بسم الله الرحمن الرحيم
ابن النفيس
هو أبو الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم المعروف بابن النفيس، وأحياناً بالقرْشي نسبة إلى قَرْش، في ما وراء النهر، ومنها أصله. وهو طبيب وعالم وفيلسوف، ولد بدمشق سنة 607 هـ وتوفي بالقاهرة سنة 687 هـ
درس الطب في دمشق على مشاهير العلماء، وخصوصاً على مهذّب الدين الدخوار. ثم نزل مصر ومارس الطب في المستشفى الناصري، ثم في المستشفى المنصوري الذي أنشأه السلطان قلاوون. وأصبح عميد أطباء هذا المستشفى، وطبيب السلطان بيبرس، وكان يحضر مجلسه في داره جماعة من الأمراء وأكابر الأطباء
قيل في وصفه أنه كان شيخاً طويلاً، أسيل الخدين، نحيفاً، ذا مروءة. وكان قد ابتنى داراً بالقاهرة، وفرشها بالرخام حتى ايوانها. ولم يكن متزوجاً فأوقف داره وكتبه وكل ما له على البيمارستان المنصوري
وكان معاصراً لمؤرخ الطب الشهير ابن أبي أصيبعة، صاحب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، ودرس معه الطب على ابن دخوار، ثم مارسا في الناصري سنوات. ولكن ابن أبي أصيبعة لم يأت في كتابه على ذكر ابن النفيس، ويقال أن سبب هذا التجاهل هو خلاف حصل بينهما. غير أن لابن النفيس ذكراً في كثير من كتب التراجم، أهمها كتاب (شذرات الذهب) للعماد الحنبلي، و (حسن المحاضرة) للسيوطي، فضلاً عن كتب المستشرقين أمثال بروكلمن ومايرهوف وجورج سارطون وسواهم.
لم تقتصر شهرة ابن النفيس على الطب، بل كان يعد من كبار علماء عصره في اللغة، والفلسفة، والفقه، والحديث. وله كتب في غير المواضيع الطبية، منها: الرسالة الكاملية في السيرة النبوية، وكتاب فاضل بن ناطق، الذي جارى في كتاب (حي بن يقضان) لابن طفيل، ولكن بطريقة لاهوتية لا فلسفية
أما في الطب فكان يعد من مشاهير عصره، وله مصنفات عديدة اتصف فيها بالجرأة وحرية الرأي، إذا كان، خلافاً لعلماء عصره، يناقض أقوال ابن سينا وجالينوس عندما يظهر خطأها. أمّا كتبه فأهمها: المهذّب في الكحالة (أي في طب العيون)، المختار في الأغذية، شرح فصول أبقراط، شرح تقدمة المعرفة، شرح مسائل حنين بن اسحق، شرح الهداية، الموجز في الطب (وهو موجز لكتاب القانون لابن سينا)، شرح قانون ابن سينا، بغية الفِطن من علم البدن، شرح تشريح القانون الذي بيّن أن ابن النفيس قد سبق علماء الطب إلى معرفة هذا الموضوع الخطير من الفيزيولوجيا بحيث أنه وصف الدوران الرئوي قروناً قبل عصر النهضة
الموقع الاصلي:
http://muslimscience.8m.com/olma/51.htm
الدكتور/ سليمان قطاية
فرنسا
كان كتاب " القانون " لابن سينا يعتبر كتاباً مدرسياً يعتمده كل الأساتذة في دارس الطب العربية الكثيرة التى كانت منتشرة في أرجاء الأمبراطورية الإسلامية. وكانت المدارس هذه في البيمارستانات.
ورغم أن الكثيرين اعترضوا على هذا الكتاب وانتقدوه كما فعل ابن زهر الذي كان يفضل الأرجوزة عليه، أو عبد اللطيف البغدادي الذي كان يعتبره عبثاً استطاع التخلص منه. بل أيضاً الطبيب السويسري باراسيلزس Paracelse (1493- 1541) براكلسوس الذي أحرقه، مع كتب أخرى، في مدينة بال في سويسرا حيث كان يدرس الطب، فكان جزاؤه طرده من جامعتها.
