المورسكيون و المقاومة بالطرق القانونية



إن استمرار الإسلام بشبه الجزيرة الأيبرية لمدة تزيد عن القرن بعد سقوط غرناطة سنة 1492م كان بفضل الله عز و جل ثم بفضل المقاومة اليومية التي أبداها الأندلسيون أمام محاولات دمجهم في المجتمع النصراني و إجبارهم على التخلي عن دينهم الإسلامي. فقد استبسلوا في المقاومة و ضربوا أمثلة في التضحية بالغالي و النفيس فداءا للإسلام و استعملوا جميع الوسائل لمناورة تحركات محاكم التفتيش ضدهم, هذه المحاكم التي أضحى عملها هو التأكد من صدق إيمان المورسكيين بالنصرانية و نبذهم للإسلام. يقول الدكتور الفرنسي لويس كادرياك :''إن دور محكمة التفتيش بالأساس هو حماية وحدة العقيدة عبر محاربة كل أشكال الهرطقات. هكذا ستنظم نفسها ضد المورسكيين لمّا يُدعون للتحول للنصرانية و الإخلاص لها'' (1).


ناضلوا بالكلمة, بالكتابة بل و حملوا السلاح في وجه جلادهم كما حصل في حرب غرناطة الكبرى سنة 1568م (2), و لجأ بعضهم إلى الوسائل القانونية لعله ينقد رقبته من نار محكمة التفتيش.

فما بين 1538 و 1542 التمست الطائفة المورسكية بدمييل Daimiel, المشدود أزرها بمورسكيي منطقة « Cinco Villas », سلطة المفتش العام مانريك لتعارض بالطرق القانونية سلطة المفتش المحلي يانيس Yanes. فقد جاءهم رجل المغرو Almagroالثري ألونسو الطيب Alonso el Bueno بنبإ صدور بيان بابوي يصب في صالحهم. و تجلت مطالبهم في :

-إلغاء الاحتفال بالسان بنيتو San benito.

-إلغاء مصادرة ممتلكاتهم.

-إصدار قانون لا يُحكم بموجبه على الفرد بالهرطقة إلا بشهادة ثلاثة أشخاص.

فحملوا هذه المطالب إلى محكمة التفتيش العليا و عرضوا قضيتهم على المسؤولين.


الطائفة المورسكية ببلنسية أبانت كذلك عن تضامن كبير فيما بينها حيث كانوا يدفعون الجزية مرتين في السنة للعرش القشتالي مقابل مهادنتهم نسبيا و ذلك بموجب ميثاق وقِّع سنة 1571م, و يقضي بإلغاء مصادرة محاكم التفتيش لممتلكات المهرطقين, على ألا تتجاوز الغرامات 10 دوقات (3).


أمّا على الصعيد الفردي فنجد أيضا هذه الإرادة القوية للمقاومة بالطرق القانونية و معارضة قرارات محاكم التفتيش. بل ذهب بعضهم لعرض قضيته على محكمة التفتيش العليا بروما, خاصة أولئك القاطنون قرب الحدود الفرنسية الذين قطعوا مسافات طويلة للوصول للبابا و الطعن في حكم محلي ضدهم, ككاتالينا مونتيرا (4) و خوان دي أريكلي (5) و المزارعين الأراغونيين اللذين يمموا تلقاء روما لتُحلّهم من تهمة الهرطقة التي لحقتهم بإسبانيا.


