أخي عدنان وفقني الله وإياك وبصرني وإياك الحق :
اعذرني على التأخير فقد اضطررت أن أكتب كلاماً طويلاً .. فتأمله ولا تعجل ولا تعقب حتى تقرأه كاملاً وتدرسه على مهل ..
وسأنتظر منك جواباً مركزاً على ما أثيره أمامك من نقاط عسى ربي أن يفتح بيني وبينك بالحق وهو خير الفاتحين :
خلافي معك حول نقطتين :
الأولى : هل يلزم في إثبات الصفة أن يأتي تنصيص من السلف عليها ؟
أم يمكن أن أستنبط من النص صفة بحسب القواعد التي أصّلها السلف ؟
الثانية : هل ما نقل من أقوال عن شيخ الإسلام وابن القيم وابن عثيمين فيها إثبات للصفة ؟
فأقول مستعيناً بالله ما يلي :
1 . ذكرتَ أنني لم أجب على سؤالك المتعلق بهذه النقطة .
مع أني أجبتك لكن لعلك لم تلاحظ ، وخلاصته :
إنّ باب الأسماء والصفات ليس معزولاً عن بقية أبواب الشريعة ..
فالقول في ذلك كلّه واحد وهو أنّه لا يجوز القول( في مسألة أو باب تكلم فيه السلف ) بقول ليس للقائل فيه سلف (سأتكلم عن المقصود بذلك لاحقاً) ..
وأخصّ ذلك مطلقاً أبواب العقائد .. وأخصّها ما كان متعلقاً بالله تعالى ..
فهذا الباب خاض فيه الخائضون إثباتاً ونفياً ..
فيبعد (جداً) أن تمر كل هذه القرون دون أن ينقل عن السلف نص في إثباتها صفة لله تعالى .
ولا أخفيك أنني راجعت كل ما عندي من الكتب بحثاً (والله) عمن قال بها - لأستريح وأريح – ولكني لم أظفر بنقل واحد (سيأتي الكلام عن قول ابن القيم وشيخ الإسلام وابن عثيمين) .
وهذا الباب خطير جداً لا يقبل الاجتهادات .. فباب الأسماء والصفات أقفل على ما كان .. حقه حق .. وباطله باطل ..
والمسكوت عنه يجب أن يبقى كذلك لأنه (لو كان خيراً لسبقونا إليه) ..
ولما سئل الإمام مالك : وما البدع ؟ قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسمائه وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ، لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون)
خصوصاً إذا أخذت بالبال حجم الخلاف وعمقه بين السلف ومخالفيهم ..
لقد وصل التعمق بالمخالفين غلواً وإجحافاً إلى مسائل بالغة الدقة والتعقيد ..
وهذه هي كتب السلف ومخالفيهم بالمئات تزخر بآلاف المسائل إثباتاً ونفياً ..
فهل يُعقل أن تكون هذه النصوص التي تعتمد عليها من نصوص الصفات ومع هذا لا نجد من يصرح في أي منها بإثباتها صراحة ولا نجد كذلك من ينفيها صراحة ؟
إنها أكثر إشكالاً (إن كان فيها إشكال) من كثير من النصوص التي تكلم فيها المبتدعة من الصفات ..
ومع هذا لا خبر عنهم فيها ؟!
يجب أن يكون لدينا جواب عن هذا السؤال قبل أن نقدم على الكلام في شيء لم يتكلم به السلف ..
فأنا على يقين أنهم لا يسكتون عن شيء في باب العلم بالله وبصفاته إلا لأحد أمرين :
فإما أنه غير مشروع ..
أو لأنه من التكلف الذي نهينا عنه ..
2 . وقولك إن هذه القاعدة تتصادم بإثباتنا صفات ليس فيها نقل عن السلف .
أقول : لا أظن هذا .. لأن الصفات الثابتة المجمع عليها كلها ثابتة بالنصوص وبأحد أمرين :
أ . نقلٌ عن أحد السلف من الصحابة أو التابعين أو أتباعهم أو أحد أئمّة السلف كالأئمة الأربعة ينص صراحة على أنّ هذه صفة لله تعالى .
