المصدر:



د.محمد سليماني: هوية الجزائر العربية والإسلامية تتآكل ومصالحة بوتفليقة عرجاء


13 - 7 - 2009




أجرى الحوار: عبد الرحمن أبو عوف
اتهم الدكتور محمد سليماني، الأكاديمي الجزائري وأستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة روما الإيطالية، أطرافًا نافذة في السلطة الجزائرية بدعم الأنشطة التنصيرية، ووضع العراقيل أمام أية معالجة صارمة من الدولة لهذا المد المشبوه، مدللًا على ذلك بقيام عشرات من الصحف الجزائرية بالدفاع عن إحدى الجزائريات المتورطات في توزيع الإنجيل، رافضة إنزال عقوبات قانونية عليها، وعلى مئات الجزائريين الذين حولوا منازلهم لكنائس.
مشيرًا إلى أن الخطر الأكبر من نشاط المنظمات يعود إلى الامتيازات التي تقدمها، سواء أكانت أموالًا، أو منحًا للدراسة والسفر والعمل في أوروبا، مستغلة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الجزائر منذ 1992م.
وحذر الأكاديمي الجزائري البارز ـ في حوار له مع "لواء الشريعة" إبان زيارته للقاهرة على هامش مشاركته في مؤتمر "الأزهر والغرب" الذي نظمته الرابطة العالمية لخريجي الأزهر ـ من استمرار تعاطي الدولة الجزائرية بشكل متراخٍ مع المد التنصيري، لاسيما أن أعدادًا من الجزائريين قد تنصرت، خصوصًا في مناطق البربر، لافتًا إلى إمكانية استغلال قوى معادية للجزائر لهذا الملف؛ للتدخل في شئون الجزائر بذريعة حماية الأقليات.
ولفت الدكتور سليماني لتراجع مسيرة العربية والتعريب في الجزائر، وتعرضها لانتكاسة كبيرة، وتراجعًا ملحوظًا بفضل سيطرة التيار "الفرانكوفيلي" وإقصاء الإسلاميين والعروبيين من مفاصل الدولة الجزائرية، بشكل وضع قانون التعريب قيد الأضابير.
بل إن الأمر تجاوز ذلك بضرب الوزراء عرض الحائط بقانون التعريب، لدرجة أنهم يتحدثون داخل مجلس الوزراء بالفرنسية، ويدلون بتصريحات بالفرنسية، دون الخشية من مواجهة أية عواقب.
ووصف أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة روما المصالحة التي يتبناها الرئيس بوتفليقة بالعرجاء، والتي لن تصل بالمركب الجزائري لبر الأمان قبل تطبيق النمط الجنوب إفريقي لها، والدائر في فلك "المكاشفة قبل المصالحة"، بمعنى أن يعرف الجزائريون من يقف وراء المذابح التي أهدرت دماء أكثر من 200 ألف جزائري، فضلًا عن ضرورة إعادة الاعتبار للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وبدون ذلك ستبقى المصالحة حبرًا على ورق.
التفاصيل الكاملة للحوار مع الأكاديمي الجزائري البارز في السطور التالية:
* تُعد مشكلة التنصير من المشاكل الكبيرة التي تؤرق الساحة الجزائرية، لدرجة أن هناك من يتخوف على هوية الجزائر من هذا المد؟
* بالفعل هذه المشكلة تحولت لعقدة العقد في الجزائر، حيث غزت الساحة الجزائرية، خلال السنوات الأخيرة مئات من المنظمات التنصيرية، وفي مقدمتها البروتستانتية، خصوصًا الأمريكية منها، وفي عهد بوش والمحافظين الجدد بالذات، حيث تستغل هذه المنظمات زحف العديد من الشركات متعددة الجنسيات للعمل في مجالي النفط والغاز.
ومن الأمور الخطيرة أن التنصير في الجزائر لا يتم بشكل مباشر، حيث تصطحب الشركات الكبرى العاملة في المدن الجزائرية أو في المناطق النائية جيوشًا من المنصريين السريين؛ لعدم استفزاز الشعب الجزائري، مما يضفي على أعمالها طابعًا سريًّا يزيد من خطورة وتفاقم المشكلة، التي تهدد بقوة هوية الجزائر العربية الإسلامية.
ومما يجعل الأمر أكثر خطورة، أن أغلب المنظمات التنصيرية العاملة في الجزائر، تنحدر من خلفية بروتستانتية، غزت الجزائر بشكل وبائي، وعلى رأسها الكنيسة المعمدانية الجنوبية، والكنيسة الإصلاحية، وجمعية "وبنيامين فرانكلين"، ومجلس الكنيسة المسيحية الأمريكية، وجمعية تنصير الكنيسة الإنجيلية، والنصرة العالمية البروتستانتية، ومنظمتي "ميرسي كوريس" و"ميرسي ستوبس"، وغيرها من مئات المنظمات التنصيرية الساعية بقوة لاستعادة مجد المسيح في منطقة المغرب العربي بحسب زعمهم.
