مقصد حفظ الدين
(رؤية مقاصدية معاصرة)
المقدمة:
لا شك أن أهم ما يمتلكه الإنسان في هذه الحياة هو دينه الذي منّ الله به عليه، فالدين بمثابة الروح للجسد، فكما لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون روح، لا تستطيع أحوال الإنسان أن تكون بعيدة عن هذا الدين.ولا شك أن كل مسلم مطالب بالحفاظ على دينه، من حيث التحصيل والزيادة بفعل المأمورات، واجتناب المنهيات، أو من حيث الحفاظ عليه من الانتقاص، الذي يؤدي إلى هلكة الإنسان في الدنيا والآخرة.من هنا تظهر أهمية هذا البحث عن مقصد من المقاصد الشرعية، أو من الضروريات الخمسة، أو عن أهم مقصد من الكليات الخمسة التي جاء الشرع الحنيف لحفظها، ألا وهو مقصد حفظ الدين.
وقد قدمت لهذا المقصد بمقدمة عن مقاصد الشريعة وأقسامها، ثم شرعت في بيان هذا المقصد من حيث التعريف، وعلاقته بالمقاصد الأخرى، وبالوسائل التي نحافظ بها عليه من حيث الوجود والعدم، ثم تحدثت عن بعض الوسائل المعاصرة، وختمت بالمراجع.
معنى مقاصد الشريعة:
يعرف الطاهر بن عاشور مقاصد الشريعة بقوله: "مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا: أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها. ويدخل في هذا أيضًا معانٍ من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها"[1].
ويعرفها علال الفاسي بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها"[2].
ويعرفها بقوله: "وأما معنى مقاصد الشريعة فيراد بها: الغايات التي تهدف إليها النصوص من الأوامر والنواهي والإباحات، وتسعى الأحكام الجزئية إلى تحقيقها في حياة المكلفين، أفرادًا وأسرًا وجماعات وأمة"[3].
أقسام المقاصد:
يرجع الفضل إلى إمام الحرمين (أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله الجويني) (ت:478هـ) في تقسيم المقاصد إلى التقسيم الثلاثي المعروف والشهير (الضروريات- الحاجيات- التحسينات)، وهو التقسيم الذي أصبح من أسس الكلام في المقاصد.
كما أنه صاحب السبق في الإشارة إلى الضروريات الكبرى في الشريعة (الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)[4].
وسار على نهج أستاذه الجويني الإمام أبو حامد الغزالي (ت:505هـ)، فقد قسم المصالح حسب درجة قوتها ووضوحها إلى (الضروريات، والحاجيات، والتحسينات)، وقد جاء هذا التقسيم عند الإمام الغزالي على درجة من الوضوح والاستقرار، مع إبرازه لما بين المراتب الثلاث من تفاصيل وتكامل، وإعطائه الأمثلة الكافية لكل مرتبة ومكملاتها من المراتب الثلاث[5].
وقد أصبحت هذه الخطوات التي خطاها الإمام الغزالي، وأصبحت هذه المباديء التي نقحها وحررها في مقاصد الشريعة، هي المبتدأ والمنتهى لعامة الأصوليين الذين جاؤوا بعده.
حتى نصل إلى الإمام الشاطبي (ت:790هـ)، الذي يمثل المنعطف الثالث في علم أصول الفقه[6].
ونستطيع أن نعرف هذه المصالح الثلاث بتعريف الشاطبي فنقول:
المصالح الضرورية فمعناها: أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين[7].
وأما الحاجيات فمعناها: أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراعَ دخل على المكلفين (على الجملة) الحرجُ والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة[8].
وأما التحسينات فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنُّبُ الأحوال المدنِّسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق[9].
