((تتمــــــــــة لمـــــا سبق))
يقول ابن القيم : ( وصاحب هذا المشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه
يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس ، ويربيه أحسن تربية ، ويرقيه
على درجات الكمال أتم ترقية ، وهو القيّم بمصالحه كلها ، فبعثه أبوه
في حاجة له ، فخرج عليه في طريقه عدو ، فأسره وكتّفه وشدّه وثاقا ،ثم ذهب به
الى بلاد الاعداء فسامه سوء العذاب ، وعامله بضدّ ما كان ما كان أبوه يعامله به ،
فهو يتذكر تربية والده وإحسانه اليه بين الفينة بعد الفينة ، فتهيّج من قلبه لواعج ا
الحسرات كلما رأى حاله ، ويتذكر ما كان عليه ، وكل ما كان فيه ، فبينا هو في أسر
عدوه يسومه سوء العذاب ويريد نحره في آخر الامر ، اذ حانت منه التفاتة الى
نحو ديار أبيه ، فرأىأباه منه قريبا ، فسعى اليه ، وألقى نفسه عليه ، وانطرح بين
ابيه يستغيث : يا أبتاه .... يا أبتاه ... يا أبتاه!! انظر الى ولدك و
ما هو فيه ، ودموعه تستبق على خديه ، قد اعتنقه والتزمه ، وعدوه في طلبه ،
حتى وقف على رأسه ، وهو ملتزم لوالده ممسك به ، فهل تقول : ان والده يسمله
مع هذه الحال الى عدوه ، ويخلي بينه وبينه ؟ فمن الظن بمن هو أرحم بعبده من
ا
لوالد بولده ،ومن الوالدة بولدها ؟ اذا فرّ عبد اليه ، وهرب من عدوه اليه، وألقى
نفسه طريحا ببابه ...يمرّغ خدّه في ثرى أعتابه باكيا بين يديه يقول:يا رب !! يا
رب !: ارحم من لا راحم له سواك ولا ناصر له سواك ولامؤوي له سواك ، ولا
مغيث له سواك ، مسكينك وفقيرك ، وسائلك ومؤملك ومرجيك ، لا ملجأ له ولا منجا
له منك الا اليك ، أنت معاذه وبك ملاذه))
((وانما سقت هذا المثل ليوضّح ما تقدم لكن هل يستطيع القارىء
ا
ان يستوعب المقصود ويستشعر المراد ويكون بقرائته لهذه الكلمات قد أحاط بما راد
أن يقرره ابن القيم ؟؟))
اسمع كلام ابن القيم
يقول ابن القيم : ( وهذه الحال التي تحصل لقلبه – اي لقلب
المتذلل المنكسر لله- لا تنال العبارة حقيقتها ، وانما تدرك
بالحصول ، فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء بحيث
يرى نفسه كالاناء المرضوض تحت الارجل لا شيء فيه ولا به
ولا منه ، ولا منفعة فيه ولا يرغب في مثله وانه لا يصلح
للانتفاع الا بجبر جديد من صانعه وقيّمه ، فحينئذ يستكثر في هذا ا
لمشهد ما منّ ربه اليه من الخير ، ويرى أنه لا يستحق قليلا منه
و كثيرا !!!
قلت : من اعظم الافات التي تعتري طريق السائرين الى الله :
آفة العجب ومن أعظم ما ينتفع المسلم في طرده لهذا الداء :
معرفة حقيقة النفس وأنها في الاصل ظلومة جهولة لا خير فيها
البتة وانما تفضل عليها سيدهاومولاها وجعلها موفقه ومعانة
لطاعته ومحلا قابلا لفعلها وبدون الاعانة والتوفيق تصبح حالها
كحال البهائم بل اضل فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
فيا عبدالله ....ليكن عملك في عينك صغيرا ، ونعمة الله
عليك وتوفيقك لطاعته كبيرة ..
ويتابع ابن القيم فيقول:( فأي خير ناله من الله استكثره على
نفسه ، وعلم أن قدره دونه ، وان رحمة ربه اقتضت ذكره به ،
وسياقته اليه ، واستقلّ ما من نفسه من الطاعات لربه ، ورآها –
ولو ساوت طاعات الثقلين- من أقل ما ينبغي لربه عليه ،
واستكثر العبد قليل معاصيه وذنوبه ، فإن الكسرة التي
حصلت لقلبه أوجبت له هذا .فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور ! وما ادنى ا
لنصر والرحمة والرزق منه !
(( بيت القصيد ))
قال ابن القيم : وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه !
وذرة من هذا ونَفَسٌ منه أحب الى الله من طاعات أمثال الجبال من المُدلِّيــن
المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم ، وأحب القلوب الى الله :
قلب تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته الذلة ، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه لا يرفع
رأسه اليه حياء منه .
نسأل الله يوفقنا لما يحب ويرضى ،،،وأن يزيدنا من فضله