كتابة الحديث في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم و صحابته
وأثرها في حفظ السنة
إعداد الأستاذ الدكتور
أحمد معبد عبدالكريم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد..
فإن العناية بتلقي السنة النبوية المطهرة عن مصدرها المباشر، وهو الرسول ، ثم عن صحابته الكرام فمن بعدهم، قد توافر فيها ثلاثة جوانب، متزامنة، ومتكاملة، وهي:
1- حفظ الصدور 2- حفظ السطور
3- حفظ التطبيق العملي بالقلوب والجوارح آناء الليل والنهار.
وتناول مسيرة هذه الجوانب الثلاثة بالتفصيل وبيان مظاهرها وثمارها يضيق عنه المقام، وليس من مطالب هذا البحث.
حيث إن مقصوده هو تناول معالم فترة معينة في جانب معين وهو كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وصحابته -رضي الله عنهم - وأثرها في حفظ السنة المطهرة، وذلك لأن هذا الجانب في هذه الفترة قد خفي الكثير من حقائقه على عدد غير قليل من الباحثين الشرقيين والمستشرقين، وبالتالي اختلفت الأنظار حوله حتى وجهت إلى السنة المطهرة بسبب التصور الخاطئ له بعض الانتقادات المغرضة، كما سنشير إلى ذلك في موضعه من هذا البحث إن شاء الله.
تمهيد
الأُمِيُّون وحفظ السنة في الصدور:
يقول الله عز وجل:*ghijklm) [الحجر:9]. والذكر هنا هو القرآن الكريم، وقد قررت هذه الآية بوضوح وتأكيد أن الله تعالى بعظمته العليا كما تفرد بإنزاله على رسوله الكريم، فقد تفرد أيضا بحفظه وصيانته العامة الأبدية من أي تحريف أو دخيل، ومن لوازم حفظه
-سبحانه- لكتابه العظيم، أنه حفظ أيضًا سنة رسوله r التي جعلها بيانا له معصوما من الخطأ، لصدوره من مقام النبوة الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولما كانت بداية بعثته صلى الله عليه وسلم في الأميين لحكم سامية، فإن المرحلة الأولى لتلك البعثة قد شاعت فيها أمية القراءة والكتابة بلغة العرب التي اختارها -الله تعالى- لتكون لغة القرآن الكريم، ولم تكن تلك الأمية مثل أمية عصورنا هذه التي تحول بين صاحبها وبين سلامة النطق واستقامة الفهم لما يسمعه، بل كان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم كونه أميًا، وكان الأمي من العرب الخلص يتمتع بسليقة أصيلة تجعله ينطق العربية نطقًا صحيحًا، ويفهمها فهمًا سديدًا.
كما كان العربي الأمي يتمتع أيضًا بحافظة تفوق قوتها ودقتها الوصف بحيث جعل الغالب فيهم تعويله الأصلي عليها بما يعوضه في غالب أمره عن حفظ الكتابة والقراءة، بل إن محمد بن عكرمة بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام قال:«كان ابن شهاب يختلف إلى الأعرج -يعني عبدالرحمن بن هرمز صاحب أبي هريرة فيسأله الحديث، ثم يأخذ قطعة ورق فيكتب بها ثم يتحفظ، فإذا حفظ الحديث مزق الرقعة». وفي رواية: كنا نأتي الأعرج ويأتيه ابن شهاب، فنكتب، ولا يكتب ابن شهاب، فربما كان الحديث فيه طول فيأخذ ابن شهاب ورقة من ورق الأعرج ثم يكتب، ثم يقرأ، ثم يمحوه مكانه، وربما قام بما معه فيقرؤها ثم يمحوها([1]).
وروى الفسوي في تاريخه من طريق عبدالرحمن بن سلمة الجمحي قال: سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص يحدث عن رسول الله r حديثًا فكتبته، فلما حفظته محوته:«قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافًا وصبر على ذلك»([2]).
ومن هذا يستفاد أهمية الحفظ للسنة في الصدور ومدى الاعتماد عليه في عهد الصحابة والتابعين.
المبحث الأول: الإذن النبوي العام لمن سمع منه صلى الله عليه وسلمأن يكتب ما سمع ورد الشبه عن ذلك إجمالا
لكن رغم هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل الكتابة وأذن في استعمالها في حفظ السنة النبوية طالما توافر تمييزها عن المكتوب من القرآن الكريم من جهة، وكانت الكتابة محققة لغاية الحفظ المطلوب للسنة أو لتبليغها للغير من جهة أخرى.