أقول: رغم كل الانتقادات فقد ظل الكتاب يتمتع بمكانة عالية ويدرس حتى القرن الثامن عشر، إذ كانت آخر كلية *** تعتمده كلية مدينة " توفان " في بلجيكا، بل لا يزال حتى الآن يقرأ ويطبق في الشد من قبل الأطباء الذين يزاولون هناك ما يسمى بالطب اليونانى.
ورغم أن القانون كتاب معجزة استطاعت عبقرية ابن سينا أن تسكب كل المعلومات الطبية في ذلك الزمان في قالب منطقي راح إلا أنه لا شك كتاب معقد صعب على الطالب المبتديء . فكان لا بد للأساتذة أن يشرحوا غوامضه، ويكشفوا صعوباته. لذا فقد كثرت مختصرات وموجزات وشروح القانون.
لذا فقد كثرت مختصرات وموجزات وشروح القانون.
وعندما اشتهر ابن النفيس (1211- 1288 م) كعالم وأستاذ اضطر هو أيضاً أن يشرح القانون وأن يكتب موجزاً له. شرح الكليات، ثم شرح التشريح. ويقوله في ذلك (1) "وقد رتبناه (أي شرح الكليات) على ترتيب القانون، إلا في فني التشريح الأقراباذين فإنا رأينا أن نجمع الكلام في التشريح في كتاب واحد. ونرتبه بعد الكلام في مباحث بقية الكتاب الأول من كتب القانون، والمعروف الكليات .
وهكذا فقد تناول ابن النفيس بالشرح ما جاء في الكتاب الأول والثالث من كتاب القانون والسبب أن ابن سينا قسم التشريح إلى قسمين:
الأول: ما يمكننا تسميته بالتشريح العام أي: الهيكل العظمي، العضلات، الأعصاب... الخ.
الثائي: التشريح الخاص. أي تشريح كل عضو على حدة، وذلك قبل الخوض في سرد ووصف أمراض هذا العضو.
وهكذا كان كتاب " شرح تصريح القانون " لابن النفيس وهو أيضاً مقسم إلى قسمين الأول: يتناسب من شرح ما جاء في الكتاب الأول من القانون والثاني: ما جاء في الكتاب الثالث من القانون.
والواقع أن الكتاب نقد وتعليق على ما جاء من معلومات تشريحية في كتاب القانون وهو نقد موجه إلى كل من جالينوس وابن سينا بل لكل من كتب في التشريح قبل ابن النفيس إذ أنه ينتقد المشرحين أحياناً دون أن يذكر أسماءهم.
نعتمد أن ابن سينا لم يمارس التشريح إلا لماماً في حين يحتوي كتاب "شرح التشريح ". على الكثير من المعلومات الجديدة، بالإضافة إلى النقد العلمي الموضوعي الصحيح، لشيء الذي يدل على أن ابن النفيس قد مارس التشريح.
والغريب والجدير بالذكر أيضاً أنه يقول (2) " إن جملة عضلات البدن خمسمائة وتسع وعشرون عضلة، وتفصيلها تعرفه مما قلناه في كتابنا الذي نعمله في الطب مع استقصاء الكلام فى هيئات العضلات ومنافعها وأوتارها ومبادئها وكذلك نستقصي هناك الكلام في جميع فن التشريح كما ينبغي. فإن كلامنا فيه، في هذا الكتاب أكثره موجز ".
إذن: فله كلام مفصل في التشريح في كتاب آخر لعله كتاب " الشامل " الذي يقال إنه ألفه في بضع مئات من الأجزاء والمبيض منها ثمانون حينما وافته المنية. كذلك فإن بعض أجزائه موجود في مكتبة جامعة كامبريدج بإنجلترا بخط يده تنتظر الباحث العالم لينفض عنها الغبار ويقدم للعالم ثمرة عبقرية هذا العالم العربي المسلم.
والواقع: إن الحديث عن كتاب شرح التشريح طويل وطويل جداً، ولقد أنهيت تحقيقه، وأنا في صدد تأليف كتاب برمته عنه.
لذلك: اختصر موضوعي، لسبب ضيق الوقت، على مناقشة فكرة هامة ألا وهى: هل شرح ابن النفيس جثة الإنسان أم لا؟ لقد اتخذ الجواب على هذا السؤال وجهات نظر ثلاثة:
الأولى: تنكر قيام ابن النفيس، والعلماء العرب المسلمين بأي عمل تشريحي كان .
