السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنى نص مقال للدكتور إبراهيم الخولى أنقله إليكم لعموم الفائدة
راجياً من الله أن ينفع به المسلمين
**************
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان إلى الأمة
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه )
صدق الله العظيم
ألا هل بلغت ؟!اللهم فاشهد!
نزع الأعضاء من أجساد الموتى أو الأحياء: حلال أم حرام ؟!
ليس فى الدنيا من ينكر على مريض حقه فى علاج أو دواء، يعافيه الله تعالى به، من مرضه،أو يخفف عنه ألمه!
وليس فى الدنيا من يقر بأن هذا الحق يُخوِّل الباحث عن "الشفاء"، أو عن تخفيف الألم: أن يعتدى على حق إنسان آخر، أو يسبب له ضرراً، أو يعتدى على كرامته الآدمية، وحرماته الإنسانية: لا حيا، ولا ميتا! وليس فى الدنيا من ينكر على الأطباء حقهم، ونبل مقصدهم فى السعي وراء ما يعتقدونه وسيلة لشفاء مريضٍ أو تخفيف ألمٍ عن مبتلَى! وليس فى الدنيا من ينكر أجر العلماء والفقهاء فى اجتهادهم حول وسيلة، يقترحها الأطباء الأمناء الثقات، الخبراء، للعلاج من مرض، أو تخفيف ألم!
هذه كلها مسلمات بَدَهية، لا يختلف حولها اثنان، طالما كانت "الوسيلة" المتخذة من أجل الشفاء أو تخفيف الآلام، لا تتعدى الشخص المريض، إلى غيره، فتسبب له ضرراً، أو تعتدي على كرامته و حرمته، التى أسبغها عليه خالقه - جل وعلى - حياً كان أو ميتا ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾ [الإسراء:70] "كسر عظم الميت ككسره حيا"....
ونحن- المسلمين - لا نبتغى غير الإسلام دينا، نؤمن به عقيدةً، ونطبقه شريعةً، فلا نُحِل إلاما أَحَل الله، ولا نُحرم إلا ما حرمه الله! فالتحليل، والتحريم من أمر الله وحده!
وقضية نقل الأعضاء ]ونحن نتحفظ على هذه التسمية، فهى فى حقيقتها: نزع، وقطع، واستئصال، لجزء أو عضو من جسد حي أو ميت[ هذه القضية تتشابك فيها أطراف، لا يجوز أن يطغى بعضها على بعض، أو يقفز بعضها على بعض! هناك "شريعة الله" ، التى لا يسع مسلما - أياً كان - إلا تحكيمها والإذعان لحكمها! وهناك العلم بفروعِه وشِعابه، وفي مقدمتها: علم الطب بالنسبة لقضيتنا، وهناك "القانون" الذى ينظم الممارسة، ويضبطها، بوضع الشروط، والضوابط ، والروادع، التى تكفل سلامة التطبيق، وحماية الممارسة من أي تجاوز، أو انحراف، أو التفاف، من أجل فتح الثغرات!
وهكذا تترتب المدارك حول هذه القضية:
الحكم الشرعي أولا!
الرأى الطبي ثانيا!
التنظيم القانوني ثالثا!
ومعنى ترتيب المدارك هنا:
أن كلمة الطب تبدأ بعد بيان الحكم الشرعي، بالإباحة أو الحظر!
وأن دور القانون يأتى بعد حكم الشرع، ورأي الطب!
***
ومن البَيِّن - والقضية مطروحة للجدل والحوار منذ أمد - أن المسألة خلافية: فى جانبها الفقهي بين الفقهاء، وفى جانبها الطبي بين الأطباء ..، وهو اختلاف محمود، يعين على استجلاء الحق: شرعا، واستكشاف الحقيقة: طبا!.....ونحن نقدِّر كل اجتهاد، وكل فتوى، و كل رأي حول المسألة، ونحسن الظن بدوافع، ومقاصد كل من شاركوا فى الجدل، والحوار بشانها .. حتى أولئك الذين تبدو في مواقفهم شوائب التأثر: بالمصالح، والضغوط! ومنها: إرضاء الرأى العام! ويكاد الخلاف والاختلاف بين الفقهاء ينحصر فى "حكم نزع الأعضاء" تمهيداً لزرعها، وينحصر بينهم وبين الأطباء فى مفهوم "الموت" وحقيقته عند القائلين بإباحة "النزع"!
***
حكم "نزع" الأعضاء شرعا:
هو حرام محظور! من الموتى والأحياء على السواء!
فالذين أباحوا "نزع الأعضاء" حرموا "البيع" بلا خلاف بينهم، وأصابوا! وأباحوا "التبرع" ]هبة
أو وصية[ فجانبهم الصواب!
إن شرط التصرف - بالبيع أو الهبة أو الوصية - شرعا هو "الِملك": أن يكون المتصرف مالكا لما يتصرف فيه، والإنسان لا يملك جسده .. جسده ملك لخالقه - سبحانه - ولو كان الإنسان يملك جسده - على الحقيقة - لما كان "الإنتحار" جريمة مؤثمة، جناية على النفس حرَّم الله الجنة على من يرتكبها: "بادرنى عبدى حرمت عليه الجنة" .(ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما).
التفرقة بين البيع والتبرع [هبة أو وصية] غير مفهومة، ولا سند لها من كتابٍ أو سنةٍ، أو حتى فقهٍ اجتهادى معتبر. ومن المفارقات التى لا يقضي منها العجب: أن يُجْمِع هؤلاء على تحريم "البيع" ثم يبيحون نظائره: من "الهبة" و "الوصية" وشرط صحتها ونفاذها، كشرط صحة ونفاذ"البيع" على سواء! الِملُك!
وإذا كان"الإنسان" لا يملك جسده، ولا ولاية له عليه - [إتلافه جسده بالانتحار أو بقطع عضو منه دون ضرورة - حرام محظور!]
وإذا كان المرء نفسه لا يملك جسده، ولا ولاية له عليه، حتى يبيعه، أو يتبرع به، فليس لغيره ولاية على جسده من باب أوْلَى! لا لورثته، ولا لأقاربه الأقربين، ولا لولي أمر، ولو كان مكتمل الشرعية، واجب الطاعة فى المعروف!
إن المماثلة بين التصرفات الثلاثة:"البيع" و "الهبة" و "الوصية" تلزم القائلين بجواز "التبرع" بإباحة "البيع" وإلا فعليهم بيان الفرق، ولا فرق! وهنا: أحذر: إن فتح باب "التبرع" - وهو لا سند له - سيفتح باب "البيع" على مصراعيه، وسوف يستغل المتربصون [مافيا تجارة الأعضاء] فتاوى إباحة "التبرع" لاستحلال"البيع" بناءً على المماثلة ، وانتفاء الفرق، والسرية - تستراً على الجريمة - حيلة متاحة!
