تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: من درر شيخ الإسلام ابن تيمية

  1. #1

    افتراضي من درر شيخ الإسلام ابن تيمية

    موقف المبتدع من النصوص التي تخالفه

    (... لا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك...)*.

    هجر العاصي والمبتدع بحسب الأحوال والمصالح

    (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوَّتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فإنَّ المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامَّة عن مثل حاله؛ فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشَّرِّ وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشَّرّ والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي r يتألف قوماً ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعون في عشائرهم؛ فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير؛ فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة؛ كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح)*.

    الأمر بالجماعة والائتلاف والنَّهي عن البدعة والاختلاف وهجر المُظْهِر لبدعته لمصلحة راجحة

    (إن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ}(1)، وقال النبي r: ((عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة))(2)، وقال: ((الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد))(3)...
    فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاًّ أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا؛ فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك؛ فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل؛ كما قال النبي r في الحديث الصحيح: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء؛ فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء؛ فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء؛ فأقدمهم سناً))(1) .
    وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي r الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولى غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان قد رد بدعة ببدعة)*.
    وقال: (وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين؛ فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(2) ، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(3) ، ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(4) ... وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف.
    وأهل هذا الأصل: هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة))**.


    * * *
    الموقف الوسط من هجران أهل البدع

    (الهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا، وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله؛ فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه وتحضها على فعل ضد ظلمه من الإيمان والسنة ونحو ذلك، فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها؛ لم تكن هجرة مأموراً بها، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية، فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي، وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم؛ لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم، فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل.
    وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد عَلِم المسؤل حاله، أو خرج خطاباً لمعين قد عُلم حاله؛ فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول r، إنما يثبت حكمها في نظيرها.
    فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به؛ فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية؛ فلم يهجروا ما أُمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها؛ فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أُمروا به إيجاباً أو استحباباً؛ فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه، وذلك فعل ما نُهوا عنه وترك ما أُمروا به؛ فهذا هذا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله سبحانه أعلم)*.

    مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنْكَر عليه ولم يُهْجَر

    (مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان؛ فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا؛ قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم)*.

    التَّحزُّب المحمود والتَّحزُّب المذموم

    (أما لفظ ((الزعيم))؛ فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: {وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعيرٍ وأنا بِهِ زَعيمٌ}(1)، فمن تكفل بأمر طائفة؛ فإنه يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك، وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك.
    وأما ((رأس الحزب))؛ فإنه رأس الطائفة التى تتحزب؛ أي: تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان؛ فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل؛ فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهياً عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان)*.

    ليس لأحد أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته


    على كل ما يريده

    (إذا جنى شخص؛ فلا يجوز أن يُعاقب بغير العقوبة الشرعية، وليس لأحد من المتعلمين والأستاذين أن يعاقبه بما يشاء، وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك، مثل أن يأمر بهجر شخص فيهجره بغير ذنب شرعي، أو يقول: أقعدته أو أهدرته أو نحو ذلك؛ فإن هذا من جنس ما يفعله القساوسة والرهبان مع النصارى والحزابون مع اليهود، ومن جنس ما يفعله أئمة الضلالة والغواية مع أتباعهم، وقد قال الصديق الذي هو خليفة رسول الله r في أمته: أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت الله؛ فلا طاعة لي عليكم. وقد قال النبي r: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))(1)، وقال: ((من أمركم بمعصية؛ فلا تطيعوه))(2) .
    فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك؛ نظر فيه، فإن كان قد فعل ذنباً شرعياً عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة، وإن لم يكن أذنب ذنباً شرعياً لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره.
    وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الأخوة المتعاونين على البر والتقوى؛ كما قال تعالى: {وَتَعاوَنوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى وَلاَ تَعاوَنوا عَلَى الإثْمِ والعُدْوانِ}(1).
    وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكزخان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقاً والي ومن خالفهم عدواً باغي؛ بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله، ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله؛ فإن كان أستاذ أحد مظلوماً نصره، وإن كان ظالماً لم يعاونه على الظلم، بل يمنعه منه؛ كما ثبت في ((الصحيح)) عن النبي r أنه قال: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)). قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً؛ فكيف أنصره ظالماً؟! قال: ((تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه))(2).
    وإذا وقع بين معلم ومعلم أو تلميذ وتلميذ أو معلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق؛ فلا يعاونه بجهل ولا بهوى، بل ينظر في الأمر، فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل، سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره؛ فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله واتباع الحق والقيام بالقسط، قال الله تعالى: {يا أيُّها الذينَ آمنوا كونوا قَوَّامينَ بِالقِسْطِ شُهِداءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أنْفُسِكُمْ أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبينَ إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أوْ فَقيراً فاللهُ أوْلَى بِهِما فَلاَ تَتَّبِعوا الهَوَى أنْ تَعْدِلوا وإنْ تَلْووا أوْ تُعْرِضوا فَإنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلونَ خَبِيراً}(3)، يقال: لوى يلوي لسانه: فيخبر بالكذب. والإعراض: أن يكتم الحق؛ فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس.

