أحسن الله إليك.. أنا مستمتع والله بهذه المدارسة.. (ابتسامة)
متعني الله وإياك بخير الزاد.
وقد أثريتَ الكلام بفوائد طيبة في مشاركتك الأخيرة، فجزاك الله خيرا.
على أنَّ هذا لا يتم إلا بالتسليم بتقسيم الفقر إلى نوعين أو حالين: من حيث تعلُّقه بالربيوبية، ومن حيث تعلُّقه بالألوهية. أو: من حيث الحاجة إلى الإيجاد والإمداد، ومن حيث الحاجة إلى التعبُّد للسعادة في دار الابتلاء وفي المعاد.
وهذا التقسيم فيه نظر.
التفريق الذي أقصده هو تفريق بين الحال الكونية، حال الفقر الكوني الذاتي في كل المخلوقات للخالق جل وعلا من جهة، (وهو كائن في الدارين جميعا) والافتقار التعبدي التكليفي الذي هو إقرار العبد بهذا الفقر وبناء القول والعمل عليه ظاهرا وباطنا من جهة أخرى (وهو خاص بهذه الدار دون الأخرى). فهو إقرار بالفقر الكوني، يزيد عليه افتقار العبد إلى رضا الله وتلمس الطريق إليه بالتأله وحسن التعبد والإنابة، وليس فقط الاقرار بالافتقار إلى رزقه وعطائه وكلئه ورحمته العامة التي تكون للمؤمن والكافر على السواء! ولهذا فقولهم أن الافتقار منازل لا إشكال فيه في نظري، إذ هي بعينها منازل العبودية والقرب من الله على أي تقسيم قسمتها، والتي أعلاها منزلة الإحسان، جعلني الله وإياك من المحسنين.
فعلى هذا المعنى وهذا التفريق، لا أتصور أنك تخالفني، ولا أتصور أن يكون هذا التفريق فيه نظر عندك، بارك الله فيك.
وعلى ضوء الآية، فإنَّ المعنى الأوَّل هو المراد بالفقر، أي: أي الفقر المطلَق، الملازم، الدائم.
أحسن الله إليك. إن سلمنا بهذا التوجيه للآية فلا يلزم منه إضعاف التفريق نفسه كما هو ظاهر.
ولو اعتبرنا لفظ الفقر في الآية يشمل المعنيين، لما صحَّ ذلك؛ لأن المخاطَب عموم الناس، وذلك يشمل المؤمن والكافر. إذ لو نزّلناه على المعنى الثاني، لانتفت صفة الفقر عن الكافر؛ لأنّه بحكم كفره أبى الانقياد للتكليف.
بارك الله فيكم، نعم الآية متوجهة لخطاب البشر كافة مؤمنهم وكافرهم سواء، هنا في دار الابتلاء، دار الخطاب بالقرءان.. واللفظ هنا كما تفضلتَ لا يشمل المعنيين، إذ لا يتصور أن يقول الله للناس بما فيهم الكفار: "أنتم المتقربون إلى الله بعبادة الافتقار والله هو الغني الحميد"!! ليس كذلك. ولكنه يقرر لهم معنى الافتقار الأول الذي هو لازم فيهم، أقروا به أو لم يقروا، فيُلزم السامعين بالمعنى الثاني تأسيسا.. فأنت إن علمت أنك في هذه الدار متعرض لإهلاك وإفناء وحرمان، يعقبه الخلود في العذاب والخذلان، فأدركت شدة افتقارك إلى ربك الكريم المنان، فسيثمر ذلك في قلبك ثمرة الافتقار التعبدي، ألا وهي كمال التعبد والتزلف والإحسان.. فيكون الخوف والطمع الواجب التحقق بهما في هذه الدنيا على النحو المطلوب: هو الثمرة المرجوة من خطاب الترهيب في الآية.
فالآية تبين للناس – كافة - أنهم في هذه الحياة الدنيا لا ينفكون عن حال الافتقار لربهم، وأنه لو شاء سبحانه أن يذهبهم جميعا عنها لأذهبهم وما عزّ عليه ذلك. فهو تقرير للمعنى الأول، بغية إلزام البشر جميعا بضرورة أن يخضعوا للمعنى الثاني، المعنى التعبدي الدنيوي.. فأما من فاز منهم وتحقق له دخول الجنة، فقد انفك عنه هذا الخطاب كما هو واضح.. إذ قد انتقل إلى دار الجزاء التي علم أنه فيها خالد مخلد منعم أبدا بفضل من ربه ورضوان.. فلم يعد حالئذ مخاطبا بالتخويف الذي في قوله تعالى ((إن يشأ يذهبكم))! ولو تأملتَ لِحاق الآية حتى قوله تعالى: ((وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)) [فاطر : 18] لتبين لك أن الافتقار المراد من الآية ليس فقط إقرار الناس بالافتقار الخَلقي التكويني الذي تتصف به الخلائق كافة، وإنما المراد حملهم على الإقرار بالافتقار إلى رضا الله جل وعلا كذلك، الذي ينفع العباد يوم لا يغني أحدهم عن الآخر شيئا، ولا يحمل أحدهم عن الآخر حملا، وهذا هو المعنى التعبدي الذي لا يتكلفه أهل التنعيم في الجنة، وإنما هم مكلفون به في الدنيا.
