قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ( مجموع الفتاوى ، 4 / 27 ـ 29 ) ما نصّه :
( فالكلام في هذا المقام واسع لا ينضبط هنا لكن المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوا وقولا للباطل وتكذيبا للحق في مسائلهم ودلائلهم لا يكاد والله أعلم تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك .
وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الإحتلام :
كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل ، إما في الدلائل ، وإما في المسائل ، إما أن يقولوا مسألة تكون حقا لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة ، وإما أن تكون المسألة باطلا .
فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظم هذا ، وذكر مسألة التوحيد .
فقلت : التوحيد حق ؛ لكن اذكر ما شئت من أدلتهم التي تعرفها حتى أذكر لك ما فيه .
فذكر بعضها بحروفه ، حتى فهم الغلط ، وذهب إلى ابنه ، وكان أيضا من المتعصبين لهم فذكر ذلك له ، قال فأخذ يعظم ذلك عليّ ، فقلت : أنا لا أشك في التوحيد ؛ ولكن أشك في هذا الدليل المعين .
ويدلك على ذلك أمور :
أحدها : أنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا ، وأضعف الناس علما ويقينا ، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم ويشهده الناس منهم ، وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا .
وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل ، ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة ، وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي .
وإنما العلم في جواب السؤال ، ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر .
وقد قيل إن الأشعري مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الأدلة يعني أدلة علم الكلام ، فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها .
وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم ، كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره حتى قال أبو حامد الغزالي أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام .
وهذا أبو عبدالله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب : باب الحيرة والشك والاضطراب ؛ لكن هو مسرف في هذا الباب بحيث له نهمة في التشكيك دون التحقيق بخلاف غيره فإنه يحقق شيئا ويثبت على نوع من الحق ، لكن بعض الناس قد يثبت على باطل محض بل لا بد فيه من نوع من الحق .
وكان من فضلاء المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلام ابن واصل الحموي كان يقول أستلقي على قفاي وأضع الملحفة على نصف وجهي ثم أذكر المقالات وحجج هؤلاء وهؤلاء واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء !
ولهذا أنشد الخطابي :
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور ...
فإذا كانت هذه حال حججهم فأي لغو باطل وحشو يكون أعظم من هذا ؟!
وكيف يليق بمثل هؤلاء أن ينسبوا إلى الحشو أهل الحديث والسنة الذين هم أعظم الناس علما ويقينا وطمأنينة وسكينة وهم الذين يعلمون ، ويعلمون أنهم يعلمون ، وهم بالحق يوقنون لا يشكون ولا يمترون .
فأما ما أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم من اليقين والمعرفة والهدى فأمر يجل عن الوصف ولكن عند عوامهم من اليقين والعلم والنافع ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة المتكلمين وهذا ظاهر مشهود لكل أحد .