الثائية: تقول إنه شرح، ولكن شرح الحيوان فقط كما فعل جالينوس.
والثالثة: تقول إن ابن النفيس شرح جثة الإنسان.
من المدافعين عن وجهة النظر الأولى: المستشرق ماكس مايرهوف (1874- 1945): إذ يقول (3) " كانت الشريعة الإسلامية في أول ظهورها تبيح دراسة العلوم إطلاقاً، ويمكننا القول منذ أن ظهر المعلم الديني الشهير الغزالي (1111م). فصاعداً حل الاضطهاد الديني لهذه الدراسات محل السماح بها بزعم أنها تؤدي إلى الشك في الاعتقاد بأصل العالم بوجود الخلاق".
ولكنه يعود فيعترف بأنه " وإن لم يكن هذا الموقف كافياً لمنع ظهور علماء مفكرين أحرار، فمما لا شك فيه، أنها كانت عاملاً مهما جداً في خنق أصوات أولئك المفكرين ".
يؤكد مايرهوف إذن في كلمته هذه:
ا- أن الشريعة الإسلامية نفسها لم تمنع دراسة العلوم إطلاقاً. والحقيقة أنه لا يوجد في مصدري الشريعة الإسلامية: أي القرآن والسنة ما يمنع تشريح جثة الإنسان بقصد علمي.
2- إن السبب الهـام في نقد الدراسات العلمية هو ظهور الغزالي وتعاليمه. صحيح أن الغزالي أصدر كتاب" تهافت الفلاسفة " ولكن الحرية التي كان يتمتع بها العلماء جعلت ابن رشد يرد عليه مباشرة في كتابه " تهافت التهافت " ابن رشد (1126 ــ 1198) الذي كان فيلسوفاً وطبيباً أيضاً، وهو الذي يقول في كتابه فصل المقال (4).
" إن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعها وأنه كلما كانت المعرفة بصنعها أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم. وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث عام ذلك، فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع، وإما مندوب إليه ".
والمعروف قول ابن رشد " من زاول التشريح ازداد- إيماناً ".
3- ورغم ذلك، على ما يقول مايرهوف، فلم تمنع تعاليم الغزالي من ظهور علماء مفكرين أحرار... أمثال ابن النفيس.
والواقع أن فكرة تحريم تشريح الجثة الإنسانية فكرة شعبية عامية نابعة عن الاحترام الشديد للأجداد وللموتى ولا علاقة لها بالدين الحنيف، الشيء الذي نجده في مناقشة جرت بين كلوت بك (Kloot Bek) طبيب محمد علي الكبير، الذي أنشأ مدرسة أبي زعبل الطبية فأراد تشريح الجثث لتعليم التشريح للطلاب، فاعترض عليه البعض. فذهب إلى أكبر علماء الدين في ذلك الوقت الشيخ العروسي. وقد سجل كلوت بك المناقشة التى جرت بينهما في مذكراته، ويتبين بوضوح أن سبب منع تشريح الجثث هو الخوف من إثارة عواطف العامة إذ يقول (5) " وأعتقد أنني رأيت في تردده (أي تردد الشيخ) الخوف من الاصطدام بمعتقدات قديمة أكثر من شكه في فكر مقتنع نصف اقتناع. والذي أكد لي هذه الفكرة، أنني توصلت إلى الحصول على موافقته الخفية لتدريس التشريح، ولكنه أخذ مني عهداً بأن لا أفعل ذلك إلا باحتراس وسرية).
وأجد شخصياً، تماثلاً غريباً، وتطابقاً شديداً ما بين موقف الشيخ العروسي وموقف ابن النفيس، فهما يوافقان على تشريح الجثة إنما " باحتراس وسرية " وذلك " خيفة الاصطدام بمعتقدات قديمة".
وهذا هو السبب الذي جعل ابن النفيس يقول في مقدمة كتابه شرح التشريح " وقد صدنا عن مباشرة التشريح وازع الشريعة، وما في أخلاقنا من رحمة " (2).
والمعروف أن المؤلف يكتب مقدمة كتابه بعد الانتهاء من تأليفه. ولربما لاحظ ابن النفيس أن ما جاء في كتابه كان دليلاً على مزاولته التشريح، فوجد أنه من الأفضل والأنسب أن ينفى عنه التهمة من البداية فكتب هذه الجملة، خاصة أن القلائل هم الذي سيقرؤون الكلام برمته، ولأن النسخ منه قليلة.
