بسم الله الرحمن الرحيم
نحن والكتاب الإسلامي
الكاتب: حسن بن عمر
ككل طالب علم وباحث في الفقه الإسلامي والفقه المالكي بوجه أخص، تعترضني خلال قراءاتي أسماء وعناوين لكتب مالكية هي أصول وأمهات في المذهب، فأعود إلى فهارس دور النشر عسى أن تكون قد طبعت ولكن دون جدوى، مما يولد في نفسي لهفة لمعرفة مصائر تلك الدواوين فأبحث في أرشيفات دور المخطوطات، وخاصة في الغرب الإسلامي، فأستبشر بأنها موجودة ولم تنقرض، وهذا ككتاب الموازية لمحمد بن المواز المصري، والمجموعة لابن عبدوس القيرواني، وكتاب الإمامة لابن سحنون، مرورا بتعليقات أبي عمران الفاسي على المدونة، وكتاب عبد الحميد الصائغ عليها أيضا، والجامع لابن يونس الصقلي، والتنبيه لابن بشير، وتعليق ابن محرز على الأم، والتهذيب للبراذعي، والتبصرة لأبي الحسن اللخمي، وتعاليق السيوري على مدونة سحنون، والتنبيهات للقاضي عياض وشرح الباجي عليها، وكتاب الطراز للقاضي سند المخزومي وغير ذلك كثير من أمهات المذهب والشروح التي تعكس مرحلتي تطور المذهب ونضجه من القرن الثالث إلى القرن السادس والتي من خلال نظري في المقاطع المنقولة منها أدرك ما تمتاز به من فقه معمق وسلاسة أسلوب ونظر دقيق، خلافا لما طبع من شروح وحواشي وتعليقات وتذييلات وتعقيبات على مختصر خليل بن إسحاق المصري والتي لا تنتج فقها، ولا ملكة نظر واستنباط. فكتب أئمتنا الأقدمين وهم سادة المذهب وفرسانه لا تزال في رفوف دور المخطوطات، ولم تلق العناية الكافية كما هو الحال بالنسبة لكتب المذاهب الأخرى؛ فأغلب دور النشر والطباعة هي من المشرق الإسلامي، وجل العناية منصب على كتب الشافعية والأحناف والحنابلة وخاصة ما تلقاه كتب الأخير من احتفاء وعناية من بلاد الحجاز لأسباب معلومة، وهذا أمر عادي لعراقة تلك المذاهب في الشرق الإسلامي مع ما ينضم إلى ذلك من انحدار الملكة الفقهية والبحوث العلمية وضحالة منشورات المطابع في الجزء الغربي من بلاد الإسلام، وهذا باب آخر يتسع النظر فيه.
مع تلك اللهفة على أمهات كتبنا ينتابني شعور بالقلق حينما أعلم أن احد كتبنا قد رأى النور هو قلق من طريقة تحقيق الديوان وشكل طباعته ونشره، فدار الغرب الإسلامي مثلا والتي مقرها ببيروت قامت بجهد مشكور في العشريتين الأخيرتين لإخراج بعض كتب المالكية غير مختصر خليل، فراجت كتب كالبيان والتحصيل لابن رشد الجد وهو من أعظم أمهات المالكيين، والمعيار للونشريسي في فقه النوازل، والنوادر لعبد الله بن أبي زيد القيرواني، والذخيرة للقرافي خاتمة أمهات المذهب، وكتاب القبس شرح الموطأ لأبي بكر بن العربي وغيرها، فازدانت المكتبات العامة والخاصة بها، ولكن ذلك لا يغفلنا عن ثغرات وأغاليط منهجية وتفصيلية وقع فيها المحققون، ومساوئ شكلية وقعت فيها الدار.فمن ذلك:
أولا: إشباع التحقيق بحاشية سفلية طافحة بالأدلة والنقول وتحرير الأحاديث وتفصيل آراء المذاهب الأخرى، وهناك اقحامات لا محل لها في الإخراج والتحقيق، مما يجعل الأصل المقصود مغيبا عن القارئ بحيث لا يكلف نفسه عناء فهم العبارات العويصة والمعاني المشكلة والمسائل الغامضة أو الرجوع بنفسه إلى الدواوين الأخرى لتحقيق مسألة أو حديث أو ترجمة. ولا يخفى عليك ما في ذلك من الفائدة، فقد يكون الكتاب لا يجاوز حجمه مجلدا واحدا، ولكنه بالتحقيق على الشكل المذكور يتجاوز ثلاثة مجلدات، وأرجو أن لا يكون ذلك لقصد تضخيم حجم الكتاب طلبا للربح.