من باب الجدل العلمي من حقنا: أن نسائل المبيحين: لماذا أبحتم "التبرع" ، وحظرتم "البيع"؟ وقد يكون الذى نزع العضو من أجله، فاحش الغنى، والمنزوع منه بالغ الفاقة؟ وهل تضمنون التكافؤ في الفرص بين "غنى" لا يؤوده دفع نفقات "النزع" و"الزرع"، وفقير ينوء بثمن "قوت يوم" متواضع؟!
وحين أعطيتم أهل الميت، حق "الإذن" بنزع أعضاء منه، ألا تكونون قد جعلتم "جسد الميت" تَرِكة، يملكها الورثة أو الأقارب، ويتصرفون فيها من بعده؟
ثم: لماذا تفتحون باب "الابتزاز" بسيف الحياء..؟ ما ذنب امرأة، ابتلي زوجها "بفشل كُلوي" مثلا، حتى تتعرض للابتزاز، استغلالاً باطلاً لمعنى "الوفاء"؟ ولم تحرج "أخت"، استغلالاً باطلاً لرابطة "الرحم"؟ ولعل أخاها لم يصل رحمها مرةً واحدة! ثم إنها - بعد نزع "كلية" منها - ستصبح معوقة، ولو بقيت بعافيتها، لخدمت أخاها، حتى يبلغ الكتاب أجله، الذي لن يتغير!
أهل المريض وأقاربه بحاجة إلىحماية "أخلاقية" من ضعفهم الذاتي من جهة، ومن الضغوط المحيطة بهم من ناحية أخرى: لا يجوز أن تستغل العواطف الإنسانية بغير الحق: ﴿ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾ [النساء: 135]. ثم هل يجوز ابتزاز من حكم عليه "بالموت" قصاصا، أو عقابا، فى لحظة ضعف، يسيطر عليه فيها الشعور بالذنب، لننتزع منه "الوصية" بأعضائه؟ إن "الحد" قد طهره، ما دام أذعن له راضيا راجيا عفو ربه، لقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى شأن "الغامدية" التي رجمت فى الزنى: "لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لكفتهم"! ليس من العدل: ابتزاز الناس فى لحظات الضعف! وأبعد من الصواب هنا: ما يُفتَى به من جواز أخذ أعضاء المحكوم عليه "باالإعدام" دون إذن من أحد!
ثمة شبهتان، يستند إليهما من يبيحون " نزع" الأعضاء! ويسوقونهما دليلاً على الإباحة والجواز: قالوا: "الضرورات تبيح المحظورات"، و "الضرر الأعلى يرفع بالضرر الأدنى" والإجمال فى مقام التفصيل مضلل ومفسد!
إن مستنبط الشبهة الأولى [أقول "شبهة"، لأنها لم تفصل، ولم تضبط، ولم تحرر] مستنبطها: آية البقرة: 173: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ... وآية المائدة: 3: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .. وآية النحل: 115: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
بنص الآيات: الضرورة تجيز تناول المحرم، لكنها لا تغير حكمه! ولا تحوله من حرام إلى حلال.. كما أنها لا تغير وصفه، فالميتة - مثلا - تظل "ميتة" كما يظل حكمها "أنها حرام".. فقط أجازت الضرورة تناولها..
والضرورة تتقدر بقَدْرها.. فلا يجوز الأكل من الميتة إلا بمقدار ما يسد الرمق، ويدرأ الموت جوعا! وهى دلالة: "ولا عاد"..، فلا يأكل حتى الشبع.. وتبقى دلالة: "غير باغٍ" لتضع ضابطا آخر: ألا يستمرئ الأكل منها.. كما يَستمرئه من يأكلون "الميتة" عادة أو دينا! إنه يأكلها بقدر، وهو كاره لها، لأنها فى الأصل "حرام"!
هذا وبكل اعتبار: فالميتة، التى أبيح تناولها للضرورة، لا يصيبها ضرر ولا أذى!ورضى الله عن أسماء: "إن الشاة لا تتألم بالسلخ بعد ذبحها"! و الإنسان ليس شاة و لا بقرة!
إن عدم ضبط "الضرورة" تترتب عليه نتائج باطلة وخطيرة:
مثلا: إذا عجز إنسان عن "الزواج"، وبلغ به العنت كل مبلغ فهل هذه ضرورة تبيح له الزنى؟! ربنا - وهو أعلم بخلقه وأرحم يقول: ﴿وَلْيَسْتَعْفِ ِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33] والنبى - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج! ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء"!..هنا: عجز عن "الزواج" [عجز عن أعبائه من مهر ونفقة إلخ] لم يعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرورة تبيح المحرم وهو الزنى، وضغط "الغريزة" واحتدامها لدى مستقيم محروم: أمر بيِّن! وكان الله فى عون "الشبان" و"الشابات"، الذين ظلمهم المجتمع، وحرمهم الحق "الطبيعي" فى إشباع الحاجة إلى إعفاف النفس - فضلا عن إشباع غريزة الأبوة والأمومة! إن مأساة هؤلاء ربما تشكل من الالام النفسية، أضعاف ما تشكله الأمراض البدنية مهما اشتدت آلامها! [متوسط سن الزواج بين الرجال: 45 سنة ومتوسطه بين النساء: 35!] فلنتجه لإنهاء هذه المأساة!
ثم من قال: إن الرغبة فى مزيد من الحياة ضرورة، تبيح حرمات الآخرين كالموتى، أو تسبيبَ ضررٍ فادحٍ لآخرين، كما فى حالات "نزع" الأعضاء من الأحياء وهم باعتراف الأطباء يصبحون معوقين، أو مُعَرضينَ لأن يصبحوا معوقين.. فالله - العليم بخلقه - لم يخلق الأعضاء المزدوجة عبثا..، وإذا كنا - لقصور علمنا - لا ندرك حكمة ازدواجها كاملة، فلنتواضع! ولنقل: ( صنع الله الذى أتقن كل شىء ).
وفى النهاية: من يستطيع أن يجزم بأن "زرع" عُضوٍ بتر من جسم آخر سيجعل المنقول إليه مكتمل الصحة، كامل العافية، وهو محتاج لأن يتناول من "مثبطات" العوامل التى تسبب رفض الجسم للعضو المزروع، ما يضعف "المناعة" فى هذا الجسم، ويعرضه بسبب ضعفها لأمراض شتى، ربما تكون أشد من مرضه الأول؟!
هذا وقد ذم ربنا اليهود لشدة حرصهم على الحياة، ودمغهم بأنهم إنما يخافون الموت بسبب ما قدمت أيديهم!
أما الشبهة فهى الثانية: "الضرر الأعلى يرفع بالضرر الأدنى"!
وهذا الإجمال المبهم مضلل مفسد! كذلك!
والسؤال هنا: ضرر أعلى" بمن"؟! وضرر أدنى "لمن"؟!
