بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله وحده، وبعد:
فقد نُشر في موقع الألوكة الأم تخريج لحديث عائشة -رضي الله عنها- في الدعاء ليلة القدر، كتبه الأخ (بهاء الدين الزهري).
وقد رأيت في هذا التخريج من الخلل: منهجيًّا، وعلميًّا.
أما المنهجي؛ فهو إغلاظه وتهجُّمه على مخالفه في قضايا علمية دقيقة، يسوغ الخلاف فيها أكثر مما يسوغ في غيرها، ومن ذلك قوله: (ولقائل أن يَقول متهوِّرًا...)، وقوله: (قد رُمْت هدْم الشَّريعة، مقيِّدًا نفسَك بأغلال التمسُّك بالقواعد بلا روح ولا حياة)، وقوله: (فيقول متعسِّفًا...).
وهذا -فيما أرى- ليس من أدب الخلاف العلمي، خاصة أن الباحث نفسَه هو الذي دعا في آخر بحثه قائلاً: (فالرِّفقَ الرفق، والأناة الأناةَ، والإنصافَ الإنصاف).
أما الخلل العلمي؛ فإنه في مواضع عدة، أسردها مع التعليق عليها فيما يلي؛ مصنَّفةً إلى صنفين -فيما أرى-:
الصنف الأول: قضايا أساسية:
1- قال: (تابعه سفيان الثَّوري وروايته عنه قبل الاختلاط، واختلف عليْه فيها.
رواه إسحاق (1362)، والبيهقي في الأسماء والصفات (92)، عن عمرو بن محمد العنقزي، والنسائي في الكبرى (10712)، من طريق مخلد بن يزيد، والقضاعي (1475)، من طريق علي بن قادم، (ثلاثتهم)، عن سفيان الثوري، عن الجريري به.
ورواه أحمد (6/ 258)، والنَّسائي في الكبرى (10713)، وأبو يعلى في معجمه (403)، والطَّبراني في الدعاء (916)، والحاكم (1/712)، والقضاعي (1478)، من طريق الأشْجعي، عن سفيان الثَّوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن عائشة به.
وإسنادُه صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخَين، والأشجعي هو عبيد الله بن عبيد الرحمن ثقة إمام ثبت مأمون، من أثبت النَّاس كتابًا في الثوري، فكلا الطَّريقين محفوظان عن الثوري) انتهى كلامه.
وفي هذا الموضع من الملاحظات ما يلي:
أ- فاته إسنادُ ابن منده -في التوحيد (303) ومن طريقه قوام السنة في الترغيب والترهيب (2197)- روايةَ النعمان بن عبدالسلام عن الثوري كرواية الجماعة، وإسنادُ قوام السنة في الترغيب والترهيب (1799) روايةَ محمد بن يوسف الفريابي، وتعليقُ الدارقطني -في العلل (15/88)- روايةَ إسحاق الأزرق عن الثوري كذلك.
ب- اعتماده تسمية الراوي عن عائشة في رواية الأشجعي عن الثوري: سليمان بن بريدة، وهذا محل نظر، وفيه تفصيل بيانه كما يلي:
حيث إنه قد رواه عن الأشجعي اثنان:
أحدهما: فرات بن محبوب -وهو ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات (9/13)-، وقال الدارقطني -في العلل (1/184)-: (وكان كوفيًّا لا بأس به)، ولم يسمِّ ابن بريدة في روايته هذه،
الثاني: أبو النضر هاشم بن القاسم، واختُلف عنه في تسمية ابن بريدة:
- فرواه عنه العباس بن عبدالعظيم وأبو بكر بن أبي العوام الرياحي وسميا ابن ابريدة: سليمانَ بن بريدة،
- ورواه عنه أحمد بن حنبل وأبو بكر بن النضر بن أبي النضر وحجاج بن يوسف الشاعر ولم يسموا ابن بريدة.
وتسمية ابن بريدة في هذا الإسناد لها أهمية، فإنه لو ثبت أن ابن بريدة في الإسناد هو سليمان، ثم ثبتت رواية سفيان عن علقمة بن مرثد= اتصل الحديث وصار صحيحًا.