* علام تستند هذه المنظمات في عملها في الجزائر؟ وما موقف الدولة من تهديد التنصير لهوية الشعب الجزائري في وقت يعلن عن تنصر الآلاف في مناطق القبائل؟
* هناك أمر أرغب في تأكيده، وهو أن غزو المنظمات البروتستانتية قد تزامن مع غروب شمس المنظمات الكاثوليكية التي عملت في الجزائر لعقود طويلة، فالأخيرة لم تعد لديها الإمكانات لمنافسة نظيرتها البروتستانتية، التي تتمتع بإمكانات مالية رهيبة، وكوادر مدربة، ومؤلفات وكتيبات وشروح للإنجيل بأحجام مختلفة وبالعامية الجزائرية وبالعربية الفصحى، لا تتوافر لنا نحن المسلمين فيما يتعلق بالقرآن، ونجحت هذه المنظمات في إغراء جزائريين للعمل معها؛ حتى لا تواجههم صعوبات أمنية، والاحتكاك مع الأجهزة الأمنية.
وليست قصة الجزائرية "حبيبة قويدري"، التي أُلقي القبض عليها وهي توزع الأناجيل، فما كان من السلطات الجزائرية إلا تقديمها للمحاكمة استنادًا لكون التنصير بالمسيحية محظورًا في الجزائر، وهنا قامت القيامة، حيث هب عرابو التغريب عن بكرة أبيهم، ورددوا اسطوانات مشروخة، من عينة أن القبض على "قويدري" مخالف للدستور الجزائري الحافظ لحرية المعتقد، وبل ووصل الأمر ببعضهم للتركيز على انتقاد تقرير الخارجية الأمريكية فيما يخص سجل الجزائر فيما يتعلق بالحريات الدينية.
* كأنك تشير لوجود مناصرين للمد التنصيري في الجزائر قد يشغلون مناصب رفيعة المستوى في الدولة الجزائرية؟
* من الأسف أن أنصار التيار "الفرانكوفيلي" وليس "الفرانكفوني"، وهنا أحب أن أشير أن قد تكون إسلاميًّا و"فرانكوفونيًّ " مثل مالك بن نبي مثلًا، فالأخير كان يعترف بتفكيره ولغته الفرنسية، غير أنه ذو طابع إسلامي، وفي إطار هوية الجزائر، أما أن تكون "فرانكوفيليًّ " فهو أن يكون تفكيرك وهويتك ناجمًا عن تشبعك بالحضارة الفرنسية التغريبية، وهنا تكمن الخطورة؛ فأصحاب التيار الأخير لا يجدون حرجًا في إزالة القيود أمام المنصرين، والسماح لهم في العمل بالمدن الجزائرية، في إطار مسعى تسويق النظام عالميًّا، وإظهاره في صورة المتسامح أمام العالم.
وقد لعب هؤلاء دورًا مهمًّا في إيجاد بعض الثغرات، فيما يتعلق بحماية من يعلن تنصره، ورفع القيود عن بناء الكنائس بشكل قانوني، وهؤلاء سيصلون بالجزائر لأعتاب الكارثة في ظل تجاهلهم لتنامي أعداد المتنصرين، وتجاوزهم لثلاثة آلاف في مدينة "تيزي أوزو" وحدها، وارتفعت أعداد الكنائس إلى 25 كنيسة، 24 منها غير مرخصة ومسجلة كبيوت لجزائريين، رغم أن القانون يحظر ذلك، وقد تحول المدافعون عن إعطاء الحرية للمنصرين لطابور خامس يسعى لتخريب الهوية الإسلامية للشعب الجزائري عربًا وبرابرة.
* أين الدولة الجزائرية من هذه المخاطر المهددة لهوية الجزائر، وتقييمك لتعاطيها مع الملف التنصيري؟
* رغم أن قوانين الدولة تحظر الأنشطة التنصيرية، وهناك قيود مفروضة، وحظر على تحويل منازل الجزائريين لكنائس؛ إلا أنها لا تحظر الارتداد عن الدين، ولا تطبق حدة الردة على المتنصرين، وهذا أمر خطير جدًّا، لاسيما أن المعالجة الأمنية لن تكون كافية وحدها، لاسيما أن هناك أطرافًا نافذة في السلطة الجزائرية تدعم هذه الأنشطة، وتضع العراقيل أمام معالجة صارمة من الدولة.
