القاضي الفاضل وفضله على أهل مصر
برع القاضي الفاضل في عصره فكان شيخ الأدباء، وشيخ الإداريين وشيخ السياسيين وشيخ المجاهدين وشيخ المحتاجين، وشيخ العابدين، وشيخ العلماء
كان قوي الاعتقاد بأن طريق الإسلام وعز المسلمين هو طريق أهل السنة، وكل طريق غيره لا يوصل إلا إلى الخلاف وضعف المسلمين. فما غابت أرض فلسطين عن باله، وأيقن بصدق وإخلاص صلاح الدين في الجهاد من أجلها
عُرف صلاح الدين الأيوبي واشتهر في التاريخ، ويقيناً لم يكن صلاح الدين يستطيع وحده أن يحقق النصر بل لا بد له من مستشارين مؤتمنين، فأحسن السلطان صلاح الدين اختيار مستشاريه، وكان أحدهم مقرباً جداً له حتى قال عنه: لم أفتح البلاد بسيفي وإنما برأيه.من هو هذا الرجل صاحب الرأي السديد، والحكمة البالغة، الذي كان يستشيره صلاح الدين في كل كبيرة وصغيرة، وكان يأتمنه على سره، ويُنفذ مشورته ؟!
قال عنه أبو شامة: «كان ذا رأي سديد وعقل رشيد، معظماً عند السلطان صلاح الدين، يأخذ برأيه ويستشيره في الملمات، والسلطان له مطيع، وما فتح السلطان الأقاليم إلا بأقاليد آرائه، وكانت كتابته كتائب النصر»(1).
هو أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن البيساني(2) العسقلاني، وهو القاضي العلامة البليغ، سيد الفصحاء، صاحب ديوان الإنشاء الصلاحيِّ، كان بارعاً في البلاغة والإنشاء، واشتهر باسم: «القاضي الفاضل».
قال العماد في سير أعلام النبلاء: قضى سعيداً، ولم يُبق عملاً صالحاً إلا قدَّمه، ولا عهداً في الجنة إلا أحكمه، ولا عقد برٍّ إلا أبرمه، فإن صنائعه في الرقاب وأوقافه متجاوزة الحساب، لا سيما لفكاك الأسرى، وأعان المالكية والشافعية بالمدرسة، والأيتام بالكتاب، كان للحقوق قاضياً، وفي الحقائق ماضياً، والسلطان له مطيع، ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد آرائه ومقاليد غناه وغنائه... وكانت كتابتُه كتائب النصر، وبراعته رائعة الدهر، وبراعته بارية للبّر، وعبارته نافثة في عُقَدِ السحر، وبلاغته للدولة مُجملة وللمملكة مُكَمِّلة، وللعصر الصلاحي على سائر الأعصار مُفَضلة، ما ألفيته كرّر دعاء في مكاتبة ولا ردَّد لفظاً في مخاطبة(3).
وقال عنه كذلك: يخترع الأفكار، إن شاء أنشأ في يوم مالو دوِّن لكان لأهل الصناعة خير بضاعة.. لا يفتر مع ما يتولاه من نوافل صَلاته، ونوافل صِلاته(4).
لما تملك أسد الدين (عم صلاح الدين) أعجب فيه فأحضره، ثم استخلصه صلاح الدين لنفسه، وكان قليل اللذات كثير الحسنات دائم التهجد ومُتَقللا في مطعمه ومنكحه وملبسه، لباسه البياض، ويكثر تشييع الجنائز، وعيادة المرضى، وله معروف في السر والعلانية، ضعيف البنية، دقيق الصورة، ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان أو الإعراض عنهم.
فكان وزيره وكاتبه ومستشاره، وأحسن استخدام سلاح القلم واللسان، وسلاح العلم والتعليم، وسلاح العمل والإتقان.