والناظر إلى الاختلاف عن أبي النضر يرى أن الأكثر والأوثق والأخصَّ بأبي النضر يروونه عنه بلا تسمية لابن بريدة، فهم ثلاثة أمام اثنين، وفيهم إمام الحفاظ أحمد بن حنبل، وفيهم حفيد أبي النضر: أبو بكر، وهو من الثقات، ومعلوم ما في كون الرواية عن الجد من اختصاص، ثم إن المتابع لأبي النضر (فرات بن محبوب) لم يسمِّ ابن بريدة أيضًا، وهذا يقوِّي وجه عدم تسمية ابن بريدة عن أبي النضر.
فالرواية في هذا بعدم تسمية ابن بريدة أرجح.
قال الشيخ الألباني -في السلسلة الصحيحة (7/1011)، بعد أن ذكر تعيين الراوي في رواية الأشجعي عن الثوري بسليمان بن بريدة-: (... على أن الإمام أحمد أخرج الحديث (6/258) من الطريق المذكورة دون تسمية ابن بريدة، وكذلك الطبراني في «الدعاء» (2/1228/916). فيبدو لي أن الحديث حديث عبدالله، وأن ذكر (سليمان) شاذ، والله أعلم.
وكان الغرض من ذكر الحديث من روايته دفع الإعلال بالانقطاع؛ لأن (سليمان) لم يقل فيه أحد ما قالوا في أخيه، ولكن ما دام أنه لم يصح ذكره؛ فلم يتحقق الغرض...) انتهى كلام الألباني -رحمه الله-.
ج- رجَّح الباحث أن الطريقين محفوظان عن الثوري، مع أنه ظهر له مخالفة ثلاثة من الرواة للأشجعي، ويُزاد عليهم -كما سبق- ثلاث ثقات مأمونين: النعمان بن عبدالسلام، ومحمد بن يوسف الفريابي، وإسحاق الأزرق. والنعمان له اختصاص بالثوري، والفريابي معدود في أصحاب سفيان الرفعاء، وإن لم يكن في الطبقة الأولى منهم.
واعتمد الباحث في تصحيح رواية الأشجعي: ما ذكره بقوله عنه: (ثقة إمام ثبت مأمون، من أثبت النَّاس كتابًا في الثوري)، وهذا مسلَّم، والأشجعي مقدَّم في الثوري كذلك، إلا أن له إغرابات وانفرادات، وليس من لازم الثبت ألاّ يخطئ، واجتماع الرواة عن الثوري دليل على خطئه هنا.
وهذا ما رجحه الحافظ إمام العلل الدارقطني، حيث قال -في العلل (15/88، 89)-: (فأما الجريري فرواه عنه الثوري، واختلف عنه:
- فقال إسحاق الأزرق عن الثوري، عن الجريري، عن عبدالله بن بريدة، عن عائشة،
- وخالفه الأشجعي، فرواه عن الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن عائشة،
وقول الأزرق أصح). ولاحظ أن الدارقطني لم يذكر فيمن خالف الأشجعي إلا الأزرق، ومع ذلك فقد رجح روايته.
وكان على الباحث -وفقه الله- أن يستقصي كلام الأئمة في الاختلاف الذي ذكره.
2- قال الباحث: (روى عبد الله بن بريدة عن أبيه (ت: 63)، وعن معاوية (ت: 60)...، وابن عمر (ت: 73)، وروايته عنهم ثابتةٌ في الصَّحيح وغيره، وسماعه منهم غير مُنْكر...)، إلى أن قال: (فإن كان لم يخرج إلى مرو قبل ذلك، وقد صحَّ سماعه من ابن عمر، فقد تيقنَّا أنَّه سمعه من قبل خروجه إلى مرو، وابن عمر مقامه بالمدينة، وكذلك عائشة مقامها بالمدينة، فما يبعد سماعه منها، على أنَّ روايته عن عمران في البخاري، وقد صرَّح بالسماع، هذه واحدة).
وتصحيح الباحث سماعَ ابن بريدة من ابن عمر ينقضه حكم إمام حافظ ناقد، حيث سأل ابنُ أبي حاتم أباه -كما في العلل (2/184)-، قال: ... فابن بريدة أدرك ابن عمر؟ قال: (أدركه، ولم يَبِنْ سماعُهُ منه).
