وعلى ضوء ما تقدم أقول للأخ ابن شهاب وغيره :
أولا :
لا تحسب أن باحثا عليه أن يجمع كل ما ورد في مادة موضوع ما ، ينتظر من قاريء عادي ، أو أخ متدين على علم بشيء من علوم الشرع ، أن يقول له [ أنصحك بقراءة كتاب كذا وكذا ]..
فإن لم يكن الباحث على علم بما كتب حول مادته من قريب أو من بعيد فهو ليس على طريق الجادة في التحقيق العلمي ،،
نعم إذا أفرغ وسعه ثم نسي أشياء أو غاب عنه ما لم يطلع عليه ، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها .. وهو مأجور إن شاء الله تعالى .
ثانيا : أضرب لك مثالا بما أبديته في نصيحتك لي ولغيري بقراءة كتاب " الأحاديث المشكلة " ..
أقول : أن الدكتور أحمد بن عبد العزيز القصير ، قد أفرغ وسعه في مناقشة الموضوع ونقل وجهات النظر ، وجزاه الله خيرا ..
لكن نتيجة بحثه ليست بملزمة جبرا لكل من يقرأ تحقيقه ، وهو كتاب جيد جدا في كثير من المسائل التي ناقشها ، لكن إلزامك لنا بنتيجة بحثه هذا غير ملزمة .. لا سيما والمسألة فيها خلاف منذ زمن بعيد إلى عصرنا الحاضر .
ثالثا : إذا كان رفض القصة وبطلانها بناءاً على الوجهة الحديثية وأصول صناعة الحديث رواية ودراية ..
فلن أناقشك في الاسانيد التي جاءت بها القصة فذلك يطول ، ولكن إن كنت على علم بمن صححها من العلماء أو قبلها في الجملة ، وأن لهم باعاً كبيرا في التصحيح والتضعيف - وهم أكثر عددا ممن ضعف القصة وأبطلها – فليس من الحكمة أن تجبر غيرك بقبول رأي من قال بوضعها أو أبطلها عقلا ونقلا ..
فليس هؤلاء أجدى بقبول العلم منهم ، وترك هؤلاء ، لا سيما ترك كفة فيها من العلماء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ البغوي والحافظ الضياء المقدسي والحافظ ابن حجر والسيوطي والدمياطي وابن حجر الهيتمي وابن بطال وابن قتيبة الدينوري وتاج الدين ابن السبكي إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب النجدي وحفيده المحدث الشيخ سلمان ، والمفسر العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، رحم الله الجميع ، ثم في عصرنا الشيخ صالح آل الشيخ والشيخ أسامة بن عطايا العتيبي ، إلى كثير ممن تعلمهم ومن لا تعلمهم.
رابعا : إذا كان رد القصة والقول ببطلانها بناءاً على أنها تناقض العصمة وتهدم الدين ..
فقد فصلت القول أعلاه في موضوع العصمة بما لا مزيد عليه ..
ولنُذَّكِّرْ بالرواة لها من التابعين مثل :
أبو العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وغيرهم ممن ذكرنا رواياتهم ..
وكذلك من رواها عنهم من الأئمة الكبار أمثال الحافظ عبد الرزاق الصنعاني والحافظ ابن جرير الطبري والحافظ ابن أبي حاتم الرازي والحافظ أحمد بن موسى بن مردويه والحافظ عبد بن حميد والحافظ ابن المنذر والحافظ الطبراني والحافظ أبو القاسم هبة الله بن سلامة ، والحافظ الواحدي النيسابوري والحافظ عز الدين بن الأثير الجزري ، والحافظ الضياء المقدسي ....
هؤلاء الحفاظ كلهم وقبلهم الأئمة موسى بن عقبة ومحمد ابن اسحاق وأبو معشر ومحمد بن عمر الواقدي ومحمد بن سعد وابن سيد الناس .... وغيرهم ممن ذكرنا في البحث .
كل هؤلاء رروا هذه القصة ساكتين عليها مقرين بها ، وذكروها مفسرين بها الآية من سورة الحج أو الحدث في السيرة النبوية ..
فإن كانت هذه القصة باطلة لأنها تخالف العصمة النبوية وتنقضها وبها فساد الدين !! كما زعمتم ..
فليس أمامنا مخرج لهؤلاء الأجلة ، إلا أمرين لا ثالث لهما :
- إما أنهم يعلمون الفساد من رواية هذه القصة ، ومع ذلك رووها بلاهة وجهلا !! وحاشاهم .
