قد يتساءل القارئ عن نشأة هذا الفعل..
وهو الجهر بالذكر بعد الصلوات عامّة.
والجواب – والله أعلم-:
أنّ هذا ظهر في عصر الصحابة رضي الله عنهم، وقد أنكره من شَهِده منهم من كبار الصحابة.
روى ابن وضَّاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي قال:
"كتب عامل لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه إليه، أنّ ها هنا قوماً يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير
فكتب إليه عمر:
أقبِل وأقبِل بهم معك فأقبل، فقال عمر للبوَّاب: أعِدَّ سوطاً !!
فلمّا دخلوا على عمر، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط.
فقلت:
يا أمير المؤمنين إنّنا لسنا أولئك الذّي يعني، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق.
(ذكره ابن وضاح في ما جاء في البدع، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف وسنده حسن).
وعن أبي البختري قال:
أخبر رجل ابن مسعود رضي الله عنه أنّ قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب، فيهم رجل يقول: كبِّروا الله كذا، وسبِّحوا الله كذا وكذا، واحمدوه كذا وكذا، واحمدوه كذا وكذا.
قال عبد الله:
فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني، فأخبرني بمجلسهم.
فلمّا جَلسوا، أتاه الرجل فأخبره، فجاء عبد الله بن مسعود، فقال: والذّي لا إله غيره، لقد جِئتم ببدعة ظُلماً، أو قد فضلتم أصحاب محمّد علماً.
فقال عمرو بن عتبة: نستغفر الله.
فقال: "عليكم الطريق فالزموه، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلّن ضلالاً بعيداً".
(رواه الدارمي بإسناد جيّد، وأورده السيوطي في الأمر بالاتّباع (ص 83 - 84)، وغيرهما، وهو صحيح بمجموع طرقه).
كذلك رُوِي بسند صحيح عن عبد الله بن أبي هذيل العنزي، عن عبد الله بن الخباب قال:
"بينما نحن في المسجد، ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي، فأرسل إليَّ أُبَي.
فوجدته قد احتجز معه هَرَاوة له، فأقبل عليَّ، فقلت: يا أَبَت ! مالي مالي؟! قال: ألم أرك جالساً مع العمالقة ؟ ثمّ قال: هذا قرن خارجٌ الآن".
(رواه ابن أبي شيبة في المصنف).
والواضح –والله أعلم-"
أنّ إنكار الصحابة على هذه الطريقة في الذكر بالجهر بالصوت جماعةً ضَيَّق على أهلها، وقلّ من انتشارها.
إلى أن جاء زمن المأمون الذّي كتب إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر النّاس بالتكبير بعد الصلوات الخمس.
ذكر الطبري في تاريخه في أحداث عام (216 هـ) ما نصه:
"وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا، فبدؤوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة، يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، من هذه السنة".
تاريخ الأمم والملوك، (10 / 281).
وجاء في البداية والنهاية لابن كثير، (10 / 282):
"وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد، يأمره أن يأمر النّاس بالتكبير عقب الصلوات الخمس".
فانتشر بعدها هذا الذكر الجماعي عَقِب الصلوات بقوة السلطان، وذاع صِيتُه بعدها في مجالس المتصوفة وطوائف الشيعة، حتّى أصبح النّاس يعتقدون أنّه دين، وإنّ لله وإنّ إليه راجعون.
يتبع بإذن الله...