الأديب في اصطلاح المٌحدثين (مجهول العين)، لا بد من توثيق اثنان له. وهو يسير في أروقة معارض الكتاب, لا أحد يلقي له بالاً، فهم يبحثونعن المفكر المشهور والمذيع اللامع والشيخ المعروف.

وهو في عرف أهل المنطق يحتاج إلى مقدمتين, الأولى منها، القدرة على ولوج فضاء الإعلام، والإسهام في إرساء قواعد الثقافة السطحية, عليه أن يهبط إلى ذوق المشاهد لا أن يرفعه إليه.

أما المقدمة الثانية، فهي ألا يمانع في تدخلهم في كل ما يريد قوله, عليه أن يقدم ما يرون تقديمه، وأن يؤخر ما يرون تأخيره, وهذا ما لا يرضاه البتة منهم.

أما الفقيه، فلا تخلو نظرته إلى الأديب من سوء ظن وريبة، فتاريخ الأدب منذ أن تغلب عليه الظرافة والمجون والتمرد, جعلت الفقيه لا يطمئن إليه, وهذا الحكم في منزله اليقين لديه،واليقين لا يزول بالشك كما يقول.

الأديب قديماً جعلوه مؤدباً لأبناء السلاطين, يأكل من فاكهتهم, وينتعل أحذيتهم, ويقف مطرق الرأس على باب هباتهم.وهو في زمننا هذا, من يُطرق بابه ويُبحث عن رقم هاتفه، ليشارك عضواً في لجنة تحكيم لمسابقة أدبية طارئة.

عندما تقابله ذات مساء تحدث معه عن أي شان من شؤون الحياة عدا السؤال عن حاله, فهذا الصنف من الأسئلة يثير كوامن نفسه, فتجعله يسترسل في بث شكواه ومعاناته وحجم الإهمال الذي يتكشف له يوماً بعد يوم.

يعيش عزلة شعورية في عمله، وحتى عندما يعود أدراجه إلى مسكنه، يجدهم حوله يصرفون أوقاتهم في الحديث عن أسعار الغذاء الصاعدة للأعلى وعن تقلبات الطقس التي تصيبهم بالضجر، وهو الذي يهفو قلبه إلى من يحدثه عن وجود التمرد في شعر المتنبي، وعن البؤس الذي لاحق التوحيدي في حياته، وعن الزيات ورسالته, لكنه يقنع منهم بأداء التحية ثم ينسحب إلى غرفته ليجلس أمام الشبكة العنكبوتية.

يتحدث إلى ذلك الأديب في العراق وآخر في المغرب وثالث في السودان، لكن العزلة ما تلبث أن تعاوده، فهو يريدهم إلى جواره، يرتشفون من ذات الشاي الذي يشرب منه.

علاقته حميمة جداً مع اللغة العربية, تلك اللغة التي تركض في ميدانها المعاني الشريفة, يحزن جداً لأنهم استباحوا حماها وأهملوا أبوابها وأسرفوا في تجاهلها, يظل سادناً أميناً عليها, فكما أن الواعظ يٌحذر من الإباحية الأخلاقية, فهو يٌحذر من تلك الإباحية اللغوية.

غضب الحاكم لا يطفئ حتى تمتلئ السجون، وغضب القاضي لا يهدأ حتى يشطط في حكمه في حق ذلك المحكوم.أما الأديب، فإن الغضب يحيله إلى كائن جميل لا يحمل سيفاً يستر به عجزه، بل يحمل قلماً يفصح به عن تألقه.

الأديب تريده دوماً إما غاضباً ثائراً أو بائساً أو غيوراً, لا تتمنى له أن يكون ساكناً وادعاً, لأن في تلك الصفات موته وتوقف دفقات تألقه.

لا تريده أن يسابق الأثرياء في ثرائهم, فعندها سيكون مخلوقا ًآخر ليس هو ذلك الإنسان الذي يغتم لمشهد الفقير المعدم على رصيف المدينة، ولن تثيره طلائع العيد في طرف القرية, ولن يجد مادة خصبة لمقالاته وخيالاته.

الأديب لاقى عقوقاً من المجتمع الذي نهبه لقب (الأديب)، فأصبح لا يتورع في رميه على كل أحد, حتى ضاعت قداسة اللقب وكثر المنتحلين له.
لاقى عقوقاً حتى من ابنه الذي ينفق جل وقته في القراءة لذلك الأديب الفرنسي، وينصرف عن كتب والده, لا يجد غضاضة في أن يتركها تنام على الرف تلتحف طبقات من الغبار.