ب . أن يكون مذكوراً في كتب السنة التي اتفق أهل السنة على جلالة أصحابها وكونها مصدراً أصيلاً لعقيدة السلف : مثل (بغير ترتيب) كتاب اللالكائي أو السنة لابن أبي عاصم أو الشريعة للآجري أو التوحيد لابن خزيمة أو كتب شيخ الإسلام ابن تيمية .
فهذان المصدران هم الذين أقصدهم حين أشترط لإثبات الصفة نقلاً عن السلف .
3 . قلتَ إنك تلتزم منهج السلف لا ألفاظهم في هذا الباب ، بمعنى أنك ترى أن القواعد ما قعدت إلا ليمشي عليها من خلفهم .
أقول : أخي باب الأسماء والصفات باب توقيفي لا اجتهادي .
فالقواعد والمنهج ما جاء ليكون آلة للاستنباط والتفريع .
وإنما ذكر الأئمة منهج السلف وقواعدهم في هذا الباب صيانة من النقصان والزيادة .
ولفهمه وتيقنه وأنه لم يكن عبثاً وإنما عن أصول سار عليها السلف ..
ولو صح كلامك هذا لجاز للناظر في عصرنا هذا أن يستنبط صفات من النصوص لم يأت بها أثر ..
وهذا أمر خطير في الحقيقة لأنه سيفتح باباً للتلاعب بالكتاب والسنة .. وباباً آخر للقدح من المخالفين ..
وهذا أمر سدّه السلف الصالح على من بعدهم بضابط (السلف) أعني سلف القول ..
وحتى يتبين الأمر أمثّل بنص مشهور ، ألا وهو قوله تعالى : {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } ..
فقد أضاف الجنب لله تعالى ..
والجنب هو أحد أبعاض الإنسان مثله مثل اليد والوجه والساق ..
ولا مانع على أصول السلف من إثباته صفة لله تعالى على الوجه اللائق به ..
حتى على القول أنها سيقت لبيان التفريط فهذا لا يتعارض مع إثبات الصفة كقوله تعالى : {فثم وجه الله} أي جهته على أحد الأقوال وهو لا يعارض أنه تعالى له وجه ..
ومع هذا فقد امتنع الأئمة من إثبات الجنب صفة لله تعالى .. وكان معتمدهم في ذلك عدم الورود على لسان من تقدمهم ..
قال شيخ الإسلام رحمه الله رداً على النصارى : (وأما قولهم وجنب فإنه لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين أثبتوا لله جنبا نظير جنب الإنسان وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله :{ أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } .فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله صفة له بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق كقوله تعالى { بيت الله } و { ناقة الله } و { عباد الله } بل وكذلك { روح الله } عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم )الجواب الصحيح
وقد وقع في ذلك العلامة صديق حسن خان فأثبت لله تعالى جنباً ومع هذا فلا يوافقه أحد ليس لاستحالة ذلك وليس لأنها غير جارية على قواعد الصفات بل لأنها لم ترد عن السلف ، ولهذا قال المعلق على قطوف الثمر : (ولهذا لا تصلح هذه الآية وحدها لإثبات أن « الجنب » من الصفات لأن الآية ما سيقت لذلك ولم يفسرها أحد بذلك) ..
وبالعود على مسألتنا أحب أن أؤكد أن هذا ليس مني نفياً للصفة لأن النفي والإثبات في هذا الباب موقوف على الدليل .. ومالم ينص أحد على أن لله صفة التأذي فيكون السكوت هو الصواب .
نقل ابن القيم رحمه الله عن الإمام حجة الإسلام أبي أحمد ابن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد رحمه الله تعالى قوله : (وكذلك كل ما جاء من الصفات نمره كما جاء من غير عليه، ونقتدي في ذلك بعلماء السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ونسكت عما سكتوا عنه، ونتأول ما تأولوا، وهم القدوة في هذا الباب. أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) .