ولقد استند ما يرهوف وشاخت وغيرهما على هذه الجملة لنفي قيام ابن النفيس بالتشريح إطلاقاً.
إلا أن قراءة الكتاب تنفي ما جاء في هذه الجملة فلذلك عندما قرأ ما يرهوف الصفحات التي وصف فيها ابن النفيس تشريح القلب ودوران الدم في الرئتين لم تواته الجرأة للاعتراف بل قال بأن هذا الاكتشاف جاء نتيجة " فرضية سعيدة " (6) Heurouse Hypothese رأي افتراضي نظري تطابق مع الحقيقة صدفة. وقال شاخت Schacht إنه وصل إليها عن طريق الاستنتاج المجرد (7) أي عن طريق المناقشة النظرية فحسب.
ولنعد الآن إلى كلام ابن النفيس في تشريح القلب " ولكن ليس بينهما (أي بين بطيني القلب) منفذ، فإن جرم القلب هناك سميك ليس فيه منفذ ظاهر كما ظن جماعة ، ولا منفذ غير ظاهر، يصلح لنفوذ الدم كما ظن جالينوس، فإن مسام القلب هناك مستحصفة وجرمه غليظ " (2).
ولا أريد الاسترسال فيما جاء في الكتاب عن القللب وتشريحه فهو معروف جداً واذكر هنا كلمة لثارل ليشتانتيلر أستاذ تاريخ الطب في لوزان وهامبورغ " لا يمكن لأحد أن يصف هذا الوصف إلا إذا وضع اصبعه ضمن تجاويف القلب " (8).
وفي المقطع التالي يكشف ابن النفيس عن نفسه إذ يقول " وقولهم (أي من سبقه من الأطباء والمشرحين) أنهم شرحوا وأبصروا الأمر على ما ذكروه مما لا يوقع عندي ظناً، فضلاً عن جزم. فكثيراً ما رأيت الأمر على خلاف ما ادعوا أنهم صادفوه بالتشريح الذي يدعون أنه تكرر لهم كثيراً (2).
فهو هنا يؤكد جازماً على أنه رأى الأمر على " خلاف " ما قالوه في التشريح (وأعتقد أن كلمة تشريح هنا تعني تسليخا (Dissection) .
هنا ينبري الفريق الثاني من الباحثين أمثال الزميل الدكتور الأستاذ/ عبد الكريم شحادة ، أو الدكتور أمين أسعد خير الله، فيقول: إن ابن النفيس قد شرح، ولكن شرح الحيوان فقط(6).
وكان جالينوس قد قام بهذا العمل ووضع كتبه في التشريح حسبما وجد عند الحيوان فيقول (9) " إن هيئة أبدان الحيوان التي يمكن أن نتعرف على أعضائها بالتشريح معرفة صحيحة ترى كأنها قريبة من هيئة بدن الإنسان على أن منها ما يسبق الظن إليه بأن طبعه بعيد عن طبع الناس بكثير بمنزلة أنواع الطيور وأنواع الأسماك والحيات والدود والزنابير والبق ".
أي أنه إذاً شرح الحيوانات القريبة الشبه من الإنسان أيضاً. لذلك نرى جالينوس يؤكد أن ما يصفه من تشريح هو إنساني فيقول (10) " من أجل الإنسان، لأنه من أجله كتبنا هذا الكتاب، هدفنا شرح بنيته.. ويقول أيضاً (10) أما الإنسان الذي من أجله كان هدف مقالتنا هذه وأيضاً (10) "وقد نتحدث ذات يوم عن الحيوانات الأخرى. أما الإنسان الذي كرسنا كتابنا هذا له " والكتاب المقصود هو منافع الأعضاء الذي ترجمه حنين بن إسحاق. ويقول في الكتاب نفسه (11). "ليس في نيتي أن أشرح عدد الفصوص (الرئات) الموجودة عند كل الحيوانات لأنني في الواقع لم أذكر إطلاقاً بنية أي عضو من أعضائها (أي الحيوانات) إلا في حالات الضرورة. وكنقطة انطلاق لشرح أعضاء الإنسان. وإذا لم توافنا المنية فسوف نتعرض ذات يوم لبنية الحيوانات مع تشريح دقيق لكل جزء من أجزائها، وكما نعرضه الآن بالنسبة لبنية الإنسان ".