واضح هنا: أن "الضرر الأعلى" مفروض فى الشخص المريض المحتاج لعضو من جسد غيره ليزرع فى جسده! وأن "الضرر الأدنى" مفروض فيه أن يلحق بإنسان آخر حى أو ميت!
ووضع القاعدة على هذا النحو فاسد! وتطبيقها بالتالى غير مصيب!
"الضرر الأعلى" و "والضرر الأدنى" هنا إنما ينصبان على شخص واحد! في النظر الفقهي الصحيح!
عندما تصيب الأكلة [تسوس العظام] رجل إنسان.. أو حين تصل حال مريض بالسكر - عافاهم الله، وهيأ لهم دواء ناجعا- إلى وضع يستلزم بتر ساقيه [لإصابتهما بالغرغرينة] حتى لا يسري الداء لسائر الجسم.. هنا يكون إعمال القاعدة صحيحاً وواجباً.. وهنا لا يكون فى إعمال القاعدة إبطال لقاعدة أخرى، هى أمكن منها وأقعد، لأنها من وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من استنباط فقهاء: "لا ضرر ولا ضرار".. لا ضرر من طرف واحد [يضر غيره] ولا "ضرار" من طرفين، يضر كلاهما الآخر [صيغة فاعل]
ولا شك: أن انتزاع عضو من إنسان، يلحق به ضرراً بالغا، مدى الحياة، ويجعله فى رعب كلما أحس بأى عرض - ولو كان عابرا - يظن معه أن عضوه الباقى قد أصيب!
"رفع الضرر الأعلى، بالضرر الأدنى مشروط بأن يكون "الضرر الأدنى" لاحقا بنفس الشخص، وإلا كان ضرراً بالغير، لا يجوز!
إن فقه "الضرورة" يتطلب دقة، وأناة، وإحاطة بأصول المسائل، وفروعها واحتياطاً فى الاستنباط، لا تتهيأ جملتها للنظرة العجلى، أو التى تكتفى بالإجمال حيث يجب التفصيل، أو التى تتأثر بعواطف، لا مكان لها فى مقاطع الحق!
وحديثنا الآن فى إطار "الضرر" الذى يلحق بالأبدان [فى حال نزع أعضاء] وهناك صور ربما تشتبه وتلتبس: "رضيع" هو ابن لمطلقة، بانت من أبيه، وعجز أبوه عن استئجار مرضعة له،أو أبى الرضيع الرضاعة إلا من صدر أمه.. هنا تجبر الأم على إرضاعه، ويقدر لها أجر، يكون دَيْنا على أبيه، نظرة إلى ميسرة! هنا رفع ضررٍ أعلى عن الطفل، بضرر أدنى، يقع على الأم! صيانة للطفل عن الهلاك!
و واضح: أن "الضرر الأدنى" هنا، لا يصيب الأم فى بدن،أو نفس! وهذا فارق، يمنع قياس حالة "نزع الأعضاء" على مثل هذه الحالة!
وليكن بينا: أن شرط دفع الضرر هنا مشروط بأن يتعين شخص بعينه لدرء هذا الضرر! وليكن بينا: أن الأم المطلقة ليس عليها إرضاع طفلها من مطلقها إلا باجر.. وبقبول منها.. ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [الطلاق: 6]
خلاصة: "نزع" الأعضاء من الأحياء.. بالبيع أو بالتبرع (الهبة والوصية): حرام! والله أعلم!
بقيت لفتة: أرجوأن يجيب المبيحون لنزع الأعضاء عنها: استندتم فى القول بالإباحة: على قاعدة: "الضرر الأعلى يرفع أو يدفع بالضرر الأدنى"! حسن!
فهل يمارى أحد: أن العور [بنزع إحدى العينين] "ضرر أدنى" وأن "العمى" "ضرر أعلى" بالقياس إليه؟! فهل تمضون بالقاعدة وتفتون بجواز "التبرع" بإحدى العينين من"بصير" "لأعمى"؟ وفى العالم الاسلامى - كغيره - عشرات الملايين ممن ابتلوا بالحرمان من البصر.. "دفعا للضرر الأعلى بالضرر الأدنى" إعمالا للقاعدة على طريقتكم؟ وهل يتقدم المفتون المجيزون، والأطباء المتحمسون فيقدِّموا المثل والقدوة، فيكونوا أول المتبرعين؛ فتتسع دائرة البر "والصدقة الجارية" كما يقال! وبهذا تفتحون نافذةَ أمل أمام فئة عريضة من المجتمع ممتحنة ؟! حسب قولكم! و إلا فربنا يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2].
ولفتة أخرى: هل يتبرع "الأطباء" والمراكز الطبية، وحماسهم لتقنين "نزع الأعضاء" بالغُ المدى.. هل يتبرع هؤلاء "بأجورهم" وتكاليف إجراء عمليات "النزع" و"الزرع" ورعاية المنقول منه والمنقول إليه طوال فترة النقاهة، وطالما بقيت الحاجة الى هذه الرعاية زكاة عن علمهم وما منَّ الله به عليهم؟! وهل يطالب الأخ د/ حمدى السيد نقيب الأطباء وهو أشد المتحمسين للتقنين بأن تتولى الدولة أعباء خدمة "نزع" الأعضاء وزرعها بالكامل؟ فيكون لدينا قطاع طبي عام متخصص فى هذا الفرع من فروع الطب الذى تثقل أعباؤه الأغنياء، ويعجز عنها الفقراء؟ وبهذا تغلق كل أبواب الطمع فى المغانم، والمكاسب، ويُقضى على "السوق السوداء" و"مافيا" سرقة الاعضاء، والاتجار فيها..، فلم يعد هناك من يشترى؟ ولم يعد ثمة مكان لسمسار!
اقول هذا من باب الجدل، بُغْية كشف الحقيقة، وإماطة كل الأقنعة التى تحجبها!
و يبقى ما قررناه من تحريم نزع الأعضاء كما هو - من موتى كان أم من أحياء! ألا يشوش عليه هذا الجدل!
أمام "تقنين" نزع الأعضاء معضلتان: إحداهما تواجه الفقهاء، والأخرى تواجه الأطباء!
معضلة فقهية منشؤها: أن الشريعة تقرر: أن الإنسان لا يملك جسده، هو ملك خالص لخالقه - سبحانه! ومن هنا حرم الانتحار، وأثم، كما حرم إتلاف الإنسان لأى عضو من جسده! ومن هنا حرم بيع الإنسان شيئا من جسده كذلك! وتحريم بيع شىء من الجسم البشرى، لا يختلف فيه الفقهاء.. هو محل إجماع من الجميع!
ومعضلة " طبية " ، منشؤها: استحالة زرع عضو انتزع من جسد مات موتا حقيقيا كاملا! وهذا لا يختلف فيه الأطباء، هو محل إجماع منهم كذلك! أمام هاتين المعضلتين كان على الفقهاء: أن يبحثوا عن "مخرج" فقهى، وعلى الأطباء: أن يبحثوا عن "مخرج" طبى..