ومن الجميل أيضاً ما في قوت القلوب : (قد قال بعض العلماء: ما تكلّم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء ، وما سكت عنه السلف فالكلام فيه تكلف )
4 . هل لقولك من سلف :
هذه الفقرة ليست لك أخي ما دمت غير مقتنع بضرورة أن يكون لك سلف في إثبات لفظ كل صفة تثبتها ، وإنما ذكرتها لأنك تعتقد أن الأقوال التي ذكرها الإخوة تؤيد قولك وهذا غير صحيح ..
أ . قول شيخ الإسلام :
(و مما ينبغي أن يتفطَّن له أن لفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره وضعف أثره من الشرِّ والمكروه، ذكره الخطابي وغيره، وهو كما قال.
واستقراء موارده يدل على ذلك مثل قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} [آل عمران: 111] و قوله: {و يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض}
وفيما يؤثر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (القر بؤس والحر أذى)، و قيل لبعض النسوة العربيات: القر أشد أم الحر؟ فقالت: من يجعل البؤس كالأذى ؟ والبؤس خلاف النعيم و هو ما يشقي البدن و يضره بخلاف الأذى فإنه لا يبلغ ذلك ولهذا قال: {إن الذين يؤذون الله و رسوله} [الأحزاب: 57].
و قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر) و قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله) و قال: (ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له ولدا و شريكا و هو يعافيهم و يرزقهم).
و قد قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) و قال سبحانه في كتابه: (و لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا) [آل عمران: 176].
فبيَّن أن الخلق لا يضرُّونه سبحانه بكفرهم، ولكن يؤذُونه تبارك وتعالى إذا سبوا مقلب الأمور وجعلوا له سبحانه ولدا أو شريكا وآذوا رسله وعباده المؤمنين...".
أقول : ليس في النص إثبات التأذي وإنما ردد لفظ النص بأن الخلق يؤذونه ، كما لو ذكر أن الخلق يكذبونه والخلق يشتمونه والخلق يكفرونه وهكذا .. كلها أفعال العبد لم ينسب شيئاً منها لله تعالى ..
ب . ابن القيم :
قال رحمه الله : (وقد قال فيما يروي عن ربه تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار وقال لا احد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم وقال حاكيا عن ربه شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وقد فرق الله بين أذاه وأذى رسوله وأذى المؤمنين والمؤمنات فقال إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.
وليس أذاه سبحانه من جنس الأذى الحاصل للمخلوقين كما أن سخطه وغضبه وكراهته ليست من جنس ما للمخلوقين ..... إن ما وصف الله سبحانه به نفسه من المحبة والرضى والفرح والغضب والبغض والسخط من أعظم صفات الكمال إذ في العقول أنا إذا فرضنا ذاتين إحداهما لا تحب شيئا ولا تبغضه ولا ترضاه ولا تفرح به ولا تبغض شيئا ولا تغضب منه ولا تكرهه ولا تمقته
والذات الأخرى تحب كل جميل من الأقوال والأفعال والأخلاق والشيم وتفرح به وترضى به وتبغض كل قبيح يسمى وتكرهه وتمقته وتمقت أهله وتصبر على الأذى ولا تجزع منه ولا تتضرر به.أهـ كلام ابن القيم
أقول : وهذا أيضاً كذلك ، أين في كلامه إثبات الأذى صفة له تعالى ؟
لم يزد الشيخ عن أن فرق بين الأذى تجاه الله وبين الأذى تجاه المخلوق ..
وهذا عام في كل الأخبار ولو لم يؤخذ منها صفة ..
ج . قول المجدِّد محمَّد بن عبدالوهَّاب: (تسميته أذى لله) .
أقول : هذا عليك أخي : فقد فسر الأذى بأنه سب الدهر ، فسب الدهر هو الأذى لله ، وهو فعل المخلوق لا صفة تقوم به تعالى .
فليس في كلام الإمام أنه صفة لله تعالى .
د . ابن عثيمين :
)يؤذيني ابن آدم). أي: يلحق بي الأذى؛ ؛ بدليل قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى: 11) وقدم النفي في هذه الآية على الإثبات، لأجل أن يرد الإثبات على قلب خال من توهم المماثلة، ويكون الإثبات حينئذ على الوجه اللائق به تعالى، وأنه لا يماثل في صفاته كما لا يماثل في ذاته، وكل ما وصف الله به نفسه؛ فليس فيه احتمال للتمثيل؛ إذ لو كان احتمال التمثيل جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله فيما وصف به نفسه؛ لكان احتمال الكفر جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله .)