المقاصد الضرورية وموقع مقصد (حفظ الدين) منها:
عرفنا بأن المقاصد الضرورية هي المقاصد اللازمة التي لابد من تحصيلها لكي يقوم صلاح الدين والدنيا، لأجل إسعاد الخلق في الدنيا والآخرة[10]، وهذه المقاصد تنقسم إلى خمسة مقاصد ضرورية وهي:
(1)- المقاصد الضرورية لحفظ الدين:
ومعناها: تثبيت أركان الدين وأحكامه في الوجود الإنساني والحياة الكونية، وكذلك العمل على إبعاد ما يخالف دين الله ويعارضه، كالبدع ونشر الكفر، والرذيلة، والإلحاد، والتهاون في أداء واجبات التكليف[11].
(2)- المقاصد الضرورية لحفظ النفس:
ومعناها: مراعاة حق النفس في الحياة والسلامة والكرامة والعزة، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4][12].
(3)- المقاصد الضرورية لحفظ العقل:
ومعناها: حفظه حتى يستطيع أداء مهمته التي كلفه الله بها، فالعقل شرطًا في التكليف فهمًا وتنزيلا، ومناطًا في التعامل مع أحوال النفس والكون، اكتشافًا لأسرارهما واستنباطًا لقوانينهما والاستفادة من خبراتهما[13].
(4)- المقاصد الضرورية لحفظ النسل والنسب والعرض:
ومعناها: التناسل والتوالد لإعمار الكون[14].
(5)- المقاصد الضرورية لحفظ المال:
ومعناها: إنماؤه وإثراؤه وصيانته من التلف والضياع والنقصان[15].
موقع مقصد (حفظ الدين) منها:
يعد هذا المقصد أكبر الكليات الخمس وأرقاها[16]، وهو مقصدًا لجميع التكاليف أصولها وفروعها[17]، وأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين[18]، فالدين أصل للمقاصد كلها، فإذا ذهب الدين ذهبت الدنيا بأسرها، وذهبت المقاييس الصحيحة والموازين العادلة، واتبع الناس أهواءهم، والدليل على ذلك فيما يلي:
1- قوله تعالى: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.... ﴾ [المؤمنون: 71].
فهذه الآية تشير إلى أن اتباع الهوى يلزم منه الفساد؛ وذلك لأن أهواء الناس تختلف وتتضاد، ومصالحهم تتعارض، فإذا لم يكن هناك دين يضبط المصالح، وينظم الحياة، فإن كل شخص سيفعل ما يراه مصلحة له بحسب ما يمليه عليه هواه، فيحصل الاعتداء على الأموال، والأنفس، والأعراض، والأنساب[19].
2- إن الإيمان بالدين يجعل الإنسان محجمًا عن الاعتداء على المقاصد المذكورة، حتى في السر(حين لا يراه أحد)، فبالدين تكون المقاصد السابقة محفوظة ظاهرًا وباطنًا؛ لأن المؤمن يعلم أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور...
3- إن النصوص الشرعية طافحة بالأمر بحفظ هذه المقاصد، وقد تقدم شيء منها، وذلك ضمن أطر تحقق المصلحة وتدفع المفسدة.
4- الواقع خير شاهد على ذلك؛ فنحن نرى الدول الكافرة، أو التي لا تطبق الشريعة كيف تضيع فيها هذه المقاصد تحت شعارات الترويج، حيث الاغتيالات التي لا تنكر، وانتهاب الأموال بطرق واضحة وملتوية، وانتهاك الأعراض، واختلاط الأنساب بشتى الطرق[20].
مقصد حفظ الدين في القرآن والسنة:
يتأكد وجود هذا المقصد في القرآن والسنة، فأما عن وجوده في القرآن الكريم فمسألة أوضح وأشهر من أن تحتاج إلى دليل أو مثال، حتى لقد شاع (خطأ) أن القرآن المكي لا يحتوي إلا على هذا المقصد[21].
ومن الآيات التي تتحدث عن هذا المقصد:
قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، وقال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ [الروم: 43][22].
فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق، ولا تستمد من علم، إنما تتبع الشهوات، والنزوات بغير ضابط ولا دليل[23].
وكما تأصل مقصد حفظ الدين في القرآن تفصل في السنة، فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معانٍ، وهي: الإسلام والإيمان والإحسان.
فأصلها في الكتاب، وبيانها في السنة. ومكمِّلُهُ ثلاثة أشياء، وهي: الدعاء (الدعوة) إليه بالترغيب والترهيب، وجهاد من عانده أو رام إفساده، وتلافي النقصان الطاريء في أصله. وأصل هذا في الكتاب، وبيانها في السنة على الكمال[24].
مقصد حفظ الدين بين الإيجاد والعدم:
(أ)- مقصد حفظ الدين من حيث الإيجاد:
التعريف:حفظ الدين من حيث الإيجاد يعرف: ما يقيم أركان الدين، ويثبت قواعده[25]، ومعناه أيضًا: تثبيت أركان الدين وإحكامه في الوجود الإنساني والحياة الكونية[26].
وسائل حفظ الدين من حيث الإيجاد:
يقول الإمام الشاطبي (رحمه الله): "فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان، والنطق بالشهادتين، والصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك"[27].
بل إن الله (تبارك وتعالى) قد شرح أنواع العبادات وكيفيتها؛ لتنمية الدين في النفوس، وترسيخه في القلوب، وإيجاده في الحياة والمجتمع، ونشره في أرجاء المعمورة، وأوجب الدعوة إليه؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور[28].
وقد لخص الدكتور محمد اليوبي وسائل حفظ الدين من جانب الإيجاد إلى أربع وسائل وهي:
(1)- العمل به:
من المعلوم أن هذا الدين ما شرعه الله إلا ليعمل به، لا لتحفظ ألفاظه فحسب، فالدين اعتقاد وعمل، والثمرة المرجوة منه لا تتحقق إلا بالعمل به...
فالعمل بالدين أمر متحتم لابد منه، فمنه ما هو واجب على كل مكلف وهو المعروف عن الأصوليين بـ"الواجب العيني" ومنه ما هو واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض وهو المعروف بـ"الواجب الكفائي" والقدر المشترك في ذلك هو أنه لابد من القيام بالواجب سواء كان القائم به واحدًا يكفي عن الأمة، أو كل فرد من الأمة فبالمحافظة على الواجبات يحفظ الدين؛ لأن هذه الواجبات دعائم الدين وأركانه وأسسه...[29].
(2)- الحكم به:الحكم بالدين ضرورة من ضروريات حفظه، ويكون ذلك من عدة وجوه:
إن الحاكم به يحفظ الدين في خاصة نفسه؛ لأن الله (عز وجل) نفى الإيمان عمن لم يحكم بما أنزل الله، ووصفه بضده وهو الكفر، فقال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].
إنه يحفظ الدين في مجتمعه، وذلك بإظهار أحكام الإسلام وشعائره وإقامة حدوده، وجعله مهيمنًا على الحياة كلها مما يتناسب مع حقيقة هذا الدين ومقاصده، ومن المعلوم ما يحققه ذلك من حفظ للدين، بترسيخ مفاهيمه في النفوس، وتحقيق مقاصده من العدل وتحقيق المصالح ودرء المفاسد.
إن الحكم بالدين وتطبيق أحكامه يسد الباب على أهل الأهواء المنحرفة والمذاهب الهدامة والأفكار الضالة، ويمنعهم من نشر مبادئهم وإظهار أمرهم؛ لأنهم إذا علموا أنهم في دولة تقيم أحكام الله وتنبذ ما سواها يحجمون عن مقالاتهم الضالة؛ خوفًا من العقوبة، وحين يبعد الدين ويقصى عن الحكم، وتحل محله القوانين الوضعية، فإنهم يتمكنون من نشر أفكارهم المسمومة تحت ستار البحث العلمي تارة، وتحت الحرية الفكرية تارة أخرى[30].
