبي أحمد إبراهيم بن محمد بن أحمد الهمداني، عن أبي حفص عمر بن إبراهيم، عن أبي عبيدة بن أبي السفر، عن الحسن بن الربيع، عن المفضل بن يونس، عن إبراهيم بن أدهم، عن منصور، عن مجاهد، عن أنس - رضي الله عنه -، بنحوه.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية (8/52، 53) من طريق واقد بن موسى المصيصي، عن ابن كثير، عن إبراهيم بن أدهم، عن أرطأة بن المنذر، بنحوه مرسلاً.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية (8/53) من طريق يوسف بن سعيد، عن خلف بن تميم، عن إبراهيم بن أدهم، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن الربيع بن خثيم، بنحوه مرسلاً.
وأخرجه أبو سليمان محمد بن عبد الله بن زبر الدمشقي في مسند إبراهيم بن أدهم - كما ذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/176) -، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (7/270) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (6/290) -، من طريق معاوية بن حفص، عن إبراهيم بن أدهم، عن منصور، عن ربعي بن حراش، بنحوه مرسلاً.
ثانيًا: دراسة الأسانيدملخص الطرق والخلاف فيما وقع الخلاف فيه:
- جاء الحديث من طريق خالد بن عمرو القرشي، ومحمد بن كثير، وأبي قتادة، ومهران بن أبي عمر الرازي، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد.
- ورواه زافر بن سليمان الإيادي، واختُلف عنه:
* فروي عنه عن محمد بن عيينة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد،
* وروي عنه عن محمد بن عيينة، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر.
- ورواه أحمد بن محمد بن المغلس، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر.
- ورواه إبراهيم بن أدهم، واختُلف عنه:
* فرواه علي بن بكار وطالوت عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة،
* ورواه الحسن بن الربيع عن المفضل بن يونس عن إبراهيم، واختُلف عنه:
** فرواه أحمد بن إبراهيم الدورقي عن الحسن، عن المفضل، عن ابن أدهم، عن منصور، عن مجاهد مرسلاً،
** ورواه أبو عبيدة بن أبي السفر عن الحسن، عن المفضل، عن ابن أدهم، عن منصور، عن مجاهد، عن أنس مرفوعًا.
* ورواه ابن كثير عن إبراهيم، عن أرطأة بن المنذر مرسلاً،
* ورواه خلف بن تميم عن إبراهيم، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن الربيع بن خثيم مرسلاً،
* ورواه معاوية بن حفص عن ابن أدهم، عن منصور، عن ربعي بن حراش مرسلاً.
تحرير الأوجه :
1- رواية خالد بن عمرو القرشي عن سفيان الثوري:
وخالد هذا متروك منكر الحديث، ونُسب إلى الكذب والوضع (تهذيب التهذيب: 3/94).
فروايته من أسقط شيءٍ.
وقد قال الحاكم عقب إخراج روايته: "حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، فتعقبه الذهبي في تلخيصه، فقال: "خالد بن عمرو القرشي وضّاع"، ونقل ابن حجر - في إتحاف المهرة (6/117) - كلمةَ الحاكم، ثم قال: "كذا قال، فزلَّ زلة عظيمة، فإن خالد بن عمرو كذبوه...".
وقد أنكر على خالد غيرُ واحد هذه الرواية خاصةً، منهم أحمد بن حنبل، والنظر في ترجمته يغني عن ذكر من قال بذلك.
2- رواية محمد بن كثير عن سفيان:
ومحمد هذا ليس هو العبدي - كما ظن ابن عدي، فذكر في الكامل (3/31) أنه ثقة -، وإنما هو الصنعاني المصيصي، أو الشامي.
فقد نسبه العقيلي في ضعفائه (2/11) صنعانيًّا، والدارقطني في الأفراد (2135-أطرافه) مصيصيًّا، وهما واحد، فإنه صنعاني نزل المصيصة (تهذيب الكمال: 26/329)،
وذكر الخليلي في إرشاده (2/477-منتخبه) مَنْ سُمّي محمد بن كثير، فذكر الشامي، والصنعاني ( المصيصي )، والعبدي، واثنين آخرين، ثم أسند حديثنا هذا، ثم قال: "لم يروه عن سفيان غير محمد بن كثير الشامي، وخالد بن عمرو الأموي"، فجعله الشامي.
وقد يُقال: إن المصيصي هو المقصود بقول الخليلي: "الشامي"، لأنه قد قيل بأنه من مصيصة دمشق أو صنعائها، إلا أنه يعكر على هذا تفريقُ الخليليِّ أولاً بين الشامي والمصيصي.