- أو أنهم لم يروا في القصة تلك الشنشنة التي نعرفها من أخزم ، والتي اخترعها أهل الكلام من الأشاعرة ومن على طريقتهم أو من انخدع برأيهم ظانا أنهم على صواب وأن جمهور السلف على خطأ عقائدي خطير كهذا ..
ولا يقال هنا : من أسند فقد أحال وبرءت ذمته ، فهذا شيء خطير كما زعم المخالف والسكوت عليه قد يجر إلى ما لا يحمد .. والبيان هنا ولو بالإشارة أن هذه الروايات تناقض العصمة لابد منه إذا كانوا رأوا فيه ما رآه أهل الكلام .
بل أريد أن يبين لنا المخالف :
من أول من قال بوضع القصة وبطلانها وفي أي قرن قيل ذلك ؟
ولكن لا يقول القائل : ابن خزيمة ، والبيهقي ؟؟؟
فأولا لم يثبت النقل عنهما ، إلا ما حكاه الرازي وتناقله عنه كثير ممن رد القصة .. وإلا فعندي أن المذكور عن البيهقي خلافه .
والظن بالحافظ ابن خزيمة أنه يقدر روايات السلف ويجلها ولا يعمل فيها عقله كأهل الكلام ..
وقد قلت في البحث ( ص 77 ):
(4) بيان ما نقل عن الإمامين : ابن خزيمة والبيهقي رحمهما الله .
فقد نقل الفخر الرازي في تفسيره (23/44) : قول الإمام الحافظ ابن خزيمة: هذه القصة من وضع الزنادقة .اهـ
ونقل أيضا في تفسيره (23/44) عن الإمام البيهقي قوله : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.اهـ
وتتابع النقل عن هذين الإمامين جمع من المفسرين والشراح ممن نقض قصة الغرانيق ، حتى إن بعضهم غلط فنسب القول لابن إسحاق صاحب السيرة وليس للإمام اسحاق ابن خزيمة .. ومن قائل : وقد ألف في ردها رسالة !! ولا ندري أين هذا الكلام وأين هذه الرسالة .
أما عن النقل عن البيهقي : فالموجود من كلامه حول هذا الموضوع في كتبه حسب ما اطلعنا عليه يضاد ما نقله الفخر الرازي ، إذ إنه بين راوٍ للقصة من جهة ، وبين حكايته أن القصة مشهورة عن أهل العلم بالسير ..
قال في دلائل النبوة (2/175) :
وقد روينا قصة إلقاء الشيطان في أمنيته عن محمد بن إسحاق بن يسار . وروى محمد بن إسحاق بن يسار قصة عثمان بن مظعون ، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف سماعا منه عمن حدثه ، وذلك فيما أخبرناه أبو عبد الله الحافظ ، أن أبا العباس الأصم حدثهم قال : حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق فذكر القصتين ، بمعنى موسى بن عقبة ، وأما قصة الهجرة فهي مروية في أحاديث موصولة. اهـ
وقال في كتابه معرفة السنن والآثار (14/421) :
والمشهور عند أهل العلم بالمغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ بالنجم ، وألقى الشيطان في أمنيته ما ألقى ، وسمعه المشركون سجدوا لسجوده تعظيما لآلهتهم ، وفشت تلك الكلمة حتى بلغت أرض الحبشة ، وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا نسخ الله تعالى ما ألقى الشيطان وبرأه من سجعه انقلب المشركون بضلالهم ، فعلى هذا الوجه كان سجودهم ، والله أعلم . اهـ
وأما المنقول عن الإمام ابن خزيمة :
فهو الإمام السلفي الأثري صاحب الصحيح يروي بالآثار ويتتبعها بالسند ويعلم قيمة ما يرويه السلف ، ولا أظنه يرد ما نقل عن جمع من التابعين ، وقد اشتهر عن السلف روايتهم للقصة وتفسيرهم للآية في سورة الحج بها .
وأيا كان فصحة النقل عنهما أو عدم صحتها ليس بكبير أمر ، إذ ردها أئمة جلة وقبلها آخرون من أمثالهم فلا ضير ، غير أننا نحب أن نضع النقاط على الحروف وألا يذكر عن إمام ما ليس في كلامه ، نصرة لرأي أو لإبطاله .
انتهى
والله أعلى واعلم .