" لَعَمري"
بـقلم: فضيلة الشيخ حماد بن محمد الأنصاري
المدرسبالجامعة الإسلامية
( مجلة الجامعة الإسلامية / العدد 26 (
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلامعلى نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فلقدجرى بيني وبين بعض الإخوان بحث مهم حول زعم النحويين إن كلمة "لعمري" نص في اليمينكما قال ابن مالك في ألفيته:
وفي نص يمين ذا استقر ... وبعد لولا غالباً حذفالخبر
وأثارت هذه الدعوى بيننا استشكالاً عميقاً لأنها لا تتلاءم مع نهي الشارععن الحلف بغير الله على القول بأنها يمين شرعاً، لما ثبت في:
1- حديث عمر ابن الخطابرضي الله عنه عند الشيخين،قال البخاري : حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافععن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بنالخطاب رضي الله عنه وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: (( ألا إن الله ينهاكم أنتحلفوا بآبائكم من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )).
2- وعند ابن أبي شيبة في مصنفهمن طريق عكرمة، قال : قال عمر: (( حدثت قوماً حديثاً فقلت " لا وأبي " . فقال رجل من خلف :" لا تحلفوا بآبائكم " ، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( لو أن أحدكمحلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم )) .
قال الحافظ : وهذا مرسل يتقوى بشواهده.
3- وعندالترمذي من وجه آخر عن ابن عمر : أنه سمع رجلاً يقول : " لا والكعبة " فقال: لا تحلفبغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( من حلف بغير الله فقد كفرأو أشرك )) .
قال الترمذي : حسن وصححه الحاكم.
4- وقال النووي: قال ابن عباس رضي اللهعنهما: ( لأن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر ) .
5- وروى عبدالرزاق عن الثوري عن أبي سلمة عن وبرة قال: قال عبد الله : - لا أدري ابن مسعود أو ابنعمر - : ( لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً ) . اهـ ( ج8 ص469 منالمنصف )91.
قال الهيثمي : ورواه الطبراني في الكبيرورجاله رجال الصحيح. ( ج4 ص )177.
وقال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله ؛أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده .
وقال ابن عبدالبر : أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلفبها وجزم غيره بالتفصيل فقال فإن اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في اللهحرم الحلف به وكان بذلك كافراً وعلى هذا يتنزل حديث الترمذي المذكور.
وأما إذاحلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر بذلكولا تنعقد يمينه.
قال الماوردي : لا يجوز لأحد أن يحلف أحدا بغير الله لا بطلاق ولاعتاق ولا نذر وإذا حلف الحاكم أحداً بشيء من ذلك وجب عزله لجهله . اهـ
وهذاهو سبب الاستشكال المذكور آنفاً حول كلمة "لعمري" وفي ضمن البحث قلت : إن لفظ "لعمري" ليس يميناً شرعياً، بل هو يمين لغوية : أ- لخلوه من حروف القسم المعروفة المحصورةفي الواو والباء والتاء ،
ب-ولعدم الكفارة على من أقسم بها.
هذا مع ثبوت الحديث بأنالنبي صلى الله عليه وسلم نطق بها ، وصح عن بعض أصحابه رضي الله عنهم التفوه بها ، منهم :
ابن عباس ، وعثمان ابن أبي العاص ، وعائشة أم المؤمنين ، وأسماء بنت أبي بكر الصديق ، وعمربن الخطاب، وأبو عبيدة ابن الجراح ، وغيرهم رضي الله عنهم ،
وكذلك صح عن التابعين لهمبإحسان استعمالها ، منهم : عطاء ، وقتادة ، وغيرهما كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى ،
ولم يثبت عن أحد حسب الاستقراء مخالفتهم ، إلا ما حُكي عن الحسن البصري وإبراهيمالنخعي .
قال عبد الرزاق :اخبرنا معمر عن مغيرة عن إبراهيمأنه كان يكره "لعمرك" ولا يرى بـ"لعمري " بأساً .
قال معمر : وكان الحسن يقول : لا بأسبـ"وأيم الله"، ويقول قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأيم الذي نفسي بيده" .اهـ ( ج8 ص469- 471) .
وهما محجوجان بالنصوص الواردة في جواز التكلم بها إن لم نحملقولهما على عدم بلوغ النصوص إليهما ، وهذا هو الأظهر المظنون بمثلهما أو على أنهمامنعا ذلك سداً للذريعة.