وبهذا صارت السنة النبوية تحفظ عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن صحابته بطريقين متكاملين ومتزامنين في أوقات كثيرة.
الأولى: طريقة التلقي بالسماع أو المشاهدة أو غيرهما، وحفظ المُتلَقّي في الذاكرة فقط دون كتابة.
والثانية: طريقة الكتابة بجانب الحفظ في الذاكرة وذلك في ما كان متيسرًا مما يكتب عليه حينذاك، من العظام والجلود والأوراق.
لكن هذه الطريقة الثانية لم تأخذ حظًا كافيًا من إظهار دلائلها وصور العناية بها، وتعداد من قام بها من الصحابة والتابعين في مباحث خاصة بذلك، ولعل ذلك لأنها لم تكن محل شك أو إنكار في عصور تدوين السنة في مصنفات خلال القرن الثاني والثالث.
لكن جاء في العصور المتأخرة غير واحد، ممن ينسبون إلى البحث والاطلاع والتمحيص ينتقدون السنة النبوية من جهة عدم العناية بكتابتها وتدوين مروياتها وتصنيفها في مصنفات متداولة إلا في وقت متأخر عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويرتبون على ذلك الزعم بكثرة الدخيل فيها عند تصنيفها المتأخر عن عصر النبوة والصحابة.
وقد نهض -بحمد الله- من الباحثين المخلصين مَن ناقش هذه الانتقادات وردها جملة وتفصيلاً بالأدلة المناسبة، وذلك مثل الشـيخ المعلمي - رحمه الله- في كتاب: «الأضواء الكاشفة» والدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه: «السنة قبل التدوين» يعني قبل كتابتها كتابة عامة بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز في مدونات جامعة، والأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه: «دراسات في الحديث النبوي»([3]) وغير هؤلاء كثير.
وما أقدمه اليوم هو مساهمة متواضعة في البيان الواقعي للعناية الظاهرة بكتابة السنة النبوية في عصره صلى الله عليه وسلموعصر صحابته الكرام، مع الإذن العام في ذلك فمن وقائع عنايته صلى الله عليه وسلم بكتابة السنة: ما رواه رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ونحن نتحدث فقال: «ما تحدثون؟» فقلنا: ما سمعنا منك يا رسول الله، قال:«تحدثوا وليتبوأ مقعده مَن كذب عليَّ من جهنم» ومضى لحاجته، وسكت القوم فقال: «ما شأنهم لا يتحدثون؟» قالوا: للذي سمعناه منك يا رسول الله. قال: «إني لم أرد ذلك، إنما أردت مَن تعمد ذلك» فتحدثنا، قال: قلت: يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها؟ قال: «اكتبوا ذلك ولا حرج»([4]).
وفي الحديث كما نرى أمر بمعنى الإذن في كتابة الحديث عمومًا مع اجتناب الكذب عليه صلى الله عليه وسلم قولاً وكتابة.
وللحديث شواهد منها:
ما أخـرجه الحاكم في المستدرك (1/106) من طريق عبدالله بن المؤمل، والنسائي في الكبرى (التحفة 3/ 8885) من طريق الوليد بن مسلم، كلاهما عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح، عن عبدالله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قيدوا العلم» قلت: وما تقييده؟ قال: «كتابته».
وروي الحديث عن أنس -رضي الله عنه- مرفوعًا وموقوفًا([5]) وتضعيف المرفوع ينجبر بالشاهد السابق والآتي.
ولفظ رواية النسائي: إن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث أفتأذن لنا أن نكتبها؟ قال: «نعم» فكان أول ما كَتبَ: كتاب النبي صلى الله عليه وسلمإلى أهل مكة. «لا يجوز شرطان في بيع واحد، ولا بيع وسلف جميعًا…» الحديث.
وما في سند هذا الحديث من عنعنة ابن جريج ينجبر بباقي الطرق السابقة واللاحقة فيرتقي إلى الصحيح لغيره([6]) وعن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله r فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله r فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق»([7]).
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ما من أصحاب النبي r أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبدالله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب([8]).
وفي رواية لأحمد وغيره أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: إلا ما كان من عبدالله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب بيدي، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأذن له([9]).
وبهاتين الروايتين ينجبر ضعف غيرهما مما تقدم، من حديث رافع بن خديج وأنس وبعض طرق حديث عبدالله بن عمرو ويكون ما ذكره الشيخ رشيد رضا -رحمه الله- في مجلة المنار([10]) وتابعه غيره([11]) من الاقتصار على تضعيف بعض طرق حديث عبدالله بن عمرو، وحديث أنس -رضي الله عنه- مِنْ بعض طرقه مردود عليه بوجود ما يشهد له من الصحيح والحسن كما ترى.