ثانيا: أخطاء وأغاليط علمية ربما في الأزمنة القديمة كانت لا يتسامح فيها للمبتدئين فكيف بالدكاترة وأصحاب الماجستير، ولمزيد الاستبصار أسوق على ذلك أمثلة منها ما جاء في كتاب القبس الذي نشرته الدار رسالة دكتوراه بكلية أم القرى بمكة المكرمة، وحصلت على درجة الامتياز لصاحبها محمد عبد الله ولد كريم، جاء ص 135 باب وضوء النائم: "قال القاضي رحمه الله اختلف هل هو أي النوم حدث أو سبب للحدث فعند المزني وأبي الفرج أنه حدث في نفسه"، فذهب المحقق يترجم لأبي الفرج فقال هو الشيرازي الحنبلي توفي عام 486 هـ. قلت: وما شأن القاضي ابن العربي بالشيرازي وهو من أهل القرن الخامس الذين لا يستبيح ابن العربي ونظراؤه أن ينسبوا لهم أقوالا؛ لأن ذلك العصر كما هو معلوم هو عصر أصحاب الوجوه والتخريجات لا أصحاب الأقوال، وإنما المقصود هو أبو الفرج البغدادي المالكي من كبار أئمتنا البغداديين وصاحب القاضي إسماعيل، وهو أول من ألف في أصول الفقه على المذهب كتاب اللمع وله كتاب الحاوي في الفقه توفي سنة 330 هـ. ومن ذلك قول القاضي في فصل الرخصة في الصلاة في الثوب الواحد ص322: "وقد روى أبو الفرج عن مالك أن البدن كله عورة في الصلاة من الرجل وهي رواية ضعيفة"، قال الدكتور معلقا: لم اطلع على هذه الرواية في المدونة. قلت: رحم الله إمرءا كف لسانه عما لا يعلم، وهل لأبي الفرج رواية في المدونة؟ وأبو الفرج هو من سبقت ترجمته فلا تغفل، والمدونة لا تتضمن إلا أسمعة أصحاب مالك عنه، وقد جمعها سحنون القيرواني في رحلته (وسحنون متوفى عام 240 هـ)، ولم يقل القاضي رواية لأبي الفرج عن مالك في المدونة وإنما مقصود القاضي أنها رواية وقعت لمالك عند العراقيين من أصحابه وأتباعه، ومعلوم أن كل مصر من أمصار المالكيين كانت له مدوناته الخاصة، ولأهل العراق أسمعة محمد بن مسلمة وابن المعذل عن ابن الماجشون، وما في المبسوط للقاضي إسماعيل وأحكام القران له، ومعول مالكية العراق مختصر ابن عبد الحكم المصري. وقال القاضي في كتاب المكاتبة ص980: "أما شرع من قبلنا فانه شرع لنا بلا خلاف في المسائل المالكية وقد دللنا عليه في أصول الفقه"، قال الدكتور معلقا: قال في المحصول تكليف الكفار بفروع الشريعة اختلف فيه علمائنا وغيرهم على قولين الخ. فهل لا يفرق صاحبنا بين مسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة ومسألة شرع من قبلنا؟ هذا عجيب. وقال ابن العربي في كتاب التفسير ص1047: "هذا كتاب أرسل مالك كلامه فيه إرسالا فلقطه أصحابه عنه ونقلوه كما سمعوه ما خلا المخزومي"، فترجم دكتورنا للمخزومي فقال: هو عبد الله بن نافع مولى بني مخزوم، وغره كلمة بني مخزوم. وفي المدارك لعياض أن المخزومي هو المغيرة بن عبد الرحمان من كبار أصحاب مالك، وله أقوال يتنافس فيها أهل المذهب وهو مدني ترجم له في أهل الطبقة الأولى، أما ابن نافع الصائغ فهو مدني من الطبقة الوسطى. وغير هذا كثير ولست أدري من أشرف للدكتور على بحثه ومن ناقشه ثم من أسند له مرتبة الامتياز.