رئاسة ديوان الإنشاء:
تولى القاضي الفاضل مهاما جليلة، وساهم في أعمال كثيرة في عهد صلاح الدين والتي منها، رئاسة ديوان الإنشاء: وقد ولاه هذه الرئاسة صلاح الدين الأيوبي حينما كان وزيراً في مصر وكان يعتبر بمنزلة السلطان ويُلقب بلقبه، بينما كان القاضي الفاضل رئيساً لديوان الإنشاء ويعتبر بمثابة وزيره، ظل القاضي الفاضل يعمل في ديوان الإنشاء رئيساً له، مع أنه حافظ على لقب نائب رئيس ديوان الإنشاء احتراماً لأستاذه ومعلمه ورئيسه الشيخ الموفق أبي الحجّاج يوسف بن الخلال، ولم يُشعر ابن الخلال يوماً أنه حل محله، وقد عامله الخلال حتى في أواخر سنين حياته معاملة الابن البار للوالد.
وقد حاول الكثيرون في مصر على مدى واحد وعشرين عاماً الحيلولة دون استلام القاضي الفاضل رئاسة الديوان، وقد أصبح بعد ما تولى المنصب يلقب بالسيد الآجل وبالشيخ الآجل.
وحالما تولى القاضي الفاضل رئاسة ديوان الإنشاء، راح يعمل مع صلاح الدين على الإعداد المتدرج للقضاء على الدولة الفاطمية، وكانت أولى الخطوات في هذا الاتجاه إعداد جيش أيوبي ينفّذ به مخطط الانقلاب(5).
وساعده عمله في ديوان الجيش ومن ثم في ديوان الإنشاء، في معرفة معلومات كبيرة وزاخرة، استخدمها في ترتيب الأمور مع صلاح الدين بشأن إعداد جيش صلاح الدين، ووجه لتنظيم جيش الأيوبي وإدارته، وظل طوال مدة عمله مع صلاح الدين يشرف على عساكره، ويساهم في إعداد الخُطط الحربية، ويُشرف على تمويل الجيش والأسطول وتزويدهما وتجهيزهما للجهاد، وقد واظب على هذه المسؤوليات طوال مدة عمله مع صلاح الدين(6).
وكان من سياسة القاضي الفاضل في القضاء على نظام الحكم الفاطمي التخلص من أصحاب الدواوين والكتّاب الموالين للفاطميين. وتخلص من عدد كبير من الكتّاب الشيعة الإسماعيلية والمسيحيين واليهود وغيرهم خوفاً من أن يتآمروا مع الفلول الفاطمية، أو أن يتصلوا بالفرنج باسم الدواوين التي يعملون فيها. ولقد أشار إلى خطر هؤلاء الكتاب في أكثر من رسالة رسمية إلى الخليفة العباسي وإلى نور الدين.
القاضي الفاضل والإحياء السني في مصر:
كانت الإسكندرية مركزاً للإحياء السني في مصر، وقد تم ذلك على يد علماء قصدوها من المغرب مثل: أبي بكر الطرطوشي، ومن المشرق مثل: الحافظ السلفي، وهي من علماء المشارقة الذين هاجروا إلى مصر واستقروا بالإسكندرية ونفع الله بهم نفعاً عظيماً في نشر مذهب أهل السنة وهو من أصبهان، ودرس في بغداد على يد علماءها، وكان يلقب بأبي الطاهر السلفي.
وتمتع أهل الإسكندرية بحرية الاعتقاد الديني – إذا قورنوا بأهل القاهرة – رغم انضوائهم رسمياً تحت نفوذ الفاطمية الشيعية في مصر، وبقوا متمسكين بسنيتهم على مذهب الإمام مالك، وهذا ما جعل الإسكندرية مقصداً للوافدين إلى مصر، وهذا رغب العلماء كأمثال السلف والطرطوشي وغيرهم الإقامة في الإسكندرية، وقد أسس السلفي والطرطوشي وغيرهم من العلماء المدارس السنية التي كان لها أثر كبير في الإحياء السني وفي حركة الجهاد ضد الفرنج وبقيت القاهرة بعيدة إلى حدٍ ما عن تلك المدارس.
1- وقد بدأ صلاح الدين إصلاحاته في مصر بمشورة القاضي الفاضل، وحتى قبل القضاء النهائي على الفاطميين بتأسيس عدد من المدارس على المذاهب الأربعة. وكان تمويل هذه المدارس واختيار المدرسين فيها ضمن مسؤوليات القاضي الفاضل.