فيكفي أن عشرات من الصحف الجزائرية قد انبرت للدفاع عن الجزائرية المتورطة في توزيع الإنجيل، رافضة إنزال عقوبات قانونية عليها وعلى مئات الجزائريين الذين حولوا منازلهم إلى كنائس، وكذلك قيام بعض القساوسة باستغلال مؤسسات الدولة في أعمال تنصيرية، ولعل الخطورة الأكبر تعود إلى الامتيازات التي تقدمها الإرساليات التنصيرية، حيث تقدم أموالًا ومنحًا للدراسة والسفر والعمل في أوروبا، مستغلة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الجزائر منذ 1992م.
وأقول بملء الفم: إذا استمرت المواجهة القاصرة من قِبل الدولة تجاه التنصير وإرسالياته؛ فإننا سنفاجأ بكارثة تقتلع جذور الإسلام من الجزائر ذات يوم، وأبواب جهنم تنفتح على الجزائر بحجة حماية الأقليات، وندخل في دوامة لا يعلم أحد إلى أين تقود الجزائر.
* من الهم التنصيري ننتقل إلى قضية أكثر شجنًا، وتتمثل في المصير المظلم التي آلت إليه مسيرة التعريب والعربية في الجزائر؟
* لقد أُصيبت مسيرة العربية والتعريب في الجزائر بانتكاسة كبيرة، وتراجعًا ملحوظًا، بفضل سيطرة التيار "الفرانكوفيلي" ، وإقصاء الإسلاميين والعروبيين عن مفاصل الدولة الجزائرية؛ فقد أسهم نفوذ هذه التيارات في وضع قانون التعريب قيد الأضابير، ولم يعد نافذًا، ومنذ الأيام الأخيرة لنظام الرئيس الجزائري "الشاذلي بن جديد"، ومسيرة التعريب تنتقل من السيئ للأسوأ، لدرجة أن الوزراء الجزائريين حاليًا يتحدثون داخل مجلس الوزراء بالفرنسية، ويدلون بتصريحات بالفرنسية بعد كل اجتماع، رغم أن قانون التعريب يرفض ذلك.
وفي ظل هذه الأجواء استمرت الفرنسية اللغة الأولى في المؤسسات والمدارس والدواوين رغم أن العربية موجودة في المؤسسات؛ لأن الإقبال على الفرنسية وربط الحصول على وظائف بإجادتها قد أعاد العربية إلى المرتبة الثانية، وضاعت جهود لإقالة العربية من عثرتها منذ عهود "بومدين" و"الشاذلي بن جديد".
في هذا الإطار فإني غير متفائل بمستقبل العربية في بلد المليون شهيد، ما مدام نفوذ حزب "فرنسا" يتزايد بهذه الطريقة، فيما يتم إبعاد جميع عرابي التعريب عن المناصب المهمة، وركنهم على الرف، والتصميم على ازدراء العربية وعدم إنزالها ما تستحق.
* أقدم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة منذ مدة على إلغاء المقررات الشرعية من مرحلة البكالوريا، فكيف نظرت إلى مثل هذه الخطوة؟
* الرئيس بوتفليقة يتبنى استراتيجية توافقية بين جميع التيارات، فهو يسعى لإرضاء حزب فرنسا والبربر والإسلاميين في وقت واحد، وهو بذلك محكوم بالتحالف الفضفاض الذي يحكم الجزائر، ولقد سعى الرئيس بوتفليقة من وراء إلغاء ما يطلق عليه البكالوريا الإسلامية التي تدمج فيها العلوم الشرعية بنظيرتها المدنية، وهذه البكالوريا كانت من أفضل المقاصد التعليمية التي يقبل عليها الجزائريون، غير أن الرئيس بوتفليقة أراد من هذه الخطوة استرضاء التيار "الفرانكوفيلي" ، وكذلك الانسجام مع المزاج العالمي المعادي للتعليم الديني الإسلامي، رغم أهمية وجود نوع من التوازن داخل الجزائر بين مختلف التيارات، وعدم الانتصار لتيار دون الآخر، لاسيما إذا كان هذا التيار يخالف هوية الجزائر وعروبتها، ويسير في درب المستعمر السابق وزمرته.
* لقد مثَّلت خطوة إلغاء البكالوريا الإسلامية إرضاء لحزب فرنسا، فبماذا أرضى بوتفليقة به الإسلاميين؟
* كانت هناك مساعٍ لفرنسة التعليم في الجزائر بشكل عام، وإعادة نمط مدراس البعثات الفرنسية للجزائر مرة أخرى، وتعميمه على مستوى الولايات الجزائرية، ولكن هبَّة الإسلاميين والوطنيين أوقفت هذا العبث.
