قدومي: التجربة الغربية مع فاعليتها وحجم تبرعاتها ونظمها الإدارية والقانونية إلا أنها غير قادرة على المنافسة والمحاكاة في فاعلية الأهداف والدوافع والتشريعات في القطاع الخيري والوقفي الإسلامي
البشرية لم تعرف نظامًا اقتصاديا كما لنظام الوقف في الإسلام من أحكام وإتقان فسنة الوقف هي نظام إسلامي شُرع بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وحقق نجاحات ونماء وقوة أبهرت العالم أجمع في شتى المجالات
الوقف في الإسلام بدأ زمن النبوة القرن السادس الميلادي في حين أن أول إشارة للوقف في النظم الغربية كانت في التشريعات الإنجليزية التي صورت في القرن السابع عشر أي بعد أكثر من ألف عام
الجوانب الإنسانية في أوقافنا بلغت الآفاق وأثبتت أن الأمة الإسلامية أمة حية أمة تجديد لا أمة تبديد وأمة ابتكار لا أمة تكرار وأمة إبداع لا أمة ابتداع
الوقف كان وما زال مصدر قوة للأمة والتاريخ شاهد على ما قام به نظام الوقف من إنجازات عجزت عن مجاراتها كل أمم الأرض فهو من أشرف معالم الحضارة الإسلامية
انطلقت المحاضرة الرابعة من محاضرات منتدى تراث الرمضاني الرابع يوم الأربعاء 20 من مارس 2024، الموافق 10 من رمضان 1445، وكانت بعنوان: (الوقف ودوره الحضاري)، قدمها د. عيسى القدومي، الذي بين أن التشريع الإسلامي بأحكامه وفقهه واجتهاده، جعل من العمل الوقفي والخيري أساسا تبنى عليه الدول، وتحفظ به كرامة الأمة.
ثم بين قدومي أن الوقف كان وما زال مصدر قوة للأمة، والتاريخ شاهد على ما قام به نظام الوقف من إنجازات عجزت عن مجاراتها كل أمم الأرض؛ فهو من أشرف معالم الحضارة الإسلامية؛ حيث بلغت الجوانب الإنسانية في استيفاء حاجات الفرد والمجتمع مبلغًا لم يعرف له مثيل بين الأمم والشعوب، وعملت على إسعاد البشر بالحفاظ على عقيدتهم وتوحيدهم وعلمهم وكرامتهم وسمو أخلاقهم، وهناء حياتهم، وحمايتهم من كل ما يضرهم. مصدر عظيم لسد الحاجات
فقد كانت الأوقاف وما زالت مصدرا عظيما لسد الحاجات، ووعاء لاستيعاب أموال المسلمين في أمور خيرية تستمر وتنمو وتدوم؛ فالوقف يحقق مصلحة عامة للأمة، وكان انتشار الأوقاف في العهود الإسلامية خير دليل على الدور الذي كانت تقدمه الأوقاف للأمة في مختلف المجالات؛ من حيث المساهمة في تأمين المياه للناس، من خلال إنشاء الآبار ومحطات المياه لحفظ النفس، وخير مثال على ذلك وقف زبيدة التي أجرت الماء من بغداد إلى مكة، بدءًا من عام 187 للهجرة، وأنشأت في هذا الطريق مرافق ومنافع ظل يستفيد منها حجاج بيت الله الحرام منذ أيامها إلي وقت قريب، وكان للوقف الدور الكبير في تأمين المسكن المناسب من خلال تأجير العقارات الموقوفة لحفظ النفس، والمساهمة في تأمين الطعام للفقراء والمساكين، ومن في حكمهم لحفظ النفس من خلال التكايا والأوقاف التي خصصت لإطعام الطعام، وكان للأوقاف المساهمة في إنشاء دور العلم، مثل: كتاتيب تحفيظ القرآن، والمدارس والمعاهد الدينية لحفظ العقل ونمائه، والمساهمة في بناء المساجد ودور العبادة وتيسير الحج وتقديم الخدمات للحجاج لحفظ الدين، والمساهمة في تحرير الأسرى والمعتقلين في سبيل الله لحفظ حرية النفس. بناء مؤسسات العلاج الخيرية
وكان للأوقاف أيضًا المساهمة في بناء مؤسسات العلاج الخيرية لعلاج الفقراء والمساكين لحفظ النفس، وتقديم العون للمرضى والأيتام والعجزة وكبار السن، وتوفير حاجاتهم الأصلية من مأكل ومسكن وعلاج، ومستشفى النوري الكبير في دمشق كان وقفًا من شروطه أنه على الفقراء والمساكين، وقد ظل (بيمارستان النوري) عامراً إلى سنة 1317هـ، وقيل: إنه منذ أن عمّر لم تنطفئ فيه النار، وذاعت شهرته أنه من أوائل الجامعات الطبية في الشرق. تشييد قبور الصدقة