وأما قياس إبراهيم النخعي هذه الكلمة "لعمري"على قولالإنسان "وحياتي" فقياس مع فارق ، وهو باطل - كما هو معروف في فن الأصول - ؛ لأن الأخيرةمعها واحد من حروف القسم التي أجمع على أنها صريحة في اليمين بخلاف تلك أي " لعمري "فإن اللام فيه ليست من أدوات القسم لما تقدم. بل مثل هذه اللفظة تعتبر جرياً علىرسم اللغة تذكر لتأكيد مضمون الكلام وترويجه فقط لأنه أقوى من سائر المؤكدات وأسلممن التأكيد بالقسم بالله لوجوب البر به وليس الغرض فيه اليمين الشرعي ، فصورة القسمعلى هذاالوجه المذكور لا بأس به ، ولهذا شاع بين المسلمين استعمالها. وقد قال النوويفي شرحه على حديث مسلم والدارمي وأبي داود ؛ أعني حديث إسماعيل بن جعفر قال مسلمالنيسابوري القشيري في صحيحه : حدثني يحيى بن جعفر ، قال مسلم النييسابوري القشيري فيصحيحه : حدثني يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد جميعاً عن إسماعيل بن جعفر ، عن أبي سهيل عنأبيه ، واسم أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، ونافع هذا عم مالك بن أنسالإمام وهو تابعي سمى أنس بن مالك عن طلحة بن عبيد الله: (( أنه جاء رجل إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنامن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى اللهعليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال: هل عليّ غيرهن؟ قال: لا إلا أنتطوع، وصيام شهر رمضان. فقال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلا أنتطوع ، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليّ غيرها؟قال: لا إلا أن تطوع. فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقالرسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه أو دخل الجنة وأبيه إن صدق )) .
وقال الحافظمحيى الدين النووي في شرحه: هذا مما جرت عادتهم أن يسألوا عن الجواب عنه مع قولهصلى الله عليه وسلم: (( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم )) وجوابه أن قوله صلى اللهعليه وسلم: (( أفلح وأبيه )) ليس حلفاً إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها فيكلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف ، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه منإعظام المحلوف به ومضاهاته به ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى فهذا هو الجوابالمرضي ، وقيل : يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى واللهأعلم. اهـ
وقد نقل الحافظ ابن حجر كلام النووي هذا وزاد: "ولأبي داود مثل روايةمسلم لكن بحذف (أو) في قوله: "أفلح وأبيه إن صدق ودخل الجنة وأبيه إن صدق". ثم قال: "إن هذه كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرت على لسانهم ( عقري وحلقي) وما أشبه ذلك أو فيه إضمار اسم الرب. وكأنه قال ورب أبيه وقيل هو خاص به صلى اللهعليه وسلم ويحتاج هذا القول إلى دليل وحكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه قال هو تصحيف،وإنما كان والله فقصرت اللامان واستنكر القرطبي هذا وقال أنه يجزم الثقة بالروايةالصحيحة وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ "وأبيه" لم تصح لأنها ليست في الموطأوكأنه لم يرتض الجواب فعدل إلى رد الخبر وهو صحيح لا مرية فيه".
قال البيهقي: "وأما الذي روينا في كتاب الصلاة عن طلحة بن عبيد الله في قصةالأعرابي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفلح وأبيه إن صدق". فيحتمل أن يكونهذا القول منه صلى الله عليه وسلم قبل النهي ويحتمل أن يكون جرى ذلك منه على عادةالكلام الجاري على الألسن وهو لا يقصد به القسم كلغو اليمين المعفو عنه. ويحتمل أنيكون النهي إنما وقع عنه إذا كان منه على وجه التوقير والتعظيم لحقه دون ما كانبخلافه ولم يكن ذلك منه على وجه التعظيم بل كان على وجه التوكيد.