وكانت مقولة: "بيع الأعضاء حرام، والتبرع بها - هبة أو وصية - جائز "هى المخرج" الذى تمخض عنه سعي الفقهاء لإباحة "نزع الأعضاء".
وكانت مقولة "موت جذع المخ" هى المخرج، الذى تمخض عنه سعي الأطباء، للحصول على"الأعضاء" المنشودة، قبل أن تموت، فتفقد صلاحيتها للزرع!
وفشل الفقهاء فى إثبات الفرق بين"البيع" و"التبرع"!.. و من أبطل الباطل قياس التبرع بالأعضاء على التبرع بالمال! فهناك فارقٌ، أكبر فارقٍ، يبطل القياس! فالجسد منحة خالصة من الله خالقه، و ليس للإنسان ملك و لا شبهة ملك فيه!
أما المال ـ و إن كان في الحقيقة مال الله ـ فللإنسان دور في تحصيله: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ [النساء: 32]. و من هنا ينسب المال إلى حائزيه: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾[التوبة:103]. و لا كسب و لا اكتساب بشأن الجسد! و من هنا جاز التبرع بالمال و كان الحض عليه، و منع التبرع بالجسد، و حُرِّم إتلافه، أو الإذن به!
كما فشل الأطباء فى تعديل "مفهوم الموت"..! وللعلم: الخلاف حول اعتبار "موت جذع المخ" موتا حقيقيا كاملا قائم فى كل أنحاء الدنيا، والمعركة حوله محتدمة بين فئات الأطباء.. وأطباء المخ والاعصاب - عندنا فى مصر – يرفضون تحديد مفهوم الموت بموت "جذع المخ".. زادهم الله علما وهدى! وهدى المتحمسين من المفتين، والأطباء الى رؤية الحق، والتجرد من الضغوط، والمؤثرات والدوافع الذاتية والخارجية، "وكفى بالموت واعظا" كما قال إمام الهداة، رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!
كان الحسن البصري - رضى الله عنه - يقول:"ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت"!
هو يصف غفلة الناس عن "الموت"، ونسيانهم أو تناسيهم أنه لا محالة نازل بهم، حتى يظن من يرى مسلكهم هذا: أنهم يشكون فى الموت شكا، لا يشوبه شىء من اليقين! وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا"!
هذه "الغفلة" تفسر لنا هذا الركون الركين الى الدنيا، وهذا الحرص البالغ على "حياة" أي حياة.. بأي ثمن، وبأي وسيلة، دون مبالاة بكونها مشروعة أو مؤَثَّمة، وهذه الغفلة أفقدتنا ما كنا نستشعره من جلال الموت، وندركه من عبرته، وبالتالي لم نعد نعظم حرمات الموتى، بل لم نعد نتأثم من انتهاك حرماتهم!
خالق البشر - جل وعلى - يقول: (ولقد كرمنا بني آدم) إنه تكريم منوط "بالآدمية" المجردة.. دون اعتبار لجنس أو عرق، أو لون، أو لغة، أو دين، ودون التفات لطاعة او معصية!
وحديث الأطباء المتحمسين لنزع الأعضاء وزرعها، يظهرهم كما لو كانوا على يقين تام من أن عمليات "نزع وزرع" الأعضاء.. ستشفى حتما - مرضى الفشل الكلوى وما إليه.. وستعيدهم أصحاء أسوياء، وافري القوة.. وهو وقوف عند الأسباب.. وكأنها مؤثرة بذاتها.. وليست محكومة بإرادة المسبب [الله جل جلاله].. إن شاء منحها التأثير المعتاد من مثلها، وإن شاء سلبها هذا التأثير..، فالطبيب يداوي، والشافي هو الله.. (وإذا مرضت فهو يشفين) هو وحده – سبحانه! وقد تكون العملية، التى يراد بها دفع خطر الموت هى السبب المباشر للموت.. وقد قيل:
راح يبغى نجوة من هلاك فهلك
و ربما كانت منية المتمنى فى أمنيته!
والشواهد كثيرة متكررة! إنها قضية " الأجل " قبل كل شىء!
والأطباء فى غمرة الحماس، لا يصارحون " المنزوع " منهم بأنهم سيصبحون معوقين .. ناقصى القدرة ، معرضين – إذا ما اصيبت " الكلية " المتبقية مثلا لفشل أو مرض – أن يصبحوا بحاجة إلى من يرحمهم ، ويتبرع لهم ..هيهات! وقد يكون عامل الزمن جعل من المستحيل إجراء عملية " الزرع " لأمثالهم!
والأطباء فى غمرة الحماس لا يصارحون " المنزوع " من أجلهم: أنهم سيعيشون ما يقدر لهم أن يعيشوه تحت ضرورة تناول مثبطات " المناعة " لديهم ، حتى لا ترفض أجسامهم الأعضاء الغريبة ، التى أقحمت عليها! وضعف المناعة لديهم يعرضهم لما قد يكون أشد ضررا وخطرا من الفشل الكلوى!
والمفتون بإباحة " نزع " الأعضاء ، فى غمرة الحماس ، ونشوة الظن بأنهم حلوا المعضلة ، شغلوا عن رؤية أبعاد وجوانب من القضية ، ما كان لهم أن يشغلوا عنها! وبالتالى تصدر عنهم مقولات ، وأفكار جد غريبة وخطيرة!
قال قائل: أليس أخذ أعضاء " الميت " ، لينتفع بها " حى " أولى من أن تأكلها الأرض والديدان ؟!
إنها نظرة لا تفرق بين " البشر الموتى " ، و"الحيوانات النافقة "! وشتان ما بينهما!
وإذا أخذنا بنظرية المنفعة هذه، فلم لا نمنح لحوم " الموتى " للجياع ، المعرضين للموت او للفقراء ، الذين
لا يذوقون اللحم إلا من " صناديق " القمامة ؟! أليس ذلك أولى من أن تأكلها الأرض والديدان .. عملا بمنطقهم ؟! اللهم غفرا!
وقال قائل: إن " نزع " الأعضاء مشروط بإذن الميت – عن طريق الوصية – او بإذن وليه من ذوى رحمه الأقربين! ..
أما إذن الميت نفسه فلغو! لأنه لا يملك جسده ، ولا ولاية له عليه! وحكاية إذن أوليائه الأقربين تجعل
" جسده " عنصرا من عناصر تركته ، وقد ينتهى الأمر الى أن يقتسموا جسده بحسب أنصبتهم فى الميراث ..فهذا له كلية ، وهذا له رئة، وهذه لها قلبه ، وهذه لها كبده، وذاك له " قرنيته " ، وتلك لها ساقه ..وهلم جرا! وإذا تقدم طب " زرع " الأعضاء ، بحيث يعم كل أجزاء الجسد ، حتى " الجلد " – وهو احتمال وارد – فعلينا من الآن أن نجهز " مجازر آلية " متطورة .. يخرج منها الميت معبأ بكامله فى أكياس .. وفكرة " بنك الأعضاء " مطروحة ، وهى برهان على أننا لا نسبح فى خيال!
