بسم الله الرحمن الرحيم

المعلوم من الدين بالضرورة

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين.
أما بعد،
3 ـ الجملة المتعلقة بالمعلوم من الدين بالضرورة التي علقت عليها ليست من كلامي،[i]، و أول المقال كان جوابا بالنقض، و مسألة المعلوم من الدين بالضرورة مسألة أكثر المتأخرون الاحتجاج بها في مسألة التكفير، كل على حسب هواه، فيجب ضبطها أولا ثم تعليق الأحكام عليها، و هذا أمر يتطلب بعض الجهد لعلي حين يتوفر لي الوقت المناسب أبحث فيها، ولكن لا بأس بهذه المقدمة:
ـ المسألة التي احتج بها في مسألة" خلق أفعال العباد"، لا علاقة لها بالمعلوم من الدين بالضرورة، نعم كل الأمة برمتها تعلم أن الله خالق كل شيء، و لكن الإشكال ليس في هذا ولكن في فهم معنى الخلق[ii]، و في التأويل الذي لحق بالمسألة.
فنحن نعلم أن إنكار صفات الرب التي أخبر بها القرآن و السنة الصحيحة، كوكنه يتكلم و يأمر و ينهى، و انه فوق سمواته، و أن الأمر ينزل من عنده و يصعد إليه تكذيب لما علم بالضرورة من الدين أن الأنبياء جاؤوا به.
فإن قال : تأويلنا لهذه النصوص التي علمنا بالضرورة من الدين أن النبي صلى الله عليه و سلم جاء بها لا يستلزم تكذيبنا له، لأن التكفير بالمعلوم من الدين بالضرورة يستلزم تكذيب الرسول ورد أخباره.
قالت لهم القدرية و المعتزلة: فمن أين صار تأويلنا مستلزما لتكذيب الرسول ورد أخباره دون تأويلكم إلا لمجرد التحكم و التشهي.
ثم انتم تتأولون الخلق بنظرية الأعراض، فتزعمون أن جميع ما خلقه الله متماثل، فالجبل مثل القشة، و النار مثل العسل، لأن الجواهر متماثلة، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة و تقولون:إن الله لا يزال يخلق الشيْ ذاته إلى أن يعدم، فيخلق الحياة للإنسان ولكنها تفنى في حينها، لأن الحياة عرض في الإنسان، و العرض لا يبقى زمانين، فيخلق له الله عرض الحياة باستمرار دون انقطاع طيلة حياته و ليس هذا مفهوم الخلق في القرآن، و لا هو مفهوم الخلق في علم الكافة الذي هو معلوم من الدين بالضرورة، فإن المسلمين يعلمون بالضرورة من دينهم أن الإنسان يموت إذا جاء أجله، و أن هناك ملائكة تأتي لتقبض روحه، ليس لأن الله يكف عن خلق عرض الحياة فيه.
و قد تأتي القرامطة و الباطنية فترد على الجميع و تقول لهم: عجبا لكم كيف تسمحون لأنفسكم بتأويل نصوص أصول الدين و تحرمون علينا ذلك، و نحن إنما غالب تأويلنا لنصوص الفروع، وهكذا يكون حالكم، و هذا ما جناه التأويل على النصوص، وعلى مراد الله و رسوله.
تعريف المعلوم من الدين بالضرورة:

المعلوم بالضرورة الدينية إنما حصل عن ظهور كونه من الدين، ظهور اشترك في معرفة كونه من الدين الخاصة و العامة، فالمعلوم من الدين بالضرورة متوقف على العلم من الدين، أي لا يحتاج إلى نظر و استدلال بحيث استوى في معرفته العام و الخاص[iii].
وهنا يتبين لنا خطأ من حصر الكفر في المعلوم من الدين بالضرورة، فأولا علم العامة يتغير لأن واجبات الدين تندرس، إما في الزمان و إما في المكان، فصار المعلوم من الدين بالضرورة متغيرا من طبقة إلى طبقة، ومن مكان إلى مكان.
