سليمان بن عبد الملك...
خالد سعد النجار
بسم الله الرحمن الرحيم
يمكن اعتبار عصر سليمان بن عبد الملك مقدمة لعصر عمر بن عبد العزيز في التدين وتطبيق الشرع.
** قال عنه السيوطي: سليمان بن عبد الملك، أبو أيوب، كان من خيار ملوك بني أمية، وكان فصيحا مفوها مؤثرا للعدل محبا للغزو، ومن محاسنه: أن عمر بن عبد العزيز كان له كالوزير فكان يمتثل أوامره في الخير، فعزل عمال الحجاج وأخرج من كان في سجن العراق، وأحيا الصلاة لأول مواقيتها، وكان بنو أمية أماتوها بالتأخير.
** قال ابن سيرين: يرحم الله سليمان! افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لمواقيتها، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز.
** كان سليمان محبا للحياة حبا جما، مقبلا عليها، مغرورا بها ومغرورا بنفسه، وكان فتى من فتيان قريش بل سمي «فتى العرب» وكان جميل الصورة يقف أمام المرآة ويقول: "أنا فتى بني أمية" وكان في نفس الوقت متدينا، وكان ينهى عن الغناء.
** قال يحيى الغساني: نظر سليمان في المرآة فأعجبه شبابه وجماله فقال: كان محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا، وكان أبو بكر صديقا، وكان عمر فاروقا، وكان عثمان حييا، وكان معاوية حليما، وكان يزيد صبورا، وكان عبد الملك سائسا، وكان الوليد جبارا، وأنا الملك الشاب .. فما دار الشهر حتى مات.
** وكان من الأكلة المذكورين، أكل في مجلس سبعين رمانة وخروفا وست دجاجات ومكوك زبيب طائفي.
** ولفهم عصره يجب أن نرى اتجاه الوليد في سياسته نحو الخصوم، فقد كان يتنازع الوليد في سياسته عاملان:
سياسة الحجاج العنيفة التي تريد قهر الخصوم وإذلالهم والجبروت عليهم
وسياسة عمر بن عبد العزيز التي كانت تريد ائتلاف الناس والعدل والسيرة الحسنة.
** وقد أرسل الوليد عمر بن عبد العزيز واليا على المدينة، فجمع عمر فقهاء المدينة العشرة، وجعلهم مجلس شوراه، وقال لهم: "الأمر لكم فأعينوني على ما أنا فيه". فسروا به وساعدوه، وسارت الأمور سيرا حسنا وساد العدل.
** وكان يأتي من العراق هاربون من جور الحجاج متوارون منه، يلجئون إلى عمر بن عبد العزيز وعدله، فكان يجيرهم ويتقون به شر الحجاج، فضاق به الحجاج ذرعا، وشدد الطلب على الوليد بأن يقيله من المدينة، واحتج بأنه يثير الناس على سياسته في العراق، وألح حتى أجاب الوليد إجابة ظاهرها في صالح عمر بن عبد العزيز، فقد استحضره إلى دمشق مستشارا له، وكان المستشار في ذلك الوقت بمثابة وزير، وأرسل بدلا منه خالد بن عبد الله القسري، فسار خالد على السياسة التي يتطلبها الحجاج. أما عمر بن عبد العزيز فكان يجتمع بالخليفة الوليد ويهدئ من جبروته، ويصلح من توجيهه، لكن الحجاج كان له بالمرصاد.
** إن أثر الأشخاص في التاريخ لا يعادل أثر الجماعات، لكن الحجاج من الأفراد النادرين في التاريخ الذين كانوا ذوي أثر لا يقل كثيرا عن أثر الجماعات، وإنا نستطيع أن نضعه في كفة مقابلة لكفة عمر بن الخطاب، فعمر بعدله أسس للعرب ملكا عضودا، وجعل الأعاجم يقبلون على العروبة ويدخلون في قبائلها، أما الحجاج فبظلمة وضع قنبلة تحت البنيان العربي أسهمت في إطاحته ونقضه.
** ومن حسن حظ عمر بن عبد العزيز أن الحجاج وقف ضد سليمان بن عبد الملك في عهد الوليد، وكان سليمان وليا للعهد، فحض الحجاج الوليد على خلعه وتولية ابنه مكانه، وحفظها سليمان على الحجاج، ومات الوليد قبل أن تنتزع الولاية من سليمان.