وكمثل على مزاولة ابن النفيس تشريح الحيوان نقده لجالينوس ولابن سينا فيما يتعلق بوجود عظم في القلب.
يقول جالينوس (12) " إن العظم الذي يعتقد البعض أنه موجود فقط في الحيوانات الكبيرة وليس عند كل الحيوان،هو موجود عند الأخرى أيضاً. رغم أنه في بعض الأحيان ليس عظماء تاماً بل أقرب إلى الغضروف".
ويكرر ابن سينا هذا القول (13) فيضيف " وقد وجد في قلب الحيوانات الكبيرة الجثة عظم، خصوصاً في الثيران، وهذا العظم مائل إلى الغفروفية وأكبره وأعظمه مع زيادة صلابة هو ما يوجد في قلب الفيل ".
وكان جالينوس قد ذكر قلب الفيل فقال (14) " ذبح فيل عظيم في روما، منذ فترة ليست بالبعيدة، واجتمع عدد كبير من الأطباء حوله ليدرسوا تشريح هذا الحيوان، وليعرفوا فيما إذا كان القلب ذا رأس أو رأسين، جوف أو جوفين أو ثلاثة. وكنت قبل تشريحه أؤكد لهم أنهم سيجدون التشريح نفسه الموجود عند الحيوانات التي تتنفس الهواء الشيء الذي برهن عليه التشريح. ووجدت أيضاً وبسهولة عظم القلب ".
إلا أن ابن النفيس يرد على الاثنين ويكذبهما فيقول (2) " إن هذا الكلام لا يصح. وذلك لأن أسفل القلب ليس البتة عظم يلاقيه لأن موضعه في محيط الصدر وليس هناك البتة عظم وإنما العظام في محيط الصدر لا عند موضع القلب ".
ظن إذن المدافعون عن فكرة تشريح ابن النفيس للحيوان أن هذا المقطع ربما يؤكد فكرتهم.
ولكن إذا عدنا إلى الحقيقة: فالواقع أنه لا يوجد ما يشبه العظم في قلوب الحيوان إلا في حالات شاذة اعتبرت خطأ قاعدة. وهكذا يقول كوفييرCuvier (15) أكبر علماء الحيوان الفرنسيين " إلا أن هذا العظم لا يوجد عند كل أفراد الحيوان من الجنس نفسه، ومن النوع نفسه فهو ليس إلا شذوذ عضوياً عن قاعدة "!!؟
أما الفريق الثالث، وأنا منهم، والدكتور حداد أيضاً، فهو يعتقد أن ابن النفيس شرح جثة الإنسان.
وكتاب لشرح التشريح مليء بالأمثلة، نقتطف منها البعض للدلالة، ليس للحصر.
يقول جالينوس (16) " يصل الدم إلى الدماغ نفسه في القسم الذي يسميه البعض الدماغ المقدم عبر الأم الجافية التي تقسم الدماغ إلى قسمين متساويين في الخط المتوسط ".
ويرد ابن النفيس على هذا القول (2) " إن الروح الحيواني ينفذ أولاً إلى البطين المؤخر ثم ينفذ بعد ذلك إلى البطينين الآخرين، وهيئة التشريح تصدق ذلك، وتكذب قولهم فإن نفوذ الشرايين إلى داخل القحف معلوم أنه لا يكون من البطين المقدم " وهذا صحيح كل الصحة.
مثل آخر: كان القدماء يعتبرون الأعصاب القحافية سبعة ويبدأونها بالعصب البصري، إذ كانوا لا يعتبرون العصب الشمي عصباً بل جزءاً من الدماغ. وكان الزوج الخامس بالنسبة لهم هو في الواقع مجمل العصب الوجهي ( حسب الترقيم الحديث) مع العصب السحجي (الثامن) أي أن هذين العصبين كانا بالنسبة للقدماء عصباً واحداً هو الزوج الخامس.
أما الزوج السادس فهو مجمل الأعصاب الثلاثة: اللساني البلعومي (التاسع) اللهوي (العاشر) والشوكي (الحادي عشر) والثلاثة تشكل عصباً واحداً هو الزوج بالنسبة للقدماء.