ويحتاج مع هذا النص أن يثبت صحة سماع ابن بريدة من ابن عمر، ولا أظنه يمكنه.
وأما حديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا أخذ مضجعه: «الحمد لله الذي كفاني وآواني...»؛ فإنه معلول، وليس هذا موطن بيان علته، وقد بيَّنها أبو حاتم -كما في الموضع المعزوِّ إليه قبلُ من علل ابنه-.
وهناك دلائل أخرى تثبت الانقطاع.
فانتقضت هذه الواحدة.
3- قال الباحث: (وقد صحَّ شهودُه مقتل عثمان يوم الدَّار، رواه ابنُ عساكر (27/ 129) من طريق أبي زرعة، حدَّثنا أحمد بن شبويه، حدَّثنا الفضْل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة قال: جئتُ إلى أمِّي يوم قتل عثمان، فقلت: يا أمَّه، قُتِل الرجل، فقالت: يا بنيَّ، اذْهَب فالْعب مع الغِلْمان.
وكان سنُّه يومئذٍ نحو 20 عامًا، فقد كان مولِده في عهْد عُمر سنة 15 هـ، وأمَّا قوْل والدتِه له، فتعْنِي قطعًا أنَّ هذا الأمر ليس إليْك، ولا شأْنَ لك به، وإلاَّ فهذه السِّنُّ - كما لا يخفى - ليست سنَّ الغلمان، وهي سنُّ التحمُّل والأداء باتِّفاق، ومهْما يكن من أمر فما يبعد سماعه منها كذلك، وقد علِمنا أنَّه لم يخرج من المدينة قبل هذه السِّن، وهذه كافية وهي الثَّانية...).
وفي هذه الثانية نظر من وجهين:
أ- أما جزمه بتاريخ مولد ابن بريدة؛ فمستفاد من ابن حبان، وابن حبان استفاده من كلمة رويت عن ابن بريدة، قال: (ولدت لثلاث خلون من خلافة عمر)، ويشير إلى استفادة ابن حبان المباشرة من هذه الكلمة: أنه عبَّر بها -في مشاهير علماء الأمصار (ص125)-، قال: (كان مولده لثلاث سنين مضين من خلافة عمر بن الخطاب).
وقول ابن بريدة هذا جاء من طريق أبي تميلة، عن رميح بن هلال الطائي، عنه، وقد قال أبو حاتم في رميح بن هلال -كما في الجرح والتعديل (3/522)-: (مجهول، لا يعرف، لا أعلم روى عنه غير أبي تميلة)، وقال ابن حبان -كما في الميزان (2/54)-: (ينفرد عن المشاهير بالمناكير)، فهذه الرواية ساقطة، ولعله لذلك مرَّض القول بها أبو نصر الكلاباذي -في رجال البخاري (1/398)-.
فهذا القول من ابن حبان أو غيره لا يصح اعتماده، ولا يصح أن يُتكَلَّف الجواب عن النصوص التي تخالفه؛ مع كون حاله كما وصف.
نعم، معتمدٌ عند العلماء أنه ولد في خلافة عمر، لكن التحديد المذكور هو موضع الردّ، خاصة أنه ورد عن أم ابن بريدة ما ينقضه.
ب- أما الجواب عن قول والدة ابن بريدة له: (يا بنيَّ، اذْهَب فالْعب مع الغِلْمان) بأنه يعني: أن هذا الأمر ليس إليك، ولا شأن لك به، فهذا صحيح جدًّا، إلا أن الجزم بأنه كان يومها في نحو العشرين من عمره ساقط؛ لسقوط مستنده.
ويبقى كلام أم عبدالله بن بريدة على ظاهره؛ من حيث إنه لا شأن له بمقتل عثمان -رضي الله عنه-؛ لكونه غلامًا صغيرًا، ومن حيث إنه لا يُقال: (يا بني، اذهب فالعب مع الغلمان) إلا للغلمان.
وهذا هو فهم الحافظ ابن عساكر؛ حيث أورد هذا القول في سياق ذكر تاريخ مولد ابن بريدة -في ترجمته في تاريخ دمشق (27/128، 129)-، وأراد بذلك أن يبيِّن أنه كان غلامًا صغيرًا حين قتل عثمان -رضي الله عنه-.