    * ((مجموع الفتاوى)) (20 / 161).

    * ((مجموع الفتاوى)) (28 / 206).

    (1) الأنعام: 159.

    (2) لم أجده بهذا اللفظ، لكن روى شطره الأول الترمذي في (الفتن عن رسول الله، باب ما جاء في لزوم الجماعة، 2165)، وروى شطره الثاني النسائي في (تحريم الدم، باب قتل من فارق الجماعة، 4020). انظر: ((صحيح الجامع)) (8065، 1848)، و((صحيح الترغيب والترهيب)) (425). وروى النسائي في ((الكبرى)) (5 / 388) بلفظ: ((فعليه بالجماعة؛ فإن يد الله فوق الجماعة)).

    (3) [صحيح]. جزء من حديث رواه الترمذي في (الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة)، وأحمد في ((المسند)) (1 / 26)؛ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وانظر:((السلسة الصحيحة)) (430).

    (1) رواه مسلم في (المساجد، باب من أحق بالإمامة، رقم 637) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

    * ((مجموع الفتاوى)) (3 / 285 - 286).

    (2) الأنفال: 1.

    (3) آل عمران: 103.

    (4) آل عمران: 105.

    ** ((مجموع الفتاوى)) (28 / 51).

    * ((مجموع الفتاوى)) (28 / 212 - 213).

    * ((مجموع الفتاوى)) (20 / 207).

    (1) يوسف: 72.

    * ((مجموع الفتاوى)) (11 / 92).

    (1) [صحيح]. رواه أحمد في ((المسند)) (1 / 131) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي (1 / 409) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وفي (5 / 66) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه بلفظ: ((في معصية الله))، وفي ((مسند الشهاب)) للقضاعي (2 / 55) بلفظ المؤلف. وانظر: ((صحيح الجامع)) (7520).

    (2) [صحيح]. رواه ابن ماجه في (الجهاد، باب لا طاعة في معصية الله، 2863)، وأحمد في ((المسند)) (3 / 67) من حديث أبي سعيد الخدري. وانظر: ((صحيح الجامع)) (6099)، و((السلسلة الصحيحة)) (2324).

    (1) المائدة: 2.

    (2) تقدم تخريجه قريباً.

    (3) النساء: 135.