2- كان من أعمال القاضي الفاضل في القضاء على الحكم الفاطمي فترة وزارة صلاح الدين فصل ديوان الأحباس الفاطمي الذي كان يشرف على إدارة المؤسسات الدينية وتمويلها وتزويدها عن ديوان الأموال، وجعله ديواناً مستقلاً تحت إدارة الوزير مباشرة.
3- وهذا ما أتاح للقاضي الفاضل تكليفه من قبل وزيره صلاح الدين لاختيار المدرسين فيها وقراء القرآن والحديث والوعاظ والأئمة، وبعد ذلك وفي عام (565هـ/1169م) أبطل الأذان «بحي على خير العمل، محمد وعلى خير البشر».
4- ثم أمر بعد ذلك وفي نفس السنة بأن يُذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون أبوبكر وعمر وعثمان ثم على رضي الله عنهم جميعا.
5- وأمر بعد ذلك بأن يُذكر العاضد في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشيعة فكان الخطيب يقول، اللهم أصلح العاضد لدينك (7).
6- وولى القضاء في القاهرة للفقيه عيسى الهكاري، وهو كردي من المقربين إلى صلاح الدين، وقد فعل هذا كبداية لتحويل الولاء في القاهرة التي كان أغلب أهلها من الإسماعيلية(8).
7- وعزل قضاة مصر من الشيعة.
8- وفي بداية سنة (567هـ - 1172م) قطع صلاح الدين بمشورة –القاضي الفاضل– الخطبة للفاطميين وكان قطعها بالتدرج، ففي الجمعة الأولى في محرم (567هـ / -1172م) حذف اسم العاضد من الخطبة، وفي الخطبة الثانية خُطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله.
وقد توفي العاضد في العاشر من محرم (567هـ - 1172م)، فدخل أحد الجنود مسرعاً وتوجه إلى صلاح الدين وبجانبه القاضي الفاضل في مسجد جامع عمرو بن العاص وأخبرهما بوفاة العاضد، فنظر كل من صلاح الدين والقاضي الفاضل أحدهما إلى الأخر وفي وجهيهما علامات الارتياح، وقال صلاح الدين لو عرفنا أنه يموت في هذا اليوم ما غصصناه برفع اسمه من الخطبة، فضحك القاضي الفاضل ورد عليه قائلاً: يا مولاي لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة لم يمت فابتسم الحاضرون لهذه المداعبة الكلامية.
دور القاضي الفاضل في القضاء على الدولة الفاطمية:
لخص المؤرخ المصري المقريزي الدور الذي قام به القاضي الفاضل في الانقلاب على الفاطميين بقوله: «واستعان صلاح الدين به – أي بالقاضي الفاضل - على ما أراد من إزالة الدولة الفاطمية حتى تم مراده، فجعله وزيره ومستشاره» (9).
فقد كان للقاضي الفاضل مخطط واستراتيجية واضحة المعالم للإطاحة بالفاطميين وظل صلاح الدين يجني ثمرة اختياره القاضي الفاضل وزيراً له حتى وفاته.
وكان القاضي الفاضل – رحمه الله – قوي الاعتقاد بأن طريق الإسلام وعز المسلمين هو طريق أهل السنة، وكل طريق غيره لا يوصل إلا إلى الخلاف وضعف المسلمين. فما غابت أرض فلسطين عن باله، وأيقن بصدق وإخلاص صلاح الدين في الجهاد من أجلها. فقد كان مقرباً من صلاح الدين ووزيره حتى قيل بأنه الرجل الثاني في دولة صلاح الدين.
القاضي الفاضل والجهاد:
كان القاضي الفاضل – رحمه الله – ملازماً السلطان صلاح الدين في جهاده، وصحب السلطان صلاح الدين في جميع غزواته ببلاد الشام.
