الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث بالدين القويم ، إلى يوم الدين ، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد .

فمنذ بضعة عشر عاماً فقط أصبح لفظ الوسطية متداولاً بصورة واسعة ، واستعمله كثير ممن ينسبون إلى الفكر الإسلامي ، والسياسة ، والعلم الشرعي .

وأصبح شأنه كشأن كثير من المصطلحات التي لا اتفاق حول مدلولها ، يعطيه كل معنى مغايراً لما يعطيه الآخر .
ولما كان لفظ الوسطية يطلق ويراد به المنهج والشرعة والدين ، أو يطلق ويراد به تيار مخصوص من تيارات الأمة ، أصبح لزاماً على من يستعملون هذا اللفظ الحادث أن يعلموا ماذا يريدون منه ، وماذا يريدون به ؟

وأنا أطرح مجموعة من التساؤلات حول هذا المصطلح الجديد في الفكر الإسلامي .

حيث يقول عنه د.محمد عمارة : (إن مصطلح الوسطية من المصطلحات التي عدت عليها العاديات وجارت عليها النائبات فأخرجتها عن معناها الإٍسلامي الأصيل وأبعدتها عن كونها أخص خصائص منهج الإسلام في الفكر والحياة والنظر والممارسة والتطبيق والقيم والمعايير والأصول .. إلى معان أبعدت النجعة عن فحواها وخالفت أصل مسماها وما عادت تمت إلى الوسطية بصلة ، ولا تتعلق فيها بسبب) (انظر معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام –د.محمد عمارة- ص 189)

1 ـ هل الوسطية لفظ يراد به الإسلام الحق ؟ والحنيفية السمحة ؟ والشرعة والمنهج الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ أم هو لفظ يراد به الدلالة على منحى خاص ؟ ومجموعة مخصوصة من أمة الإسلام اختاروا من عقائده وأحكامه ما رأوا أنه الدين الوسط ؟ واعتقاد الفرقة الناجية ؟ فيكون بذلك الوسطية كلفظ (أهل السنة والجماعة) والسلفية والفرق الناجية ونحو ذلك ؟

2 ـ هل لهذه (الوسطية) اليوم مرجعية دينية يرجع إليها ؟ وتحكم على أن هذا المعتقد أو العبادة أو العمل داخل في معنى الوسطية أو خارج عنها ؟ وأين هذا المرجع كتاباً أو إمامًا أو شيخاً ؟
قد يقال الحنفية أو الشافعية فيعلم بذلك منهج ومذهب ، يقال الأشعرية ، والمعتزلة فيعلم منهج في الاعتقاد والعمل ، والآن إذا قيل الوسطية فماذا يعني ذلك من الدين : عقيدة وشريعة ؟

3 ـ إذا كان اللفظ _ولم يمض على تداوله إلا عقد واحد من الزمان أو يزيد قليلاً_ أصبح يتكلم فيه أصناف شتى من الناس ، وكل يخرج بمفهوم في العقيدة والعمل غير ما يعرضه الآخر ، ومنهم من بات يخصص (الوسطية) فيقول الوسطية المستبصرة مما يعني عند قائل ذلك أن هناك وسطية أخرى عوراء أو عمياء .

4 ـ عندما يطلق بعض الناس لفظ الوسطية ويريدون بها حسب قولهم الإسلام المعتدل فإن هذا يعني أن هناك إسلاماً غير معتدل عند بعض الناس ، فما هو هذا الإسلام الشاذ وغير المعتدل ؟ وما ملامح هذا الإسلام الوسط ؟!

وهذا سيحتاج إلى بيان عن معنى الوسطية في العقائد والعبادات والمعاملات .. والشرعة والمنهج ، وإلى بيان الخارجين عن هذه الوسطية وسيكون هذا تصنيفاً جديداً لأهل الإسلام يضاف إلى التصانيف السابقة في مسميات الفرق والعقائد ..
5- أليس من الخير لأهل الإسلام أن يكتفوا بالتصنيف القديم والأسماء التي اشتهرت بها من قبل وأصبح لها مدلول معلوم كأهل السنة والجماعة ، ونحو ذلك ؟ .

إن مما هو معلوم في دلالات الكتاب العظيم أن ثم "توسطا" منبوذا كأن يكون توسطا بين موقف الفكر والإيمان ، كما قال تعالى عن المنافقين " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " .
ولا بد للمسلم أن يكون مع أهل الإيمان دائماً ومع الحق أبداً {يأيها الذين آمنوا أتقوا الله وكونوا مع الصادقين} ، {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} ، {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} ، {قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} ، {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} ، [إن الحلال بين وإن الحرام بين]
... الحديث .

7- وهناك توسط ممدوح جاء به الإسلام ، كالتوسط بمعنى الاعتدال في الإنفاق بين الإسراف والتقتير ، {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} والتوسط في المشي بين السعي والتماوت ، {واقصد في مشيك} .والتوسط في قراءة الليل بين الجهر والسر ، {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} .والاعتدال في الحب والبغض [أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما] . صحيح الجامع ص 176 .
وإذا كان التوسط في الإسلام ممدوحاً تارة ومذموماً أخرى فإن مصطلح الوسطية إذا أخذ على عمومه فإنه سيكون باباً للفساد ، أليس كذلك ؟!

8- ستكون (الوسطية) جناية جديدة على أمة الإسلام إذا أريد بها إسقاط بعض أحكامه وإلغاء بعض تشريعه ، فكثير ممن يتصدون لشرح هذه (الوسطية) يجعلها إسلاماً بلا جهاد ، ولا قتال ، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ، ولا {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ... الآيات} ولا {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} ... ولا {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} !!

9- في رأيي أن لفظ الوسطية ، لفظ حادث والذين أحدثوه قد اختلفوا فيه ، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه المرجع فيه ، أو أن فلاناً من الناس هو الذي تنسب الوسطية إليه ، ولذلك فإنني أرى أنه سيزيد المسلمين بلاءًا ولن يخدم قضية من قضاياهم ، بل سيكثر النزاع حوله ، والتنازع فيه ، وهكذا الشأن في كل بدعة ابتدعت في الإسلام .

10-ألا يكفينا لفظ الإيمان والإسلام ، وأهل السنة والجماعة ، وجماعة المسلمين ليكون ذلك شعاراً للمرحة ولكل مرحلة .

11-وإذا كان القصد هو النهي عن الغلو ، والتطرف والشذوذ ، فليكن البحث والشعار حول موقف الإسلام من الأمر الفلاني ، أو حكم الإسلام في القضية الفلانية .... وهكذا فإن الإسلام شعار معلوم ودين واضح المعالم : كتاب منير ، وسنة مشرقة ، وأمة مهتدية ، وأعلام على الهدى : (صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان) .