  2. #2

    افتراضي رد: من درر شيخ الإسلام ابن تيمية

    ومن مال مع صاحبه - سواء كان الحق له أو عليه -؛ فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله، والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدة مع الحَقِّيِّ على المبطل، فيكون المعظَّم عندهم من عظَّمه الله ورسوله، والمقدَّم عندهم من قدِّمه الله ورسوله، والمحبوب عندهم من أحبَّه الله ورسوله، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء؛ فإنَّه من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنَّه لا يضرُّ إلاَّ نفسه.
    فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده، وحينئذ؛ٍ فلا حاجة إلى تفرُّقهم وتشيُّعهم؛ فإنَّ الله تعالى يقول: {إنَّ الذينَ فَرَّقوا دينَهُمْ وكانوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ}(1)، وقال تعالى: {وَلاَ تَكونوا كالذينَ تَفَرَّقوا واخْتَلَفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتِ}(2)، وإذا كان الرَّجل قد علَّمه أستاذ عرف قدر إحسانه إليه وشكره.
    ولا يشدُّ وسطه لا لمعلِّمه ولا لغير معلِّمه؛ فإنَّ شدَّ الوسط لشخص معيَّن وانتسابه إليه من بدع الجاهليَّة، ومن جنس التَّحالف الذي كان المشركون يفعلونه، ومن جنس تفرُّق قيس ويمن، فإن كان المقصود بهذا الشدِّ والانتماء التَّعاون على البرِّ والتَّقوى؛ فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره بدون هذا الشدِّ، وإن كان المقصود به التَّعاون على الإثم والعدوان؛ فهذا قد حرَّمه الله ورسوله، فما قُصد بهذا من خير؛ ففي أمر الله ورسوله بكلِّ معروف استغناء عن أمر المعلِّمين، وما قُصد بهذا من شرٍّ؛ فقد حرَّمه الله ورسوله.
    فليس لمعلِّم أن يحالف تلامذته على هذا، ولا لغير المعلِّم أن يأخذ أحداً من تلامذته لينسبوا إليه على الوجه البدعيِّ: لا ابتداءً ولا إفادةً، وليس له أن يجحد حقَّ الأوَّل عليه، وليس للأوَّل أن يمنع أحداً من إفادة التعلُّم من غيره، وليس للثَّاني أن يقول: شدَّ لي وانتسب لي دون معلِّمك الأوَّل، بل إن تعلَّم من اثنين فإنَّه يراعي حقَّ كلٍّ منهما، ولا يتعصَّب لا للأوَّل ولا للثَّاني، وإذا كان تعليم الأول له أكثر كانت رعايته لحقِّه أكثر.
    وإذا اجتمعوا على طاعة الله ورسوله وتعاونوا على البرِّ والتَّقوى لم يكن أحد مع أحد في كلِّ شيء؛ بل يكون كلُّ شخص مع كلِّ شخص في طاعة الله ورسوله، ولا يكونون مع أحد في معصية الله ورسوله، بل يتعاونون على الصِّدق والعدل والإحسان، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ونصر المظلوم وكلِّ ما يحبُّه الله ورسوله، ولا يتعاونون لا على ظلم ولا عصبيَّة جاهليَّة، ولا اتباع الهوى بدون هدى من الله، ولا تفرق ولا اختلاف، ولا شد وسط لشخص ليتابعه في كل شيء ولا يحالفه على غير ما أمر الله به ورسوله.
    وحينئذٍ؛ فلا ينتقل أحد عن أحد إلى أحد، ولا ينتمي أحد لا لقيطاً ولا ثقيلاً ولا غير ذلك من أسماء الجاهلية؛ فإن هذه الأمور إنما ولدها كون الأستاذ يريد أن يوافقه تلميذه على ما يريد، فيوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه مطلقاً، وهذا حرام؛ ليس لأحد أن يأمر به أحداً ولا يجيب عليه أحداً، بل تجمعهم السنة وتفرقهم البدعة، يجمعهم فعل ما أمر الله به ورسوله وتفرق بينهم معصية الله ورسوله، حتى يصير الناس أهل طاعة الله أو أهل معصية الله؛ فلا تكون العبادة إلا لله عز وجل ولا الطاعة المطلقة إلا له سبحانه ولرسوله r.