وكذلك المساهمة في تشييد قبور الصدقة ليدفن فيها الغرباء والفقراء لتكريم الموتى، فقد خصص وقف ليكون ريعه لرعاية الفقراء حتى بعد وفاتهم، وذلك بتحمل تكاليف تغسيلهم وتكفينهم ودفنهم، ومن أشهر هذه الأوقاف (وقف الطرحاء) الذي جعله الظاهر بيبرس برسم تغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم. حفظ أموال الأغنياء
والمساهمة في حفظ أموال الأغنياء من الإسراف والتبذير وتوجيهها لما ينفعهم بعد الموت، بل وحفظ كرامتهم إن ألمت بهم المصائب، فقد أوقف حميد بن عبد الحميد الطوسي ضياعاً على أهل البيوتات وذوي الأقدار غلتها مائة ألف دينار أيام المأمون، فقد تصيب بعض علية القوم مصائب وكوارث، وتأبى عليهم نفوسهم وأقدارهم أن يسألوا الناس فأوقفت الأوقاف في هذا المصرف ليقيلوا بها ذوي الأقدار عثراتهم. المساهمة في تيسير الزواج
ولحفظ العرض والمساهمة في تيسير الزواج للشباب والفتيات الفقيرات، أوقفت الأوقاف ليصرف من ريعها لتزويج الشباب والفتيان العزَّاب ممَّن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور، جاء في كتاب (الدارس في تاريخ المدارس)، «من الأوقاف التي وجدت سنة 878هـ وقف تزويج الأيامى يعطى كل من تزوج من فقراء الحنابلة». مقاصد الوقف ومصالحه
ولقد وعى المسلمون منذ القرون الأولى ما للوقف من مقاصد سامية ومصالح ملموسة في الحفاظ على مكانة الأمة وأمنها؛ فالوقف كان خير معين على الجهاد وحماية الثغور ببناء الربط والمراكز في مناطق التماس مع العدو وتقديم الدعم للمجاهدين ولا سيما في عهود نشر الإسلام والفتوحات في المشرق والمغرب، وأتقنت الصناعة الحربية والأربطة التي يرتادها المجاهدون لحماية الثغور؛ حيث أوقفت لها الأوقاف لرد المعتدين على بلاد المسلمين، فنشأت الكثير من المصانع ولا سيما في بلاد الشام ومصر أيام الحروب الصليبية على بلاد المسلمين. الأمة الإسلامية أمة حية
فالجوانب الإنسانية في أوقافنا بلغت الآفاق وأثبتت أن الأمة الإسلامية أمة حية، أمة تجديد لا أمة تبديد، وأمة ابتكار لا أمة تكرار، وأمة إبداع لا أمة ابتداع؛ جوانب الرائعة تأخذ الألباب من دقتها واهتماماتها بأمثلتها الرائعة؛ تفردت بنتاجها الحضاري عن سائر الأمم، وقد استطاع الإسلام أن يجعل القطاع الوقفي يتعدى دور (حالات الطوارئ) إلى دور التنمية والاهتمام بكل شرائح المجتمع، وحسبنا أن التطبيقات التاريخية للمؤسسات الوقفية أنتجت حضارة إسلامية ما زالت بعض آثارها العملية ماثلة أمامنا. نظام الوقف في الإسلام
ونحن على يقين أن البشرية لم تعرف نظاماً اقتصاديا كما لنظام الوقف في الإسلام من أحكام وإتقان، فسنة الوقف هي نظام إسلامي، شُرع بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وحقق الوقف منذ عهد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى القرن الثاني عشر للهجرة نجاحات ونماء وقوة، أبهرت العالم أجمع في شتى المجالات، وكان الوقف في العهود الإسلامية الزاهرة يشتمل على وزارات مجتمعة، كوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والصحة والتربية والتعليم العام، والإسكان والتعمير والدفاع والري فضلا عن وزارة الأوقاف. بدأ في زمن النبوة
