بسم الله الرحمن الرحيم
تسعـة عشر عاما علــى الرحيل المــرّ
صباح يوم الخميس 27 / 9 / 1411هـ ،
فأي مرارة للصبر نجترُّ ؟
وأي وجيعة في القلب تعتصر
نخاع العظم .. ؟
أي وأي ..
أي غدٍ بدون صباحك الوضاء يا أماه ننتظرُ ؟
لم يكن صباحًا عاديا ، هناك في حجرة أقصى المنزل ، ترقد صاحبة القلب الكبير ، وأنينها الخافت - من أوجاع حمى أصابتها فجأة - يقطع سكون المكان ..
لم يكن هناك سواي ، يرقبُ حبيبة القلب ، يطل عليها بين حين وآخر للاطمئنان عليها .
سمعتها تناديني بصوت خنقته أوجاع السنين ، قفزتُ مسرعة من مكاني لأصل قبل أن يتعبها النداء : سمي يا يمه ؟ ..
أريد ماءً .. اسقِني ماء !!
ببراءة الطفولة أجبتها : أماه ؟ نحن في نهار رمضان ؟ فكيف تطلبين ماء ؟
قالت : يا بنتي هاتيه ، وناوليني حبة إسبرين . . أنا متعبة جدا لا أستطيع التحمل.
وقتها .. تحدرت دمعاتي وتمنيتُ لو أني سكتّ .. ولم أتعبها بفضولي .
قالت لي : كوني بقربي .
ا- لساعة تشير إلى الثامنة والنصف صباحا .. بدأ النعاس يدغدغ جفوني ، فاستسلمتُ له . !
وبينما كنتُ أغط في سبات عميق ، في عالم آخر .. قطعني عن الدنيا ومن فيها لسويعات معدودة .. كانت حبيبتي تصارع الآلام .. تتأهب للرحيل ! ..
ويحك يا أمل !
كيف يغمض لكِ جفنٌ في ظل هذه الظروف ؟
لكنها الطفولة وبراءتها .. لا تعبأ بشيء .. ولا تفكر إلا في اللحظة الآنية فقط !
استيقظتُ فجأة - قبيل الظهر - على صوتِ ناقلةٍ كأنها توضع داخل السيارة التي تقبع في الملحق الخلفي للمنزل ، وتحتَ نافذة حجرتي .
شيء ما هنالك يحدث ، تسارعتْ نبضات قلبي .. أحسستُ باختناق . . لكني لم أشأِ الخروج من حجرتي للاستطلاع .. ظللتُ أترقب بهدوء لعل أحدا ينهي مخاوفي على خير .
دخل علي طفل صغير فتدثرتُ بغطائي وكلي خوف ووجل من مجيئه المفاجئ .. رفع الغطاء عن وجهي وقال بنبرة حزينة : أمل .. استيقظي يا أمل ..
ماذا تريد ؟
- ألم تعلمي بما حصل صباح اليوم ؟
- ماذا حصل ؟
ترددَ كثيرا .. وتلعثم ..
- ماذا حصل .. ؟ ألا تريد أن تخبرني ؟
- أجاب وقد خنقته العبرات : لقد ماتت .. !
وودعناكِ .. وارينا تراب القبر
جثمانا من الريحان والورد
ووجها من خزامى ذاب في شهدِ
وقلنا : يا أديم الأرض بارك طيب مرقدها
وكن من سندس واستبرق خضر
فراشا فوق ذا المهدِ
- دخلتُ حجرتك بعد رحيلك ورائحتك تملأ المكان .. قلبتُ طرفي في زواياها .. فإذا بي ألمح ثوبك الذي تفضلين .. اقتربتُ منه .. تحسسته بيدي وضممته إلى صدري وضجت الحجرة ببكائي .. أمعقول ما أنا فيه ؟ هل فارقتني للأبد يا أمي ؟
كنتُ قبل ساعات أقبل يديك وأضمك .. والآن لا أملك سوى ثوبك ؟
كيف الحياة بدونك يا مَن احتويتيني بآلامي وأحزاني ؟
أأطيق بعدك العيش .. يا مَن إذا ضاقت علي الأرض بما رحبت وضاقت علي نفسي ، وجدتُ صدرك الرحب يكفيني ؟
من ذا يسامرني .. وبالحكايا يسليني ؟
فبعدا لهذا العيش بعد فراقكم .... فليس لعيش بنت عنه نعيم
- تسعة عشر عاما على رحيلك المرّ ..
ولازلتِ تزوريني في المنام .. وكأن رحيلك البارحة.. عن حالي تسألين.. فأجيبك بالبكاء .. لا شيء أملكه غير البكاء !
تلحين علي بالسؤال .. وأنا ألح عليك بالرجوع فتعتذرين !
ولقد هممتُ بأن أخبركِ بما فعل أشباه الرجال بـ الضعفاء ، لقد تغيرتِ الدنيا بعدك يا أماه .. آه لو تعلمين ما حالي مع الدنيا ..
عبراتي تخنقني فلا أقوى على الشكوى ..حبيبتي أنتِ .. فلن أدخل الحزن إلى قلبك .. بل أنا بخير يا أمي .. وسألقاكِ بإذن الله في جنة عرضها السموات والأرض .
- تسعة عشر عاما على رحيلك ..
ولا زال ثوبك معلق في خزانتي الخاصة .. ورائحته تعبق بالمكان .
أوتظنين أنّا نسيناك ؟ وفي حنايا القلبِ سكناكِ ؟!
كم هم قلبي بإفصاح ولم يقل... وهم دمعي بتسكاب ولم يسل
- لا زلتُ إلى هذا اليوم أجهل التفاصيل الدقيقة لساعة رحيلك ..
كلما هممتُ بسؤال أحد الشاهدين ، خنقتني العبرات .. فيموت في المهد السؤال !
- أشتاق إليك دوما .. وطالما رأيتُك في المنام تناديني وأعدكِ بأني سآتي إليك .. وأهمّ بحمل حقيبتي استعدادا لمقام طويل معك فأستيقظ على الواقع المرّ ، فلا شيء من ذلك يحدث !
ما أضيع الصبر في جرح أداويه ... أريد أنسى الذي لا شيء ينسيه
وما مجانبتي من عاش في بصري ... فأينما التفتتْ عيني تلاقيه
واليوم قد أكملتِ العام التاسع عشر على رحيلكِ .. فـ رحمكِ الله وغفر لكِ وجمعنا بكِ في الفردوس الأعلى .. آمين .
كتبتها على عجل ..
صباح يوم الخميس الموافق 27 / 9 / 1430 هـ .