    ولا ريب أنهم إذا كانوا على عادتهم الجاهلية - أي: من علمه أستاذ كان محالفاً له - كان المنتقل عن الأول إلى الثاني ظالماً باغياً ناقضاً لعهده غير موثوق بعقده، وهذا أيضاً حرام وإثم، هذا أعظم من إثم من لم يفعل مثل فعله؛ بل مثل هذا إذا انتقل إلى غير أستاذه وحالفه كان قد فعل حراماً، فيكون مثل لحم الخنزير الميت؛ فإنه لا بعهد الله ورسوله أوفى ولا بعهد الأول؛ بل كان بمنزلة المتلاعب الذي لا عهد له ولا دين له ولا وفاء، وقد كانوا في الجاهلية يحالف الرجل قبيلة، فإذا وجد أقوى منها نقض عهد الأولى وحالف الثانية - وهو شبيه بحال هؤلاء -؛ فأنزل الله تعالى: )وَلاَ تَنْقُضوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفيلاً إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلونَ . ولا تكونوا كالتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكاثاً تَتَّخِذونَ أيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إنَّما يَبْلُوَكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنّ َ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فيهِ تَخْتَلِفونَ . وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلونَ. وَلاَ تَتَّخِذوا أيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبوتِها وَتَذوقوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظيمٌ((1) .
    وعليهم أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، ولا يدعوا بينهم من يظهر ظلماً أو فاحشة، ولا يدعوا صبياً أمرد يتبرج أو يظهر ما يفتن به الناس، ولا أن يعاشر من يتهم بعشرته، ولا يكرم لغرض فاسد.
    ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين؛ بل هؤلاء من عسكر الشيطان، ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الإثم والعدوان، وإذا كان الحق معي نصرت الحق، وإن كنت على الباطل لم تنصر الباطل؛ فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى، الذين يريدون أن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا.
    وفي ((الصحيحين)): أن النبي r قيل له: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء؛ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله))(1) ، فإذا كان المجاهد الذي يقاتل حمية للمسلمين، أو يقاتل رياءً للناس ليمدحوه، أو يقاتل لما فيه من الشجاعة؛ لا يكون قتاله في سبيل الله عز وجل حتى يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فكيف من يكون أفضل تعلمه صناعة القتال مبنياً على أساس فاسد ليعاون شخصاً مخلوقاً على شخص مخلوق؟! فمن فعل ذلك كان من أهل الجاهلية الجهلاء والتتر الخارجين عن شريعة الإسلام، ومثل هؤلاء يستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تزجرهم وأمثالهم عن مثل هذا التفرق والاختلاف؛ حتى يكون الدين كله لله والطاعة لله ورسوله...)*.