والوقف في الإسلام بدأ زمن النبوة (القرن السادس الميلادي)، في حين أن أول إشارة للوقف في النظم الغربية كانت في التشريعات الإنجليزية التي صورت في (القرن السابع عشر) أي بعد أكثر من ألف عام، لذلك فإن أمتنا - ولله الحمد - تمتلك مقومات نجاح قطاع المؤسسات الخيرية والوقفية الإسلامية، وهي أربع: أولها: الشريعة الإسلامية، وثانيها: التجربة التاريخية (تطبيقات عملية تاريخية)؛ حيث إن الإسلام أول من قدم للبشرية الوقف بوصفه عملاً إنسانيا مستداماً، وثالثها: القوى البشرية، وآخرها: المال والموارد من صدقة عامة وجارية وتطوع وزكاة وفعل الخير، والتطبيقات التاريخية للمؤسسات الوقفية المانحة أنتجت حضارة إسلامية تحث على البذل والعطاء على مدى اثني عشر قرناً من الزمان، إنها مبادئ تجاوزت حقوق الإنسان إلى كرامته وشرعت لحقوق الحيوان، ومنحت الحقوق لغير المسلمين حتى شرعت حق الأسير الكافر {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}، وما يمتلكه هذا الدين من رصيد الخيرية للبشرية عامة يعد من أكبر الفرص {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (آل عمران: 110). الغرب والقطاع الخيري والوقفي
وفي المقابل نرى أن الحكومات الغربية قد أولت القطاع الخيري والوقفي جل الاهتمام، فكانت برامج إدارة وتطوير القطاع الخيري والوقفي الذي اصطلح بمسمى القطاع الثالث ممنوحة لمؤسسات ذلك القطاع؛ لما له من أهمية في التنمية والرعاية والمساهمة في دعم القطاع الحكومي والتجاري في الدولة الحديثة، التي تقوي هذا القطاع وتعمل على نمائه واستمراره وجودته وتفوقه، وكذلك تتقوى تلك الدول الحديثة به ليشكل مع غيره استراتيجية سياسية لقوة الدولة، وساهمت في توفير الكوادر المدربة من خلال المراكز الاستشارية والتدريبية والجامعات والمعاهد والمؤتمرات والبرامج المشتركة مع القطاع الحكومي والتجاري، فكانت الشراكة والدعم مقومين أساسيين في نماء القطاع الوقفي واستمراره، وقبل هذا وذاك المرونة القانونية التي أولت القطاع الخيري الدعم والاهتمام. التجربة الغربية غير قادرة على المنافسة
ومع ذلك نحن على يقين أن التجربة الغربية -مع فاعليتها وإنجازاتها ومؤسساتها وحجم تبرعاتها ونظمها الإدارية والقانونية إلا أنها- غير قادرة على المنافسة والمحاكاة في فاعلية الأهداف والدوافع والتشريعات في القطاع الخيري والوقفي الإسلامي، فلا نعرض التجربة الغربية الحادثة بنفسية مهزوزة منبهرة مهزومة، بل نعرض ذلك ونحن نعتز بالإسلام وتشريعاته، وتطبيقاته، ولكننا نعجب أشد العجب كيف أهملنا ما عندنا؟ حتى اختطفه الغرب واستفاد من نظام الوقف الإسلامي ليخطط وليبني عليه لوائحه ونظمه المستمدة من النظام الإسلامي؛ خدمة ورعاية لقطاعه الخيري والوقفي. النظام الإسلامي استقل بقواعده ومصادره
وإن كانت الأمم قبل الإسلام قد عرفت نظامًا رصدت بمقتضاه حبس بعض الأصول لينفق من غلاتها على المعابد القائمة، إلا أن النظام الإسلامي في الوقف قد استقل بقواعده ومصادره؛ لأنه لم يكن نظامًا مستجلبًا أو تجميعًا لعادات سبقت الإسلام بل هو نظام مستمد من كتاب الله -عزوجل- وسنة نبيه الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم-، وإجماع الأمة، وتفاصيل أحكامه ساهمت فيها كل المدارس الفقهية، وتشريعاته قفزت بالأمة الإسلامية، حتى أصبحت - واقعاً بحق - خير أمة أخرجت للناس. عواقب ضعف القطاع الوقفي
لا شك أن ضعف هذا القطاع الواسع من الأوقاف وفقدانه تسبب في كون 40% من فقراء العالم مسلمين! وما يقارب 35% أميين، و8 ملايين طالب في العالم العربي لم يجدوا مقاعد دراسية في العام الدراسي 2020-2021م، ألا يدعونا ذلك للدفاع عنه بكل ما أوتينا من قوة؟ وألا يتطلب ذلك -وبشكل عاجل- الاهتمام بدراسة العوامل السلبية التي طرأت على الأوقاف، ومؤسساته، التي استغلها بعض المغرضين في تشويه صورة الوقف؟ الوقف وأبعاده الحضارية
الوقف الإسلامي: مشروع لنهضة الأمة، وعودة عزها، وقوتها، ومكانتها، وإحياء سنته ونشرها وترسيخها في الأمة هو استئناف لمسيرة الحضارة الإسلامية المجيدة ودفع للأمة إلى منزلة خير أمة أخرجت للناس.