وقد ورد أن ابن بريدة قال: (شهدت الدار يوم قتل عثمان فرأيت الحسن بن علي معه)، وفي إسناد هذه الرواية نظر، ولو صحت؛ فإن شهود عبدالله بن بريدة الدار يوم قتل عثمان لا يتنافى مع كونه صغيرًا وقتها، فقد يشهد الوقعة صغيرًا ويعرف بعض شاهديها.
هذا، وقد خولف ابن حبان في سياقِهِ رحلةَ بريدة وابنيه أصلاً، فقد قال ابن سعد -في طبقاته (7/8)- في الكلام عن بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه-: (ثم هاجر إلى المدينة فلم يزل بها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وغزا معه مغازيه بعد ذلك، حتى قبض النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفتحت البصرة ومصرت، فتحول إليها واختط بها وبنى بها دارًا، ثم خرج منها غازيًا إلى خراسان في خلافة عثمان بن عفان، فلم يزل بها حتى مات بمرو في خلافة يزيد بن معاوية)، واعتمد هذا ابنُ حجر، قال -في الإصابة (1/286)-: (وكان غزا خراسان في زمن عثمان، ثم تحول إلى مرو فسكنها، إلى أن مات في خلافة يزيد بن معاوية).
وهذا بانضمامه إلى قول أم عبدالله بن بريدة له= يدل على أنه قد خرج مع أبيه من المدينة مبكرًا؛ قبل خلافة عثمان بن عفان أو في أثنائها، وكان يوم قتل عثمان غلامًا صغيرًا -كما سبق في دلالة قول أمه له-، ولم يكن في المدينة.
وقول ابن بريدة: (جئتُ إلى أمِّي يوم قتل عثمان، فقلت: يا أمَّه، قُتِل الرجل...)= لا يتنافى مع ذلك، فإنه يحتمل أنه أراد: يوم بلغهم قتله وهم في البصرة أو في خراسان أو في مرو، وهذا احتمال وارد جدًّا، إذ لا يوجد في الرواية ما يصرح بأنهم كانوا في المدينة البتة.
فسقطت الثانية.
4- قال الباحث: (وقضيَّة إنْكار سماعه منها ترجع إلى اعتِبار شرْط ثبوت اللقي ولو مرَّة، وأمَّا على من لا يشترط ذلك، فلا حاجةَ إلى هذا البحْث).
وعبارته الأخيرة خطأ ظاهر، وقد نبَّه عليه شيخنا د. إبراهيم اللاحم -في الاتصال والانقطاع (ص150-158)-، وكان مما قاله: (كان مسلمٌ -رحمه الله- دقيقًا جدًّا حين حرر محل النزاع، وأنه في رواية راوٍ توافر فيها عدة شروط: كونه ثقة، غير مدلس، عاصر من روى عنه، وأمكن لقاؤه والسماع منه، ولم يثبت ذلك صريحًا، ولم يكن هناك دلالة بينة على أنه لم يلقه، أو لم يسمع منه.
وهذه شروط محكمة جدًّا، تضيِّق دائرة الخلاف بين مسلم ومخالفه، فإذا لم تتوافر الشروط أو بعضها فإن مسلمًا لا يثبت السماع، ولا يحكم بالاتصال.
ومن ذلك قوله [يعني: الإمام مسلمًا] في رواية محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، عن جده عبدالله بن عباس: "ومحمد بن علي لا يعلم له سماع من ابن عباس، ولا أنه لقيه أو رآه".
ومحمد بن علي كان له من العمر عشر سنوات حين وفاة جده، فالإمكان الحديثي للسماع غير متوافر، وانضم إلى ذلك أنه يروي عنه بواسطه والده...) إلى آخر كلام شيخنا، وفيه أمثلة كثيرة على هذا الخلل.
وتطبيقه هنا ظاهر، فالأخ الباحث -وفقه الله- ظنَّ أنه لا حاجة إلى النظر في سماع عبدالله بن بريدة من عائشة لمن لم يأخذ باشتراط ثبوت اللقي، وَفَاتَهُ أنه لا بد أن يحقق الشروط الأخرى من شروط مسلم، وأهمها: الإمكان الحديثي للسماع، وهو موطن العلة في هذا الحديث.