(3)- الدعوة إليه:الدعوة إلى هذا الدين وظيفة الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، ومن أجلها تحملوا المتاعب وصبروا على الأذى حتى أظهر الله أمرهم وأعلى شأنهم.ولا يمكن تصور قيام دين وانتشاره بدون دعوةٍ إليه، وبيان لمحاسنه، وتوضيح لأحكامه وآدابه، وكشف الشبهات عنه...
ويمكن أن نلخص أهمية الدعوة في الحفاظ على الدين في الآتي:
في الدعوة إلى الله تعليم للجاهل، فهناك من لم يسمع بهذا الدين بالمرة، فالدعوة تبين له حقيقة الدين.
في الدعوة كشف للشبهات التي تثار حول الدين، وإظهار الحقيقة الناصعة للدين ليقبل عليه الناس، ويؤمنوا به فيكثر أتباعه، ويقل أعداؤه.
في الدعوة تفويت للفرصة على أعداء الإسلام الذين ينشرون مذاهبهم الباطلة وأفكارهم الهدامة...في الدعوة تحقيق لشمول الدين وعمومه في الزمان والمكان والأشخاص، فهذا الدين ليس محدودًا بزمان ولا مكان ولا أشخاص بل هو دين للناس عامة، قال تعالى: ﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا ﴾ [سبأ: 28]...[31].
(4)- الجهاد في سبيل الله[32]:
من أعظم وسائل حفظ الدين الجهاد في سبيل الله؛ وذلك لأن الدعوة إلى هذا الدين لن تقابل بالقبول من كل الناس، بل سيقابلها بعضهم بالرفض والجحود والإنكار... ولن يقف الأمر عند هذا الحد بل سيتعدى الأمر إلى التسلط على المؤمنين به ومحاربتهم.
وتظهر ضرورة الجهاد في حفظ الدين وتتلخص في: أن تسلط الكفار على المؤمنين يلزم منه امور:
منع المؤمنين من القيام بشعائر دينهم والتضييق عليهم.
إظهار الأحكام والقوانين المنافية للإسلام، وإبعاد الدين وإقصاؤه عن الحياة.
زهد الآخرين فيه، وخوفهم من الدخول فيه؛ لما يرون من حال أهله، وكونهم أذلاء مهانين، لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا، يعذبون، ويحتقرون.
تشويه صورة الدين، وتنفير الناس منه، وبث الدعاية ضده، مما يجعل النفوس تنفر منه، ولا تتقبله، وذلك لأنهم يمتلكون وسائل التأثير من جهة، ولكون الناس تصغى دائمًا (إلى الأقوى من جهة أخرى).
حصار الدين والتضييق عليه في حدود منطقته، وهذا بدوره يؤدي إلى قلة أتباعه ومن ثم عدم مقدرتهم على مجاهدة أعدائهم، مع أن هذا ينافي قصد الشارع من كون هذا الدين للناس كافة.وبعد هذا فلك أن تتصور وجود دين محاصر في منطقة لا يسمح له بتجاوزها، أتباعه قليلٌ، يعذبون، وتظهر أحكام غير أحكامه، وتنتشر الدعاية السيئة ضده.وإذا أدركنا هذه اللوازم والأخطار الحاصلة من تسلط الكفار علمنا أهمية الجهاد في حفظ الدين وأهله، وبضدها تتبين الأشياء[33].
(ب)- مقصد حفظ الدين من حيث العدم:
التعريف:
ويعرف هذا المقصد من جانب العدم بأنه: ما يدرأ عنه الاختلال الواقع أو المتوقع فيه[34]، أو ردُّ كل ما يخالف الدين من الأقوال والأفعال[35].
وسائل حفظ الدين من حيث العدم:
يحدد الدكتور محمد اليوبي هذه الوسائل بقوله: "هذه الوظيفة الجهادية من أهم وسائل حفظ الدين؛ لأن ترك الأقوال الباطلة، والمعتقدات الفاسدة، والأفكار المنحرفة، والمذاهب الهدّامة تتسرب إلى عقول المسلمين دون إنكار ولا رد، فيه ضياع لهذا الدين حيث سيدخل في الدين ما ليس منه، ويلبس الحق بالباطل"[36].
ثم حدد الأصناف التي تقف لرد هذه الأفكار والأقوال الباطلة في صنفين هما:
1- العلماء:
"فالعلماء (قديمًا وحديثًا) وقفوا في وجه أصحاب تلك الأفكار المنحرفة، والبدع الضالة وكل ما خالف الدين بألسنتهم وأقوالهم، يبينون الحق، ويبينون ما خالفه وخرج عنه، ويذمون أهل الأهواء والبدع، ويصيحون بهم في كل جانب"[37].