وأيَّهما كان؛ فروايته هذه خطأ لا يُعتدُّ بها ولا يُنظر إليها:
* فإن كان المصيصي، فإنه ليس بذاك الحافظ، وأوهامه وأخطاؤه كثيرة، بلغت ببعض الأئمة إلى الحكم بتليينه جدًّا ونكارة بعض أحاديثه، وله تساهلٌ في تحمل الحديث، قال أحمد بن حنبل: "بلغني أنه قيل له: كيف سمعت من معمر؟ قال: سمعت منه باليمن، بعث بها إليَّ إنسان من اليمن" (تهذيب الكمال: 26/331، وانظر: الأحاديث المعلة في كتاب الحلية: 2/963).
وقد أنكر عليه الأئمة هذا الحديث، وبينوا سبب ذلك:
أ- فقد سأل ابن أبي حاتم أباه - كما في العلل (2/107) - عن رواية محمد بن كثير، فقال: "هذا حديث باطل"، قال ابن أبي حاتم: "يعني بهذا الإسناد"، قال ابن رجب - في جامع العلوم والحكم (2/175) -: "يشير إلى أنه لا أصل له عن محمد بن كثير عن سفيان"،
ب- وأسند العقيلي في ضعفائه (2/10) رواية خالد بن عمرو، ثم قال: "وقد تابعه محمد بن كثير الصنعاني، ولعله أخذه عنه ودلسه، لأن المشهور به خالد هذا"، وهذا الاحتمال ظاهر؛ فقد تبيّن أنه متساهل في تحمّل الحديث، ولم يكن يفهم الحديث - كما قال أبو داود السجستاني -، فلا يضير عندَهُ - والحال هذه - أن يأخذ الحديث عن ذلك المتروك، ثم يعلو به إلى سفيان،
ج- وذكر ابن عدي في الكامل (3/31) أنه لا يدري ما علة رواية محمد بن كثير هذه، إلا أنه قال - مع ذلك -: "وهذا الحديث عن الثوري منكر".
* وإن كان محمد بن كثير هذا هو الشامي، فإنه متروك منكر الحديث، روى بواطيل البلاء فيها منه (تهذيب التهذيب: 9/372)، ولا يقل هذا درجةً عن خالد بن عمرو القرشي، ولا تُفيد روايتُهُ روايتَهُ تقويةً ولا عضدًا.
3- رواية أبي قتادة عن سفيان الثوري:
وأبو قتادة هذا هو الحراني عبد الله بن واقد، بدلالة أمرين:
أ- أنه قد صرّح بذلك أبو نعيم الأصبهاني في الحلية (3/253) - ووقع فيه تحريف وتصحيف -، والخطيب البغدادي - كما نقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/175) عنه -،
ب- وأن الراوي عنه: يزيد بن محمد بن يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي، وقد ذُكر هذا في تلامذة أبي قتادة الحراني (تهذيب الكمال: 16/260).
وعبد الله بن واقد هذا أثنى عليه أحمد، والجمهور على تضعيفه، وبعضهم تَرَكَهُ، وذكر نُكْرَة حديثه، بل نُقل عن بعضهم أنه كذّبه. ثم قد ذَكَر أحمد - مع أنه أثنى عليه - احتمال كونه يدلّس (تهذيب الكمال: 16/260-262).
ومن هذه حاله فلا يعتد بمتابعته، ولا يُفرح بها، فإنها إن كانت مستقلّة؛ فهو متروك منكر الحديث عند الأكثر، ولا اعتبار لروايته، وإن كانت هذه المتابعة مدلَّسَةً، فالذي يظهر أنه دلّسها عن خالد بن عمرو القرشي، كما فعل محمد بن كثير، قال الألباني - رحمه الله - : "فيحتمل احتمالاً قويًّا أن يكون تلقاه عن خالد بن عمرو ثم دلسه عنه؛ كما قال ابن عدي في متابعة ابن كثير " (الصحيحة: 2/625)، وهذا يعيدنا إلى الرواية المنكرة الأولى.
4- رواية مهران بن أبي عمر عن الثوري:
وهذه ذكرها الخطيب - فيما نقل ابن رجب -، ولم أجدها، ولا يُدرى إسنادها.
ومهران فيه كلام، وضعفه غير واحد، وأثنى عليه غير واحد أيضًا، إلا أنه قد أُنكرت روايته عن سفيان خاصةً، قال يحيى بن معين: "كان شيخا مسلمًا، كتبت عنه، وكان عنده غلط كثير في حديث سفيان"، وقال العقيلي: "روى عن الثوري أحاديث لا يتابع عليها" (تهذيب التهذيب: 10/291).
فثبت من هذا كله أن الرواية عن سفيان دائرة بين متروك وَضَّاع، ومنكر حديث، وضعيف مدلس، وهذا لا يثبت به شيء في النظر الصحيح، بل قد يقال بأن الطرق كلها عائدة إلى خالد بن عمرو نفسه، وهذا قوي جدًّا.
