الفكرة هي الصورة الذهنية لأمر ما والفكر أسمى صور العمل الذهني بما فيه من تحليل وتركيب وتنسيق، وأية فكرة يُراد لها أن تنجح لابد أن تكون ممكنة في نفوس أصحابها، فهم يؤمنون بها ويسعون لتنفيذها ويجتهدون ويأخذون بالأسباب لتمكينها، ويعرف المرء بصدقه وإخلاصه من خلال سعيه، وهذا هو الفرق بين أصحاب العقائد السليمة الصحيحة وتجار الشعارات الزائفة البراقة، فكم من إنسان يتفوه بكلام جميل ولم يسع لتنفيذه وليس له رصيد في عالم الواقع!
هذا بشأن أية فكرة، فما بالك لو كان السعي لتمكين العقيدة والسعي لجعل لا إله إلا الله منهج حياة؛ فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بالجواهر والصور العملية، فهل تذكرنا المؤاخاة على سبيل المثال التي أرسى قواعدها النبي صلى الله عليه وسلم ـ والتي لم تشهد لها الإنسانية والبشرية مثيلًا ـ هل تمعنا وتأملنا وتصورنا ما قام به الأنصاري وقد اقتسم أمواله مع المهاجري وأخذ يعرض عليه أن يختار إحدى نسائه ليطلقها له الأنصاري ويتزوجها المهاجري.
فعلينا أن نأخذ هذه الصور بكل جوانبها فهم أناس أدركوا معني لا إله إلا الله كمنهج حياة وفهموا معني العبودية لله؛ فعاشوا قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وأدركوا حقيقة الحياة ووظيفتهم في الدنيا، وعملوا لتحديد مصيرهم في الآخرة، فتمكنت العقيدة من قلوبهم وأخضعت جوارحهم لشرع الله، فدانوا لله بقلوبهم وسلوكهم فتصرفوا بتلقائية، وأدركوا أن التمكين لدين الله لن يأتِ إلا بالتضحية بالمال والنفس.
فلا ينبغي أن نفهم أن هذا العمل "المؤاخاة" انطلق من خلال الكرم والإيثار ومساعدة الغير فحسب؛ بل الفهم والتصور أشمل وأعم، وينم عن منظومة عقائدية فكرية منهجية واعية، هل قرأنا عن تمكن وتمكين العقيدة في نفوس المؤمنين أثناء الاستضعاف في مكة؟ فترى ضعفًا في البنيان والصحة والجسد، وقوة في العقيدة والفهم والفكر والتصور، وقوة العقيدة أوجدت استعلاءً إيمانيًّا لم يتأثر هذا الاستعلاء بالضعف الجسدي والمادي؛ بل لم يضعف في تصوره وفكره؛ بل لم يبالِ هذا الاستعلاء الإيماني بالظروف المحيطة به المكبلة له، والاستعلاء ناتج عن عقيدة صحيحة أدت إلى فهم وشعور وإحساس وسلوك يستشعر به المؤمن المستضعف عظمة الإسلام، ويرى أن المستقبل والريادة لهذا الدين رغم إحكام وغطرسة الظالمين.
هذا الاستعلاء لا يورث التكبر والتعالي على العباد؛ بل هذا اليقين بغلبة هذا الدين تجعل النفس المؤمنة نفس واثقة متواضعة متمنية لكل الناس أن يدخلوا في دين الله مشفقة عليهم من عذاب الله، ترى هذا الاستعلاء واضحًا جليًّا في سلوك ورد فعل بلال على معذبيه وجلاديه بالصدع وترديد: (أحد أحد)، وترى أبا بكر يشتري العبيد الذين أسلموا ويعتقهم ليكثر من عدد السادة المؤمنين ويقلل من عدد العبيد المؤمنين.
أخي المتأمل أخي الواعي الراصد الجيد لا تنظر إلى هذا العمل والفعل من الجانب الثوابي فقط، ألست معي أن هذا الفعل صورة من صور التمكين وسط خضم وركام الاستضعاف؟! ألست معي أن هذه الجيل الفريد أدرك حقيقة الإسلام وقام بتفعيل الإسلام قولًا وعملًا؟! هل تعلمنا من هذه الدروس وقمنا بتنفيذها؟! أم أننا ما زلنا في طور التعريف والتنظير، والكلام والتأهيل والتعليم، لا نقلل من قدر التعليم وأهميته؟!