2- الحكام:
"ومسئولية هؤلاء تنفيذ أحكام الله في أهل الأهواء والخارجين عن الدين، وإنزال العقوبة المناسبة بهم، ومن أعظمها: قتل المرتدين وقتالهم، كما فعل أبو بكر (رضي الله عنه) تنفيذًا لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من بدل دينه فاقتلوه..."[38] [39].
وسائل حفظ الدين (رؤية مقاصدية معاصرة)[40]:
أحببت أن أختم هذا البحث برؤية مقاصدية معاصرة (من وجهة نظر الباحث)، وذلك إيمانًا مني بأن الباحث لابد أن يظهر رأيه الشخصي، ويُرَى طبيعته البحثية من خلال بحثه، وتظهر أهم الوسائل المعاصرة لحفظ الدين من جانبي الوجود والعدم في الآتي:
التشريعات القانونية لحفظ الدين:
ولا أقصد بذلك الحدود التي حدها الحق (تبارك وتعالى) في كتابه العزيز لحفظ الدين، ولكن أقصد بها: تلك التشريعات التي تقع في سلطة الحاكم زيادة على ما وجهنا وكلفنا به الشرع الحنيف، وما يقع من قبيل المصالح المرسلة، وما يسميه علماء الشرع بـ"التعزيرات"، فينبغي لكل حاكم أن يضع نصب عينيه هذا الأمر حفاظًا على دين الله (تبارك وتعالى).
قوانين الآداب العامة:
وقد تكون هذه القوانين واقعة في الوسيلة الأولى التي ذكرناها، وأقصد بها: تلك القوانين التي تحافظ على الآداب العامة، والتي تساعد على الارتقاء بأخلاق المجتمع وأخلاق الساكنين فيه، مما يجعل المجتمع المسلم قدوة في الأخلاق العامة للمجتمعات الأخرى، وأكرر أن هذه التشريعات تقع في سلطة الحاكم، وهو مسئوول عنها أما الله (عزوجل).
مواثيق الإعلام الهادف:لا شك أن الإعلام من (صحف- مجلات- قنوات فضائية) يمثل الآن سلاحًا عظيمًا في تغيير القيم المجتمعية، سواء إلى الأحسن أو إلى الأسوأ، فينبعي أن يكون لهذا الإعلام مواصفات لا يخرج عنها، تصب في مصلحة حفظ الدين، وتعلي من قيم المجتمع المسلم، ونحتاج أيضًا إلى التشريعات الحازمة لكل من يخالف هذه المواثيق والقوانين.
الاهتمام بالمساجد وتفعيل دورها:
فالمسجد ما زال هو المؤسسة الدعوية الأولى في الحفاظ على هذا الدين، ولا يخفى علينا ما تتعرض له مساجدنا الآن من إهمال جسيم سواء على مستوى تكوين الأئمة والخطباء الثقافي والفكري، أو على مستوى الوضع المادي المهين لهم، مما يجعلهم يتركون الدعوة، وينشغلون بغيرها للحصول على ما يكفيهم في هذه الحياة. فينبغي على المسؤولين الاهتمام بالمساجد ودعاتها، وإعطائها القيمة المستحقة، والتي بلورها لنا الشرع الحنيف.
الاهتمام بالأسرة ومراجعة قوانينها بما يتوافق مع الدين:
فالأسرة هي حصن هذا الدين، وستظل هي المأوى والأرض الخصبة لتطبيق تعاليم الإسلام، فينبغي على المسلمين (حكامًا ومحكومين) الحفاظ عليها، بإحياء قيم الأسرة المسلمة من (الحب - والوحدة - والشورى، وغيرها)، مما علمنا إياها ديننا الحنيف، وينبغي في هذا الشأن مراجعة قوانين الأسرة، التي تخالف الشريعة الإسلامية، وتقضي على دورها الفعال في الحفاظ على هوية الأمة الإسلامية.
الاهتمام بالوسائل الالكترونية الحديثة:
فهذه الوسائل سواء كانت باللغة العربية أو باللغات الأخرى وسيلة مهمة في حفظ الدين، وتوصيله إلى من يجهلونه، وهذه رسالة عظيمة نافعة، ينبغي أن يتخصص فيها أفراد من هذه الأمة، والحمد لله ظهرت في الأيام الأخيرة ثمار طيبة لها، فعلينا ألا نهمل هذه الوسائل، وننظر دائمًا إلى المتطور منها دائمًا.