وهذا يُظهر الخطأ الفادح في الاستشهاد بتلك الطرق لرواية خالد بن عمرو القرشي، وتقويتها بها، فرواية خالد بن عمرو بذاتها لا تفيد تقويةً ولا تستفيدها؛ لشدة نكارتها وضعفها، والمتابعات عائدة إلى تلك الرواية، أو شديدة الضعف مثلها.
ثم أين كان أصحاب سفيان الثوري الذي لازموه وحفظوا حديثه وكتبوه ووَعَوْه ورَوَوْه = عن هذا الحديث؟! وكيف يأتي أولئك الغرباء الضعفاء عن الثوري بما لم يأتِ به حفاظ حديثه الذين اختصوا به؟!!
5- رواية زافر بن سليمان الإيادي:
وهذه علقها ابن عدي من وجهين:
- زافر عن محمد بن عيينة عن أبي حازم عن سهل،
- وزافر عن محمد بن عيينة عن أبي حازم عن ابن عمر.
وزافر هذا كثير الأوهام (تهذيب التهذيب: 3/262)، ومحمد بن عيينة ضعّفه أبو حاتم بإتيانه بالمناكير (تهذيب التهذيب: 9/350)، ومثل هذين لا يحتمل منهما هذا الاختلاف وتعدد الأوجه، فروايتهما مضطربة منكرة، فضلاً عن أنها معلّقة لا يُدرى إسنادها.
6- رواية مالك عن نافع عن ابن عمر:
وهذه أعجب روايات هذا الحديث وأغربها!
وفيها: أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس، كذاب (لسان الميزان: 1/269).
بل حتى لو رواها أوثق الناس، فكيف يُقبل تفرد إسماعيل بن أبي أويس عن مالك بهذا الإسناد الذهبي اللامع؟! وإسماعيل متكلّم فيه كثيرًا، خاصةً في روايته عن مالك (تهذيب التهذيب: 1/271) .
وقد استنكر الحديث على ابن المغلس ابنُ حجر في اللسان، وقال: "وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل".
7- رواية إبراهيم بن أدهم:
وقد اختُلف عليه على خمسة أوجه، واختُلف على راوي أحدها على وجهين:
أ- فقد رواه الحسن بن الربيع عن المفضل بن يونس عن إبراهيم، واختُلف عن الحسن: فرواه أحمد بن إبراهيم الدورقي عن الحسن، فجعله من مرسل مجاهد، ورواه أبو عبيدة بن أبي السفر عن الحسن، فوصله عن مجاهد عن أنس مرفوعًا.
قال أبو نعيم الأصبهاني عقب الرواية المرفوعة: "ذكر أنس في هذا الحديث وهمٌ من عمر أو أبي أحمد، فقد رواه الأثبات عن الحسن بن الربيع فلم يجاوز - كذا - فيه مجاهدًا"، ثم أسند مرسل مجاهد.
وعمر الذي ذكره أبو نعيم هو أبو حفص عمر بن إبراهيم المستملي، الراوي عن أبي عبيدة بن أبي السفر، كذا وقع اسمه في إسناد أبي نعيم، ولم أعرفه.
وقد قال الألباني - رحمه الله - في الصحيحة (2/664الأولى، 627الجديدة): "أما من وصله، ففيه ضعف، فإن أبا حفص عمر بن إبراهيم قال الحافظ في التقريب: ( صدوق، في حديثه عن قتادة ضعيف ) " ا.هـ كلام الألباني، وهو وهمٌ عجيبٌ جدًّا من الشيخ - رحمه الله -، فأبو حفص - راوي حديثنا هذا - يروي عن أبي عبيدة بن أبي السفر - كما سبق -، وأبو عبيدة هذا من الطبقة الحادية عشرة ( الطبقة الوسطى من الآخذين عن تبع الأتباع ) - حسب تقسيم ابن حجر -، وشيوخه من صغار أتباع التابعين، وهذا يعني أن تلميذه أبا حفص المذكور من الطبقة الثانية عشرة ( صغار الآخذين عن تبع الأتباع ) أو من الطبقة التي بعدها، بينما أبو حفص - الذي نقل الألبانيُّ قولَ ابن حجر فيه - من الطبقة السابعة ( كبار أتباع التابعين )، ويروي عن قتادة - كما صرح ابن حجر في كلمته المنقولة -، وقتادة من التابعين - كما هو معروف مشهور -، فهما اثنان بلا ريب.
وأبو أحمد هو إبراهيم بن محمد بن أحمد الهمداني، الراوي عن عمر بن إبراهيم، ولم أعرفه أيضًا، ولم يجد له الألباني - رحمه الله - ترجمة.
إلا أن الراوي عن الحسن بن الربيع: أبو عبيدة بن أبي السفر متكلَّم فيه (تهذيب التهذيب: 1/42)، وقد خالفه أحمد بن إبراهيم الدورقي، وهو ثقة حافظ (تهذيب التهذيب: 1/9)، فأرسل الحديث عن مجاهد، وروايته أرجح.
