بارك الله فيك أخي حارث البديع،
وبارك فيك أخي "الشك العلمي" حتى تصل درجة اليقين، واقتراحك قريبا من محله،
وملحوظة الأخ أبي مسهر في محلها...
خوارزم شاه له خلفاء وورثة، منهم أشباه الرجال الذين حكموا الأندلس في دويلات عديدة وصغيرة، فبعد الغاء الخلافة الاموية في قرطبة، وبعد انفراط عقد دولة الاندلس الاسلامية، عادت الصراعات والأطماع القديمة إلى الظهور، وانقسمت الدولة إلى عدد كبير من الممالك الصغيرة التي قد لا يتجاوز الواحدة منها مساحة المدينة الواحدة، وانحسرت عظمة قرطبة وتلك المدن العريقة!!
كانت دويلات الطوائف هذه متحاربة فيما بينها، ونسيت أن بينها جامع الدين والعصبية والمصالح المشتركة، فكان من المستحيل على مثل هذه الدويلات الاتحاد ضد خطر الاسبان الزاحف من الشمال، بل الأدهى أنه كان يستعين بعضهم بالنصارى ضد بعض لتحقيق نزواتهم والإبقاء على ممالكهم الصغيرة!!..
ومع الهبوط السريع لحكم الإسلام في الاندلس، لم يمض إلاّ وقت قصير حتى اندلعت فتنة البربر الذين دمروا مدينة الزهراء رائعة المدن في الاندلس، وتعاقب على حكم الدويلات امراء ضعاف لم يتركوا اثرا يذكر إلا غرام الشاعر ابن زيدون بالولادة بنت الخليفة المستكفي التي عافت حياة الحريم، وكانت على درجة كبيرة من الأدب والعلم، فأغرم بها الشاعر ابن زيدون الذي انتهى أمره معها بالفراق فخلدها بقصيدته:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا~~~وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جَوانحُنا~~~شوقاً إليكم ولا جفت ماقينا
بالأمس كنا وما يخشى تفرقُنا~~~والآن نحن وما يرجى تلاقينا
يا جنّة الخلد بدلنا بَسلسلِها~~~والكوثر العذب زقوماً وغسلينا
حكاية الأمير الصغير أبي عبدالله
امتطى أبو عبدالله الصغير صهوة فرسه مولياً ظهره لقصر الحمراء الشهير في يوم بارد من ايام كانون الثاني 1492م. علت وجه أبي عبدالله سحابة كثيرة من الحزن وخيم على الركب الصغير صمت طويل ينبئ عما يكتنف قلوب هذا الركب من غم شديد. سار ابو عبدالله تتبعه امه وبعض من اهله وصحبه في ذلك الطريق الملتوي الطويل الذي يمر بين شعاب غرناطه وجبالها متجهاً إلى منفاه ليفارق غرناطة إلى الابد.
كانت الشمس قد آذنت بالغروب واخذت تعكس أشعتها الذهبية على جدران قصر الحمراء لتكسي حجارته بصبغة حمراء باهتة، فتضفي عليه سحراً وجاذبية، توقف أبو عبدالله قليلاً عند تلة صغيرة تشرف على وادي غرناطة ليلقي نظرة وداع أخيرة على مدينته الحزينة التي يتوسطها قصره الشهير، تسارعت في ذهن أبي عبدالله ذكريات الصبا وأيامه الجميلة التي قضاها في صالات وأروقة هذا القصر وفي حدائقه الغناء الواسعة.. كان أبو عبدالله يعرف أن تلك الوقفة سوف تكون الأخيرة، وأن تلك النظرة ستكون النهائية، تمنى ابو عبدالله لو تطول تلك الوقفة لعله يستطيع أن يملأ عينيه بتلك المناظر الساحرة التي تثير في نفسه ذكريات الصبا، إلا أن الحزن الذي يعتصر قلبه سرعان ما استحوذ على عينيه وإذا بهما تنهمران دمعاً ساخناً سخياً وقد حاول جاهداً أن يخفيه عن نظرات أمه الحادة التي عاجلته بلسانها فقالت:
إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً ~~~ لم تحافظ عليه مثل الرجال
نسيت الأم انها كانت أيضا سببا مهما في سقوط غرناطة آخر معقل للإسلام في الديار الأندلسية بسبب غيرتها وتسلطها على ولدها أبي عبدالله، وبسبب أحابيل مكرها التي كانت تنسج شباكه في غرف القصر وصالاته.
وهكذا غادر ابو عبدالله آخر سلاطين بني الأحمر غرناطة تاركاً أهلها المسلمين لنقمة الأسبان الذين لم تعرف الرحمة يوماً إلى قلوبهم سبيلاً، ولتبدأ مرحلة بائسة طويلة مليئة بالأحزان والدموع، ومتسربلة بالدماء والمآسي، فقد بدأ التعسف والاضطهاد مباشرة بعد سقوط غرناطة، وبدأت حملات التنصير الإجباري للمسلمين، وبدأت محاكم التفتيش بمحاكمة وحرق من يشتبه فيه رفضه للتنصير أو كان تنصيره ظاهريا بسبب الخوف والرعب..