كما أن حديث أبي هريرة السابق ينبغي أن يلاحظ فيه أمران متعلقان بموضوعنا:
الأمر الأول: المنافسة الظاهرة بين أبي هريرة وبين عبدالله بن عمرو رضي الله عنهم في حفظ ما تلقياه عن الرسول r بما يدل على علو همة مَنْ تصدَّى لهذه المهمة من الصحابة الكرام، وحرصه على القيام بها على أتم وجه.
الأمر الثاني: توافـر عـوامل طريقتي الحفظ معًا وهما حفظ الصدور من أبي هريرة، وحفظ الصدور والسطور من عبدالله بن عمرو -رضي الله عن الجميع- بحيث لا يُظن من اقتصار أبي هريرة عن حفظ الصدور أن محصلته كانت أقل أو ضبطه كان أضعف.
وذلك لأن ابن الجوزي وغيره ذكروا أن أبا هريرة قد رُوي عنه (5374) حديثًا([12]) في حين ذكروا أن عبدالله بن عمرو قد روي عنه (700) حديث وقيل أقل من ذلك([13]).
كما أن أبا هريرة أتيحت له فرصة ذهبية جعلت لحفظه مزية عليا حيث إن رسول الله r حدَّث يومًا وقال: أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لم ينس شيئًا سمعه؟ قال أبو هريرة: فبسطت بردة عليّ حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به([14]). ومن أجل ذلك قال الذهبي: كان حفظ أبي هريرة الخارق، من معجزات النبوة([15]), وشهد له به غير واحد من الصحابة عن رؤية ومعايشة علمية، واختبار([16]).
([1]) مكتفيا بالحفظ. انظر: ترجمة الإمام الزهري من تاريخ ابن عساكر (ص 60- 62) ط/ مؤسسة الرسالة.
([2]) «المعرفة والتاريخ» للفسوي (2/ 523).
([3]) وهذه الكتب الثلاثة طبعت عدة طبعات.
([4]) أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل واللفظ له حديث (331)، والخطيب في تقييد العلم (ص72- 73)، والطبراني في الكبير 4/ حديث (4410) مع اختصار القصة في أوله، ثلاثتهم من طريق عبدالرحمن ابن ثوبان قال: حدثني أبو مدرك، قال:حدثني عباية بن رفاعة بن رافع، ابن خديج عن رافع به؛ وأبو مدرك هو عبدالله بن مدرك الأزدي شامى – ذكره ابن عبدالبر في الاستغناء (1911) ولم يذكر في حاله شيئا ولا ذكر راويًا عنه سوى ابن ثوبان وينظر تهذيب الكمال (14/ت3149) «عباية بن رفاعة» وعلى هذا فأبو مدرك هذا مجهول، وهو غير «أبي مدرك» المذكور في الميزان (4/10589)، «واللسان» (7/1117- 1118) مع وصف الدارقطني له بأنه متروك.
([5]) تقييد العلم (ص97)، وجامع بيان العلم 1/395)، والمستدرك (1/106)، ومسند الشهاب (637).
([6]) ينظر مختصر استدراك الحافظ الذهبي لابن الملقن (1ح 19) بتحقيق د/ سعد الحميد.
([7]) أخرجه الإمام أبو داود حديث (3646)، وبنحوه أخرجه الإمام أحمد (2/207/ح 6930)، والحاكم (1/105) وصححه، وأقره الذهبي، وقال الحافظ في الفتح (1/207): إن طرقه يقوي بعضها بعضًا.
([8]) صحيح البخاري (مع الفتح) كتاب العلم حديث (113).
([9]) المسند (2/403/ح 9231)، والفتح (1/ 207).
([10]) مجلة المنار (10/ 763- 766).
([11]) ينظر تقييد العلم للخطيب بتحقيق يوسف العش (73 حاشية 143).
([12]) ينظر تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي (363) وسير النبلاء (3/594).
([13]) تلقيح فهوم أهل الأثر: 363.
([14]) أخرجه البخاري كتاب الحرث والمزارعة برقم (2350) ومسلم، واللفظ له، في فضائل الصحابة برقم (2492) كلاهما من حديث أبي هريرة.
([15]) السير (2/594).
([16]) سير النبلاء (2/ 598، 603، 604، 606، 607).
يتبع بإذن الله