هناك ديوان من دواوين المالكية له رواج واسع في أيامنا وينقل عنه الكتاب والباحثون، والديوان هو الكافي لابن عبد البر القرطبي طبعته دار الكتب العلمية ببيروت، وجدت فيه من الأغاليط وارتباك العبارة ما الله اعلم به، وذلك من الطبعة لا من المؤلف فهو رحمه الله من هو. وأسوق على ذلك مثالا واحدا حتى لا نطيل، ففي كتاب الجهاد باب فتوح الأرضيين قال: "وليس لأهل العنوة إحداث كنيسة وهم بمنزلة أهل الذمة، وليس لأهل الذمة إحداث كنيسة، وقد قيل إنهم إذا كانوا ساكنين في موضع لهم فيه مع المسلمين كنيسة فينتقلون معا متعاونين فإنهم يكونون على ما كانوا عليه ولا يمنعون إذا اقروا وسكنوا من كنيسة واحدة إلا أن يشترط ذلك عليهم". ولكن وجدت في المعيار للونشريسي قوله في ج2ص247 في نوازل الجهاد وفي الكافي للحافظ ابن عبد البر ما نصه: "وليس لأهل العنوة إحداث كنيسة وهم بمنزلة أهل الذمة، وليس لأهل الذمة إحداث كنيسة لم تكن لهم ببلد الإسلام، وما كان من كنائسهم التي عوهدوا عليها وصولحوا فلا يمنعون منها ولا تغير عليهم، وما اختط المسلمون منالمدن وسكنه معهم أهل الذمة فلا يجوز لهم فيه إحداث كنيسة، وقد قيل إنهم إذا كانوا ساكنين مع المسلمين في موضع لهم فيه كنيسة فينتقلون معا متعاونين فإنهم يكونون على ما كانوا عليه ولا يمنعون من كنيسة واحدة إلا أن يشترط ذلك عليهم قال الونشريسي انتهى بلفظه". وأنت تلاحظ الفارق الكبير بين العبارتين مما يجعلني لا أثق في الطبعة.
وفي الذخيرة للقرافي ج1ص115 بتحقيق الدكتور محمد حجي طبع دار الغرب الإسلامي، قال في الإجماع السكوتي: "وعند أبي علي بن أبي هبيرة (بالباء) إن كان القائل حاكما لم يكن إجماعا ولا حجة". هكذا أثبته المحقق وفي الأسفل قال: "كذا في النسخة ي و د وفي د و ط ابن أبي هريرة بالراء. قلت: لم أثبت في الأصل الاسم الخطأ والذي في التعليق هو الصواب". وأبو علي بن أبي هريرة الفقيه الأصولي البغدادي من كبار الأئمة الشافعيين، وقوله هذا معلوم في مدونات الأصول فلم هذه التعمية، وللإشارة فان طبعة الذخيرة هي من أسوء ما صدر عن دار الغرب الإسلامي.

ثالثا: بالنسبة لإخراج الطبعة فهناك مهازل لا تتماشى مع أبسط قواعد التحقيق العلمي، فنجد صفحات مكررة كما حصل عندي في كتاب البحر المحيط للزركشي طبعة دار الصفوة بمصر، وهناك صفحات غير كاملة أو انقلب جزء من الصفحة فجاءت معماة لا تفهم، وهناك أسطر متداخلة لا يتبين المعنى منها ناهيك عما في الكتب من تسفير رديء تظهر نتائجه مع كثرة تصفح الكتاب من القارئ فتحصل التمزقات والخروق، وختامها نوعية الورق إذ أصبح شفافا لغاية أنك لا تستطيع قلب الصفحة، وإذا لم تعاملها بلطف ربما تمزقت.