وقال قائل: إذا لم يكن للميت أولياء، أو جهلت هويته ولم يتعرف عليه – فالإذن بنزع أعضائه يكون من حق ولى الأمر!
وهذا عجيب! فإذا كان الميت نفسه لا ولاية له على جسده ، لأنه لا يملكه ، فكيف يكون لأقاربه ، أو لولى الأمر " الحاكم " ولاية عليه ؟! ولم نحمل الحاكم وزر الإذن فيما لا يملك ؟!
وقال قائل: من يحكم عليه بالموت " الإعدام " تؤخذ أعضاؤه، دون حاجة إلى وصيته أو إذن منه! وكأن من يقام عليه القصاص بالقتل حدا، أصبح كلأ مستباحا، لا حق له ولا حرمة، ولا كرامة! لقد زجر رسول الله –صلى الله عليه وسلم – خالد – رضى الله عنه – حين نبت منه كلمة فى شأن امرأة أقيم عليها حد الرجم: مه يا خالد!! لقد تابت توبة ،
لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم! طهرها الحد تطهيرا ، وبقيت حقوقها وكرامتها الإنسانية مصونة ،
لا تمس! ثم هل كل من حكم عليه " بالإعدام " كان حقا يستحق الإعدام ؟!
بالمناسبة: المتربصون ، وبأيديهم سكاكين وأدوات جنى الأعضاء ، يرون فى الذى يعدم شنقا ، " صيدا ثمينا "! لأنه يظل قلبه ينبض وأعضاؤه حية ، لعدة دقائق بعد دق عنقه بحبل الشنق ، [ وبالمناسبة القتل شنقا ليس هو الأسلوب الذى وضعته الشريعة ، وفيه من تعذيب " المشنوق " حسيا ، ومعنويا ، ما يعد زيادة على الحد ، لا تجوز!] [القتل بالسيف أسرع ، وأقل ألما ، وأبعد عن الإهانة] .. (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة..) [رواه البخاري]
***
والفقهاء والأطباء يبدون كأنهم فى مباراة ، لكسب الرأى العام .. أو لإرضاء جهات ضاغطة تستعجل تشريع تقنين " جريمة نزع الأعضاء " وهى فى حالة " النزع " ممن يطلق عليهم – باطلا وكذبا – " موتى " جذع المخ –جريمةُ قتل عمد ، حكم كل من يشارك فيها: القتل قصاصا عادلا ..: " لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به " هكذا قال عمر .. فى حادثة قتل ، اتهم فيها أكثر من واحد! وإذا درأت الشبهة الحد فلن ترفع الإثم و لن تسقط الدية!
وهم فى هذه المباراة: يلقى كل طرف منهم تبعة تأخير " تقنين " " نزع الأعضاء " على الطرف الاخر ..
و قد قلت: ترتيب المدارك يوجب أن تكون كلمة " الشريعة " أولا ، ولا تحال القضية للأطباء ، إلا بعد تبيانها تبيانا قاطعا ، لا يحتمل لبسا!
و قد قلت: أن " نزع الأعضاء " من الاحياء ومن الموتى ، حرام محظور! وأطباء" المخ والأعصاب " يرفضون تفسير الموت بموت جذع المخ ، وهم على الحق!
أقول لإخوتنا من علماء الدين: تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه حرام! والأطباء " أهل ذكر " فى حدود علمهم ، وفنهم المهنى .. وليسوا " أهل ذكر "فى قضية "الموت والحياة "! بكل يقين أقول: هم ليسوا " أهل ذكر " فى هذه القضية! وقولهم فى تفسير " الموت " بموت " جذع المخ " – وهو محل خلاف علىالمستوى العالمى – بين الأطباء ، وغيرهم .. يلزمنا بالاحتياط فى البناء على ارائهم!
والأطباء – مع كل الاحترام والتقدير – أصحاب " مصلحة " فى استصدار قانون يبيح " نزع الأعضاء "، ليمنحهم غطاء شرعيا .. إن استظل به بعضهم بأمانة وشرف فهناك من ينتظره ، ليحتمى به ، وهو يرتكب جرائمه ، التى يمارسها حتى وهى محظورة بحكم القانون!
وهنا أسال: السيد نقيب الأطباء الدكتور حمدى السيد ، وأنا اذكر اسمه تحديدا لأنه فى نظرى سيكون أول المسؤلين أمام الله ، أامام التاريخ عن الترخيص بإباحة فتح " سوق سوداء " للتجارة فى البشر ، وأعضائهم ، وإباحة انشاء مجازر ، سوف تكون ذبائحها – مهما قيل عن ضمانات ، وضوابط ، وعقوبات – هم الفقراء ، الذين لا يجدون إلا بيع أجزاء من أجسامهم ، أو من أجساد من لهم ولاية عليهم .. والسرية كفيلة بستر جريمة الاتجار والسمسرة ، والبيع! وليأخذها منى نصيحة ، وهو مازال فى سعة من أمره ، و أنا أحب له الخير و أقدره.
يقول السيد نقيب الاطباء وغيره من المتحمسين: أن الغاية من إصدار تشريع ، يبيح " نزع الأعضاء " هى القضاء على " السوق السوداء" وعلى" مافيا " عصابات الناشطين فى هذه السوق!
وأنا أسأله: أين تتم عمليات " سرقة الأعضاء " ؟ . من يقوم بنزعها وزرعها ؟ وأين تتم هذه الجرائم ؟!
أليست تتم باعترافكم بأيدى أطباء منكم ؟ وفى مراكز وعيادات طبية خانت أمانة المهنة ، بعد أن انتهكت حرمات البشر ، طمعا فى كسب مادى كبير ؟! رخيص؟!
وإذا كان هذا يجرى ، وهذه الممارسات محظورة ومجرمة بحكم القانون ، فكيف يكون الحال إذا أضفى التشريع المنتظر غطاء وحماية قانونية لجرائمها ؟!