والحسن بن الربيع ثقة (تهذيب التهذيب: 2/242)، والمفضل بن يونس وثقه ابن معين، وأبو حاتم - على تشدده -، والفلاس، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "ربما أخطأ" (تهذيب التهذيب: 10/247).
ب- ورواه ابن كثير - ولم أعرفه - عن إبراهيم بن أدهم عن أرطأة بن المنذر مرسلاً، وعن ابن كثير: واقد بن موسى المصيصي، ولم أعرفه أيضًا.
قال أبو نعيم عقب هذه الرواية: "كذا رواه ابن كثير عن إبراهيم فقال: عن أرطأة، والمشهور ما رواه المفضل بن يونس عن إبراهيم عن منصور عن مجاهد"، وكأنه يعلّ هذا الوجه، وهو حقيق بالإعلال، ففي رواته غير معروفين، وفيه مخالفة.
ج- ورواه خلف بن تميم عن إبراهيم بن أدهم عن منصور عن ربعي بن حراش عن الربيع بن خثيم مرسلاً.
وخلف قال فيه ابن معين: "هو المسكين، صدوق"، وقال يعقوب بن شيبة: "ثقة صدوق، أحد النساك والمجاهدين، صحب إبراهيم بن أدهم"، وقال أبو حاتم: "ثقة صالح الحديث"، وقال العجلي: "كوفي لا بأس به" (تهذيب التهذيب: 3/128).
وهذا يفيد أنه في مرتبة الصدوق، لا يبلغ مرتبة الثقة، وقَرْنُ أبي حاتم قولَهُ: "ثقة" بقولِهِ: "صالح الحديث" = يشير إلى ذلك، والله أعلم.
وقد قال أبو نعيم قبل أن يسند هذه الرواية: "ورواه خلف بن تميم أيضًا عن إبراهيم عن منصور فخالف المفضل..." ثم أسنده، وإذا ضُمَّ كلامه هذا إلى قوله المنقول آنفًا: "والمشهور ما رواه المفضل"؛ عُلم أن يشير إلى إعلال رواية خلف بن تميم.
د- ورواه معاوية بن حفص عن إبراهيم عن منصور عن ربعي مرسلاً.
ومعاوية ثقة (تهذيب التهذيب: 10/184).
والراوي عنه موسى بن داود الضبي فيه كلام، وله أوهام (تهذيب التهذيب: 10/305).
هـ- واتفق علي بن بكار وطالوت على روايته عن إبراهيم بن أدهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة.
وعلي بن بكار من العُبّاد، قال فيه ابن سعد: "كان عالمًا فقيهًا"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال المزي: "روى عن إبراهيم بن أدهم وصحبه وتأدب به" (تهذيب الكمال: 20/330، تهذيب التهذيب: 7/253).
وطالوت لم أتبيّنه، وربما كان ابن عباد الصيرفي، لكن يعكر على هذا أن البخاري فرق بين الصيرفي وبين طالوت آخر له رواية عن إبراهيم بن أدهم (التاريخ الكبير: 4/363).
وأقوى هذه الروايات: المرسلة عن مجاهد، وعن إبراهيم بن أدهم، وقوّى أبو نعيم الأصبهاني رواية مجاهد المرسلة، قال - وسبق -: "والمشهور ما رواه المفضل بن يونس عن إبراهيم عن منصور عن مجاهد".
ويؤيد ذلك أن المفضل قال بعد روايته هذا الحديث: "لم يسند لنا إبراهيم بن أدهم حديثًا غير هذا"، فكأنه أضبطهم لحديثه عن إبراهيم، لأنه لم يسند له غيرَهُ.
ويظهر أن إبراهيم قصّر به مرةً فقاله من تلقاء نفسه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونشط مرةً فأسنده عن منصور عن مجاهد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحفظ قوم الوجه الأول، وحفظ آخرون الثاني.
الخلاصة:
لا يثبت الحديث عن الثوري إلا من طريق خالد بن عمرو القرشي عنه، وخالد كذاب متهم.
ولا يثبت من طريق ابن عمر - رضي الله عنهما - ألبتة.
ولا يثبت عن إبراهيم بن أدهم إلا روايته من طريق مجاهد مرسلاً.
وقد ظهر خطأ تقوية رواية خالد بن عمرو بما جاء له من متابعات عن الثوري،
ومن الخطأ - كذلك - تقوية رواية الثوري بالمرسل، لأن رواية الثوري شديدة الضعف، بل ربما كانت مكذوبة مختلقة، ومثل هذا لا يقوِّي ولا يتقوَّى.
ويبقى الصحيح في هذا الحديث: الوجه المرسل عن مجاهد - رحمه الله -.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.