تأملت في أحوال الناس، ثم تساءلت: ما السر الذي يجعل بعض الناس موفقين سعداء، في حين أن كثيرا منهم مخذولون تعساء؟ فوجدت الجواب في كلمتين:
«العلم والجهل»: فالعلم بمعناه الواسع، الذي يشمل العلم الديني والعلم الدنيوي، هو سبب التوفيق والسعادة، كما أن الجهل بكل أبعاده ومجالاته العلمية والعملية ، الفردية والاجتماعية سبب للخذلان والشقاء والتعاسة.
وإذا نظرت إلى الدين الإسلامي - وهو الدين الذي حمل السعادة والفلاح للإنسان في الدارين - لوجدته يقوم على أساس متين من العلم بكل مستوياته، بدءا من العلم بالله عز وجل كما قال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، والعلم بالنفس: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}، والعلم بالدنيا: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة}، والعلم بالآخرة كما قال تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى}. ولهذا فلا يستغرب أن تكون أول كلمة من هذا الوحي المبارك طرقت أسماع النبي الكريم[ هي {اقرأ}؛ لأن القراءة هي وسيلة العلم، والعلم سبب السعادة.
ولم يأمر الله عز وجل نبيه الكريم[ بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم فقال له: {وقل رب زدني علما}، وكفى بذلك للعلم شرفا وفضلا.
وأهل الجنة يتنعمون فيها ويتلذذون - بعد رحمة الله وفضله - بسبب علمهم النافع الذي حملهم على فعل الطاعات وترك المحرمات واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل كما قال عز وجل عنهم: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}، أي بذلك الحق الذي جاءت به الرسل، فهم قد علموا الحق وعملوا به فأورثهم الجنة بفضل الله.
ولو تأملت أحوال أهل النار لوجدتهم من أهل الجهل والتجاهل كما قال عز وجل: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}، وقال عز وجل على لسان أهل النار: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}، وكثيرا ما يصف الله الكافرين بأنهم {لا يعقلون} و {لا يعلمون} وبأنهم {جاهلون}، وكفى بذلك ذما للجهل وأهله.
ولا يخفى أن العلم لا يقتصر على المعلومات النظرية التي يحصلها الإنسان، وإنما العلم «منهج حياة» يظهر في تفكير الإنسان ونظرته للحياة والأحياء، ويبرز في تعامله الحضاري وسلوكه الراقي مع ربه ونفسه والآخرين.
كما أن الجهل ليس هو عدم العلم فحسب، وإنما هو أيضا «منهج حياة» يسلكه بعضهم ويظهر في تفكيره الفوضوي وسلوكه المتخلف وتعامله السيئ مع ربه ونفسه والآخرين كما قال عز وجل: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}، وقال عن قوم لوط: {أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون}؛، وقال في وصف المؤمنين: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا نبتغي الجاهلين}، وعاتب يوسف عليه السلام إخوته على ما صنعوه بقوله: {قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون}، وأمثلة كثيرة تدل على أن الجهل سبب للشقاء والتخلف والفوضى العقدية والسلوكية.
وخلاصة القول: أن الإنسان كائن متميز ومخلوق محبوب إلى الله؛ ولهذا أكرمه وفضله على غيره كما قال عز وجل: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}، وسعادة هذا الكائن تكمن في معرفة خالقه، ولم خلقه؟ وماذا يريد منه؟ وأين مصيره؟ وكيف النجاة؟
وشقاء الإنسان يكمن في جهله في هذه الأمور أو تجاهله لها في عقيدته وتفكيره وسلوكه؛ فالجهل يورد المهالك ويجلب المصائب، والجاهل يفسد ولا يصلح ويخرب ولا يعمر، كما قال بعضهم:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ** فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يَحْيَ بالعلم ميت ** فليس له قبل النشور نشور
وقال آخر:
فبالعلم النجاة من المخازي ** وبالجهل المذلة والرغام