من أين نبدأ؟!

من أين نبدأ؟!



حسني عويدات




تمر أمة الإسلام بحالة من التيه والضياع والشتات وفقدان الهوية والذات فعلى مستوى الأفراد أصبح من المسلمين من يحمل صفات أبى بكر وصفات أبى جهل في آن واحد.

وعلى مستوى الدول أصبحت الدول علمانية الفكر والإدارة والمرجعية، ففصلت الدين عن حركة الحياة ، وعبر إعلامها ومثقفيها وساستها مارست الأنظمة الدجل السياسي، وأوهمت الناس ونادت فيهم أن الدين أسير المسجد بل إن الدين عاشق شغوف للمسجد لا ينبغي أن يغادر عتباته .

ولم تعد هناك أمة بمعناها الحقيقي بل دول متفرقة، تسير وفق هوى أنظمتها، ومن قبل كبروا أربع تكبيرات على الخلافة، فلم يعد هناك خليفة يسوس الدنيا بالدين، ولم تعد خلافة تجمع المسلمين بل صار المسلمون كالأيتام على موائد اللئام.

وأصبح وأمسى وأضحى دستور كل دولة على لسان حاكمها (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ {29}) غافر .

والتقت مصالح الأنظمة مع مصالح الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا، وأبرمت المعاهدات وأحبكت السيناريوهات، وتم إخراج أعظم المسرحيات والتمثيليات خداعا للشعوب باسم المؤتمرات، وتبارت الأقلام المنافقة مستخدمة منهج التبرير والمغالطات، ومورس الإجرام علنا تحت مظلة ما أسموه بالشرعية الدولية، بدءا بأفغانستان ومرورا بالعراق، وأخيرا وليس آخرا دارفور... وغيرها . والشيء المحزن أننا نتناول أعراض المرض . دون تناول المرض وأسبابه.

فبنظرة ثاقبة مخلصة بصيرة لحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي رواه ثوبان مولى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نجد أنه قد حدد لنا الداء والدواء . فقال صلى الله عليه وسلم (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة على قصعتها . قال: قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ . قال: أنتم كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن . قال: قلنا وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت ). رواه أحمد في مسنده . وصححه الألباني انظر حديث رقم : 8183 في صحيح الجامع .

فها هي الغثائية أصبحت منهجاً لحياتنا، فلا إله إلا الله فرغت من مضمونها، وغيبت المقتضيات وضاعت الشروط، وأصبحت كلمة تقال لا رصيد لها في الواقع، وها هو مفهوم الدين أصبح محصوراً في طقوس في صورة صلاة وصيام وزكاة فقط ، وها هو مفهوم الإسلام أصبح شعارا للشعائر فقط . فالأمر لم يعد جهل ببعض المسائل الفقهية، ولكن غثائية أدت إلى طمس المفاهيم والمعالم والتصورات، فعبر هذه المقدمة التي لابد منها علينا أن نعرف من أين نبدأ ؟! .

لنقرأ سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوعي، فهي بمثابة ورقة عمل للتمكين لهذا الدين ها هي الآيات (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ {214}) الشعراء . (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ {94}) الحجر .

فأخذ يجهر صلى الله عليه وسلم في مجامع المشركين ونواديهم يتلو عليهم كتاب الله ويقول لهم ما قالته الرسل لأقوامهم (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ) الاعراف59 .

وهنا وقفة لابد منها وهي أن العرب كانوا أرباب لغة وبيان، فالكلمات مدركة بمعانيها ، والمعاني معروفة والمفهوم واضح والتصورات معلومة 0

واليك أخي القارئ هذه الحادثة وتأمل وتمعن فيها جيداً .

حوار بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزعماء قريش (أبو جهل – أبو لهب- وغيرهم)0

المكان : عند أبى طالب بمكة .

الزمان: ( زمن الاستضعاف بمكة ) .

الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ).

أبو جهل : (ما هي ؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها ) .

الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون ) .

فكان رد فعل الكفار أنهم صفقوا بأيديهم غيظا وضيقا، ثم قالوا : أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحدا؟ إن أمرك لعجب (الرحيق المختوم) .

تأمل أخي القارئ لو كانت كلمة تقال فقط لقالوها، وأراحوا أنفسهم وأراحوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحدث وفاق فكرى واستتباب وثنى صنمي . والدليل على ذلك في بداية الحوار ، قال أبو جهل: ( لنعطيكها وعشر أمثالها ).

ولما أفصح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنها { لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون } أدركوا أنها منهج حياة ، وليست كلمة تقال فقط . والسؤال هنا: هل نحن ندرك نفس الإدراك؟ . ألست معي أخي القارئ أن تصورنا لمعنى لا إله إلا الله مختلف , وإلا قل لي بربك لماذا هذا هو حالنا ؟ .

هذا نموذج لوضوح التصور أثناء الاستضعاف . واليك نموذج ثانٍ لوضوح التصور عند الهزيمة.

ها هم الرماة تركوا أماكنهم ، وها هي الرياح أتت بما لا تشتهى السفن وتبدد النصر بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من المسلمين ، وها هو أبو سفيان يعيش لذة النصر المؤقت ، فيشرف على الجبل وينادى , أفيكم محمد ؟ فلم يجيبوه .

فقال أفيكم ابن أبى قحافة ؟ فلم يجيبوه.

أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه .

وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منعهم من الإجابة .

فقال أبو سفيان: ( أما هؤلاء فقد كفيتموهم ) .

فرد عمر بن الخطاب: (يا عدو الله إن الذي ذكرتهم أحياء) .

ثم قال أبو سفيان: (أعل هبل) .

فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ألا تجيبون؟) .

فقال الصحابة، فما نقول قال صلى الله عليه وسلم: ( قولوا الله أعلى وأجل) .

ثم قال أبو سفيان: ( لنا العزى ولا عزى لكم ) .

فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ألا تجيبون ؟ ) .

قالوا ما نقول، قال صلى الله عليه وسلم: (قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ) .

ثم قال أبو سفيان: ( أنعمت فعال ، يوم بيوم بدر والحرب سجال ) .

فأجابه عمر بن الخطاب وقال: ( لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ) .

تأمل أخي القارئ : أبو سفيان في بداية الأمر يسأل عن أركان الدولة ، يسأل عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويسأل عن أبى بكر رضى الله عنه ، ويسأل عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، ويأتي الأمر من قبل الرسول القائد بعدم الإجابة .

ولكن حينما أعلن أبو سفيان عن منهجه الكفري ، أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصحابة أن يجيبوه ويردون عليه ، لأن الأمر الآن أصبح إعلان عقيدة وتصور ومفهوم ، فالهزيمة لم تحل دون عرض العقيدة والتصور الصحيح لها ، كما لم يحل الاستضعاف في مكة دون عرض العقيدة والتصور الصحيح لا إله إلا الله ، فإننا قد لا نملك إمكانية ومقومات التمكين لمنهج الإسلام، وهذا لا يحول دون عرض منهج الإسلام . فالإسلام لم يمكن في مكة , ولكن مفهوم الإسلام كان ممكناً في نفوس المستضعفين .

نشرت المقالة من قبل فى موقع لواء الشريعة وايضا فى موقع عودة ودعوة