2 ـ إذا كان واجبا ما معلوما من الدين بالضرورة بالنسبة لرجل، غير معلوم لآخر فتوقيف التفكير بالنسبة للأولى حتى يعلمه الثاني باطل في الدين، إذ هو تعليق الأحكام العينية على علم غيره و قدرته.
و نحلم نعلم أن من الدين ما علم وجوبه بالضرورة، و ما علم وجوبه بالتواتر، فما علم بالتواتر العام أي نقل الكافة عن الكافة هو المعلوم من الدين بالضرورة، وما علم بالتواتر عند أهل العلم هو التواتر الخاص، فهو من المعلوم من الدين بالضرورة عند أهل العلم.
فإذا كان المعلوم من الدين بالضرورة هو الذي لا يحتاج إلى نظر و استدلال لظهوره ظهورا بينا، فإن كان معلوما من الدين بهذه الكيفية بالنسبة للعامة فهو المعلوم من الدين بالضرورة العام، وإن كان معلوما من الدين بهذه الكيفية بالنسبة لأهل العلم فهو المعلوم من الدين بالضرورة الخاص، أما توقيف الإنكار و الجحود و الإعراض و الاستكبار على النصوص الشرعية حتى تعرف العامة أنها من الدين من غير نظر و لا استدلال فهذا لا وجود له في شريعة الإسلام و إنما هو من تلبيس المبتدعة.
فإن كان أول من استعمل هذا المصطلح الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ فقد نقلنا كلامه بصورة واضحة و قاطعة، فلا يجب الخلط بين المعلومين من الدين بالضرورة.
أنواع الضرورة العلمية:

كذلك يجب التفريق بين المعلوم من الدين بالضرورة الشرعية وهي قد تكون نصا أو إجماعا، و المعلوم بالضرورة الفطرية البديهية، و المعلوم بالضرورة العقلية، و المعلوم بالضرورة من اللغة.
ونحن نعرف أن المعلوم بالضرورة من الدين متوقف على العلم بالدين، فمن له إلمام بالعلم ليس كمن ليس مثله، فأهل الحديث و السنة اعلم بغيرهم بما جاء به الرسول، فعلمهم بالمعلوم من الدين بالضرورة أعظم و اكبر من علم غيرهم، وهذه إحدى حجج أهل السنة في مبحث الآحاد و إفادته العلم و العمل إذا احتفت به القرائن، وهنا يغلط بعض الناس في تحديد القرائن، فإن المقصود بالقرائن عدالة الرواة و ثقتهم و تلقي أهل العلم له، فأهل العلم بالحديث عندهم يقين بأشياء من الدين، قد تكون وردت بخبر الواحد، بسبب ما يحصل لهم من قرائن تتولد لهم من معرفتهم بأحواله و كلامه صلى الله عليه و سلم، فاليقين لا يكتسب من مجرد عدد المخبرين و لكن منه ومن احتفاء القرائن و ظهور صدق الخبر و غير ذلك.
ولو كان الحكم على أهل العلم متوقفا على علم العامة لكان الدين هو الذي تعرفه العامة، وكل ما لا تعرفه العامة ليس من الدين المنزل، وقد كنت بينت في مناسبات سابقة أن الدين ثلاثة أنواع:
دين منزل و دين مؤول و دين مبدل، وما تعلمه العامة قد يكون من هذا كما قد يكون من ذاك، والحجة في الدين المنزل فقط.
بيان أن المتكلمين يخالفون المعلوم من الدين بالضرورة:

فنحن نعرف أن أهل الحديث متفقون على أحاديث الصحيحين إلا أحاديث يسيرة، متفقون عليها لفظا و معنى، كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن و معناه، فالأمة اشتركت عامتها و خاصتها في نقل القرآن قرنا بعد قرن، وعندما نسأل عوام الأمة عن معاني القرآن نجدها تعلم بأن الله يسمع حديثها، ويرى أفعالها، و يتكلم، و يعلم، أكثر من علمهم بأحاديث الشفاعة و الربا و الحيض ووجوب الصلاة و تحريم الخمر، و بالتالي من أنكر هذه الصفات فقد أنكر المعلوم من الدين بالضرورة.