الوقف الإسلامي: أنتج - بتطبيقاته ومؤسساته - حضارة إسلامية، لا تزال بعض آثارها العملية ماثلة أمامنا، فقد تعدت المؤسسات الوقفية في العهود الإسلامية دور الفاعلية في حالات النوازل والأزمات إلى حفظ المسلمين، ورعاية الأمة، وأمنها وكرامتها.
الوقف الإسلامي: مصدر عظيم لسد الحاجات، ووعاء لاستيعاب أموال المسلمين في أمور خيرية تستمر، وتنمو، وتدوم؛ فالوقف يحقق مصلحة عامة للأمة.
الوقف الإسلامي: مشاريعه تثير الفخر في النفوس، في عهد ازدهار الدولة الإسلامية؛ حيث تكفلت الأوقاف بمعظم أعباء التعليم الأساسي والجامعي والشؤون الصحية والبنية الأساسية، وصرفت على متطلبات الأمن والدفاع، وأسهمت في تنمية التعليم والثقافة.
الوقف الإسلامي: بنظامه ومؤسساته وخدماته كفيل بالاعتماد عليه في تسيير كثير من الأمور في حياة الأفراد والمجتمعات، إذا ما لاقى الاهتمام الكافي من ناحية الإشراف عليه واستثماره.
الوقف الإسلامي: يمتاز بخصائص تجعله قادرًا على الصمود في وجه التحديات والمتغيرات؛ فهو تشريع رباني، يمتلك المرونة، ويمتاز بتعدد مجالاته، وتنوع صرف إيراداته، وتزايد حاجات المجتمعات لمؤسساته.
ما من عهد من العهود الإسلامية إلا عُرف بأوقاف تفي بحاجات وضرورات لازمة لعهدهم، أوقاف قدمت رسالتها الحضارية، وكثير من الأوقاف وثقها التاريخ لا يُعرف من حبسها وأنفق عليها، فحفظ اسمه عن الخلق ليستمر أجره عند رب البرية.
الوقف الإسلامي: نظام يعد أحد أهم النظم التي أسهمت في تحقيق المقاصد العامة للشريعة الإسلامية؛ لما فيه من حفظ للضرورات الخمس وفي مقدمتها حفظ الدين للمسلمين، بإقامة المساجد، وحفظها، ورعايتها، وفي حفظ الهوية الإسلامية، ونشر العلم.
الوقف الإسلامي: من أشرف معالم الحضارة الإسلامية، وبلغ في استيفاء حاجات الفرد والمجتمع مبلغًا لم يعرف له مثيل بين الأمم والشعوب.
الوقف الإسلامي: تطلع حضاري لأمتنا، علينا أن نوليه جل اهتمامنا، لإقامة مؤسساته التي تُسهم في حفظ كرامة الإنسان، وتوفير الحياة الكريمة للأسرة المسلمة، وتوفير التعليم المميز الذي يحقق الإبداعات العلمية، والمؤسسات الصحية والثقافية التي تقدم الجديد كما كانت في عهود العزة والفخار.