    نصائح للدعاة
    (الواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحب الله ورسوله؛ وأن يبغض ما أبغضه الله ورسوله مما دل عليه في كتابه، فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل في الدين لشخص إلا لرسول الله r؛ ولا لقول إلا لكتاب الله عز وجل.
    ومن نصب شخصاً كائناً من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو: {مِنَ الَّذِينَ فَرقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} الآية، وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل: اتباع الأئمة والمشايخ؛ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم، فينبغي للإنسان أن يعود نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به، فهذا زاجر. وكمائن القلوب تظهر عند المحن.
    وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه، ولا يناجز عليها، بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله؛ أو أخبر الله به ورسوله؛ لكون ذلك طاعة لله ورسوله.
    وينبغي للداعي أن يقدم فيما استدلوا به من القرآن؛ فإنه نور وهدى؛ ثم يجعل إمام الأئمة رسول الله r؛ ثم كلام الأئمة.
    ولا يخلو أمر الداعي من أمرين:
    الأول: أن يكون مجتهداً أو مقلداً، فالمجتهد ينظر في تصانيف المتقدمين من القرون الثلاثة، ثم يرجح ما ينبغي ترجيحه.
    الثاني: المقلد يقلد السلف؛ إذ القرون المتقدمة أفضل مما بعدها.
    فإذا تبين هذا فنقول كما أمرنا ربنا: {قولُوا آمَنَّا باللهِ} إلى قوله: {مُسلمُون}، ونأمر بما أمرنا به؛ وننهى عما نهانا عنه في نص كتابه وعلى لسان نبيه r، كما قال تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَسُولُ فَخُذُوه} الآية، فمبنى أحكام هذا الدين على ثلاثة أقسام: الكتاب والسنة والإجماع)*.
    من عُلم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يُذكَر
    على وجه الذَّمِّ
    (من عُلم منه الاجتهاد السائغ؛ فلا يجوز أن يُذكر على وجه الذم والتأثيم له؛ فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه: من ثناء ودعاء وغير ذلك؛ وإن عُلم منه النفاق، كما عُرف نفاق جماعة على عهد رسول الله r مثل عبدالله بن أُبي وذويه، وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة: عبدالله بن سبأ وأمثاله، مثل عبدالقدوس بن الحجاج، ومحمد بن سعيد المصلوب؛ فهذا يذكر بالنفاق، وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقاً أو مؤمناً مخطئاً ذُكر بما يُعلم منه؛ فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصداً بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثماً)*.
    وقال: (وأهل السنة والجماعة يقولون: ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو أن المؤمن يستحق وعد الله وفضله الثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وأن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يُثاب عليه وما يُعاقب عليه، وما يُحمد عليه وما يُذم عليه، وما يُحب منه وما يُبغض منه؛ فهذا هذا)** .
    لا يجوز التَّفريق بين الأمَّة بأسماء مُبتَدَعة لا أصل لها في الكتاب والسُّنَّة
    (وكذلك ـ أي من البدع ـ التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرفندي. فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله r، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي، والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي؛ بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله.
    بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري.
    فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان.
    فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد r أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى، وقد برأ الله نبيه r ممن كان هكذا.
    فهذا فعل أهل البدع؛ كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم.
    وأما أهل السنة والجماعة؛ فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله، وإن يكون المسلمون يداً واحدة؛ فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين؛ فليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول r والمؤمنين: {رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسينا أوْ أخْطَأنا}(1)، وثبت في ((الصحيح)) أن الله قال: قد فعلت(2)...
    وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله r؟!
    وهذا التفريق الذي حصل من الأمة؛ علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها؛ هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمِنَ الذينَ قالوا إنَّا نَصَارى أخَذْنا ميثاقَهُمْ فَنَسَوْا حَظّاً مِمَّا ذُكِّروا بِهِ فأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العداوَةَ والبَغْضاءَ}(3).
    فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب)*.
    أنواع الاختلاف
    (... أما أنواعه: فهو في الأصل قسمان:
    اختلاف تنوع، واختلاف تضاد.
    واختلاف التنوع على وجوه:
    منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة حتى زجرهم عن الاختلاف رسول الله r، وقال: ((كلاكما محسن))(1)، ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة... إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال: إن بعض أنواعه أفضل.
    ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك، وهذا عيـن المحرم، ومن لم يبلغ هذا المبلغ؛ فتجد كثيراً منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه - ما دخـل به فيمـا نهـى عنه النبي r -.
    ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود وصيغ الأدلة والتعبير عن المسميات وتقسيم الأحكام وغير ذلك، ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.
    ومنه: ما يكون المعنيان غيرين(1)، لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح وهذا قول صحيح؛ وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جداً.
    ومنه: ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين.
    ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم.
    وأما اختلاف التضاد؛ فهو: القولان المتنافيان: إما في الأصول، وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون: ((المصيب واحد))، وإلا؛ فمن قال: ((كل مجتهد مصيب))؛ فعنده هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان، لكن نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما أو معه دليل يقتضي حقاً ما، فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض كما كان الأول مبطلاً في الأصل، كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم.
    وأما أهل البدعة؛ فالأمر فيهم ظاهر، وكما رأيته لكثير من الفقهاء أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت الاختلاف كثيراً بين بعض المتفقهة وبعض المتصوفة وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة.
    ومن جعل الله له هداية ونوراً؛ رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه؛ وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور.
    وهذا القسم - الذي سميناه اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه...)*.
    النزاع في الأحكام وخفاء العلم بما يوجب الشِّدَّة قد يكون رحمة
    (النزاع في الأحكام قد يكون رحمةً إذا لم يفض إلى شرٍّ عظيم من خفاء الحكم، ولهذا صنف رجل كتاباً سماه ((كتاب الاختلاف))؛ فقال أحمد: سمه ((كتاب السعة))، وإن الحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى: {لا تَسْألوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(1).
    وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوباً، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله له حلالاً لا إثم عليه فيه بحال؛ بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة)*.
    إذا كان الشَّيء شعاراً للكفَّار ثمَّ اعتاده المسلمون وكَثُر فيهم هل تزول حرمته؟
    (كان الصحابة يرمون بالقوس العربية الطويلة التي تشبه قوس الندف، وفتح الله لهم بها البلاد، وقد رويت آثار في كراهة الرمي بالقوس الفارسية عن بعض السلف لكونها كانت شعار الكفار، فأما بعد أن اعتادها المسلمون وكثرت فيهم وهي في أنفسها أنفع في الجهاد من تلك القوس؛ فلا تكره في أظهر قولي العلماء أو قول أكثرهم؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ}(1).
    والقوة في هذا أبلغ بلا ريب، والصحابة لم تكن هذه عندهم فعدلوا عنها إلى تلك؛ بل لم يكن لهم غيرها، فيُنظر في قصدهم بالرمي: أكان لحاجة إليها إذ ليس لهم غيرها، أم كان لمعنى فيها؟ ومن كره الرمي بها كرهه لمعنى لازم كما يكره الكفر وما يستلزم الكفر، أم كرهها لكونها كانت من شعائر الكفار فكره التشبه بهم؟
    وهذا كما أن الكفار من اليهود والنصارى إذا لبسوا ثوب الغيار من أصفر وأزرق نُهي عن لباسه لما فيه من التشبه بهم، وإن كان لو خلا عن ذلك لم يُكره، وفي بلاد لا يلبس هذه الملابس عندهم إلا الكفار فنهي عن لبسها، والذين اعتادوا ذلك من المسلمين لا مفسدة عندهم في لبسها.
    ولهذا كره أحمد وغيره لباس السواد لما كان في لباسه تشبه بمن يظلم أو يعين على الظلم، وكره بيعه لمن يستعين بلبسه على الظلم، فأما إذا لم يكن فيه مفسدة؛ لم ينه عنه)*.
    كل ما قاله r بعد النُّبوَّة وأُقرَّ عليه ولم ينسخ فهو تشريع
    (فكل ما قاله بعد النبوة وأُقر عليه ولم ينسخ؛ فهو تشريع، لكن التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطلب؛ فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعاً لاستحبابه؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي: هل هو مباح أو مستحب أو واجب؟
    والتحقيق أن منه ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب، وقد يكون منه ما هو واجب، وهو ما يُعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة؛ فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار. فقد يحصل أحياناً للإنسان إذا استحر المرض ما إن لم يتعالج معه مات، والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة؛ كالتغذية للضعيف، وكاستخراج الدم أحياناً.
    والمقصود أن جميع أقواله يُستفاد منها شرع، وهو r لما رآهم يلقحون النخل قال لهم: ((ما أرى هذا ـ يعني شيئاً ـ))، ثم قال لهم: ((إنما ظننت ظناً؛ فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله؛ فلن أكذب على الله))(1)، وقال: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم؛ فما كان من أمر دينكم فإلي))(2)، وهو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط من غلط في ظنه أن (الخيط الأبيض) و(الخيط الأسود) هو الحبل الأبيض والأسود)*.