و قد نقل المسلمون عن نبيهم صلى الله عليه و سلم أنه كان يرفع يديه عند الدعاء باتجاه السماء، وكلهم يفعل ذلك فيأتي متكلم وينكر العلو و الفوقية، أو يقول: الله في كل مكان، فيخالف المعلوم من الدين بالضرورة.
و إذا علم الصحابة مراد الله و رسوله، و علمنا ذلك بالضرورة، و نقلوه إلى من بعدهم، علمنا أن مخالفة ما علمه الصحابة بالضرورة من الدين مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة، فمن خالف المعاني الثابتة عن الصحابة، المجمع عليها عندهم، فقد خالف المعلوم من الدين بالضرورة.
فالأحاديث الصحيحة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، و قالت الأشعرية:إنها تخالف العقل هي مما علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه و سلم جاء بها، وما كان معلوما بالاضطرار من دين الإسلام، امتنع أن يكون مردودا غير معلوم المعنى، ومن أنكره كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين، كما بيناه سابقا في مسألة كلام الله و علوه و غيره، مما يثبته عوام المسلمين و يفهموه من القرآن و السنة من غير نظر ولا استدلال.
أما ربط التكفير و حصره في إنكار المعلوم من الدين بالضرورة بدون تفصيل فهو قول ضعيف لا تدل عليه أصول الشريعة ولا واقع الناس، فإذا ثبت تغير المعلوم من الدين بالضرورة كما ونوعا لزم تغير الحكم الموقوف عليه.
و التكفير في الإسلام موقوف على توفر شروط و انتفاء موانع، فقد كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر بعض المسائل، لأنها كانت عندهم من المعلوم بالاضطرار من الدين.
قال ابن تيمية في "الدرء"{27/7}:"و الأمور المعلومة بالضرورة عند السلف و الأئمة و علماء الدين، قد لا تكون معلومة لبعض الناس، إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول، فيكون حين انصرافه عن الاستماع و التدبر غير محصل لشرط العلم، بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك، كمن يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه، وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره و تدبره، لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل ذلك، فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري".
و نحن إذا نظرنا في مقالات بعض الفرق و جدنا منهم من أنكر وقعة الجمل و صفين و نحوهما من الوقائع المشهورة المتواترة.
بل من المنسوبين إلى العلم لا يعلمون مغازي الرسول صلى الله عليه و سلم وترتيبها، ولا يعلمون كم صام رمضان وكم حج و اعتمر، ولا كم صلى إلى بيت المقدس بعد هجرته، و في أية سنة فرض رمضان، فقد يجهل الواحد منا ما هو من الأمور المعلومة بالتواتر عند أهل العلم.
فأكثر المعتزلة و من سلك سبيلهم من الأشاعرة لا يعرفون في الرؤية إلا حديث جرير بن عبد الله البجلي:" إنكم سترون ربكم".
و أهل العلم بالحديث يعلمون أحاديث الرؤية المتواترة أعظم من غيرها، وعددها في الصحيحين أكثر من عدد أحاديث الشفعة و الطلاق و الفرائض و سجود السهو و المسح على الخفين و تحريم المرأة على عمتها و خالتها.
بل أكثر علماء الكلام لا يعرفون أقوال السلف في أصول الدين، وفي معاني القرآن، فمنهم من يظن أن السلف لم يتكلموا في هذه الأبواب أو أن مذهبهم تفويض المعنى.
قلت: فالسؤال الوجيه في هذه المسألة أن نقول:أي معلوم من الدين بالضرورة نوقف على إنكاره التكفير، المعلوم منه في وقت الصحابة و التابعين، أم في وقت عمر بن عبد العزيز وقد وجدنا في عهده من يجهل حرمة الخمر أم في المائة الرابعة و الخامسة، أم في هذه الأزمان المتأخرة؟
و قد أخبر الرسول صلى الله عليه و سلم في عدة أحاديث عن اندراس الإسلام، كما في حديث الغربة، و حديث حذيفة بن اليمان، فرجع الأمر حتما إلى شرط العلم و قيام الحجة، وهو شرط يختلف من بلد للآخر و من شخص للآخر، و قد كان من المعلوم من الدين بالضرورة عند الصحابة أن من يسب الرسول يقتل، ثم جاء علماء بعد ذلك و قالوا لا يقتل، ووضعوا شروطا أخرى بسبب التأويلات المذهبية.