اللوبيات الإسلامية في البلاد الأجنبية:"اللوبي" هو تكتل سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي في بلد معين، يساعد هذا اللوبي وفق قوته (المادية والاجتماعية والسياسية) في القرار المأخوذ في هذا البلد، بل يساهم في بناء أهدافها واستراتيجياتها المستقبلية، فعلى المسلمين المغتربين أن يتركوا حياة العزلة والانفرادية، ويهتموا بهذه التكتلات الجماعية فهي من الوسائل المهمة في الحفاظ على الدين.
الاهتمام بالاقتصاد الإسلامي:
لا يخفى على أحد ما يلعبه الاقتصاد الآن في العالم، وما أسفرت عنه المذاهب الاقتصادية الوضعية (الاشتراكية والرأسمالية) من خطر داهم على شعوب العالم، ومن توحش يجمع في طياته اغتصاب حقوق الآخرين من الدول الفقيرة والضعيفة، ولا شك أن مبادئ الاقتصاد الإسلامي قادرة على إنقاذ العالم (وخصوصًا بعد الأزمة الاقتصادية العالمية) من هذه الركدة التي ستأتي على الأخضر واليابس.
تفعيل قضية الحوار بين الأديان:
ولا يخفى ما لهذه القضية من فوائد عظيمة في حفظ الأديان السماوية، وإيجاد صيغة مشتركة تفاهمية لخدمة العمل الإنساني، تكون قائمة على الحوار والنفع المشترك (كما تبثها تعاليم السماء) بدلا من قيم الحروب والعنف والدمار، التي استحكمت على شعوب العالم جراء البعد عن تعاليم السماء.
توجيه النظر إلى الأقليات المسلمة:
فلا يخفى على أحد ما تلاقيه هذه الأقليات المسلمة من تعنت ومحاصرة وتضييق في البلاد التي تعيش فيها، فينبغي للدول الإسلامية الكبرى، بما تملكه من مؤسسات خيرية وتعليمية من توجيه أنظارها إلى هذه الأقليات، فالمسلمين وحدة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
توجيه النظر إلى أفريقيا:
فقارة أفريقيا، هذه القارة السمراء، تنتشر فيها الأديان الوضعية بشكل هائل، ولا شك أنها تربة خصبة لانتشار هذا الدين، وقد وجهت بعض الاهتمامات الرسمية والفردية إلى هذه القارة، لكننا نحتاج إلى مزيد من الاهتمام، خصوصًا عند معرفتنا بأن أفريقيا أصبحت مرتعًا خصبًا لعمليات التنصير الممنهجة، والتي ستؤثر سلبًا على المعتنقين لدين الإسلام، فضلا عن غيرهم.هذه بعض الوسائل المعاصرة التي تساعد على حفظ هذا الدين، والتي ينبغي الاهتمام بها في الوقت المعاصر.
المراجع:
1- نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1416هـ/1995م.
2- مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، دار الغرب الإسلامي/ مؤسسة علال الفاسي، الطبعة الخامسة، 1993م.
3- دراسة في فقه مقاصد الشريعة، دار الشروق، الطبعة الثالثة، 2008م.
4- الموافقات في أصول الشريعة، أبو اسحاق الشاطبي، مكتبة الأسرة، 2006م.
5- علم المقاصد الشرعية، نور الدين بن مختار الخادمي، مكتبة العبيكل، الطبعة الأولى، 1421هـ/2001م.
6- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي، دار الحديث، 1422هـ/2001م.
8- موسوعة قضايا إسلامية معاصرة (مقاصد الشريعة)، محمد الزحيلي، الجزء الخامس، دار المكتبي، د ت.
9- مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، محمد اليوبي، دار الهجرة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1418هـ/1998م.
[1] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، أحمد الريسوني، ص18، نقلا عن: مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، ص50.
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، ص7.