وفرقٌ بين الفقر، والتحقُّق بالفقر. الأول اضطراري، والثاني كسبي بتوفيق من الله.
أحسن الله إليك وبارك فيك. ما أحكم هذه العبارة! هذا أيها الحبيب هو خلاصة الخلاصة، وحري به أن تفرغ له مشاركة مستقلة.. فأنا وأنت نتفق على هذا المعنى ولله الحمد، وهو غاية ما أريد الإفصاح عنه.. ويكفي أن نضيف لعبارتك في هذا الثاني كلمة "تكليفي"، أو "اختياري" بحسب عبارة ابن القيم التي تفضلت بها في ذلك النقل القيم عنه، إذ هو ما قررتُ فيما أسلفت أنه خاص بدار التكليف من حيث هو تكليف وعبادة، فلا تعلق له بأهل الجنة!
والصوفية إنّما ذهبوا إلى هذا التقسيم مراعاةً لمصطلح الفقر عندهم، وهل هو من مقامات السير إلى الله؟ أم لقبٌ ينطبق على كل مَن سلَك الطريق؟ ومصطلح الفقر بهذا المعنى إنَّما هو مصطلح متأخِّر عن مصطلح التصوُّف، وقد استقر به "عُرفٌ حادِث"، حتّى تنازَع الناس أيّهما أفضل: مسمَّى الصوفي، أو مسمَّى الفقير؟
لوهلة كدت أتوهم أن يكون قد انبني عندكم الاعتراضُ على هذا التقسيم ونحوه، وعلى إقرار ابن القيم له ههنا، على مجرد أن مصدره فيه = كلام بعض الصوفية! ولكن قلتُ لا سبيل لهذا الاعتراض - ولو تعريضا - من مثل الواحدي.. فهو أجلُّ شأنا من هذا وأعمق نظرا..
وعلى أي حال فأنبيك – بارك الله فيك - بأني لا شأن لي بما أفرط فيه الصوفية من تنظيرات وتقعيدات لطرق ومسالك بدعية لتحقيق منازل ومقامات "الفقير" ونحو ذلك.. فالأمر أسهل من هذا! وقد جاءنا ابن القيم رحمه الله بزبدة ما قالوا فيه.. فكل عبد صالح قد قرُب من تقوى الله بحقها فهو متحقق بالافتقار ولابد.. إذ كل صور التعبد يظهر فيها الافتقار.. فإن كان السبيل المطروق في ذاك التعبد سبيل سنة وهداية، فهو الحق وهو ديننا.. وإلا فمنهجنا ولله الحمد والمنة ليس فيه متسع للبدع والخرافات والشطحات. ولولا أن كان هذا هو منهج ابن القيم رحمه الله تعالى لما أتحفنا بهذا الكلام الطيب الذي أخذه عن بعض المتصوفة.
ولقوله تعالى: (أنتم الفقراء إلى الله) معنى آخر ذكره المفسِّرون، وهو: أنتم الفقراء إلى فضل الله. والإنسان أحوج ما يكون إلى فضل الله وثوابه في الآخرة.
والله أعلم.
قلت بعد الحساب ونزول أهل الجنة منازلهم، يؤول الفقر إلى المعنى الأول دون الثاني، فلا إشكال فيما يظهر لي في الجمع بين هذا التفسير وبين ما قررتُه من التفريق بين حال أهل الدنيا وحال أهل الجنة، والله أعلم.
ملحوظة: قد أطلتُ الكلام في هذه المشاركة بما قد لا تدعو إليه الحاجة إذ أكثر ما كتبتُه فيها مكرور وأكاد أجزم بأننا نتفق عليه أصلا، فالله أسأل أن يغفر لي ذنوبي، فلولاها ما طال الكلام مني بلا حاجة على هذا النحو.. سلمني الله وإياك من الزلل.. ولعلي أرجع عليها فيما بعد بالتحرير إن يسر الله وأعان.
والله الموفق المستعان