ومثله قوله في أواخر المبحث: (والحاصل: أنَّ عبد الله بن بريدة قد عاصر عائشةَ بالسِّن زمانًا طويلاً، ولو لم يثبت لقيُّه لها في بلدةٍ واحدةٍ، أو مصرٍ من الأمصار، لصحَّت روايته عنْها على شرْط مسلم...).
وهذا بالضبط عين الخلل الذي نبَّه عليه شيخنا -حفظه الله ورعاه-.
5- أطال الباحث في الكلام على رواية عبدالله بن بريدة عن أبي الأسود، وذكر تخريج البخاري هذه الرواية، وإنكار الدارقطني سماعه منه.
وقال: (وقول الدَّارقطني هنا معارَضٌ بقول البُخاري صاحب هذا الشَّرط، ولا يقول أحدٌ إنَّه خالف شرْطَه، غايته أنَّه قد خفِي عن الدَّارقطني وعنَّا ما قد علِمَه هو).
ولم يكلف نفسه الرجوع إلى مقدمة فتح الباري، وإلى موضع الحديث من فتح الباري، ليتبين الأمر.
قال ابن حجر -في المقدمة (ص356)-: (ولم أره إلى الآن من حديث عبدالله بن بريدة إلا بالعنعنة، فعِلَّتُهُ باقية، إلا أن يعتذر للبخاري عن تخريجه بأن اعتماده في الباب إنما هو على حديث عبدالعزيز بن صهيب عن أنس بهذه القصة سواء، وقد وافقه مسلم على تخريجه، وأخرج البخاري حديث أبي الأسود كالمتابعة لحديث عبدالعزيز بن صهيب، فلم يستوفِ نفي العلة عنه كما يستوفيها فيما يخرجه في الأصول)، وقال -في الفتح (3/230)-: (ولم أره من رواية عبدالله بن بريدة عنه إلا معنعنًا، وقد حكى الدارقطني في كتاب التتبع عن علي بن المديني أن ابن بريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود، ولم يقل في هذا الحديث: سمعت أبا الأسود. قلت: وابن بريدة ولد في عهد عمر، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاري لا يكتفي بالمعاصرة، فلعله أخرجه شاهدًا، واكتفى للأصل بحديث أنس الذي قبله).
وهذا لا يكاد يشك فيه الناظر في سياق إخراج البخاري لحديث ابن بريدة عن أبي الأسود.
فليس في هذا حجة، ولا حاجة للإطالة فيه، ومع ذلك فإن الباحث أعاد هذه القضية وكررها حتى آخر مبحثه!
وبهذا يثبت أن لا حجة قائمة لمن أثبت سماع عبدالله بن بريدة من عائشة، وأن جزم الدارقطني -رحمه الله- بالانقطاع بينهما صادرٌ عن ذي قدم راسخة في هذا العلم، لا ينازِع في رسوخها حديثيٌّ، ومخالفة مثله فيما يجزم به مزلة أقدام، ثم إن البيهقي -رحمه الله- تابع الدارقطنيَّ على ذلك، ولم يبدِ عليه اعتراضًا.
6- قال: (وهنا غرْزٌ نستمْسِك به، وهو أنَّ رواية ابن بريدة عن عائشة أيضًا إمَّا بلا واسطة بالعنْعنة، أو بيْنهما يَحيى بن يعمر أيضًا، فالَّذي نجزم به: أنَّه إن لم يكن سمِعَه منْها، فقد احتمله من ابن يعمر).
أما الجزم بتعيين الواسطة بأنها شخص معين، فلا يقبل البتة إلا بدليل ظاهر.
وكون ابن يعمر مروزيًّا، وقد سمع من الصحابة، "وعنْه روى ابن بريدة عن كلِّ مَن روى عنْه من الصَّحابة، خلا اثنين، ربَّما"= لا يصلح دليلاً للجزم والقطع بتعيين واسطة ابن بريدة إلى عائشة في كل رواياته بيحيى بن يعمر، فإن احتمال كونِ الواسطةِ غيرَهُ قائم، والمنازعة في ذلك مماحكة.