سنة 1608م قضى لوبي علج الملقب بالجندي ‘’Lope Alax ‘’El soldado’’ في نفس النار التي أحرقت قبله كاتالينا و خوان. لقد أبدى مقاومة عجيبة و مثالية طيلة سنوات. فرغم إدانته للمرة الأولى سنة 1574 من طرف محكمة تفتيش سرقسطة بسبب''عيشه كمسلم و أدائه طقوس ملة محمد لمدة 22 سنة, و اعتقاده أنها كفيلة بإنقاذ روحه, و إيمانه بأن يسوع المسيح ليس ابنا لله و لا العذراء هي أمه بل ليست عذراء أصلا(*)'', رغم هذه الإدانة استمر في تعلقه بالدين الإسلام الحنيف و بدل جهده في اتباع تعاليم القرآن العظيم إلى حين إدانته للمرة الثانية في أواخر سنة 1607م, حيث خصص غرفة في بيته لأداء الصلاة, و جاء في محضر الاتهام: ''لمّا دخل الشاهد إلى منزل المتهم, رآه اتخذ في إحدى الغرف حمّاما, و فيها كان يتوضأ guadoc و يصلي Zala, و قد رآه يقوم بذلك عدة مرات'' (6). و كان لوبي يمتلك نسخة من القرآن ابتاعها بثلاثين أوقية من مورسكي بأراندا Aranda: "رأى (الشاهد)بحوزته كتابا كبيرا مكتوبا بحروف إسلامية فسأله إن كان هذا الكتاب هو القرآن الذي كتبه أحد المورسكيين بأراندا فقال له نعم و أنه أعطى مقابله 30 أوقية'' (7).


لم يشك قضاة محكمة التفتيش في دعوته الآخرين للإسلام, فقد حاول مرات عديدة استمالة أفراد عائلته و إعادتهم لرياض الإسلام النضرة, لكن المفاجأة كانت كبيرة لمّا شهدت أخته ضده, و جاء في محضر الاتهام : ''الشاهد الثالث هي أخته التي أفادت أن المتهم أقنعها في نونبر 1607م و عمرها آنذاك 12 سنة بالعيش كمسلمة و علّمها طقوس ملة محمد و قاما بها معا و أسرّا إلى بعضهما أنهما قاما بذلك اعتقادا بأنها سبيل النجاة (8). ''


أمام هذه الأدلة طالبت محكمة التفتيش بإيقافه, فأيقن لوبي أنها لا محال ستحرقه, فحاول و سنه 50 سنة لعب جميع الأوراق, فقصد هو الآخر روما و دافع عن نفسه هناك, دون أن يذكر أمامهم إدانته السابقة. فحصل على العفو للمرة الثانية و عاد إلى إسبانيا بالطعن البابوي في حكم محكمة تفتيش سرقسطة ضده.

لكن ما لبث لوبي أن اتُهم مرّة أخرى سنة 1608م بتهمة ''الإسلام'', و كانت هذه المرة الثالثة ثابتة حيث لم ترجئه محكم تفتيش سرقسطة لحظة و لم تمنحه فرصة للمناورة و قامت بحرقه في الحين بعد أن أعياها تشبثه بالإسلام.


الهوامش:


(*) فهذه قولة شنيعة في حق مريم البتول و ابنها المسيح عليهما السلام. فنحن نؤمن أن عيسى ليس ابنا لله و إنما عبد الله و رسوله آتاه الكتاب و جعله نبيا و بارا بوالدته التي حملت به بعد أن نُفخ فيها, كما نؤمن أنها بتول لم تكن امرأة سوء و لم يمسسها بشر و لم تكن بغيا. و ربما ما اعتقده لوبي رحمه الله هو من الاعتقادات الفاسدة التي تسربت للمورسكيين بسبب غياب تام لكل ما يمت للإسلام بصلة, و ما نسبته محكمة التفتيش له من أقوال شنيعة يشابه قول اليهود في المسيح و أمه.


(1)من كتاب ‘’Morisques et chrétiens. Un affrontement polémique(1492-1640)’’ للباحث الفرنسي لوي كاردياك. ص 108.

(2)هذه الأنواع من المقاومة أبرزها الباحث كادرياك في كتابه المذكور أعلاه.

(3)الأرشيف الوطني الإسبانيAHN, Inq leg 4671, I

(4)تفاصيل قضيتها على الرابط أدناه:

(5)تفاصيل قضيته على الرابط أدناه
(6)الأرشيف الوطني الإسباني AHN Inq lib 990 f° 488 r°

(7)نفس المصدر

(8)نفس المصدر


المصدر: من كتاب ‘’Quand en brulait les morisques’’ للباحثة الفرنسية جان فيدال. ص15-18.
كتبه أبوتاشفين هشام بن محمد زليم المغربي