حيث شن كبير المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله هجومًا شرسًا على هذا النوع من التعليم، بعنوان "الحاج ديكارت الجزائري"، انطلاقًا من إطلاق اسم معاهد "ديكارت" على هذا النوع من التعليم، حذر فيها من مخاطر هذا التعليم على هوية الأم الجزائرية، وهنا رفضت الحكومة الجزائرية هذا المشروع، وأجهضت التجربة العبثية في مهدها.
وكذلك حاول الرئيس بوتفليقة إرضاء حلفائه الإسلاميين من خلال الموافقة على ما أطلق عليه قافلة فارس القرآن الكريم، رغم محاولات "الفرانكفوفيليي " إهالة التراب على هذه القافلة وإلغائها.
* من هذا الملف المهم ننتقل لملف أكثر أهمية، ألا وهو المصالحة الجزائرية التي يتبناها الرئيس بوتفليقة تحت مسميات مختلفة منذ وصوله للسلطة؟
* رغم أن هذه المصالحة قد حققت بعض الأهداف، وأوقفت شلال الدماء في الساحة الجزائرية، وأطلقت سراح آلاف الجزائريين من السجن، وانخرطت فيها أعداد كبيرة من المسلحين باستثناء بعض المقاتلين الموالين للقاعدة؛ إلا أنها تبقى مصالحة عرجاء، لن تصل بالمركب الجزائري لبر الأمان، ولن تنجح هذا المصالحة قبل تطبيق النمط الجنوب الإفريقي لها، والدائر في فلك "المكاشفة قبل المصالحة".
بمعنى أن يعرف الجزائريون من يقف وراء المذابح التي أهدرت دماء أكثر من 200 ألف جزائري منذ قيام الجيش بإلغاء الانتخابات البرلمانية، التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وتحديد من خاضوا في دماء الجزائريين واستفادوا من ذلك في تكريس نفوذهم وتعظيم مكاسبهم، وبعدها يتم العفو عنهم وبدء صفحة جديدة في تاريخ الجزائر.
* كأنك تشير إلى جهات بعينها تورطت في المذابح التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الجزائريين لأكثر من عقد من الزمن؟
* بدون مواربة، لقد استطاعت جهات نافذة في المؤسسة العسكرية الجزائرية اختراق الجماعات الإسلامية الجزائرية، وشراء ولائها بالمال وأشياء أخرى؛ للتورط في المذابح التي جرت في الجزائر في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وإلصاقها بالإسلاميين.
فضلًا عن تورط مليشيات عسكرية في مذابح وإلصاق هذا الإجرام بالجبهة الإسلامية للإنقاذ لصالح بعض كبار الجنرالات ـ وهم معروفون لجميع الجزائريين، وينتمون لحزب فرنسا في الجزائر، وتولوا أرفع المناصب في الجيش الجزائري ـ للتغطية في فضائحهم وانحرافاتهم المالية من الخزائن الجزائرية؛ ومن ثَم فلا يبدو أن هناك فرصًا لنجاح المصالحة إلا بتطبيق نظام المكاشفة قبل المصالحة، وبعدها يتم العفو عمن ارتكبوا هذه المذابح، وإعادة الاعتبار للجبهة الإسلامية وتبرئتها من تحمل مسئولية دماء الجزائريين، وإطلاق سراح آلاف الجزائريين القابعين في سجون الجزائر.
* تراجع الدور العروبي للجزائر في الفترة الأخيرة، حيث ركز نظام بوتفليقة على توثيق صلة الجزائر مع القوى الغربية، فيما حكم التوتر علاقات الجزائر بالعيد من جيرانه العرب؟
* ما ذهبت إليه صحيح، فقد ركزت النخبة المسيطرة على الحكم في الجزائر على توثيق صلات الجزائر بفرنسا، ومارست ضغوطًا لانضمام الجزائر للمنظمة "الفرانكفونية" الدولية، وتم تفعيل العلاقات الأمريكية الجزائرية، وتوقيع اتفاقات أمنية أغضبت الجيران.
لكنني أعتقد أن الساسة في الجزائر قد تنبهوا لهذا الخطر، وبدأوا في إعادة تمتين علاقات الجزائر بأشقائها العرب، والسعي لتطويق التداعيات السلبية للفترة الماضية، وأظن أن زيارة الرئيس بوتفليقة الأخيرة للقاهرة، وعقده لقاء مع مبارك بحضور القذافي، تأتي في هذا، رغم اعتقادي بأن استعادة الدور العروبي للجزائر يحتاج لجهود مضنية وأوقات أطول.