نعم، لو جاء الباحث بنصٍّ عن بعض الأئمة الجهابذة من أهل الاستقراء الواسع والحفظ والنقد، أو بنصٍّ صحيح من ابن بريدة -مثلاً- يفيد أن ما رواه عن الصحابة أخذه عن يحيى بن يعمر= لقُبل ذلك منه، لكنه لا يجد.
هذا مع أن ما ذكره الباحث من احتمال كون ابن يعمر هو واسطة ابن بريدة إلى عائشة= له وجهه تسمُّحًا، إلا أن الكلام في الجزم بذلك والقطع به.
ثم رأيت شيخنا د. إبراهيم اللاحم قد نبَّه على مثل هذا -في نفيسته: الاتصال والانقطاع (ص427)-، قال: (ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أن الأئمة قد يذكرون واسطة بين راوٍ وآخر، إما شخصًا واحدًا أو أكثر، ويكون غرضهم بيان أنه لم يسمع منه، وهذا كثير جدًّا...، لكن لا يصح أن تُجعل هذه الواسطة هي التي بينهما في كل رواية ترد عنه وليس بينهما أحد، إذ غرض الأئمة من ذكرها هو إقامة الدليل على أنه لم يسمع لا أكثر، وقد يكون هناك غيرها ممن لم يُسَمَّ، ولكن لا بأس أن يُستأنس بها استئناسًا، كما قال يحيى القطان: "أما مجاهد عن علي، فليس به بأس، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي".
ومراد يحيى: أن ما يرسله مجاهد عن علي -رضي الله عنه- ليس به بأس، رغم أنه منقطع؛ لأن مجاهدًا قد روى عن علي بواسطة عبدالرحمن بن أبي ليلى غير ما أرسله، وعبدالرحمن ثقة، فلا يبعد أن يكون قد أسقطه فيما يرسله.
قال ابن رجب معقبًا على كلمة القطان: "من عُرف له إسناد صحيح إلى من أرسل عنه؛ فإرساله خير ممن لم يعرف له ذلك") ا.هـ.
على أن عامة عمل النقاد على تضعيف الأحاديث بالانقطاع، ولو كان الراوي روى في مواضع أخرى عن شيخه الذي لم يسمع منه بواسطة ثقة، والإمامان الحافظان الدارقطني والبيهقي ردَّا أحاديث لعبدالله بن بريدة عن عائشة، ولم يجزما -كما جزم الباحث- بأن الواسطة: يحيى بن يعمر، وأن الحديث متصل، بل لم يذكرا ذلك البتة، ولا حتى أشارا إليه.
لكن ربما حصل التسمُّح من الأئمة فيما يصح أن يُتسمَّح فيه -كما سبق عن علي بن المديني في رواية مجاهد عن علي، وعن ابن رجب-، وحديثنا هذا مما لا يصح التسمُّح فيه؛ لأن في المرفوع -إضافة إلى الانقطاع المذكور- علة أخرى، لم يولها الباحث اهتمامه، وهي ما يلي:
7- أغفل الباحث علة قوية في الحديث، وهي أن هذا الدعاء معروف عن عائشة موقوفًا.
فقد أخرجه ابن أبي شيبة (29187)، وجعفر الخلدي في الفوائد والزهد (2)، والبيهقي في شعب الإيمان (3428) من طريق شريح بن هانئ،
والنسائي في الكبرى (10714) من طريق مسروق،
والخطيب في تاريخ بغداد (6/162، 13/199) من طريق الحسن،
ثلاثتهم عن عائشة -رضي الله عنها- به موقوفًا عليها، قالت: «لو عرفت أي ليلة ليلة القدر ما سألت الله فيها إلا العافية»، هذا لفظ شريح بن هانئ، ويقاربه لفظ الحسن، وزاد: «العفو والعافية»، وقال مسروق عنها: «لو علمت أي ليلة ليلة القدر لكان دعائي فيها أن أسأل الله العفو والعافية».
وإسناد رواية شريح بن هانئ صحيح إن ثبت سماع أبي إسحاق الشيباني من العباس بن ذريح، فإن روايته عنه بالعنعنة. وهو صحيح بلا قيود -فيما يظهر- على منهج الباحث في مسألة العنعنة.