    الحديث الضعيف يُروى ويُعمل به في التَّرغيب والتَّرهيب لا في الاستحباب
    (قول أحمد بن حنبل: إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال: ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به؛ فإن الاستحباب حكم شرعي؛ فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن أخبر عن الله أنه يحب عملاً من الأعمال من غير دليل شرعي؛ فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره، بل هو أصل الدين المشروع.
    وإنما مرادهم بذلك أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع؛ كتلاوة القرآن، والتسبيح، والدعاء، والصدقة، والعتق، والإحسان إلى الناس، وكراهة الكذب والخيانة، ونحو ذلك، فإذا روى حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها؛ فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا روى فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به، بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب، كرجل يعلم أن التجارة تربح، لكن بلغه أنها تربح ربحاً كثيراً؛ فهذا إن صدق نفعه وإن كذب لم يضره، ومثال ذلك الترغيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات وكلمات السلف والعلماء ووقائع العلماء ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي؛ لا استحباب ولا غيره، ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب والترجية والتخويف.
    فما عُلم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع؛ فإن ذلك ينفع ولا يضر، وسواء كان في نفس الأمر حقاً أو باطلاً، فما عُلم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه؛ فإن الكذب لا يفيد شيئاً، وإذا ثبت أنه صحيح أُثبتت به الأحكام، وإذا احتمل الأمرين روي لإمكان صدقه ولعدم المضرة في كذبه، وأحمد إنما قال: إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، ومعناه أنا نروي في ذلك بالأسانيد وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتج بهم، وكذلك قول من قال: يعمل بها في فضائل الأعمال، إنما العمل بها العمل بما فيها من الأعمال الصالحة مثل التلاوة والذكر والاجتناب لما كُره فيها من الأعمال السيئة.
    ونظير هذا قول النبي r في الحديث الذي رواه البخاري عن عبدالله ابن عمرو: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً؛ فليتبوأ مقعده من النار))(1) مع قوله r في الحديث الصحيح: ((إذا حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم))(2)؛ فإنه رخص في الحديث عنهم، ومع هذا نهى عن تصديقهم وتكذيبهم، فلو لم يكن في التحديث المطلق عنهم فائدة لما رخص فيه وأمر به، ولو جاز تصديقهم بمجرد الإخبار لما نهى عن تصديقهم؛ فالنفوس تنتفع بما تظن صدقه في مواضع.
    فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديراً وتحديداً مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة؛ لم يجز ذلك لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي، بخلاف ما لو روي فيه من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله كان له كذا وكذا؛ فإن ذكر الله في السوق مستحب لما فيه من ذكر الله بين الغافلين...
    فأما تقدير الثواب المروي فيه؛ فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته...
    فالحاصل أن هذا الباب يُروى ويُعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب، ثم اعتقاد موجبه - وهو مقادير الثواب والعقاب - يتوقف على الدليل الشرعي)*.