يقول ابن سينا (17) " وأما الزوج السادس فإنه ينبت من مؤخر الدماغ متصلاً بالخامس مشدوداً معه بأغشية وأربطة كأنهما عصبة واحدة، ويخرج الثقب الذي في منتهى الدرز اللامي، وقد انقسم قبل الخروج ثلاثة أجزاء، ثلاثتها تخرج من ذلك الثقب معاً ".
وإذا فسرنا هذا الكلام إلى اللغة العلمية المعاصرة كان معناه: إن العصب التاسع والعاشر والحادي عشر تنبت من المحور العصبي وهي مرتبطة مع العصب السابع والثامن بأغشية وأربطة كأنها كلها أي مجمل الأعصاب الخمسة عصب واحد، يخرج من الثقبة الخلفية الممزقة بعد أن ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
ينتقد ابن النفيس هذا الكلام فيقول (2) 9 قوله: (أي قول ابن سينا) متصلاً بالخامس مشدوداً معه بأغشية وأربطة، إني إلى الآن لا أعرف لهذا الاتصال حكمة، بل لم أتحقق من صحته: فإن منشأ هذا الزوج خلف منشأ الخامس، ومخرجه خلف مخارجه، فلم يتقدم حتى يرتبط بالخامس ثم يتأخر يخرج ".
وهو نقد صحيح كل الصحة.
ولنلاحظ قوله " لم أتحقق من صحته " أي أنه بحث وفتش فلم يجد هذا الكلام صحيحاً. أو بكلمة أخرى: إنه شرح تلك المنطقة فاكتشف خطأ ابن سينا وجالينوس .
ولا أعتقد أن الوصف هذا يمكن أن ينطبق على دماغ الخروف، كما يطرأ لبعض على الاعتقاد بأن ابن النفيس شرحه ولم يشرح جثة الإنسان.
مثال آخر:
يقول جالينوس (18) في تشريح الأقنية الصفراوية "... سترى (عند التسليخ القناة التي تجري من حويصل الصفراء إلى بداية الأثنى عشر تحت البواب بقليل، وفي بعض الحيوان سترى النقطة التي تتضخم فيها نهاية المعى الدقيق حول البواب... وفي الوقت نفسه سترى قناة صغيرة تذهب أسفل مع الوريد الذاهب إلى الاثني عشر يتجه إلى الأسفل...).
ويكرر ابن سينا فيضيف ".. وهذا المجرى (أي القناة الصفراوية) تتصل أكثر شعبه بالاثني عشر وربما اتصل شىء صغير منه بأسفل المعدة، وربما وقع الأمر بالضد، فصار الأكبر المتصل بالوعاء الأغلظ بأسفل المعدة والأصغر إلى الاثني عشري.
وإذا عدنا إلى كتاب اندريا فيزاليوس (19) (1514- 1064) Vesalius A. الذي يعتبره الغرب مؤسس علم التشريح لوجدناه يقع في الخطأ نفسه.
كذلك فعل ليوناردو فنشى يخا رسومه (20) (1452- 1519)
كرروا كلهم ما قاله جالينوس، إلا أنهم وقعوا جميعاً في الخطأ... ما عدا ابن النفيس الذي يقول " منتقداً جالينوس الذي ادعى أن (2) " المرارة ينفذ منها إلى الأمعاء مجرى آخر تنفذ منه الصفراء إلى تجاويف الأمعاء. وهذا لا محالة باطل، فإن المرارة شاهدناها مراراً ولم نجد فيها ما ينفذ لا إلى المعدة ولا إلى الأمعاء ".
وكلامه هذا هو الحق. لقد صحح ابن النفيس خطأ جالينوس قبل المشرحين الغربيين بعدة قرون.
مثل آخر أيضاً: التقاطع الصليبي للعصب النوري.
يقول جالينوس (21) في وصفه " العصبة (أي العصب البصري) التي منشؤها من الجانب الأيمن من الدماغ تصير إلى العين اليمنى. والعصبة التي منشؤها من الجانب الأيسر من الدماغ تصير إلى العين اليسرى... ".
ولكن ابن النفيس بعد أن يستعرض كلامه يعلق عليه بقوله " وفي الحقيقة إنه لشيء كذلك "21) بل " ينفذ إلى العضو الذي إليه على غير الاستقامة ".