وهكذا أفضت الخلافة إلى سليمان، ونفسه مضطرمة على الحجاج، فوجد عمر سندا له في مخالفته لسياسة الحجاج، وزاد حقد سليمان على الحجاج أن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة –وكان واليا للحجاج على خراسان- على خلاف مع الحجاج، إذا عزله هذا عن ولايته وتتبعه، فلجأ يزيد إلى سليمان، وأثاره أكثر فأكثر على الحجاج، فاضطرم الخلاف بين الاثنين، لكن الحجاج توفي قبل أن يتولى سليمان، وكان يدعو الله تعالى بذلك، فاستجاب دعاءه.
** أقبل سليمان منذ أول يوم من خلافته على عمر بن عبد العزيز وقال له: "يا أبا حفص، إنا قد ولينا ما ترى، ولم يكن لنا بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به".
** أطلقت يد عمر بن عبد العزيز فقام بإصلاحات منها أنه أطلق الأسرى في العراق، وأخلى السجون، وأعاد الصلاة إلى أوقاتها، وكان بنو أمية يؤخرونها بعض التأخير عن أوقاتها، وأحسن معاملة عامة الناس، وتتبع الفساق.
حدث إذن اتجاه جديد في السياسة الأموية مع سليمان بن عبد الملك بأثر من عمر بن عبد العزيز، ذلك الاتجاه الذي سيأخذ حده الأقصى مع عمر نفسه.
** قال عبد الرحمن بن حسان الكناني: مات سليمان غازيا بدابق فلما مرض قال لرجاء بن حيوة: من لهذا الأمر بعدي؟ أستخلف ابني؟ قال ابنك غائب قال: فابني الآخر؟ قال: صغير قال: فمن ترى؟ قال: أرى أن تستخلف «عمر بن عبد العزيز» قال: أتخوف إخوتي لا يرضون. قال: تولي عمر، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتابا، وتختم عليه وتدعوهم إلى بيعته مختوما. قال: لقد رأيت، فدعا بقرطاس، فكتب فيه العهد ودفعه إلى رجاء وقال: اخرج إلى الناس فليبايعوا على ما فيه مختوما. فخرج فقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب قالوا: ومن فيه؟ قال: هو مختوم، لا تخبروا بمن فيه حتى يموت؟ قالوا: لا نبايع. فرجع إليه فأخبره فقال: انطلق إلى صاحب الشرط والحرس فاجمع الناس ومرهم بالبيعة فمن أبى فاضرب عنقه. فبايعوا قال رجاء: فبينما أنا راجع إذا هشام بن عبد الملك فقال لي: يا رجاء قد علمت موقعك منا، وأن أمير المؤمنين قد صنع شيئا ما أدري ما هو؟ وإني تخوفت أن يكون قد أزالها عني، فإن يكن قد عدلها عني فأعلمني ما دام في الأمر نفس حتى أنظر فقلت سبحان الله! يستكتمني أمير المؤمنين أمرا أطلعك عليه؟ لا يكون ذلك أبدا، ثم لقيت عمر بن عبد العزيز فقال لي: يا رجاء إنه قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون قد جعلها إلي ولست أقوم بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس لعلي أتخلص منه ما دام حيا قلت: سبحان الله! يستكتمني أمير المؤمنين أمرا أطلعك عليه؟
ثم مات سليمان وفتح الكتاب فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز فتغيرت وجوه بني عبد الملك فلما سمعوا "وبعده يزيد بن عبد الملك" تراجعوا، فأتوا عمر فسلموا عليه بالخلافة فعقر به فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه فدنوا به إلى المنبر وأصعدوه، فجلس طويلا لا يتكلم. فقال لهم رجاء: "ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعوه" فبايعوه ومد يده إليهم
ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني لست بفارض ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوال
ثم نزل فأتاه صاحب المراكب فقال: ما هذا؟ قال مركب الخليفة قال: لا حاجة لي فيه ائتوني بدابتي فأتوه بدابته وانطلق إلى منزله ثم دعا بدواة وكتب بيده إلى عمال الأمصار
قال رجاء: كنت أظن أنه سيضعف فلما رأيت صنعه في الكتاب علمت أنه سيقوى
** يروى أن مروان بن عبد الملك وقع بينه وبين سليمان في خلافته كلام، فقال له سليمان: يا بن اللخناء ففتح مروان فاه ليجيبه، فأمسك عمر بن عبد العزيز بفيه وقال: "أنشدك الله إمامك وأخوك وله السن" فسكت وقال: قتلتني والله لقد زدت في جوفي أحر من النار فما أمسى حتى مات.
** وأخرج ابن أبي الدنيا عن زياد بن عثمان أنه دخل على سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب فقال يا أمير المؤمنين إن عبد الرحمن بن أبي بكر كان يقول: من أحب البقاء فليوطن نفسه على المصائب
المصادر
الدولة الأموية يوسف العش
تاريخ الخلفاء للسيوطي