أقول : لم يزد الشيخ في هذا النص على أن فسر الحديث .
والذي أوهم الإخوة – كما حصل في كلام ابن القيم - هو أنه عقب بذكر قاعدة الصفات ، وهذه القاعدة أي نفي المماثلة ليست محصورة بل هي عامة في كل الأخبار التي تتحدث عن الله نفياً وإثباتاً فجاء بها الشيخ ليؤكد نفي المماثلة في إثبات الأذى لله تعالى .
فقد أخبر الله تعالى أنه يضع رجله في النار .. فلا يُقال إنه يضعها كما يضع المخلوق ..
مع أن أحداً لم يقل –حسب علمي – أن من صفة الله وضع القدم في النار ..
وقول الشيخ البرَّاك: (يلحقه الأذى)
وقول الشيخ الرَّاجحي:وهذا الأذى لا يضر الله -تعالى-، فلا يلزم من الأذى الضرر، فهو أذى، ولا يلزم منه الضرر)
أقول : كل هذا كما ترى ليس فيه إثبات صفة إنما فيه إثبات ما نطق به النص وهو أنه تعالى يؤذى من ابن آدم .
وكلمة يلحقه لا تدل بالضرورة القيام به .. فأنت تشتم الشخص فيلحقه الشتم لكنه لا يقوم به ..
إلى هنا انتهى كلامي بالنسبة للمسألة بذاتها .
===
بقي أن أعلق على ما جاء في مشاركتك السابقة :
تقول : (ولهذا فما زلتُ أصِرُّ وأتحدَّى أنَّنا لن نجد نصًّا سلفيًّا يخدمنا في إثبات كلِّ الصِّفات )
أقول : ليتك تورد أخي عدنان بعض الصفات لأنظر هل هو كذلك أم لا .
فقد أعياني البحث عن صفات (كثيرة) أثبتها الأئمة لم يرد بها قول مأثور .
تقول : (لن تجد ألبتَّة)
أقول : أخي لم هذا الجزم !
وقد علّمنا الله أن فوق كل ذي علم عليم ، وفي قصة موسى مع الخضر عبرة ..
مع أن السؤال الحقيقي هو العكس ، وهو أن تأتي بنصوص عن العلماء والأئمة تنص على أنه يجوز للمرء إثبات الصفة من النص دون الحاجة لنقل عن السلف فيها .
تقول : (ولا أظنَّ أنَّ تتبُّع مثل هذا يفيد بحثًا أونفعًا، إذ ليس من حسن العِلم التَّطويل فيما يكفي فيه الإيجاز )
ليس صحيحاً في هذا الباب ، لأنّ خلافي معك هو في هذا ، وليس في الأمر طول ، صفة أو اثنتان يجمع أهل السنة على إثباتها ومع هذا لم يرد بها أثر عن السلف فإذا ثبت هذا سلّمنا جميعاً واسترحنا من تكلف الحوار .
تقول : (أمرُّوها كما جاءت) نمرُّ ماذا؟ آيات الصِّفات؟ وكيف أعلم أنَّ هذه من آياتها أوليست كذلك؟ هل لابد من النَّص والشَّك في كلِّ آيةٍ أوحديث ثم البحث عن نصٍّ لأحد السَّلف في كونها منها أوليست كذلك؟ إنَّها لطريقة لم أرَ أحدًا قال بها ولا أظنُّك تقول به حتَّى، ولكنَّه اللَّازم من كلامك!
أقول : نعم وبلا شك ..
ولنا في اختلافهم في بعض النصوص عبرة ..
لقد أخذ بعض السلف من بعض النصوص صفات ومع هذا خالفهم غيرهم ..
مع أنهم قمة في الفهم واللغة والعلم إلخ ..
ومع هذا كان القول بأن هذه الآية من آيات الصفات أم لا محل تردد ..
وأنا على يقين أنك على قاعدتك لا تتردد في عدّ مثلها من آيات الصفات ..