لماذا لا نسعى لإنشاء مجتمع أخوي فاهم واعٍ بدينه في كل حي وكل مركز حسب الاستطاعة، أو حتى داخل المسجد، مجتمع يحكم ويتحاكم لشرع الله فيما بينه؟ هذا المجتمع له عاداته وله تقاليده، يسعى لحل مشاكله ولا يصتدم مع المجتمع فيقع على عاتق ومسئولية أغنيائه تزويج فقرائه وينشئ أغنياؤه مشاريع يعمل فيها فقراء هذا المجتمع، ويتم حصر العانس من بنات هذا المجتمع وتحل مشكلة العنوسة؛ كل هذا على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، وهذا السعي ليس من خلال باب الصدقات أو المساعدات فحسب ولكن من خلال التصور الصحيح لمعنى لا إله إلا الله؛ فنرى التعايش والتكافل الاجتماعي من خلال الفهم الصحيح والسليم، ولا نراه بعين الأعمال الخيرية فقط. نراه مكتمل الأركان ونراه بصورة واجبة على أبنائه، نراه نموذجًا حيًّا يؤكد ويبرهن على عظمة النموذج الإسلامي لأبنائه، ويبهر الآخرين فيدخلون في دين الله التزامًا، أم أننا سنظل نحاضر ونحاضر ونرى فينا ومنا شبابًا لا يستطيع أن يعف نفسه؟!
وفي المقابل ونقولها بصراحة ووضوح، نرى فينا ومنا أناسًا يركبون سيارات فارهة بصورة كبيرة لو كانت أقل موديلًا لزوج الفرق العديد من الشباب، نعيب على العلمانية التفاوت الطبقي ونرى في أنفسنا ومنا تفاوتًا طبقيًّا صارخًا؟!
أي نعم الأمر لا يخلو ولن يخلو من بعض أعمال الخير، ولكن شتان بين التصورين؛ إنفاق الصدقات المجزأة التي تستجدي وتدفع على استحياء، وتصور إيجاد نموذج إسلامي واقعي جعل من لا إله إلا الله منهج حياة، نموذج تدرب أبناؤه عمليًّا على البذل والعطاء، نموذج أوجد نفسه وسط العلمانية فانتزع انبهار المعارضين له رغم أنوفهم.
والسؤال الذي يجب أن يطرح بقوة، هل العلمانية أرحم بأبنائها؟! والإسلام عاجز عن إيجاد رحمة لأبنائه وبأبنائه؟!
الإجابة معروفة للجميع، إن الإشكال لا يوجد في الإسلام كعقيدة وكمنهج وكفكر، ولكن الإشكالية في مطبقية ومنفذيه؛ بل بعض الداعين إليه، الأمر يحتاج إلى فهم ووعي وتصور صحيح وحكمة.
العلمانية أنشأت مجتمعًا وأوجدت منظومة متكاملة، فعلى سبيل المثال أوجدت بنوكًا يسطتيع المحتاج أو صاحب المشروع الذي يملك ضمانات أن يقترض؛ بل ما يحزنك من نفسك وعلى نفسك أن تبتكر هذه المجتمعات العلمانية حلولًا وندعي نحن أصحاب الفهم والوعي الإسلامي عجزًا؟!
في ظل هذا المجتمع العلماني على سبيل المثال؛ إذا تأزمت الأوضاع المالية لفرد ما واستدان عمل عرسًا أو ختانًا ولو كاذبًا ودعى الناس إليه وأتى بالراقصين والراقصات، وفتح باب ما يُسمى بالنقطة "المساهمة بالنقود"، وفي نهاية عرسه يجمع العديد من الآلاف فيسدد دينه وتفك أزمته، وقد باعد هذا العمل بينه وبين السجن.