ويحتمل أنه كانصلى الله عليه وسلم أضمر فيه اسم الله تعالى كأنه قال لا ورب أبيه وغيره لا يضمر بليذهب فيه مذهب التعظيم لأبيه". قال السهيلي في روض الأنف ج6 ص548 غزوة خيبر حول شرح "فاغفر فداء لك ما أبقينا" بعنوان "استعمال الكلمة في غير موضعها"قال في ذلك: "فربكلمة ترك أصلها واستعملت كالمثل في غير ما وضعت له أولا كما جاءوا بلفظ القسم فيغير موضع القسم إذا أرادوا تعجباً واستعظاماً لأمر كقوله عليه الصلاة و السلام فيحديث الأعرابي من رواية إسماعيل بن جعفر: "أفلح وأبيه إن صدق" ومحال أن يقصد صلىالله عليه وسلم القسم بغير الله تبارك وتعالى لا سيما برجل مات عليه الكفر وإنما هوتعجب من قول الأعرابي والمتعجب منه مستعظم ولفظ القسم في أصل وضعه لما يعظم فاتسعفي اللفظ على هذا الوجه قال الشاعر:
فلا وأبي أعدائها لا أخونها ... فإن تك ليلىاستودعتني أمانة
لم يرد أن يقسم بأبي أعدائها ولكنه ضرب منالتعجب وقد ذهب أكثر شراح الحديث إلى النسخ في قوله: "أفلح وأبيه" قالوا نسخه قوله: "لا تحلفوا بآبائكم" وهذا قول لا يصح لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كانيحلف قبل النسخ بغير الله ويقسم بقوم كفار وما أبعد هذا من شيمته صلى الله عليهوسلم تالله ما فعل هذا قط ولا كان له بخلق، وقال قوم رواية إسماعيل بن جعفر مصفحةوإنما هو "أفلح والله إن صدق"وهذا أيضاً منكر من القول واعتراض على الاثبات العدولفيما حفظوا. وقد خرج مسلم في كتاب الزكاة قوله عليه الصلاة والسلام لرجل سأله أيالصدقة أفضل فقال: "وأبيك لأنبئنك أو قال لأخبرنك "وذكر الحديث. وخرج في كتاب البروالصلة قوله لرجل سأله: "من أحق الناس بأن أبره؟ أو قال: "أصله فقال وأبيك لأنبئكصل أمك" الحديث.
فقال: "في هذه الأحاديث كما ترى "وأبيك" فلم يأت إسماعيل بنجعفر إذا في روايته بشيء إمر ولا بقول بدع. وقد حمل عليه في روايته رجل من علماءبلادنا وعظماء محدثيها يعني الحافظ بن عبد البر وغفل عفا الله عنه عن الحديثيناللذين تقدم ذكرهما وقد خرجهما مسلم بن الحجاج وفي تراجم أبي داود في كتاب الإيمانفي مصنفه ما يدل على أنه كان يذهب إلى قول من قال بالنسخ وأن القسم بالآباء كانجائزاً. والذي ذكرناه ليس في باب الحلف بالآباء كما قدمنا ولا قال في الحديث وأبي،وإنما قال وأبيه أو وأبيك بالإضافة إلى ضمير المخاطب أو الغائب وبهذا الشرط يخرج عنمعنى الحلف إلى معنى التعجب الذي ذكرناه هكذا في الروض الآنف ج6 ص548 في غزوة خيبرالطبعة الأخيرة.
وقال الحافظ: "وأقوى الأجوبة الأولان وهما أن هذا كان قبل النهيأو أنها كلمة جارية على اللسان كما تقدم في كلام النووي. وكونه منسوخاً أصح لحديثعمر وابنه".
فصلٌ في ذكر بعض ما ورد فيهذه الكلمة مرفوعاً وموقوفاً ومقطوعاً
فهاك أيها القارئ الطالب للحق بعضما ورد في هذه الكلمة مرفوعاً اسرده لك بعدما مهدت به على هذه المسألة ولقد فتشتوسألت عمن ألف في خصوصيتها فلم أجد من قرع بابها قبل قلمي هذا.
فأقول وباللهالتوفيق (الأحاديث المرفوعة) في المسألة قولاً وتقريراً من الشارع صلى الله عليهوسلم:
1- قال أبو داود سليمان بن الأشعث في سننه : حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي ثناشعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن خارجة بن الصلت عن عمه بن صحار التميميأنه مر بقوم فأتوه فقالوا إنك جئت من عند هذا الرجل بخير فارق لنا هذا الرجل فأتوهبرجل معتوه في القيود فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية وكلما ختمها جمعبزاقه ثم تفل فكأنما أنشط من عقال فأعطوه شيئاً ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرله ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(( كل ، فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلتبرقية حق )) .
2- وقال أبو داود أيضا في سننه : حدثنا عبد الله بن مسلمة عبد مالك عن زيد بنأسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال:
نزلت وأنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي : اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله لنا شيئاً نأكله ، فجعلوايذكرون من حاجتهم ، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلاً يسألهورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( لا أجد ما أعطيك )) فتولى الرجل وهو مغضب وهويقول: " لعمري إنك لتعطي من شئت " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يغضب عليّ أنلا أجد ما أعطيه، من سأل منكم وله أوقية أو عد لها فقد سأل إلحافا )) .
قال الأسدي :فقلت للقحة لنا خير من أوقية ، - والأوقية أربعون درهماً - ، قال : فرجعت ولم أسأله فقدم عليرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شعير أو زبيب فقسم لنا منه أو كما قال حتىأغنانا الله عز وجل.
قال أبو داود : هكذا روى الثوري كما قال مالك . اهـ