لذا فما فهمته عني صواب ..
فحين نختلف أنا وأنت هل هذا النص يؤخذ منه صفة لله فإن الحكم في ذلك هو الرجوع لفهم السلف لها هل قالوا ونصوا بأن ما ذكر في النص هو صفة الرحمن أم لا .
تقول : (وهذا يظهر من دفاع شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله وغيره عن مذهب وقاعدة أهل السُّنَّة في إجراء الظَّاهر من الصِّفات في النُّصوص، وعدم الخروج عن ذلك إلَّا بالقرائن الدَّالَّة عليه من السِّياق أوسياقٍ آخر له تعلُّق.
ثمَّ ردُّه على مَن زَعَم أنَّ أهل السُّنَّة قد يخرجون عن إجراء الظَّاهرمنها بالتأويل الباطل الذي عند المتكلِّمين.(
أقول : هذا أخي ليس بخصوص نصوص الصفات بل في كل النصوص : نصوص المعاد والغيب وغيرها هي داخلة في هذا وليس ذلك خاصاً بنصوص الصفات فلا علاقة له بمسألتنا .
تقول : (ثمَّ إن كان لا يقنعك فهم ابن باز وابن عثيمين للمسألة ثم تبيينهم لها بالتَّطبيق فهذا رأيك أنت، لا يلزمني ولا يلزم غيري، وهل انقطع العلم عند ابن تيميَّة وأغلق بابُه).
أقول : ما دخل الإلزام من عدمه أخي ..
هل حملت عليك عصا حتى تقول هذا ..
أو هل اتهمتك بالبدعة ..
أنا أوضحت رأيي مختصراً وأنت طلبت الدخول في النقاش ..
أما ذكر الشيخين رحمهما الله فعبارة عاطفية لا علاقة لها بالبحث ..
تقول : وفيما ذكرته من مسألة الهرولة وإن كان أحدٌ من السَّلف سبق له كلامٌ فيه وإثبات الهروي وعثمان الدَّارمي لها إشكالٌ أرجو أن لا نضطرَّ للولوج فيه، وهو: ما حدُّ السَّلف عندك والذي ليس بسلفٍ؟
إمَّا أن يكونوا الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم فقط -مثلًا- والبقيَّة لهم تبع، وإمَّا أن ثَمَّة قاعدة لابد من ضبط حتَّى نفهم كلام بعضنا في التحاور.
عثمان الدَّارمي والهروي عندك من السَّلف، وابن تيميَّة أيضًا لأنَّه ناقلٌ لأقوالهم بالضَّرورة، وابن باز وابن عثيمين ليسا من السَّلف.
دعك من التجوِّز في الإطلاق، بأنَّ السَّلفي هو كلُّ تابع لهما؛ إذ هذا ينطبق على ابن عثيمين وابن بازٍ أيضًا، عند مخالفك على الأقل.
أقول : سبق الكلام عليه لكن لا تحمل قولي مالا يحتمله فلم أقل أنا إن ابن باز وابن عثيمين ليسا من السلف ..
تقول : إذ لا يلزم عدم تسويغك الدعاء بالصِّفَة كونها ليست بصفة، ولك هذا المثال: من المعلوم أنَّ صفات الله عزوجل في الكتاب والسُّنة جاءت مطلقةً ومقيَّدةً، فمن الصِّفات التي جاءت بقيدٍ ما لايسوغ دعاء الله به، إذ جاء بقيدٍ.
وإليك هذه الأمثلة: (الملل، والمكر، والمخادعة، والكيد)، صفات واردة لا أعلم أحدً من أهل السُّنَّة قال إنَّها لا تسمَّى صفات، أو أنَّها ليست بكمال!
ومع ذلك هل يسوغ أن تقول -على طريقة مثالك-: يامن لايمل حتى نمل نعوذ بك من الملل، يا من يخادع الكفَّار إذا خادعوه اكفنا خداعهم! يا من يمكر بمن يمكر به اكشف مكر الماكرين.
إن جاز هذا فأجز ذاك ، وإن لم يجز فهل معناه عدم ثبوته كصفة، أوعدم كونه كمالًا؟! الباب في هذا واحد.
أقول : أنت ذكرت بنفسك الفرق بينهما ..
فما مثلت به صفات مقيدة .. أما التأذي فلم يأت مقيداً ولم ينص أحد على أنه مقيد فينبغي أن تجريه مجرى بقية الصفات المطلقة ..
وسألتك هل إذا أثنيت على ملك من الملوك أو عظيم من العظماء هل يصح بأن تقول : إنه يتأذى ؟
بينما يصح أن ثني على الله بأنه يمكر بأعدائه ويخدع المخادعين وأنه لا يمل حتى نمل ..
تقول : ثم يا أخي أنت تكلَّم عن نصوص صفاتٍ وقَع فيها الخلاف، هل هي من نصوص الصِّفات أولا.
وأنا أتكلَّم عن صفات أو نصوصٍ لها لم يُنقل ولا يُعلم فيها خلاف، بل أثبتها قومٌ وسَكَت عنها آخرون، ولا يُنسب لساكت كلامٌ، بلْه تقعيد وتأصيل طويل.
أقول : أنا لم أتكلم عن صفة أصلاً ..
أنت الذي تكلمت وأنا طالبتك بسلفك فقط ..
تقول : فالسَّاكت ساكت، فينبغي لك أن لا تتجاوز سكوتهم في هذه الصِّفات، بدل إيمائك أوجزمك بأنَّ الآية الفلانية ليست من آيات الصِّفات كابن عقيل، وإلَّا فهلمَّ غليَّ بمن قال من السَّلف أوالخلف إنَّ آية (يؤذون الله) أو (يؤذيني ابن آدم) ليستا من نصوص الصِّفات؟! هذا كُلُّه أوَّلًا..
أقول : أحسنت في هذا وليتك تلتزمه ..
لذا فاسأل نفسك السؤال التالي : إن لم يثبت عندك عن السلف قول بإثبات هذه الصفة : هل يجوز لك أن تقول إن السلف أثبتوا لله صفة التأذي ؟
فعلى قولك الساكت ساكت لا يُنسب له قول ..
فليتنا نسكت كما سكتوا ..
تقول : ما دمت تثبت الخلاف (في فهم بعض الصِّفات أوعدمه في النُّصوص وكون تلكم النُّصوص في الصِّفات أوغيرها) =بين السَّلف -لا عند المتأخرين والمعاصرين- فما سببُ الخلاف؟ وما الرَّاجح فيه؟ وكيف يخرج طالب العلم الفاهم للباب بالصَّواب من النَّفي والإثبات من الخلاف بقواعد في كلِّ ما اختلف فيه؟
أقول : علينا أن نثبت ما أثبته السلف .. وننفي ما نفوه .. ونسكت عما سكتوا عنه .
وما تكلموا فيه واختلفوا فهذا محل اجتهاد يسوغ الأخذ بأحد قوليهم والمجتهد بين أجر وأجرين ..
تقول : بقيت النُّقطة الأخيرة، وهي اصطلاحيَّة بحتة! كما سيأتي بسط هذا في ملحقٍ تالٍ إن شاء الله، وهي مهمَّة، وقد أكثرتُ ومللتُ من إعادتها! وهي: مسألة الفرق بين باب الصِّفة والإخبار عنها.
فأنا سائلك: ما الفرق؟ أو بأسلوب أكثر وضوحًا: متى يصحُّ لك أن تطلق على ما تثبته في حقِّ الله تعالى أنَّه صفة، ومتى لا يصحُّ، فتطلق عليه أنَّه إخبارٌ عنه؟ وهل لك في ذلك سلفٌ أوخلفٌ؟
أقول : كل ما يأتي من النصوص عن الله ورسوله في حقه تعالى فهو إخبار عنه ..
فمن هذه النصوص ما ثبت فيه تسمية الله باسم والكلام فيه سهل لأنه محصور مضبوط ، كقوله تعالى : {هو الملك القدوس ..}
ومنها ما فيه وصف لله تعالى ذاتي أو فعلي أو انفعالي ..