أنا لا أنبهر بالمعصية؛ فالمعصية معصية ولن ارتضي لحلول المعاصي، ولكن أتضايق حينما لا نحاول أن نجد حلولًا منهجية لمشاكلنا، ولا تفعيلًا لأفكارنا، ولا واقعًا لما نطرحه.
لماذا لا يحرص العديد من الملتزمين على حضور عرس الأخ الفقير؟ فلو اجتمع ألف فرد وساهم كل فرد بعشرين جنيه "هدية لاترد" لتمكن هذا الأخ الفقير من سداد دينه ليلة عرسه؛ فزاد هذا العمل من سعادته، ولكن للأسف الشديد يحرص الآلاف من الملتزمين لحضور عرس ابن أو بنت الأخ الداعية أو الأخ الغني!
والفقير فقير في كل أحواله، وحتى نكون منصفين تأتيه بعض المساعدات التي تزيد من عرق جبينه وتزيد من ضعفه النفسي الداخلي، وهي تأتيه تحت عنوان "تهادوا تحابوا".
فهل أدركنا الفرق بين الأمرين؟! هل آن لنا أن نضع التصور العملي لإنشاء نموذج إسلامي عملي يضاهي ما تفعله العلمانية على الأقل ولكن بأسلوب شرعي؟! أم أننا نتعامل بتجزئة الشرع وكأننا لا نملك منهجية لعمارة الدنيا وإصلاحها، وتكون المساعدات علي استحياء، وفي ظروف ضرورية ملحة فاضحة، فلا نساعد إلا من دخل غرفة الإنعاش أو احتاج غسيل كلوي، أو أصيب بسرطان؟! أي أننا نساعد من هم في نهاية المطاف والراحلين عنا، وكأننا نريد أن نكسب رضاهم وهم راحلين، ولم نسعَ لمعرفة وحل مشاكلهم وهم أحياء، كواجب علينا أو من خلال فهمنا لـ"لا إله إلا الله" كمنهج حياة.
ومن الأشياء الملفتة؛ نجد إعلانًا في بعض المساجد "يوجد كفن بالمجان"، ولا نقرأ "يوجد عندنا عمل للأحياء"، وهل الذي مات ولم نسمع عن حياته أو عن مأساته إلا من خلال طلب واستجداء ورثته لكفنه؟ ألا يدل ذلك على جرمنا نحن الأحياء في حق هذا الراحل عنا في حياته؟ ألا يعد هذا الطلب وثيقة إدانة لنا تشعرنا بالخجل وتأنيب الضمير؟
وهذا يدفعنا إلى سؤال آخر؛ ما مفهوم الدعوة عندنا؟ أليست الدروس والمحاضرات والمناظرات ما هي إلا وسائل لإنشاء مجتمع مسلم بحق يسعد أبناؤه في الدنيا والآخرة؟ فهل آن لنا أن نثبت لأنفسنا بداية ولغيرنا عظمة ديننا كمنهج حياة أم أننا سنظل ننتظر الخليفة المرتقب أو المهدي المنتظر؟!
وأختم : لقد انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم: (يوم أن صنع من أصحابه رضي الله عنهم صورًا حية من إيمانه، تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، يوم أن صاغ من كل منهم قرآنًا حيًّا يدب على الأرض، يوم أن جعل من كل فرد نموذجًا مجسمًا للإسلام يراه الناس فيرون الإسلام، إن النصوص وحدها لا تصنع شيئًا، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكًا، ومن ثَم جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هدفه الأول أن يصنع رجالًا لا أن يلقي مواعظ، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطبًا. وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة، أما الفكرة ذاتها فقد تكفل بها القرآن، وكان عمل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُحَوِّل الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي، وتراهم العيون لقد انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن صاغ من الإسلام شخوصًا، وحول إيمانهم بالإسلام عملًا، وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفًا؛ ولكن لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، وإنما طبعها بالنور على صحائف من القلوب، وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي وتقول بالفعل والعمل، ما هو الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم)، فهل أدركنا التصور الصحيح وسعينا لتنفيذه؟
حسنى عويدات للتواصل hossny8@yahoo.com