[3] دراسة في فقه مقاصد الشريعة،ص20.

[4] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص51، ببعض التصرف.

[5] المرجع السابق، ص56.

[6] المرجع السابق، ص56.

[7] الموافقات، الشاطبي (2/6).

[8] الموافقات، الشاطبي (2/8).

[9] الموافقات، الشاطبي (2/9).

[10] علم المقاصد الشرعية، نور الدين الخادمي، ص79.

[11] المرجع السابق، ص81.

[12] المرجع السابق، ص82.

[13] المرجع السابق، بتصرف.

[14] المرجع السابق، ص83.

[15] المرجع السابق، ص84.

[16] المرجع السابق، ص81.

[17] محمد عبدالله دراز، شرح تعليقات الموافقات (الموافقات:2/7).

[18] الموافقات (2/7).

[19] انظر: تفسير القرطبي (12/140)، والموافقات (2/4).

[20] مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، محمد اليوبي، ص209-211، ببعض التصرف.
[21] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص173.
[22] للاستزادة من المعاني المختلفة لكلمة "الدين"، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي، ص330،329.
[24] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص176.

[25] الموافقات (2/6)، بتصرف.

[26] علم المقاصد الشرعية، ص81.

[27] الموافقات (2/7).

[28] مقاصد الشريعة، محمد الزحيلي، ص639.

[29] مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، ص196،195، ببعض التصرف.
[30] المرجع السابق، ص199،198،197، ببعض التصرف.

[31] المرجع السابق، ص199-203، ببعض التصرف.

[32] الجهاد يصلح أن يوضع في حفظ الدين من جانب الوجود؛ لكونه دعوة إلى نشر الدين، وصالح لأن يوضع في (جانب العدم)؛ لكونه دفاع من رام منع الدين، وذلك لكون الجهاد في الإسلام دفاعًا من وجه، وهجومًا من وجه.
[33] مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، ص203-206، بتصرف.

[34] الموافقات (2/6)، بتصرف.

[35] مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، ص206.

[36] مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، ص206.

[37] المرجع السابق.

[38] أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الجهاد- باب لا يعذب بعذاب الله) حديث (3017) 6/149، وفي كتاب الاعتصام (باب قول الله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38] و﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]13/339.
[39] مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، ص207.

[40] هذه الوسائل قد تكون لحفظ الدين من طريق الوجود أو من طريق العدم.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/65575/#ixzz6LUiRwYLt