فالذاتي كقوله : {بل يداه مبسوطتان}والفعل كقوله : {وربك يخلق ما يشاء } والانفعالي كقوله : {ويحبونه}
أما الذاتي فكله صفات وهو محصور مثبت مضبوط إن شاء الله ..
يبقى نصوص الأفعال والانفعال فهذه ثبت عن السلف أنهم أخذوا من بعضها صفات أفردوها وقالوا بالنص : هذه صفة لله تعالى :
مثل : المجيء ، من قوله : {وجاء ربك}
والنزول من قوله صلى الله عليه وسلم : (ينزل ربنا)
فنقول عن هذه إنها صفات لله تعالى ..
وجاء في بعضها خبر عن الله أو فعل أو انفعال لكن لم ينص واحد منهم – فيما اطلعت عليه -على أنها صفة لله تعالى :
كقوله صلّى الله عليه وسلّم في خبر النار: (فيضع الجبار قدمه فيها) فهذا نص على إثبات القدم لله تعالى ..
لكن لم أطلع على من قال بصفة الوضع
وقوله صلّى الله عليه وسلّم : (فيخرج أقواماً من النار) لم أر من قال إن من صفاته : الإخراج ..
وقال تعالى : {إن الذين يحاربون الله ورسوله} لم أر من قال إنها دليل على صفة كمال هي المحاربة أو أنه يُحارب .
وحديث (خلق الله آدم على صورته ) أثبتوا منه صفة الصورة لله ولكن كونه على صورة الرحمن هو خبر يمر كما جاء ولا يقال من صفات كماله أن آدم على صورته !!
ومثله حديث الأذى وآية : {إن الذين يؤذون الله ورسوله}
وهكذا غيرها كثير هي أخبار تمر كما جاءت .. وأنكر السلف على من أولها واستبعدها لكن لم يقولوا إنها هي بذاتها صفات ..
وهذا يفسر لنا كلام الشيخ ابن عثيمين وابن القيم أنهم لم يقصدوا كون التأذي صفة كمال لله تعالى .. وإنما عبارتهم تتضمن الرد على من يتأول هذا كما ذكره البغوي أعلاه وغيره من أن المراد أذى أوليائه .. فهذا تأويل مرفوض بحق لأنّه لا دليل عليه .
ولأن ظاهر النص لا نقص فيه في ذات الله تعالى ولا كماله فالأذى فعل العبد لا يلحقه منه ضرر ولا أثر فليس أذاه كأذى المخلوق لأن المخلوق يتضرر بالأذى ولو خف فالكلام يتأذى منه ابن آدم ويؤثر فيه والله تعالى منزه عن ذلك ..
وهذا الكلام لا يعني أن التأذي صفة كمال لله تعالى ..
كما نقول في سائر ما أخبر به عن نفسه فكما قال إن العباد يكذبونه ويشتمونه وينتقصونه فهم بذلك يؤذونه ..
فكل هذه أخبار .. نمرها كما جاءت ..
بقي أن أشير إلى أمر مهم :
وهو أن ما سبق في كلام الأخ ابن عقيل فيه بعض الخطأ لا يوافق عليه فبعض كلامه هو كلام من نفى صفات الأفعال ولا أريد أن أدخل مع الأخ في نقاش لكن أقول هذا حتى لا يظن أني أوافقه في المضمون ..
أنا أقول : إن المسألة برمتها تتوقف على ورود النص الصريح بإثبات الصفة ، وليس في بدائه العقول ولا الأصول الشرعية ما يمنع أن يكون ذلك صفة لله لكن لم يرد نص عن السلف كما أن النص لا يساعد في ظني على ذلك إذ كلّ ما فيه هو أن العباد يأذونه ولم يذكر الله تعالى ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولا أحد الصحابة و لا أحد من يُقتدى به من الأئمة أن من صفاته تعالى أنه يتأذى ..
ولو ورد عنهم نص ثابت لقلنا به وضربنا بآرائنا عرض الحائط ..
هذا ما عندي والله تعالى أعلم وأحكم ..
إن كان صواباً فله الحمد ربي على ما أنعم وإن كان خطئاً فمن نفسي الجهولة وأستغفر الله .