القاضي الفاضل الأديب والمعلم:
برع القاضي الفاضل في عصره كأديب، ونُسبت إليه مدرسة نثرية عُرفت بمدرسة القاضي الفاضل في النثر فكان شيخ الأدباء، وشيخ الإداريين وشيخ السياسيين وشيخ المجاهدين وشيخ المحتاجين، وشيخ العابدين، وشيخ العلماء في عصره وكان يملك أكبر مكتبة في عصره، وقيل إنها تبلغ المئة ألف. وبعد وفاة صلاح الدين كرس أعوامه الباقية من حياته لمدرسته الفاضلية.
وفاته:
توفي القاضي الفاضل بعد آلام جسمية ومعنوية، حينما شاهد بعينيه تقسيم البلاد التي طالما سعى لتوحيدها وتقويتها بين أبناء صلاح الدين وقد فشلت جهوده في تحالفهم على الرغم من أن عدوهم رابض على حدودهم.
وتوفاه الله في السادس من ربيع الأول (596هـ / 1199) في داره بالقاهرة، وفي الليلة التي سبقت وفاته كان في مدرسته وجلس مع الفقيه ابن سلامة مدرّسها ومحدثها، وكان في تلك الليلة باشاًّ ومبتسماً وقد طابت كلماته وطالت مسامرته مع من سلك طريق العلم والعلماء.
وعلق عماد الدين الأصفهاني على وفاته بقوله: «لم يُبِق في مدّة حياته عملاً صالحاً إلا قدّمه ولا عهداً في الجنة إلا أحكمه، ولا عقداً في البرّ إلا أبرمه، فإن صنائعه في الرقاب، وأوقافه على سُبُل الخيرات متجاوزة على الحساب لاسيما أوقافه لفكاك أسرى المسلمين إلى يوم الحساب»(10).
وأخلص إلى صلاح الدين حيث أشار في عدد من رسائله قبل موته إلى أمنيته بلقاء صلاح الدين في الآخرة.
سياسته لإلغاء الحكم الفاطمي العبيدي:
ألخص وأجمع سياسته وتدرجه لإلغاء الحكم الفاطمي بالنقاط التالية:
1- التدرج في إلغاء الخطبة للحاكم الفاطمي.
2- قلّم أظفار المؤسسة الفاطمية.
3- عزل قضاة الشيعة وألغى مجالس الدعوة.
4- أبطل الأذان بحي على خير العمل.. وعليّ خير البشر.
5- ذكر الخلفاء الأربعة الراشدين، والترضي عليهم في الخطبة.
6- وذكر العاضد بهذه العبارة التي تحتمل التلبيس (اللهم أصلح العاضد لدينك ).
7- ولي القضاء في القاهرة للفقيه عيسى الهكاري السني.
8- استناب القضاة الشافعيين في جميع البلاد.
9- أنشا المدارس لتدريس المذاهب السنية.
10- أضعف الحفلات الرسمية – البدعية- وألغى بعضها.
11- أضعف العاضد وقلل من حاشيته، ومن تحركه حتى أضحى محجوزاً في قصره.
12- قطع بأمر من صلاح الدين ومشورة القاضي الفاضل، الخطبة للفاطميين وخطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله.
فتلك سياسات المستشار الأمين القاضي الفاضل الذي لازم السلطان صلاح الدين طيلة حياته، وكان له خير معين في الرأي والمشورة والعمل، واستطاع القاضي الفاضل بفكره وعمله وسياساته أن يُرجع أهل مصر إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، ويحفظ الكثيرون من أن يتأثروا بالعقائد الباطنية.
الهوامش:
1 - كتاب الروضتين (2/241) نقلا عن صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، ص293.
2 - بيسان تقع في فلسطين، وتبعد 25 كم جنوب بحيرة طبرية، ونحو 5كم غرب نهر الأردن.
3 - سير أعلام النبلاء (21/340).
4 - سير أعلام النبلاء (21/342).
5 - انظر: القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، العسقلاني، هادية شكيل، ص126، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط2- بيروت1999م.
6 - القاضي الفاضل، 129.
7 - اتعاظ الحُنفاء (3/317) للمقريزي.
8 - القاضي الفاضل، ص137
9 - الخطط للمقريزي (2/266)
10 - كتاب الروضتين، نقلاً عن: القاضي الفاضل، ص: 348
اعداد: طارق أحمد حجازي