حجاب الرجل وضوابطه !
منهجي في الحياة منذ القدم أني لا أقرأ كتاباً ولا أسمع شريطاً إلا لإنسان معلوم العين والحال . وهذا منهج أئمتنا أهل الحديث عند تلقيهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ز فمجهول العين والحال مردودة روايته . يقول العراقي في ألفيته :
مجهول حالٍ باطنٍ وظاهر وحكمه الرد لدى الجماهر
وهذه أبرز سمة لأهل السنة والجماعة , أن عقيدتهم واضحة ومنهجهم واضح , كما قال صلى الله عليه وسلم : تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك . بخلاف المبتدعة , فالشيعة أصل معتقدهم التقية كقول أئِمتهم : التقية ديني ودين آبائي . وقول الآخر : لا دين لمن لا تقية لهم . وكذلك اليهود منهجهم الكيد بالخفاء , وما الماسونية العالمية إلا من تدبيرهم . وكذا قتالهم لا يقابلون وجهاً لوجه وإنما كما قال تعالى : لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر .
إذاً منهج المؤمن الحق الوضوح بكلامه وأهدافه ومسلكه , فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاث مرات لتفهم عنه . بل أنتقد المتفلسف والمبالغ في كلامه فقال صلى الله عليه وسلم : إنما هذا من إخوان الكهان . وأما التخفي والتستر فليس من صفات الرجال وإنما للنساء . قال تعالى : وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب .
ولم يشرع الإسلام التخفي والتورية إلا في الحرب مع الكفار , فقد قال صلى الله عليه وسلم : الحرب خدعة . وكان الصحابة إذا لبسوا الحديد في المعركة أحياناً لا ترى إلا أحداقهم . وكانت لغة التعارف بينهم في أحدى المعارك ( حم لا ينصرون ) وفي أخرى ( أمت أمت ) وما عدا ذلك فالمؤمن وجهه مكشوف واسمه معروف , ومنهجه مألوف , لا يصرفه عن ذلك طمع ولا خوف . وما أريد أن أصل إليه وأخاطبه هؤلاء الكتاب المحجبون المستترون تحت أسماء وهمية أو كنى أوألقاب أو طلاسم . يقذفون بكل بلية , لا يراعون عقيدة , ولا يبالون بعرض وحرمة , ولا يدركون عواقب كلماتهم ومقالتهم وتعليقاتهم وتعقيباتهم .
ولا شك أن العقلاء معرضون عنهم وعن زيغهم , ممتثلون قول ربهم ( واعرض عن الجاهلين ) وما يقع في شباكهم إلا الجهلة أمثالهم . وأنَّى لعاقل أن يأخذ بقول مجهول عين وحال ؟ لا يدري هل هؤلاء الكتاب إنس أم جن , رجال أم نساء , عقلاء أو مجانين ، مسلمون أم كفار.
فيالها من وصية ومنهج رسمه لنا شيخنا الجليل العلامة : عبد الله بن قعود – رحمه الله – عضو اللجنة الدائمة للإفتاء بآخر لقاء لي معه في منزله بالرياض وقد طلبت منه قبل الوداع وصية ننتفع بها , فطأطأ برأسه , ودمعت عينه , وقــال : هل مثلي يوصي ؟ ثم تنهت وقال : أوصيكم بثلاث : تقوى الله , والصدق , والصراحة . ثم فصل وعلق على تلك الوصايا . رحمك الله يا شيخنا : ها نحن نحاول تطبيقها وأنى لنا الإطاحة بها .
فمن هذا المنطلق أضع بين يدي إخواني المشرفين على المواقع الإلكترونية والمنتديات بعض الضوابط الشرعية للكتاب وللأخبار المبثوثة فيها , لنقدم إعلاماً إسلامياً نظيفاً . يبني ولا يهدم , يشفي ولا يسقم . فإليكم هذه الضوابط :
1- الكتابة بأسماء حقيقية مؤكدة من قبل إدارات المواقع والمنتديات , كما هو الحال في الجرائد والمجلات فما الفرق بين تلك الوسائل الإعلامية , أما الرموز والإشارات والطلاسم والكنى والألقاب والأسماء الوهمية . فهذا من الكذب والتقية , فما رأى الكاتب من خير نشر باسمه , وما كان شراً نزه عن قلمه .
