الحمد لله الذي جعل الدنيا مزرعة الآخرة ، نحمده سبحانه ونشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا


أما بعـــــــــــــ د ...


فإن من عبادات القلوب التي يتقرب بها المؤمنون إلى ربهم -جل وعلا - عبادة الزهد ..


والزهد / عدم رغبة القلب فيما لا ينفع في الدار الآخرة ، بينما الورع / ترك ما يضر في الآخرة .


قال أبو واقد الليثي - رحمه الله تعالى -" تابعنا الأعمال أيها أفضل ، فلم نجد شيئا أعون على طلب الآخرة من الزهد في الدنيا "


وقال الحسن البصري :" ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ، وإضاعة المال ، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب بك منها فيما لو لم تصبك "


الزهد هو النظر في الدنيا بعين الزوال، بحيث تصغر الدنيا في عينيك فيسهل عليك الإعراض عنها .


الزهد سفر القلب من وطن الدنيا ، وأخذه في منازل الآخرة .


ومتعلق الزهد ستة أشياء لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها :-


* يزهد العبد في المال ، ويعلم أن المال ليس مقصودا لذاته ، وإنما هو وسيلة لغيره .


* يزهد في الصور وفي الرياسة وفي الناس وفي النفس و كل ما دون الله ، وليس المراد بالزهد في الدنيا أن يرفض العبد الدنيا بكمالها ، وأن لا يتملكها ، فقد كان سليمان وداوود -عليهما السلام - من أزهد أهل زمانهما


ومع ذلك كان لهما من المال والملك والنساء مالهما .


وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أزهد البشر على الإطلاق ، ومع ذلك كان له تسع نسوة .


* العلم مع الزهد والعبادة يلطف القلب ويرققه ، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة .


* يشمل الزهد ، الزهد في الحرام وهو فرض عين بحيث يعرض المرء عن المعاصي والذنوب .


* ويشمل الزهد ، الزهد في الشبهات وله مراتب عديدة يختلف حكمها .


* ويشمل الزهد ، الزهد في الفضول بترك ما لا يعني من الأقوال ، وأعمال الجوارح ، وما لا ينفع في الآخـرة .


* ويشمل الزهد ، الزهد في النيات والإرادات بأن يقصد المرء بعمله كله وجه الله والدار الآخرة .


قال سفيان الثوري : " الزهد في الدنيا قصر الأمل، وليس بأكل الغليظ ، ولبس العباءة "


وقد أمر الله بالزهد في مواطن كثيرة من كتابه :


كما قال سبحانه : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى }[طه : 131]


وقال تعالى :{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص : 80]


وقال سبحانه :{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى : 19،20]


وقال: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } [النساء : 134]



وفي الســــــــــنن :-


قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من كانت الدنيا همه ، فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولن يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله أمره ، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة "


وفي الصحيح : " إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة ، إلا من أعطاه الله خيرا ، فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه وخلفه ، وعمل فيه خيرا كثيرا "


** ويعين على الزهد أن يعرف المرء أن الدنيا زائلة عما قريب ، وأنها لن تبقى ،ولذلك حذرنا الله من الاغترار بها، وفي الحديث " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخـرة "


** ومما يعين على الزهد أن يكون المرء صادق اليقين ، تام الإيمان بالدار الآخرة ، المحتوية على النعيم المقيم ، والشقاء الدائـم ، مما يجعل المرء يزهد فيما يقلل مشيته إلى جنة الخلد .


وفي الحديث الصحيح " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ، ثم يقال : يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يا ربي ، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا


من أهل الجنة ، فيصبغ صبغة في الجنة ، فيقول الله له :يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا ربي ما مر بي بؤس قط ، ولا رأيت شدة قط .



** ومما يعين على الزهد أيضا أن يعرف العبد أن الزهد لا يمنع من نعم الله في الدنيا ، بل زهده فيها يجعل الدنيا تأتيه وهي راغمة .


فالزهد لا يمنع من استعمال الدنيا في مراض الله ، والزهد لا يمنع من وصول نعم الله إلى عبد الله ، بل زهده في الدنيا يكون من أسباب تنعم الله على العبد


ولا يمنع الزهد من وصول ما كتبه الله إلى العبد ، كما أن حرص العبد على الدنيا لا يجلب له من الدنيا ما لم يقدر له فيها ..


ولذلك علينا أن نكون من الزاهدين ، بحيث نعمل الأسباب تقربا لله لا محبة في الدنيا ، ونكتسب رغبة في أن نغني أنفسنا عن خلق الله ، لا محبة للفخر والرياء والرفعة في الدنيا .


** ومما يعين على الزهد أن يعرف العبد حقيقة الدنيا ، وأن يتلفت إلى ما حوله من النعم ، وأنها عما قريب منتقلة عنه ، فكم من صاحب مال كثير زال عنه ماله ، وكم من صاحب شركات عظيمة زالت عنه شركاته


قال تعالى : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل : 96].



** ويعين على الزهد أن يقارن العبد بين الدنيا والآخرة ، فإن نعيم الآخرة دائم ، ونعيم الدنيا زائل ، ونعيم الآخرة صاف غير مكدر ، ونعيم الدنيا مكدر بالمصائب ، قال تعالى : {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} [النساء : 77].


وفي سنن ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس ".


والزهد فيما ينفع في الدار الآخرة ليس من الدين في شيء ، فإن بعض الناس يعتقد أن ترك نعم الله وتحريم المباحات من الزهد ، وهذا فهم خاطئ ، مغاير لدين الإسلام ليس من الدين في شئ ، بل صاحبه قد اعتدى على شرع الله بتحريم ما أحل الله ، فيكون داخلا في قول الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة : 87]


قال محمد بن كعب القرضي :" إذا أراد الله بعبد خيرا أزهده في الدنيا ، وفقهه في الدين ، وبصره عيوبه ، ومن أوتيهن فقد أوتي خيرا كثيرا في الدنيا والآخـرة "


قال الله تعالى : {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ : 37]


فمن كانت دنياه معينة على طاعة الله ، سببا من أسباب الإقدام على أنواع القربات ، فإنه حينئذ يكون من الزاهدين ، لأنه لم يقصد الدنيا وإنما قصد بما اكتسبه الآخرة ، أما من كان مراده الدنيا ليفاخر الناس ، وليباهي بما عنده


فإنه حينئذ ليس من الزهد في شئ ...


أسأل الله - جلا وعلا - أن يجعلنا وإياكم من الزاهدين ..


اللهم يا حي يا قيوم عرفنا بحقيقة الدنيــا ، واجعلنا يا حي يا قيوم ممن استعمل الدنيا لتكون سلما لرفعة الدرجة في الآخرة .


هذا والله أعلم وصلى الله على نبيه محمد وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الديـــــــن ..



وصلتني على بريدي جزى الله كاتبها ومرسلها خيري الدنيا والآخرة وجعلنا الله وإياكم من الزاهدين