يقولون هناك ضوابط ، وضمانات ، وعقوبات مشددة! ....وأقول: متى منعت الضوابط ، والعقوبات وقوع الجرائم ؟ خاصة إذا كانت دوافعها وعوائدها تغرى بالاحتيال عليها ، بل وتحديها ؟ وأمامنا قضية " انتشار المخدِّرات " تهريبا ، وتجارة ، وتناولا .. ألم تفشل كل القوانين وروادع العقوبات - و من بينها عقوبة الإعدام - فى القضاء عليها .. بل فى الحد من انتشارها ؟
هنا ملاحظة: مشروع القانون – كما طرحت الصحف – ولا أدرى لماذا لا ينشر نصه كاملاً علينا وعلىالملأ – اكتفى فى تحديد العقوبات على جزاءات ، لا تتجاوز " الحبس "و" الغرامة " .. وإغلاق المنشأة إغلاقا مؤقتا
أو نهائيا!..فلم لا ينص القانون – وهذا من باب الجدل – على أن من سرق " كُلية " أو شارك فى سرقتها تؤخذ منه كلية ، يعوض بها من سرقت كليته ، مع تعويض عادل عما أصابه من ضرر ، ومع تحميل المجرم كافة " تكاليف " الفك والتركيب "!
أستغفر الله! أصبحنا نفكر ونتحدث كما لو كنا فى " ورش" مع آلات ، وليس مع بشر ، كرمهم الله!
هذا و السيد الدكتور نقيب الأطباء أعلن مرارا .. عن عجز النقابة عن توقيع العقوبات المناسبة ، بهؤلاء المخالفين! رغم صدور أحكام ضدهم!
إن الثقات من الأطباء ، ذوى الاختصاص علىمستوى العالم يرفضون اعتبار " فشل جذع المخ " موتا! وأنا أقول " فشل جذع المخ " فهذه التسمية أصدق وأدق! جذع المخ عضو كسائر أعضاء الجسم ، وفشله فى أداء وظيفته مرض كسائر أمراض الأعضاء ، التى نصفها بالفشل فى أداء وظائفها .. وكل " داء " له " دواء"
إلا الموت! وإذا كنا لم نكتشف علاجا لفشل " جذع المخ " حتى الآن ، فمن يدرينا ما يخبئه الغيب ؟ قد نفاجأ غدا بكشف جديد ، يقلب كل المفاهيم! ولا يجوز أن نسقط عجزنا – كبشر – على قدرة الله ، الذى يقول للشىء كن فيكون! وما دام الأمر فى دائرة الاحتمال ، فلن نيأس من روح الله! ولو قدر وحدث – أن أفاق من فشل جذع مخه – والمصادر الطبية الموثقة تذكر وقائع كثيرة أفاق فيها المرضى – لو قدر هذا ، فهل نحيى من قتلناهم بأثر رجعى ، وهل نحن مستعدون لدفع دية القتل خطأ لكل مريض حكمنا بموته – وهو حي!
ومرة أخرى أذكر أخى الدكتور حمدى السيد – وأبلغ للتاريخ – بما دار فى مقر نقابة الأطباء ،حيث تحدثت
إلى جمع من الأطباء كانوا بصدد البحث فى مشروع قانون لنزع الأعضاء سابق – عام 1998 إن لم تخنى الذاكرة – وقلت: إنكم بهذا المشروع تقنون لعملية " قتل عمد " ، والفتاوى التى تستندون إليها – كانت بملف وزع على الحاضرين – باطلة ، لأنها لا تستند إلى كتاب أو سنة أو حتى فقه معتبر ، وأن تبادل إلقاء التبعة بين الفقهاء والأطباء ، لن يغنى شيئا ، وقلت بالحرف:يا دكتور حمدي: حيرتمونا! حين نناقش الشيوخ يحيلوننا على الأطباء ، وحين نناقش الأطباء يحيلونا على الشيوخ، وأصبحنا أمام " فزورة " الفرخة والبيضة! ولن يغني عنك شيخ الازهر ولا غيرُه من الله شيئا ، ولن تغنوا عنه من الله شيئا! وضربت مثلا ، مهدت له بهذا:
واجب الطبيب إنسانيا ومهنيا: أن يستميت فى علاج المريض ، لا يدخر جهدا ولا يترك وسيلة ، ولا ييأس ، حتى ينتزع الأجل مريضَه من بين يديه بالموت! إنتزاعاً!
أما المثل فهو:
ملك ، أو امير ، أو رئيس ، أو ثرى من أثرياء النفط ..نزل بأحد المشافى ، التى تليق بمثله – وقال" سكرتيره"
لهيئة الإدارة: أن ملكه أو أميره .. "نذر"نذرا قدره مئة مليون " ريال " أو " دولار " أو " جنية " إن شفاه الله على أيدى القائمين بالطب فى هذا المشفى! نصفها للأطباء ، الذين سيقومون بنزع الأعضاء المطلوبة ثم زرعها ، وربعها للجهاز الإدارى بالمشفى ، وربعها الباقى لمساعدة مرضى القسم المجانى من الفقراء ...
هذا المبلغ " نذر" يا دكتور حمدى ، وليس " رشوة "! وكررت هذه العبارة تهكما! ثم طرحت السؤال:
حين تسوق الأقدار فى قسم الاستقبال ، مصابا فى حادث ، تنطبق على أعضائه كل المواصفات والشروط المطلوبة ، ويجد مسعفه نفسه فى صراع – وهو بشر – بين واجبه فى إسعافه ، وبين نصيبه فى " النذر "
( مرة اخرى النذر لا الرشوة ) وليكن خمسة ملايين( د /ر / ج) أيظن احد ان دافع هذا الطبيب لإسعاف هذا المصاب لن يتأثر – ولو باللا شعور – وشبح الملايين الخمسة يتراءى لعينيه ، ويغريه ؟! وللآن أنا لم أدخل فى الاعتبار ما هو شائع فى مستشفياتنا من إهمال ، وتقصير ، ولا أقول من تجاوزات ، وخطايا! وأخبار سرقة الأعضاء فيها يتحدث عنها كل الناس!
قلت هذا لأخى نقيب الأطباء .. وكلاما كثيرا غيره .. وكان أن قام شيخ كبير من الأطباء الحاضرين ، وقف ليقول في حزم ، وحسم: نحن أصحاب الشأن فى هذه القضية [ كان رئيس أطباء المخ والأعصاب بمصر وظننت انه يرد علي فقد كنت عالم الدين الوحيد ، وحضرت الندوة خطا ، لأننى أبلغت أن الدعوة عامة ]! ولكنى فوجئت به يعلن رأيه ممثلاً لجمعيته ، ويقول: أنه يتفق معي فى رفض اعتبار "موت جذع المخ" موتاً وبالتالى هو يرفض مشروع القانون المطروح .. وانسحبت من الجلسة معتذرا عن حضورى خطأ!