    ذم الاختلاف المفضي إلى الفرقة
    فَانْظُرُوا - رَحِمَكُمْ اللَّهُ كَيْفَ دَعَا اللَّهُ إلَى الْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } فَبَرَّأَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا . كَمَا نَهَانَا عَنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } . وَقَدْ كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُجَادَلَةِ مَا يُفْضِي إلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ . فَخَرَجَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَجَادَلُونَ فِي الْقَدَرِ فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ وَقَالَ { : أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ ؟ أَمْ إلَى هَذَا دُعِيتُمْ ؟ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمَا أَغْبِطُ نَفْسِي كَمَا غَبَطْتهَا أَلَّا أَكُونَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَغَيْرُهُ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هِيَ ؟ قَالَ : مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي } " وَفِي رِوَايَةٍ " هِيَ الْجَمَاعَةُ " وَفِي رِوَايَةٍ " { يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ } فَوَصَفَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ بِأَنَّهُمْ الْمُسْتَمْسِكُ ونَ بِسُنَّتِهِ وَأَنَّهُمْ هُمْ الْجَمَاعَةُ . وَقَدْ كَانَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إذَا تَنَازَعُوا فِي الْأَمْرِ اتَّبَعُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَكَانُوا يَتَنَاظَرُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُنَاظَرَةَ مُشَاوَرَةٍ وَمُنَاصَحَةٍ وَرُبَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّة ِ مَعَ بَقَاءِ الْأُلْفَةِ وَالْعِصْمَةِ وَأُخُوَّةِ الدِّينِ . نَعَمْ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَالسُّنَّةَ الْمُسْتَفِيضَة َ أَوْ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ خِلَافًا لَا يُعْذَرُ فِيهِ فَهَذَا يُعَامَلُ بِمَا يُعَامَلُ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ . فَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ خَالَفَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ وَقَالَتْ : " مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْفِرْيَةَ " وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُبَدِّعُونَ الْمَانِعِينَ الَّذِينَ وَافَقُوا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَذَلِكَ أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْوَاتُ يَسْمَعُونَ دُعَاءَ الْحَيِّ لَمَّا قِيلَ لَهَا : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ } " فَقَالَتْ : إنَّمَا قَالَ : إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ مَا قُلْت لَهُمْ حَقٌّ . وَمَعَ هَذَا فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ خَفْقَ النِّعَالِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ . وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَأَوَّلَتْ وَاَللَّهُ يَرْضَى عَنْهَا . وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ نُقِلَ عَنْهُ فِي أَمْرِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا كَانَ بِرُوحِهِ وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي " الْأَحْكَامِ " فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَنْضَبِطَ وَلَوْ كَانَ كُلَّمَا اخْتَلَفَ مُسْلِمَانِ فِي شَيْءٍ تَهَاجَرَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِصْمَةٌ وَلَا أُخُوَّةٌ وَلَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَيِّدَا الْمُسْلِمِينَ يَتَنَازَعَانِ فِي أَشْيَاءَ لَا يَقْصِدَانِ إلَّا الْخَيْرَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ : { لَا يُصَلِّيَن أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَتْهُم ْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ قَوْمٌ : لَا نُصَلِّي إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَفَاتَتْهُمْ الْعَصْرُ . وَقَالَ قَوْمٌ : لَمْ يُرِدْ مِنَّا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ فَصَلَّوْا فِي الطَّرِيقِ فَلَمْ يَعِبْ وَاحِدًا مِنْ الطَّائِفَتَيْن ِ } . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْأَحْكَامِ فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأُصُولِ الْمُهِمَّةِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْأَحْكَامِ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ . } نَعَمْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ هَجَرَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَظَهَرَتْ مَعْصِيَتُهُمْ وَخِيفَ عَلَيْهِمْ النِّفَاقُ فَهَجَرَهُمْ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ حَتَّى أَمَرَهُمْ بِاعْتِزَالِ أَزْوَاجِهِمْ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ خَمْسِينَ لَيْلَةً إلَى أَنْ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْ السَّمَاءِ . وَكَذَلِكَ أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِ صبيغ بْنِ عَسَلٍ التَّمِيمِيِّ لَمَّا رَآهُ مِنْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْكِتَابِ إلَى أَنْ مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِي التَّوْبَةِ فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِمُرَاجَعَتِهِ . فَبِهَذَا وَنَحْوِهِ
    رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَهْجُرُوا مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الزَّيْغِ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْبِدَعِ الدَّاعِينَ إلَيْهَا وَالْمُظْهِرِين َ لِلْكَبَائِرِ فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ مُسِرًّا لِبِدْعَةٍ غَيْرِ مُكَفِّرَةٍ فَإِنَّ هَذَا لَا يُهْجَرُ وَإِنَّمَا يُهْجَرُ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ ؛ إذْ الْهَجْرُ نَوْعٌ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ مَنْ أَظْهَرَ الْمَعْصِيَةَ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا . وَأَمَّا مَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا فَإِنَّا نَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُ وَنَكِلُ سَرِيرَتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ لَمَّا جَاءُوا إلَيْهِ عَامَ تَبُوكَ يَحْلِفُونَ وَيَعْتَذِرُونَ . وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَكْثَرُ مَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ : كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ لَا يَقْبَلُونَ رِوَايَةَ الدَّاعِي إلَى بِدْعَةٍ وَلَا يُجَالِسُونَهُ بِخِلَافِ السَّاكِتِ وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِمَّنْ رُمِيَ بِبِدْعَةٍ مِنْ السَّاكِتِينَ وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ الدُّعَاةِ إلَى الْبِدَعِ [1].