سبب هذه الطامة
اعلم أن دور النشر القديمة كالمكتبة الأزهرية والمكتبة المنيرية ومكتبة عيسى البابي الحلبي ودار القلم وغيرها كانت لها لجان علمية متخصصة تابعة للمراكز العلمية العريقة كالأزهر الشريف، وهذه اللجان تشرف على الطبع والإخراج بل هناك من كانوا علماء أزهريين ولهم دور طبع خاصة، ففي طبعة عيسى البابي الحلبي لتنوير الحوالك للسيوطي عام 1349 هجرية جاء في الخاتمة: يقول الفقير إليه تعالى إبراهيم بن حسن الأنبابي خادم العلم ورئيس لجنة التصحيح بمطبعة مصطفى الحلبي الخ. وفي كتاب التحرير لكمال الدين بن الهمام في طبعة الحلبي عام 1351 هجرية يقول الفقير إلى ربه تعالى أحمد سعد علي أحد علماء الأزهر ورئيس لجنة التصحيح... إلى أن قال: "ومع كثرة ما بأيدينا من المراجع كانت تعترضنا وقفات كنا نلجأ في فك رموزها إلى حلال المشكلات فضيلة مولانا الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي فيرشدنا بغزير علمه إلى الصواب". فانظر رحمك الله.
وأشرب قلبي حبا للنسخ القديمة شكلا ومضمونا ولها في نفسي مكان مكين لهذه الأسباب وغيرها، ومع توفر الإمكانيات الآن كالحصول على صور لكل المخطوطات وآلات التدقيق في الكلمات الغامضة والمطموسة وآلات التصوير لا نجد في مطبوعاتهم أية روح علمية أو أناقة؛ إذ صارت العملية تجارية بحتة فيها استغلال للعناوين البارزة.

إشارة
وجدت في آخر الجزء الثالث من كتاب إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد طبع المطبعة المنيرية سنة 1344 هجرية ما نصه: "تنبيه: مما ينبغي الالتفات له وتوجيه أنظار المشتغلين بصنعة الطباعة هو أن ما يتعلق بكتب العلم من صناعة التجليد والطباعة لم يزل في انحطاط، وذلك أن أهل تلك الحرف غير متعلمة بل بمجرد ما تعلم أحدهم الكتابة دخل المطابع واحترف بهذه الصنائع القيمة التي بها رقي الأمم" الخ، قلت: وهذا لفت نظر من صاحب أعرق مطبعة في بدايات القرن الماضي، يدل على أنهم بدءوا يلحظون الخلل، فما بالك بزماننا هذا، والله المستعان.

وفي الختام
عندي سؤال وحل، أما السؤال فهو للقائمين على تحقيق المخطوطات وتقديمها في رسائل ماجستير ودكتوراه ويحصلون بها على الدرجات العوالي، أليس معلوما أن هناك لجانا علمية في كل كلية شرعية تشرف على البحث وتقييمه ومناقشته فأين هم؟ وهذا ما يخول لنا أن نسأل هل هم في مستوى هذه المسؤولية؟
وأما الحل الآني فللسلامة ولدفع أعظم المفسدتين أرى أن تقوم دور النشر المعاصرة بإعادة تصوير الطبعات القديمة من القرن الماضي إذا عنّ لها نفع طلاب العلم، وهذا ما تفعله غالبا دار الفكر ومكتبة ابن تيمية في القاهرة ودار الكتب العلمية ببيروت، وأما بالنسبة إلى تحقيق المخطوطات التي لم تر النور بعد، فهذا موضوع يحتاج إلى دراسة واعية ومشاركة جميع الإخوة بإبداء آرائهم والباب مفتوح للجميع.