القصة الثانية:
روى الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"( 11/ 158) في ترجمة عيسى بن أبان، أحد الفقهاء في مذهب أبي حنيفة رحمه الله، عن:
محمد بن سماعة انه قال :
" كان عيسى بن أبان يصلي معنا
– أي في المسجد الذّي يصلي فيه الإمام محمد بن الحسن الشيباني ويقعد فيه لمجلس الفقه -
وكنت أدعوه أن يأتي محمد ابن الحسن، فيقول-عيسى بن أبان-:
هؤلاء قوم يخالفون الحديث
وكان عيسى حسن الحفظ للحديث، فصلى معنا يوما الصبح، وكان يوم مجلس محمّد، فلم أُفارقه حتى جلس في المجلس، فلما فرغ محمد أدنيته منه وقلت:
هذا ابن أختك أبّان بن صدقة الكاتب، ومعه ذكاء ومعرفة بالحديث
وأنا ادعوه إليك فيأبى ويقول:
إنّا نخالف الحديث؟
فأقبل عليه محمد وقال له:
يابُنّي ما الذي رأيتنا نخالف من الحديث ؟
لا تشهد علينا حتى تسمع منا !!!
فسأله يومئذ-أي عيسى بن أبان- عن خمسة وعشرين بابا من الحديث، فجعل محمد بن الحسن يجيبه عنها، ويخبره بما فيها من النواسخ ويأتي بالشواهد والدلائل.
فالتفت عيسى بن أبان إليّ بعدما خرجنا فقال:
كان بيني وبين النور ستر فارتفع عني، ما ظننت أن في مُلك الله مثل هذا الرجل يظهره للناس، ولَزم محمّد بن الحسن لزوما شديدا حتى تفقه به "اهـ.
في هذه القصة كثير من الفوائد والعبر، والتي تكثر في عصرنا
أستهل البعض منها:
الفائدة الأولى:
عدم حسن الظنّ بالأئمة يحجب النور ويذهبه، ويمنع المرء من التعلم والإستفادة منهم، كالذي حصل مع عيسى بن أبان رحمه الله
فلم يحسن الظن بالأئمة، ولم يكتفي بذلك بل اتهمهم بفرية عظيمة:
-مخالفة الحديث !!!-.
كل ذلك لظنه أن لا حرمة لأحاديث رسول الله في نفوس أئمة الإسلام، وانهم يقدمون فقه انفسهم على احاديث رسول الله وما أبطل هذا الظن.
وما أكثره وللأسف في هذا الزمن، فكم من معترض على الأئمة بحديث يحفظه، أو بحديث وجده في كناشة، أو وجده في مطوية، أو سمعه في إذاعة...، ثم بعد ذلك يحاكم الأئمة إليه، ويتهمهم بمخالفته، ويشنع عليهم، ويبطل مذاهبهم
وكأنهم جهلوه، أو علموه وخالفوه عن هواهم واتباعا لأرائهم وظنونهم، حاشاهم رحمهم الله
و سيأتي بيان ذلك ان شاء الله في الفائدة الخامسة
لطيفة تفكه بها:
من أغرب ما رأيته في هذا الصدد هو اعتراض أحدهم على الحافظ ابن حجر رحمه الله بحديث في صحيح البخاري، وجعل الحافظ بين أمرين:
* أحدها:
عدم علمه بالحديث وعدم بلوغه.
*والثانية:
مخالفة ابن حجر للحديث...
قلت:
فالأولى من المضحك المبكي
فكيف لا يبلغ الحديث الذي في صحيح البخاري، أو يخفى على أعلم رجل بصحيح البخاري الحافظ ابن حجر !!!!!!
والثانية:
تشبه الذي حصلت لعيسى بن أبان وقد علمت القصة.
الفائدة الثانية:
حسن الظن بالأئمة، وحب الخير للناس، والتلطف بهم من صفات الكرام، كالذي حصل لمحمد بن سماعة راوي القصة
فكان- محمد بن سماعة- رحمه الله، يعلم علم اليقين أن لأمامه وشيخه محمد بن الحسن تأويلا للأحاديث وفقها لها وجوابا عنها
كل ذلك لحسن ظنه بإمامه وشيخه، وهو الذي حصل بعد أن عرض عيسى بن أبان أحاديثه على الإمام محمد الشيباني.
ولم يمر على ما كان يقوله عيسى بن أبان، لعلمه أن لإمامه فقها وتأويلا، ويتركه في جهله، بل كان يتلطف به ويجتهد في إجلاسه مجلس محمد بن الحسن كي ينكشف عنه الظلام، كل ذلك حبا له للخير
فياله من خلق عظيم
الفائدة الثالثة:
قول الإمام محمد بن الحسن له :"يابني"
فيه دليل على:
أن أكثر المعترضين على الأئمة من الشباب الصغار، ممن لم يعرفوا قدر الأئمة ولا فضلهم
وما أكثرهم في هذا الزمن
فتجد الشاب الصغير فيهم، يحاكم الأئمة إلى علمه ويقاضيهم إليه، ثم بعد ذلك يتهمه بالقصور وبمخالفة الحديث...
ان هذا لشيء عجاب.
الفائدة الرابعة:
وهذه أعظم الفوائد وهي:
قول الإمام محمد بن الحسن رحمه الله :
" لا تشهد علينا حتى تسمع منا".
فيالها من كلمة رائعة، وحكمة بالغة، وياله من خلق عظيم لو تحلى به كل مسلم لما وصلنا إلا ما نحن فيه.
ومقولة الإمام ناطقة ساطعة تغني عن شرحها، رحم الله أئمة الإسلام
وما أندر هذا الخلق في هذا الزمان، زمن القيل والقال...
الفائدة الخامسة:
تَرفُّع أئمة الإسلام، وتنزههم عن مخالفة الحديث الصحيح دون معارض أو تأويل
بل مامن حديث صحيح خالفوه إلا وقد خالفوه بعلم إما لوجود معارض أقوى منه، أو لأنه منسوخ، أو لأنه مؤول، أو غير ذلك، وبسط هذا الأخير يحتاج للتأليف مستقل
وحاشاهم ان يخالفوا الحديث الصحيح إتباعا لأهوائهم أو أرائهم، كما كان يظن ذلك عيسى بن أبان، بل كل ذلك كان عن علم وفقه، كما كشف ذلك الإمام محمد بن الحسن رحمه الله لعيسى بن أبان لما عرض عليه بعضا من الأحاديث.
قال الذهبي رحمه الله في "السير"(7/142)، في تعليقه على قول ابن أبي ذئب في حق الإمام مالك رحمه الله لما ظن انه خالف الحديث،:
"هذا كلام قبيح في حق إمام عظيم، فمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث لأنه رآه منسوخا...".
هكذا يجب ان يكون حسن الظن بالأئمة
الفائدة السادسة:
عدم التواضع، وحسن الظن بالنفس، يذهب الفائدة ويحرم التعلم كالذي حصل للفقيه عيسى بن أبان
فلم يتواضع للحضور إلى حلقة محمد بن الحسن وأن يسأله عما لديه من الأحاديث، كل ذلك لحسن ظنه بنفسه، واعتقاده أن الذي يعرفه من الأحاديث هو الحق الذي لا حق غيره
فما كان منه إلا أن حرم النور، وياله من خزي، نسأل الله السلامة.
وما أكثر هذا الصنف من الناس في هذا الزمن، زمن الإنتفاخ...