وفي طريق مسروق: عبدالله بن جبير، شريكُ مسروقٍ على السلسلة، ولم أجد ترجمة لعبدالله هذا، وقد جاءت تسميته -في تاريخ واسط، لبحشل (ص38)-: عبدالله بن حنين، ولم أجد له بهذا الاسم ترجمةً أيضًا، ولعل كونه شريكًا لمسروق يدل على معرفته به، وعلاقةٍ بينهما.
وفي رواية الحسن عن عائشة: الربيع بن صبيح، متكلم فيه، والراوي عنه معروف الكرخي، اشتهر بالزهد والصلاح، قال ابن حبان -في الثقات (9/206)-: (ليس له حديث يُرجع إليه).
ثم إن بعض العلماء ذكر أن الحسن لم يسمع من عائشة -كما في تهذيب الكمال (6/97)-.
ومن ثمَّ فلم يخلُ طريق من الموقوفات عن عائشة من كلام، وأصحها الوجه الأول، وضعف كل طريق مما يحتمل، واجتماع هذه الطرق يدل على أن الوجه الموقوف عن عائشة -رضي الله عنها- هو المعروف، وأن المرفوع فيه نظر، خاصة إذا انضاف إلى ذلك ما سبق فيه من الانقطاع.
ولا يبعد أن النسائي يُعلُّ المرفوع بالموقوف، فقد أسند في سننه الكبرى طرق الحديث عن ابن بريدة عن عائشة مرفوعًا، ثم أعقب ذلك بطريق مسروق الموقوفة خاتمًا بها الباب.
والله أعلم.
الصنف الثاني: قضايا ثانوية:
1- قال الباحث: (قال ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" (27/ 139) في ترجمة عبد الله بن بُريدة، وقد ساق إسْناده إلى ابن حبَّان، قال ابن عساكر: وذكر حديثًا من رواية ابن بريدة عن عمران بن حصين، فقال - يعني ابن حبَّان -: هذا إسنادٌ قد يُوهِم مَن لم يُحْكِم صناعة الأخْبار...) إلخ.
وهذا الكلام موجود في صحيح ابن حبان (6/259-ترتيبه)، ولا حاجة في نقله إلى الواسطة.
2- قال الباحث: (وقد صحَّ شهودُه مقتل عثمان يوم الدَّار، رواه ابنُ عساكر (27/ 129) من طريق أبي زرعة، حدَّثنا أحمد بن شبويه...) إلخ.
وهذا موجود في تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/630)، ولا حاجة في نقله إلى الواسطة.
3- قال الباحث: (وهيهات! فلا يركب هذا السَّبيل في هذا العصر إلا أقل القليل، فالكلُّ قد ركِب سبيل مسلم في تصحيح الأحاديث دون اعتِبار هذا الشَّرط).
في قوله: (فالكلُّ) تجنٍّ على من رجَّح هذا القول وعمل به من علماء الحديث هذا العصر، وليسوا هم (أقل القليل)، بل هم جماعة معتبرون، على أن النظر هنا لا يكون للكثرة والقلة، بل للمكانة ومدى قوة التحرير.
4- ذكر في هامشه عبارة مقتضبة حول زيادة لفظة «كريم» في الحديث، وقد قال الشيخ الألباني -في الصحيحة (7/1011، 1012)-: (وقع في «سنن الترمذي» بعد قوله: «عفو» زيادة: «كريم»، ولا أصل لها في شيء من المصادر المتقدمة، ولا في غيرها ممن نقل عنها، فالظاهر أنها مدرجة من بعض الناسخين أو الطابعين؛ فإنها لم ترد في الطبعة الهندية من «سنن الترمذي» التي عليها شرح «تحفة الأحوذي» للمباركفوري (4/264)، ولا في غيرها. وإن مما يؤكد ذلك: أن النسائي في بعض رواياته أخرجه من الطريق التي أخرجها الترمذي، كلاهما عن شيخهما (قتيبة بن سعيد) بإسناده دون الزيادة...) ا.هـ.
وزيادة «كريم» ليست في نسخة الكروخي (ق240أ) كذلك، وهي أوثق نسخ الترمذي.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.