2- أن يراقب الكاتب والناشر للخبر ربه سبحانه وتعالى ويراقب ملائكته ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ).
3- الصدق في نشر الخبر والمقال دون التهويل والتصعيد الإعلامي يقول صلى الله عليه وسلم ( أعط كل ذي حق حقه ) وقال صلى الله عليه وسلم : أنزلوا الناس منازلهم .
4- مراعاة الأحكام الشرعية بأن لا يتجاوزها الكاتب والناشر ولا يتعداها ( تلك حدود الله فلا تعتدوها )( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ) والحرية في الإسلام مقيدة بقيود الشرع ، فلا حرية مطلقة لا في الإسلام ولا في غيره .
5- مراعاة المصالح والمفاسد . فالشريعة جاءت لتحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها والحكيم من يضع الشيء في محله ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا ًكثيراً ).
6- إغلاق أبواب الفتن وإثارتها سواءً كانت قبلية أو منا طقية أو فردية أو حزبية أو غير ذلك يقول صلى الله عليه وسلم ( إن لله خزائن مفاتيحها الرجال فطوبى لمن كان مفتاحا للخير مغلاقاً للشر وويل لمن كان مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير.
7- التثبت من نقل الأخبار قبل نشرها . قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ، وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ...) وقال صلى الله عليه وسلم ( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ).
8- التأدب بالآداب الشرعية عند الكتابة ونشر الأخبار والتخلق بأ خلاق المؤمنين من إنزال الناس منا زلهم ، ومراعاة مشاعرهم ، وحسن الكلام معهم قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . وقال : وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن . ولم يستثن الشارع إلا المنافق والمجاهر بفسقه فمثل هؤلاء مستحقون للغلظة والشدة كما قال تعالى : يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم . وقال : وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا . وقال صلى الله عليه وسلم : من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه ولا تكنوا . وفي رواية : فاعضوه بهنَّ أبيه ولا تكنوا . أي يقال له عضَّ ذكر أبيك .
9- استقلالية الرأي . فبعض المقالات والأفكار تظهر عليها السرقة من آخرين والسرقة محرمة في الأسلام بجميع أشكالها ومن نقل رأيا عن غيره أو فكراً فلينسبه إلى قائله وصاحبه . فالحقوق محفوظة لأهلها . وما أقبح أن يكون الإنسان إمعة مؤجرا فكره لغيره من أهل الأفكار المنحرفة .
10- الإعراض عن ذكر الأسماء في الكتابات والمقلات والصور وإنما تطرح أفكارهم وأفعالهم وتعالج علاجا شافيا فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يذكر الأسماء ويقول : ما بال أقوام يقولون كذا وكذا .
إلا المجاهر بدعته بنفسه ومنكره عبر وسيلة إعلامية معتبرة فمثل هذا لا حرمة له ولا بأس بذكر إسمه ليحذره الناس . قال بعض العلماء :
القدح ليس بغيبة في ستـــــة مــتظلم ومعـــرِّف ومحــذِّر
ومجاهر بالفسق ثمَّت سائل ومن استعان على إزالة منكر
11- عدم إحتكار تلك المواقع والمنتديات على فئة وتهميش فئة أخرى ، والسماح لأقوام والحجب عن آخرين ولا تستثنى جهة من النقد والمعالجة فإنها حق مشاع ، فكل من تقيد بالضوابط السابقة فيجب أن يسمح له ، ولا ينبغي أن تكون المواقع كالصحف والمجلات لا يؤذن إلا لمن يوافق أصحابها على أهوائهم . فحرية الفكر والرأي مطلب فطري شرعي متى ما انضبط بضوابط الشرع وتقيد بقيوده . فسجن الأفكار أشد من سجن الأجساد .
* آمل أن نرى في الأيام القادمة إعلاماً نظيفا متكاملاً متطوراً ، يشبع الرغبات ، ويحقق الغايات ، ففي مجتمعنا أسود نائمة ، تستيقظ إذا أبصرت فريسة ملائمة .
وتجنب الأسود ورود ماءٍ إذا كنَّ الكلاب ولغن فيه
فهل سنهيئ لها الورود ، أم ندفعها للإعراض والصدود ، هذا ما سنراه غداً ، وإن غداً للناظرين قريب . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بقلم الشيخ /عيسى المبلع
يوم الجمعة 19/6/1430هـ