الخلاصة
إن ما ذكرته من أمثلة ليس إلا غيضاً من فيض. وكتاب شرح التشريح مليء بالانتقادات والملاحظات والمشاهدات في تشريح كل أعضاء الجسم تقريباً: العظام، والعضلات، والأحشاء، وأعضاء الحواس... الخ.
وكل مثل ضربته يستحق وحده دراسة مفصلة واسعة والذي نستطيع أن نقوله ونؤكده.
ا- أن ابن النفيس قد شرح جثة الإنسان إنما خفية خيفة غضب العامة، لذا وضعت في سيناريو الفيلم عن ابن النفيس مشهداً يؤكد ذلك.
2- إن ما قدم حتى الآن من بحوث حول ما اكتشفه ابن النفيس في التشريح اقتصر على الدورة الدموية الصغرى والواقع أن له اكتشافات كثيرة أخرى: كالأقنية الصفراوية، والمريء، والمعدة... الخ.
3- إن كتاب شرح التشريح، كما قال ابن النفيس نفسه، مختصر موجز لآرائه ويجب أن تستمر البحوث للكشف عن مؤلفاته الأخرى وتحقيقها ونشرها.
4- أعتقد أدن عبقرية ابن النفيس إن لم تكن متفوقة على عبقرية ابن سينا والرازى، فهي لا تقل عنهما أو ربما جاوزتهما في ميدان الاكتشاف والإبداع. ويبدو أن ابن النفيس قال: والله لولا علمي أن كتبي ستقرأ ألفي سنة بعد مماتي لما كتبتها " وأظن أنه لم يخطيء لأننا سنظل فترة طويلة نعمل على دراسة آثاره ومؤلفاته ونجد فيها الجديد والجدي دوماً.
المر ا جع
أ- اسكندر: البير زكي- دليل المخطوطات الطبية العربية في معهد الويلكم (بالإنجليزية) ص: 397.
2- ابن النفيس: علاء الدين- شرح التشريح- النسخة المحققة د. سلمان قطاية- ص: 296.
3- جمهرة من المستشرقين تحت إشراف سيرتوماس ارنولد: تراث الإسلام- دار الطليعة بيروت- 1972- ص: 483.
4- ابن رشد: فلسفة ابن رشد- دار الآفاق الجديدة- بيروت 978 1. ص: 13- 4 1.
5- كلوت بك: أنطوان- مذكرات- تحت إشراف- جاج تاجر- القاهرة 1948 ص: 71- 72
6 ــ CHEHADE ABDUL KARIM, IBN An- Nafis paris 1952 p. 44
7ــ شاخت وبوزورت: تراث الإسلام- ترجمة: د: محمد زهير الجهوري عالم المعرفة- الكويت- القسم الأول- ص: 84- 86.
8 ــ
C. LICHTENTEILER. Histoire de la Meoucine- Flammarions- Paris 1979- XQ Conference.
10 ــ جالينوس: منافع الأعضاء- ترجمة حنين بن إسحاق- المكتبة بباريس مخطوطة رقم: 2853- المقالة الرابعة عشر.
11- جالينوس. منافع المقالة السادسة.
2 1-
Galen. On Anatomical Orocedures- The Wellcome Institute- London- 1956 - Book VII-P.186 13- ابن سينا: الحسيني بن عبد الله- القانون- طبعة بولاق أوفست بغداد- بلا تاريخ- ج 2- صح: 262.
14- المصدر رقم (10): المقالة السادسة.
5 1-CUVIER. Legons dAbatomic Comparee, Tome VI- P.292
6 1- المصدر رقم Book IX- Chapter II- P. 229.:
17- المصدر رقم (13) ج ا- ص: 56.
8 1- المصدر رقم (2 1) Book VI- P,764
9 1- 2- VESALIUS. Andrea- DE HUMANI CORPORI FABRICA IV Edition, P.336. DEVINCI, Leonard- Dessins Anatomiques- Presentation, P Huard- Dacosta- Paris _ P.305
21- جالينوس: كتاب التشريح لجالينوس- ترجمة حنين بن اسحاق محطوطة المكتبة الوطنية بباريس رقم: 2851 المقالة العاشرة
الموقع الاصلي
http://www.islamset.com/arabic/aisc/nafis/KTAYH.html