ودعانى الدكتور " بدر الدين أبو غازى " نائب رئيس نادى هيئة تدريس جامعة القاهرة إلى حضور حلقة نقاشية نظمها النادى ، لأشارك ببيان الحكم الشرعى فى القضية ، ولبيت ، وحضرها نحو ثلاثين من كبار الأطباء المختصين ، وبعد حوار مستفيض كان القرار بإجماع الحاضرين: رفض المشروع ، وقد قرأت بعد ذلك بحثا إضافياً عميقا ومؤصلا للدكتور رءوف سلام زادنى قناعة بصحة رؤيتى للقضية من الوجهة الشرعية ، وقد فند تفنيداً علمياً رائعا مقولة أن "موت جذع المخ موت حقيقى" كما أبان عن الخلاف العميق حول الضوابط والاختبارات ، التى يلجا إليها قبل الحكم " بموت جذع المخ " وكيف تختلف من بلد الى آخر .. بل من ولاية امريكية إلى ولاية أخرى .. وانتهى بحثه برفض قاطع للفكرة! وليس لدينا من وسائلهم، وأجهزتهم لعمل هذه الإختبارات والقياسات شيء يصلح للمقارنة!
أسوق هذا ، لأن من حق أمثال هؤلاء الثقات أن تسجل مواقفهم ، وليعلم الناس: أن أمتنا بخير ، ففيها أطباء ثقات أمناء يخشون الله ، وفيها علماء ثقات متجردون ، لا يخشون فى كلمة الحق لومة لائم إن شاء الله!
بقيت أمور ، بيانها واجب ، نصيحة للجميع ، وتواصيا بالحق:
أولا: أن الآجال والأعمار مقدرة محددة ، لا تزيد ولا تنقص ، ولا تتقدم ولا تتأخر! ( إذا جاء أجلهم
فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ..
و"الأجل " هو الموعد ، الذى ينزل فيه الموت بالإنسان .. وبكل كائن حى! وهو مغيب عنا .. يأتى بغتة .. كقيام الساعة! ( وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت ) الأجل ، قضية مبرمة ،
لا تتأثر بالأسباب ، هى فوق الأسباب ، و" الموت " سببه الحق: مجىء " الأجل" ، المقدر سلفا فى علم الله ، المقضى به سلفا فى قدر الله! ( حتى إذا جاء أحدكم الموت [ جاء أجله ] توفته رسلنا وهم لا يفرطون )!
( وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله ) ولو تعرضت لكل اسباب الموت المعتادة ، التى يربط الناس بينها وبين "الموت " ، يظنون – جهلا – أنه يكون نتيجة لها ، وأنها لو لم تكن لما مات من مات بسببها فى اعتقادهم!
كان الجاهليون من المشركين والمنافقين ، يثبطون المؤمنين عن الجهاد ، ويخوفونهم من القتل لو خرجوا إلى ساحته ، فإذا قدر لهؤلاء المجاهدين أن يستشهدوا ، قال هؤلاء القاعدون المثبطون ﴿ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ [ آل عمران: 168 ] لو عملوا بنصيحتنا ، وقعدوا عن الجهاد ، ولم يعرضوا أنفسهم لسيوف الأعداء ..
ما قتلوا! ..جعلوا خروجهم للجهاد سبب موتهم! ورد الله – تعالى – عليهم:﴿ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أى: فى ربط الموت بالأسباب وحدها.. وهو وَهْم ..﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء:78] .. "الموت " رهين بشىء واحد: " الأجل "!
ربط الموت بغير " الأجل " باطل! وهنا لا يجوز أن نقول:" لو نزعت كُلية وزرعت فى جسد هذا" لما مات!
.. " لولا زرع الكُلية لمات لتوه "! وأبطل منها: أن يقال: " أنقذته العملية من موت محقق "! " منحناه حياة أخرى بزرع الكلية أو الكبد .. أو .."! " أطلنا عمره أو حياته حين أجرينا له كذا أو كذا "! كل ذلك جهل بحقيقة الموت ، وبسببه الحتمى ، وهو حلول الأجل! وقديماً قال الشاعر الحكيم:
و دعوت ربي بالسلامة جاهداً
ليُصِّحني فإذا السلامة داء!
و زهير يقول: من لم يمت عبطة يمت هَرَما!
وقد نهانا ربنا وحذرنا من الإنزلاق إلى هذه الجهالة ، التى تفسد رؤيتنا للحقيقة ، والتى لا تُعْقِب من يركنون إليها إلا الحسرة! يقول ربنا محذرا ، ومتوعدا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ[ للتجارة و طلب الرزق ]أَوْ كَانُوا غُزًّى [ غزاة مجاهدين ] لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [ آل عمران: 156 ].
الكفار: جعلوا " السفر " و " الجهاد " السبب فى " موت " إخوانهم أو " قتلهم "! وأنهم لو ظلوا " عندهم " مقيمين ، بعيدين عن هذه الأسباب .. لما ماتوا ، ولما قتلوا! وإذا فالإقامة ، فى مكان ، آمن .. خال من أسباب الموت المعتادة ، تحول دون الموت والقتل ، على نحو قاطع! فى زعمهم!
وكان الرد على هذا الجهل المطبق ، وهذا المنطق المتهافت: ( والله يحيى ويميت )!.. هذا هو السبب ، والتفسير الحقيقى لموت من يموت ، وحياة من يحيى! وهو لا يموت إلا إذا استوفى أجله ، ولا يبقى حيا لحظة واحدة ، إذا حان هذا الأجل! والأجل بيد الله وحده! وبقدره ، الذى لا يتغير ، وهو فوق الأسباب ، يحكمها ،
ولا تؤثر هي فيه! ..
فى حوار بين الإمام على وابن عباس – رضى الله عنه – قال علي:"أما علمت أن الأجل يحرس صاحبه"! وهي كلمة استقاها من مشكاة النبوة، يقول – صلى الله عليه وسلم - " إن مع كل إنسان ملكين يحفظانه ؛ فإذا جاء الأجل خليا بينهما وبينه "! و القرآن العظيم يقول: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [ الأنعام: 61]
ما أسمعه ، وأقرؤه فى حملات التحريض على " التبرع " – الباطل – بالأعضاء يتضمن كثيرا من اللغو ، الذى يقترب كثيرا من منطق الكفار والمنافقين المتهافت ، ولا يستضىء بنور الحقيقة التى نعلمها ، ونستيقنها من كلام الخالق – سبحانه!
من اللغو الباطل أن يقال: " لو زرعت كلية " او كبد لهذا المريض لما مات "! ............. " لولا زراعة الكلية أو الكبد له لما بقى حيا "!
ثم ألا يحدث فى وقائع كثيرة: أن تكون العملية ، التى أجريت هى السبب الظاهر المباشر للموت ؟!