    (1) الأنعام: 159.

    (2) آل عمران: 105.

    (1) النحل: 91 - 94.

    (1) رواه البخاري في (التوحيد، باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ}، 7458)، ومسلم في الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، 1904)؛ من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

    * ((مجموع الفتاوى)) (28 / 15 - 21).

    * ((مجموع الفتاوى)) (20 / 8 - 9).

    * ((مجموع الفتاوى)) (28 / 234).

    ** ((مجموع الفتاوى)) (11 / 96).

    (1) البقرة: 286.

    (2) رواه مسلم في (الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 126) من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنه.

    (3) المائدة: 14.

    * ((مجموع الفتاوى)) (3 / 415 -421).

    (1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، 3476) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

    (1) أي: متغايرين.

    * ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1 / 132 - 135).

    (1) المائدة: 101.

    * ((مجموع الفتاوى)) (14 / 159).

    (1) الأنفال: 60.

    * ((مجموع الفتاوى)) (17 / 487 ـ 488).

    (1) رواه مسلم في (الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، 2361) من حديث طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه.

    (2) رواه مسلم في (الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، 2363)، وأحمد في ((المسند)) (3 / 152) - واللفظ أقرب إليه -؛ كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

    * ((مجموع الفتاوى)) (18 / 11 ـ 12).

    (1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب ما ذُكر عن بني إسرائيل، 3461).

    (2) رواه البخاري في (الشهادات، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة معلقاً، وفي تفسير القرآن، باب {قُولُوا آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا}، 4485) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

    * ((مجموع الفتاوى)) (18 / 65 ـ 68).

    [1] مجموع الفتاوى 24/175

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •