أسد الدين شيركوه
شريف عبدالعزيز الزهيري
أسد الدين شيركوه
فاتح الديار المصرية
مقدمة:
هناك بعض الشخصيات التاريخية في حياة أمة الإسلام كان لها دور بارز ونصيب وافر من التدوين والتعريف في كتب التاريخ، طارت أخبارهم وطبقت شهرتهم على كل من عاصرها فلم يبق ذكر إلا لها ولا مجد إلا إليها، على الرغم من وجود بعض الشخصيات الأخرى في نفس الوقت أو العصر كان لها من الدور والأثر ما ربما يفوق أثر وفعل الشخصية الأشهر فتنسى أفعالهم ومواقفهم في خضم شهرة الآخر، ومن هؤلاء صاحبنا أسد الدين شيركوه الذي هو عم الناصر صلاح الدين وأستاذه ومعلمه ومرشده الجهادي ومربيه على الحقيقة، والناس كلهم يعرفون صلاح الدين وقليل منهم من يعرف أسد الدين.
أسد الجبل:
هو البطل الفذ الأسد؛ أسد الدين شيركوه بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدويني الكردي، المولود ببلدة "دوين" على أطراف أذربيجان مع جورجيا سنة 500 هجرية تقريبًا، وشيركوه بالعربية: أسد الجبل، فـ"شير": أسد، و"كوه": جبل، نشأ هو وأخوه نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، بتكريت لما كان أبوهما شاذي ومعناها "فرحان" نقيب قلعتها، وكان نجم الدين أسن من أسد الدين، ويغلب على نجم الدين العقل والحكمة والتؤدة، في حين كان أسد الدين كالشهاب الحارق لا يصبر على إساءة أو عدوان أو انتهاك حرمات وهذا ما سينقل حاله من مكان لآخر.
من تكريت إلى الموصل:
التحق أسد الدين وأخوه نجم الدين بخدمة الأمير "بهروز" قائد شرطة بغداد عاصمة الخلافة العباسية، فأقطعهما الأمير "بهروز" قلعة تكريت، فسارا في الناس سيرة حسنة، ووقعت حادثة سنة 526 هجرية خلاصتها أن أسد الدين ونجم الدين قد ساعدا الأمير البطل "عماد الدين زنكي" عندما جاء إلى تكريت منهزمًا في قتاله ضد بعض خصومه بالخلافة، حيث قدم الأخوان لعماد الدين زنكي السفن اللازمة لعبوره هو وجنوده نهر دجلة إلى مدينته "الموصل" وكان الأمير "بهروز" على خلاف شديد مع "عماد الدين زنكي" فلم يعجبه هذا الفعل من أسد الدين ونجم الدين وتربص لهما الدوائر وتحين لهما الفرصة لمعاقبتهما.
كثرت التحرشات بنجم الدين وأسد الدين وأهلهم بقلعة تكريت من جانب جنود الأمير "بهروز" حتى جاءت الفرصة التي يريدها، عندما تعرض أحد الجنود لفتاة من آل أسد الدين في الطريق واشتكت الفتاة لعمها أسد الدين، فنزل لهذا الجندي الماجن وتكلم معه بشدة فرد عليه الجندي بأن سحب عليه السلاح، فتشاجر الرجلان مشاجرة انتهت بمصرع الجندي الماجن فغضب الأمير "بهروز" وأمر بطرد نجم الدين وأسد الدين وأهليهم من قلعة تكريت وذلك سنة 532 هجرية، وفي نفس الليلة التي ولد فيها صلاح الدين يوسف بن أيوب.
قرر الأخوان الصالحان التوجه إلى أمير الموصل "عماد الدين زنكي" والالتحاق بخدمته، فسارا إليه فأحسن استقبالهما وشكر صنيعهما معه، وضمهما لأمرائه وقادته وبالغ في إكرامهما وأقطعهما إقطاعًا حسنًا، وجعل نجم الدين واليًا على بعلبك وأسد الدين من مقدمي جيوشه، فعماد الدين زنكي كما قلنا من قبل كان خبيرًا بمعادن الرجال، بصيرًا بقدراتهم، قادرًا على توظيفهم حسب ما يبرزون ويحسنون، فرأى في نجم الدين الرجل الحكيم العاقل القادر على السياسة والقيادة، ورأى في بطلنا أسد الدين القائد العسكري الشجاع القادر على تحويل دفة الحروب بشجاعته وإقدامه.
من عماد الدين إلى نور الدين:
ظل أسد الدين شيركوه في خدمة عماد الدين زنكي، وخاض معه كل حروبه ضد الصليبيين وكان معه يوم فتح الرها وكان عماد الدين يحبه ويقدره؛ لأنه كان مثله بطلًا شجاعًا لا يهاب الموت، وظل هكذا حتى كان معه في معسكره ليلة أن قتل عماد الدين سنة 541 هجرية، وعندها قام أسد الدين شيركوه بدور في غاية الأهمية، ذلك أنه حفظ معسكر المسلمين من الهرج والمرج الذي يحدث عادة عند مقتل القائد ثم قام بإعطاء خاتم الملك الخاص بعماد الدين لولده نور الدين محمود كناية عن خلافته لأبيه الشهيد، ثم قام بحراسة نور الدين محمود حتى وصل سالمًا آمنًا إلى مدينة "حلب"، فعرف نور الدين هذا الجميل لأسد الدين، وصار من أقرب الناس إليه.
ومن ذلك اليوم أصبح أسد الدين شيركوه قائد جيوش نور الدين محمود أمير الشام الجديد وأصبح أخلص وأقوى أمراء الجيوش الشامية، ورجل المهام الصعبة الذي يعتمد عليه نور الدين في النوازل وصعاب الأمور، وكان له المواقف المشهورة والبطولات المشهورة.
الأسد المعلم:
كان أسد الدين شيركوه بحق الأستاذ الأول والمعلم الحقيقي والمكتشف البارع لقدرات ومواهب ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وذلك منذ أن كان صلاح الدين فتى يافعًا حيث رأى فيه شيركوه بعين الخبير الفاحص أن الفتى الصغير يجمع بين عقل وحكمة أبيه نجم الدين أيوب، وشجاعة وفروسية عمه أسد الدين شيركوه، وزهد وورع أميره نور الدين، وهي خصال ثلاث كفيلة بأن ترشح هذه الفتى لقيادة الأمة فيما بعد.
أدرك ذلك كله الأسد المعلم شيركوه في ابن أخيه فتعهده بالرعاية وضمه إليه وتولى تدريبه على فنون القتال وقيادة الجيوش وأساليب إدارة المعارك دفاعًا وهجومًا، كما تولى تعليمه فنون السياسة والمناورة والمفاوضة، حتى نضج الفتى اليافع وأصبح شابًا قويًا يصحبه أسد الدين في كل مكان وهو بمثابة الذراع اليمنى له، ومن لا يعرفهما يظن أن صلاح الدين هو الابن الوحيد والمقرب لأسد الدين، ولعل تعليم وتدريب صلاح الدين من أهم وأفضل أعمال أسد الدين شيركوه.
الأسد فاتح الديار المصرية:
كان أسد الدين شيركوه بحكم خبرته العسكرية الطويلة وبصيرته السياسية لأوضاع العالم الإسلامي وقتها يرى أهمية الديار المصرية وضرورة فتحها وإزالة الدولة الفاطمية الخبيثة بها والتي تسببت في ضياع بيت المقدس سنة 492 هجرية، فلقد كان أسد الدين شيركوه متأثرًا بفكرة توحيد العالم الإسلامي ضد الوجود الصليبي، وكان يرى أن النصر على الصليبيين لن يتم إلا بتوحيد مصر والشام.
لذلك كان شيركوه دائم الإلحاح على نور الدين لكي يفتح مصر، ونور الدين يرى أن الوقت غير مناسب والإمكانيات غير متاحة، فالجيوش مشغولة في قتال البؤر الصليبية في جميع أنحاء الشام، ولكن نور الدين لم يترك فكرة فتح مصر بالكلية، بل انتظر الفرصة المناسبة.
كانت الأوضاع في مصر شديدة الاضطراب، فالخلاف على أشده بين شاور وضرغام على منصب الوزارة، والخليفة العاضد الفاطمي ليس له من الأمر شيء، ولقد انتصر ضرغام على شاور وأخرجه من مصر فذهب مستنجدًا بالملك العادل نور الدين محمود، وضمن له ثلث إيراد مصر وأمورًا أخرى إن هو أعانه على استعادة وزارته المفقودة، فوجد في ذلك نور الدين الفرصة المناسبة لفتح مصر وضمها للشام، فكلف قائد جيوشه أسد الدين شيركوه أن يتوجه إلى مصر لذلك الغرض، ففرح الأسد بهذه المهمة، وخرج في صحبته تلميذه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي ومعه ألف رجل فقط، وذلك سنة 559 هجرية.
الأسد المرعب:
وصل أسد الدين شيركوه بعسكره المكون من ألف رجل فقط إلى مدينة بلبيس حيث اشتبك مع جيش ضرغام وانتصر عليه، ثم واصل تقدمه إلى القاهرة حتى قضى على ضرغام وأعاد شاور لمنصب الوزارة وأقام هو بظاهر القاهرة انتظارًا للوفاء بالعهود والمواثيق مع شاور، ولكن شاور غدر به وأمره بالرجوع إلى الشام وهدده، فما كان من الأسد شيركوه إلا أنه دخل مدينة "بلبيس" وامتنع بها وأرسل إلى شاور بأنه لن يتحرك من مكانه إلا بأمر قائده الملك العادل نور الدين محمود، وهكذا يكون الجندي المتمثل لأوامر قائده، حتى ولو كان هذا الجندي هو أعظم فرسان زمانه.
ولما كان شاور رجلًا لا يهمه إلا مصالحه الخاصة ومنصبه، فلقد أسرع وأرسل للصليبيين في الشام يستنجد بهم على أسد الدين، وكان الصليبيون منذ أن توجه أسد الدين إلى مصر قد أيقنوا الهلاك إذا فتح الشاميون مصر، فلما جاءتهم استغاثة شاور فرحوا بها وأرسلوا جيوشهم وقد بذل لهم شاور أموالًا طائلة من أجل الانتصار على بني دينه، وهكذا نرى أهل الدنيا لا يبالون بشيء إلا بدنياهم، ولا أي شيء يردعهم عن تحصيل دنياهم.
اجتمعت الجيوش الصليبية مع عساكر شاور الخائن وحاصروا أسد الدين شيركوه في بلبيس ثلاثة أشهر وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جدًا يقفزه الفارس بفرسه وليس لها خندق ولا أي تحصينات، ومع ذلك لم يجسروا على اقتحام المدينة من شدة خوفهم من أسد الدين شيركوه الذي ظل يقاتلهم ليلًا ونهارًا بألف رجل لا غير وهم عشرات الألوف، وفي هذه الفترة أغار نور الدين على أملاك الصليبيين في الشام وفتح تل "حارم"، فخاف الصليبيون على باقي أملاكهم وراسلوا أسد الدين في الصلح على أن يخرج كل منهم إلى بلاده فوافق أسد الدين.
شهادة الأعداء:
قديمًا قالوا: "الفضل ما شهد به الأعداء" فاسمع لهذه الشهادة من أحد الصليبيين الذين شاهدوا أسد الدين شيركوه يوم حصار بلبيس ثم يوم الصلح قال: "أخرج أصحابه بين يديه وبقي في آخرهم، وبيده عود من حديد يحمي ساقتهم، والمصريون والفرنج ينظرون إليه، فتقدمت منه وقلت له: أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك ولا يبقى لكم بقية؟ فقال شيركوه: يا ليتهم فعلوه حتى كنت ترى ما أفعله، كنت والله أضع السيف فلا يقتل منا رجل حتى يقتل منهم رجال، والله لو أطاعني هؤلاء- يعني جنوده- لخرجت إليكم من أول يوم- يعني الحصار- ولكنهم امتنعوا" فقام هذا الصليبي بالتصليب على صدره وقال: كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك والآن فقد عذرناهم.
العزيمة الفولاذية:
رجع أسد الدين شيركوه إلى الشام وهو يتلمظ غيظًا على الوزير الخائن "شاور" والأوضاع المتردية في الديار المصرية، ويتحرق شوقًا لمعاودة الكرة مع الصليبيين وخونة المصريين، وهو ما زال يلح على الملك العادل نور الدين محمود في العودة إلى مصر، حتى وافق نور الدين على ذلك سنة 562 هجرية، وانطلق أسد الدين في جيش يقدر بألفين من المقاتلين.
أسرع "شاور" كعادته وأرسل للصليبيين بالشام يستنجد بهم، فجاءوه بألوف مؤلفة من أجل إدراك ثأرهم مع أسد الدين وتحقيق مبتغاهم باحتلال مصر، وكان أسد الدين يتحرك بسرعة لخفة جيشه، فوصل إلى الصعيد وفتحه ثم عسكر في منطقة البابين، قريب من محافظة المنيا الآن، وقد رفعت له الجواسيس الأخبار عن ضخامة الجيش الصليبي ومن معه من عساكر شاور، فعقد اجتماعًا مع قادة جيشه فأشاروا جميعًا بالرجوع إلى الشام لقلة عددهم وتسليحهم وبعدهم عن أوطانهم، فوقف أسد الدين كالطود العظيم وأصر على القتال واستعان بالله ووافقه ابن أخيه صلاح الدين، ثم قام أسد الدين شيركوه بوضع خطة عسكرية في غاية الذكاء بحيث استدرج معظم الجيش الصليبي لقلب الجيش المسلم ثم هجم هو في كتيبة منتقاة من خلاصة الأبطال على مؤخرة الجيش الصليبي، فوضعه في شبه دائرة، وانتصر عليهم انتصارًا عظيمًا لم يسمع بمثله في التاريخ كما يقول المؤرخ ابن الأثير.
بعد معركة البابين توجه أسد الدين وجنده الشامي إلى الإسكندرية بعد أن استدعاه أهلها الذين أرادوا نصرة إخوانهم المجاهدين الشاميين، ثم ترك بها حامية يقودها صلاح الدين ثم توجه إلى الصعيد لمواصلة الفتح، فانتهز الصليبيون الفرصة وحاصروا الإسكندرية حصارًا عنيفًا طيلة تسعة أشهر، فعاد الأسد لنصرة أهل الإسكندرية وابن أخيه، فخاف الصليبيون منه خوفًا شديدًا جعلهم يطلبون منه الصلح، فاشترط عليهم مغادرة مصر ولا يتملكوا منها قرية واحدة فوافقوا.
الخيانة العمياء:
لم يعلم أسد الدين شيركوه عندما اتفق مع الصليبيين على الخروج من مصر، أن الخيانة والعمالة التي تسري في دم الوزير الخائن "شاور" سوف تدفعه لأن يعقد اتفاقًا سريًا مع الصليبيين يتعهد فيه بدفع مائة ألف دينار سنويًا من إيراد البلاد للصليبيين كيما يتقووا بها على حرب نور الدين في الشام، ثم لم يكتف الخائن بهذه الفعلة القذرة، بل اتفق معهم على أن يكون للصليبيين حامية من كبار فرسانهم تحرس أبواب القاهرة وذلك سنة 562 هجرية.
لم يكن بقاء هذه الحامية من أجل الحرص على سلامة مصر والمصريين أو السهر على راحتهم! بل كانت ترصد الأخبار والأحوال تمهيدًا لعودة الصليبيين مرة أخرى في الفرصة المناسبة وهو ما حدث بالفعل في أوائل 564 هجرية، عندما أرسلت الحامية الصليبية إلى ملك بيت المقدس الصليبي "أملريك" تعرفه أن الأوضاع مهيأة في مصر لدخول القوات الأجنبية.
حشد "أملريك" جيوشه وانطلق إلى مصر بأقصى سرعة وكانت مدينة "بلبيس" أولى محطاته حيث قام الصليبيون هناك بمجزرة مرعبة لأهل المدينة كلها بحيث لم يتركوا منها أحدًا كما هي عادتهم البربرية الوحشية، ثم نزلوا إلى القاهرة وضربوا عليها حصارًا شديدًا، فأقدم الخائن شاور على فعلة في غاية الحقارة والذلة، وأيضًا في غاية الغباء السياسي حيث أقدم على حرق القاهرة ليرجع عنها الصليبيون، وظلت النار تأكل القاهرة (54 يومًا) فأرسل الناس وعلى رأسهم العاضد الفاطمي إلى نور الدين يستغيثون به من الصليبين وشاور.
الفتح الأخير:
لقد كان فتح مصر بالنسبة لأسد الدين شيركوه الخطوة الأخيرة في تحقيق حلم حياته بتوحيد العالم الإسلامي في مصر والشام لطرد العدو الصليبي الجاثم على الأرض المقدسة منذ سبعين سنة، لذلك فإننا نجد أن أسد الدين شيركوه منذ أن خرج لمصر سنة 559 هجرية، وهو لا يفكر ولا يسعى ولا يتجهز إلا لفتح مصر والمعاودة إليها مرة بعد مرة، على الرغم من الأهوال والشدائد التي لاقاها في كل مرة.
وكان أسد الدين مقيمًا في "حمص" عندما جاءته رسالة نور الدين محمود بالقدوم إلى حلب استعدادًا لإنقاذ مصر فركب البطل العجوز الذي جاوز الستين بأربع فرسه بعد صلاة الفجر وانطلق بأقصى سرعة حتى وصل "حلب" قبيل الغروب وهذا الأمر لم يتسن لأحد من الناس سوى الصحابة رضوان الله عليهم أن يقطعوا هذه المسافة الطويلة في هذا الوقت الوجيز فسرَّ نور الدين بذلك جدًا وجهزه بجيش مكون من ألفي فارس، وقام أسد الدين يجمع ستة آلاف فارس آخر من متطوعة الشام لفتح مصر، وانطلق الأسد يزأر ويرعد ويبرق ويتوعد الصليبيين والخونة المنافقين في مصر.
كما قلنا من قبل كان الصليبيون في قمة الخوف والفزع من مجرد ذكر اسم أسد الدين شيركوه، فلقد كان كابوسهم المفزع الذي يقض مضاجعهم، فلما جاءتهم الأخبار بقدوم الأسد وجنوده الشاميين على جناح السرعة أجمعوا أمرهم على الرحيل من مصر بعد أن هزموا بها مرتين من قبل على يد أسد الدين، وبالفعل رحلوا مذعورين هاربين، ودخل الأسد المظفر القاهرة فاتحًا منتصرًا من غير أن يشهر سيفًا واحدًا هذه المرة، فلقد نصره الله عز وجل بالرعب.
حاول شاور الخائن أن يستدرج الأسد لدعوة طعام مسموم ليهلك فيها هو وأصحابه ولكن الكامل بن شاور الابن الأكبر لشاور، وكان رجلًا صالحًا مجاهدًا نهى أباه عن هذه الفعلة وهدده بأنه سيخبر شيركوه وقال كلمته الشهيرة عندما قال له أبوه الخائن: "شاور": "والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعًا" قال الكامل: "صدقت، ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية، خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنه ليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه".
لقي شاور جزاء خيانته وعمالته للصليبيين؛ حيث أمر العاضد الفاطمي بإعدامه، وتولى أسد الدين شيركوه الوزارة في مصر، وأخذ في التدبير والعمل من أجل إسقاط الدولة الفاطمية الخبيثة وتوحيد مصر والشام تحت حكم نور الدين محمود، خاصة بعد إلحاح الخليفة العباسي المستضيء بالله على ذلك الأمر، ولكن القدر المحتوم والأجل المكتوب جاء للأسد في ميعاده المعلوم فأصيب الأسد بذبحة صدرية قتلته، رحمه الله، في 22 جمادى الآخرة 564 هجرية، بعد أن حقق مراده وكلل سعيه وجهاده الطويل بفتح مصر، وسبحان الله! لقد خاض هذا البطل أكثر من مائة وخمسين موقعة وتعرض للشهادة في كل موطن، وسعى لها سعيًا حثيثًا ولكنه مات على فراشه وصدق الصديق عندما قال: "احرص على الموت توهب لك الحياة".
فلقد كانت سيرة هذا الرجل ترجمة لحياة المجاهد المعتز بدينه وإسلامه ولا الذي يرى له عملًا سوى تحرير الأرض المحتلة، والذي كانت أخباره ووقائعه ملء الصدور، وصورته ملء العيون، وهيبته وقدره في نفوس عدوه كفزع الزلازل والأعاصير والبراكين، فرحمة الله على الأسد شيركوه الذي ترك لنا مثل هذه السيرة وتخرج في مدرسة بطولته وشجاعته وحلقة جهاده الناصر صلاح الدين.
المراجع والمصادر:
1- الكامل في التاريخ.
2- سير أعلام النبلاء.
3- البداية والنهاية.
4- وفيات الأعيان.
5- السلوك للمقريزي
6- العبر في خبر من غبر.
7- الروضتين في تاريخ الدولتين.
8- شذرات الذهب.
9- النجوم الزاهرة.
10- مفرج الكروب.
11- حسن المحاضرة.
12- أيام الإسلام.