الإخلاص في طلب العلم





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد: فإن الوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله - عز وجل - أن يتعلم النية أولاً فيصححها، فإنه لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة، والعالمون العاملون كلهم هلكى إلا المخلصون.
وكيف يخلص من لا يعرف حقيقة الإخلاص؟
حقيقة الإخلاص هي: تصفية السرِّ والقول والعمل، وألا تطلب شاهداً لعملك إلا الله -جلا جلاله-، وهي أيضا ترك الرياء، فعن الفضيل بن عياض – رحمه الله تعالى – في تفسير قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (هود:7)، قال: هُوَ أَخْلُصُ الْعَمَلِ وَأَصْوَبُهُ، فَسُئِلَ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا فَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. (حلية الأولياء).
وقال ابن كثير – رحمه الله تعالى – في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف:110)، وهذان ركنا العمل المتقبل. لا بد أن يكون خالصًا لله، صواباً على شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (تفسير القرآن العظيم).
من وجد الله فماذا فقد؟!! ومن فقد الله فماذا وجد؟!!
اعلم أخي طالب العلم – وفقك الله -: أن حقيقة الإخلاص هي التبرّي عن كل ما دون الله تعالى، وهو تجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، فمن تعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال، أو ليكون عزيزاً بين العشيرة، أو ليكون ماله محروسا بعز العلم عن الأطماع؛ فهو غير مخلص، وقد قال مالك بن دينار: «قولوا لمن لم يكن صادقاً: لا تتعنَّ». (صفة الصفوة).
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي رِيحَهَا. (أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما) وصححه الألباني.
وكل عمل دخل فيه حظ من حظوظ الدنيا – قل أم كثُر – تكدَّر به صفوه، وزال به إخلاصه، وفي الحديث القدسي يقول ربُّ العزة سبحانه: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم.
طلب الإخلاص، والحث عليه:
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عيينة: كَانَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا مَضَى يَكْتُبُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: «مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ». (مجموع الفتاوى).
وقال يوسفُ بنُ الحسينِ الرازيُّ: «أعزّ شيءٍ في الدُّنيا الإخلاصُ، وكم أجتهد في إسقاطِ الرِّياءِ عَنْ قلبي، وكأنَّه ينبُتُ فيه على لون آخر». (مختصر تاريخ دمشق).
وكان هشام الدستوائي يقول: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوما قط أطلب الحديث أريد به وجه الله - عز وجل - قال الذهبي – رحمه الله تعالى-: والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يُقتدى بهم. (سير أعلام النبلاء).
وقد صح عن الشافعي - رحمه الله تعالى - أنه قال: وددتُ أن الخلق تعلموا مني هذا العلمَ على أن لا يُنسب إليَّ حرف منه، وقال: ما ناظرتُ أحداً قط على الغلبة، ووددتُ إذا ناظرتُ أحداً أن يظهرَ الحقُ على يديه، وقال: ما كلمت أحداً قط إلا وددت أن يوفق، ويسدد، ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ. (آداب العلماء والمتعلمين).
فأين طلاب العلم هذه الأيام من أخلاق هذا الإمام -رحمه الله تعالى-؟ وقد قيل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
ويُروى أن أبا الحسن الماوردي لم يُظهر شيئاً من تصانيفه في حياته وجمعها في موضع، فلما دنت وفاته قال لمن يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أظهرها لأني لم أجد نيّةً خالصةً، فإذا عاينتُ الموتَ ووقعتُ في النَّزعِ، فاجعل يدك في يدي، فإن قبضتُ عليها وعصرتُها، فاعلم أنه لم يُقبل مني شيء منها، فاعمد إلى الكتب وألقها في دجلة، وإن بسطتُ يدي ولم أقبض على يدك، فاعلم أنها قُبِلَت، وأني قد ظَفَرتُ بما كنتُ أرجوه من الله.
قال ذلك الشّخص: فلّما قارب الموت، وضعت يدي في يده، فبسطها ولم يقبض على يدي، فعلمت أنها علامة القبول، فأظهرت كتبه بعده. (تاريخ الإسلام للذهبي).
وقيل لحمدون القصَّار: «ما بالُ كلام السَّلف أنفعُ من كلامنا؟»، قال: «لأنهم تكلموا لعِزِّ الإسلام، ونجاةِ النفوس، ورضا الرحمنِ؛ ونحن نتكلمُ لِعِزِّ النَّفْس، وطلب الدنيا، وقُبولِ الخلق». (شعب الإيمان للبيهقي/ حلية الأولياء للأصفهاني).
من فوائد الإخلاص:
1) الإخلاص هو الأساس في قبول الأعمال والأقوال، وفي الحديث المشهور: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» الحديث (رواه البخاري).
2) يبعد الإنسان عن الوساوس والأوهام، قال ابن مفلح: «فَلَوْ فَتَحَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ بَابَ مُلَاحَظَةِ النَّاسِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْ تَطَرُّقِ ظُنُونِهِمْ الْبَاطِلَةِ لَانْسَدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ » (الآداب الشرعية).
3) سَبَبٌ لِدَفْعِ السُّوءِ، قال تعالى في حق يوسف - عز وجل -: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } (يوسف:24).
4) يحرِّر العبد من عبودية غير الله - عز وجل -، ويقَوِّي إيمان العبد ويُكَرِّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويحصل به كمال الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة.
أخي طالب العلم.. احذر أن تكون مرائياً في عملك، حسّن نيتك، واطلب الإخلاص في كل حركة وسكنة، تذكّر قول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } (البينة:5)، فبادر بتصحيح النية، واعزم على خلاصها من أسر الشهوة، رزقنا الله وإياك البرّ والتقوى والعمل بما يحب ويرضى، وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



اعداد: وليد دويدار