هل يعنى هذا: أن نلغى الأخذ كلية بالأسباب ؟ .. بالقطع لا! فربنا يقول: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15] ورسولنا – صلى الله عليه وسلم – يقول: " يا عباد الله تداووا ، فإن الله لم يخلق داء إلا خلق له دواء إلا الموت "! نحن متعَبِّدون شريعة بالأخذ بالأسباب ، ونحن ملزمون عقيدة بأن نتجاوزها إلى المسبب – سبحانه – فهو الفاعل دونها ، يمنحها الفاعلية والتأثير إن أراد ، ويسلبها ذلك إذا شاء! ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن " ولو توفرت كل الأسباب ، أو تجمعت كل الموانع! ألم يقل للنار: ( كونى بردا وسلاما على إبراهيم ) فكانت كما أمر؟! سلبها مسبب الأسباب خاصيتها فى الإحراق ، فلم تمس من جسد إبراهيم – صلى الله عليه وسلم – شعرة ، ولا من ثيابه خيطا! سبحان الله! " لا تقل لو أنى فعلت كذا لكان كذا وكذا ..! ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل ، فان " لو " تفتح عمل الشيطان .." وعمل الشيطان هنا ما يوسوس به ، من قبيل مقولات الكفار والمنافقين ، التى عابها القرآن العظيم ، وردها عليهم!
" قدر الله وما شاء فعل "! تسليم بقدر الله! ينير العقل ، ويريح الضمير ، ويملأ نفس المؤمن سكينة، ورضا ، ويمده بطاقة من رَوْح الله ، تهون عليه ما يمتحن به من بلاء! أما غير المؤمن فلا يجنى من منطقه المتهافت إلا الحسرة والاسى!
لن تطيل الصحة والسلامة عمرا ، ولن يقصر المرض أو الحوادث عمرا! فلا ينبغى ان نغتر ، ونطيل الأمل
فى الأُولى ، ولا ينبغى أن نهلع أو نيأس فى الثانية! .. ورحم الله أبا العلاء ، قد كان على بصيرة:
والناس يلحون ( يلومون ) الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة الأقدار!
ورحم الله" شوقى " ، فقد كان نافذ الرؤية:
فى الموت ما أعيى وفى أسبابه
كل امرىءٍ رهن بطي كتابه!
إن غاب عنك فكل طب نافع
أو لم يغب فالطب من أسبابه
على مرضانا – عافاهم الله وشفاهم – ألا يهلعوا ، ولا يجزعوا ، ولا ييأسوا! عليهم أن يسلموا تسليما بأن "الأجل" حدد لكل إنسان من قبل أن يوجد ويخلق! وأن يلتزموا فى السعى من أجل الشفاء بما يجعلهم أهلا لعون الله ، قريبين من رحمته ، وأن يستيقنوا: أن الصبر على البلاء ، والرضا بالقضاء أعظم مكفرات الخطايا والآثام! و ليجعلوا من دعوة يوسف الصديق – صلى الله عليه وسلم – حين أتم الله عليه نعمة الدين و الدنيا - ( توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين ) سبحة لهم..
ثانيا: على العلماء والمفتين: أن يعينوا هؤلاء المرضى على الثبات ، وأن يبصروهم بما هو واجب المؤمن من تحمل البلاء ، وعدم إلقاء بلواه على الآخرين ، وألا يستعين بسلاح العواطف ، التى تُنْشِئُها الرحم ، بين الأقارب، أو بسلاح الأخلاق ، كما يحدث بالضغط على " المرأة" لتقدم عضواً من جسدها لزوجها باسم "الوفاء"!
وعلى العلماء تزويد المرضى – والناس عامة – بثقافة الموت ، الصحيحة ، وأنه ليس صيرورةً إلى العدم ، وإنما هو نُقلة من حياة فانية قصيرة إلى حياة باقية ممتدة ، وأنه بالنسبة للمؤمن: خروج من سجن الدنيا ، وراحة من كَدْح ، ومكابدة ، لا ينتهيان إلا بالموت! وأن الدنيا دار مَمَر ، لا دارُ مَقَر ، وأن كل من بها ضيف ، وكل ما بيده عارية ، والضيف مرتحل ، والعارية مؤداة. وليضربوا لهم مثلا من حياة الأنبياءِ والمرسلين ، وكيف كان نصيبهم من البلاء النصيبَ الأوفى! .. ثم عليهم ألا ينساقوا إلى مجاراة دعوات ، وتيارات ،
لا تستضىء بنور الدين ، ولا تلتزم بأخلاق العلم! ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [ المائدة: 105 ]
ثالثا: على الأطباء: ألا يتجاوزوا حدود علمهم ، فلا يخوضوا فى قضايا ، الكلمة فيها ليست للطب ، ولا للعلم ، وإنما هى فوق الطب والعلم ، لأن لها ابعادا غيبية ، ليس للطب ، ولا للعلم فيها وِرْدٌ ، ولا صَدَر!
أجل! فى " الموت " جانب غيبى متصل به ، لا نعلم من أمره شيئا! إنه " الروح "!" الروح " هى سر الحياة ..، تدور معها وجودا ، وعدما! والموت – فى حقيقته المستيقنة – إنما يحدث بمفارقة " الروح " للجسد ، مفارقة تامة! فهل يزعم عالم دين ، أو عالم طب ، أو علماء الدنيا جميعا أنهم يعلمون ما هى " الروح " ؟ وهل لديهم وسائل أو أجهزة ، أو قياسات أو اختبارات .. تبين لهم: كيف تعمل " الروح " ، وكيف تدير نفس الإنسان ؟ومتى تخرج ، وتفارق الجسد ، فيموت ؟ ..كل ذلك من عالم الغيب ..الذى استأثر الله بعلمه ..﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الاسراء: 85]
وعلم الظواهر هنا قشور ، لا تغنى شيئا . ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [لروم:6 – 7].
الموت يكون بخروج الروح، و علامة خروج الروح .. حدوث الموت الحقيقى ، حيث لا وجود ، ولا شبهة وجود لشىء من مظاهر الحياة .. على الإطلاق، يصحبه شخوص البصر.. فالحياة و الموت ضدان لا يجتمعان.
وفى الحديث: " دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أبى سلمة ، وقد شق بصره ، فأغمضه ، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر " [ رواه مسلم ].
" الروح" يقبض ، فمن يقبضه ؟ ملك الموت! ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [السجدة:11] ملك الموت هو الذى يقبض " الروح" ، فهل يتصور أطباؤنا المشهد ؟! وهل جلاه لهم المفتون والعلماء ، حتى يقفوا على جلاله ، وهيبته ، وما ينبغى إزاءه من الإعتبار والاتعاظ ، والتواضع ، والوقوف عند حدود علم ، لا يملك حولا ولا قوة أمام مشهد غيبى بجملته وتفاصيله ؟! مشهد الاحتضار ، مشهد اللحظات الفارقة بين الدنيا والاخرة ، مشهد وقوف الإنسان على " عتبة " الباب الرابط بين الحياة والموت!.. مشهد يقول عنه علام الغيوب – جل وعلا -: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَة ُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ الأنعام: 93 ]..." أخرجوا أنفسكم "! خطاب مهين مزلزل ، ومعه هذا الوعيد: " اليوم تجزون عذاب الهون "!
هذا عن المحتضر الكافر الظالم لنفسه..
أما المؤمنون فى مشهد الاحتضار ، فأمرهم مختلف!