قال ابن تيمية في"الدرء"{28/7}:" و بالجملة فما من صنف من الواجبات المعلومة بالضرورة من الدين إلا و تطرق التأويل إلى نصوصه، كما تطرق إلى نصوص العلو و الصفات"[iv].
فواجبات الإسلام متى ظهرت لأحد ظهورا بينا صارت معلومة له بالضرورة، و قد لا تظهر للآخر، و إذا ظهرت للكافة بهذه الطريقة بحيث صاروا لا يحتاجون لمعرفة كونها من الدين إلى نظر و استدلال صارت معلومة من الدين بالضرورة.
و قد يتوفر ذلك لطائفة دون طائفة، فالمعلوم من الدين بالضرورة عند أهل السنة و الجماعة يختلف عنه عند المعتزلة و يختلف عنه عند الأشاعرة بل الشيعة و غيرهم.
فمن المعلوم من الدين بالضرورة عند عوام أهل السنة و خاصتهم أن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أفضل الأمة و أبرها و أصدقها، بينما عند الشيعة الأمر غير ذلك، فتبين أن المعلوم من الدين بالضرورة يختلف من طائفة إلى طائفة، و يمكن أن تجد عشرات الأمثلة.
فنحن نعرف معرفة يقينية بعد معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم، بحيث نعلم بالضرورة من دينه أنه لم يشرع لامته أن تدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء و لا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، و لا بلفظ الاستعاذة، ولم يشرع لأمته السجود لميت أو لحي ولا الركوع له، كما نعلم بالضرورة أنه نهى عن كل هذه الأمور[v]، و أن ذلك من الشرك الذي حرمه الله، و لكن لغلبة الجهل، و قلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه".
والفقهاء الذين جعلوا من المعلوم من الدين بالضرورة الصلاة و الزكاة و الحج و صوم رمضان و تحريم الخمر و الزنا و الربا و غيرها، إذا جاؤوا إلى بعض البلاد وجدوا أن من الناس من يعلم بالضرورة من الدين أن الصلاة من الإسلام، و لكنه لا يعرف أنها من أركانه وواجباته، و غير ذلك.
وهؤلاء الذين يحصرون التكفير في المعلوم من الدين بالضرورة، كالأشعرية يقولون في كتبهم: إن العلم بإثبات الصانع و تصديق الرسول موقوف على نظرية الجواهر و الأعراض، وهم بذلك قد خالفوا المعلوم من دين الإسلام بالضرورة، فإنه من المعلوم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة و التابعين ما دعوا أحدا من الناس إلى الإقرار بالخالق وبرسله بهذه الطريق، ولا استدلوا على احد بهذه الحجة، ولا سلكوا هم في معرفتهم هذه الطريق.
و نحن إذا عدنا إلى القرآن و السنة و جدنا التكفير أنواعا منه: معارضة الرسول استكبارا أو إعراضا أو جحودا، فحصر التكفير في الجحود وحده، ليس مما دل عليه القرآن و السنة بتاتا و إنما هو من أقوال المرجئة التي قد يقول بها من ليس مرجئا بسبب شبهة أو تأويل.
و قد كفر السلف الجهمية وهم يقولون بكثير من المقالات التي لا تعرف العامة مغزاها ولا معناها، فمن بلغه أمر الشارع أو نهيه المقتضي للتكفير بطريقة متواترة ظاهرة، و فعل ما يوجب تكفيره مع انتفاء الموانع كفر، قال ابن تيمية في " المجموع"{54/20}:"قد تقرر من مذهب أهل السنة و الجماعة ما دل عليه الكتاب و السنة انهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب، ولا يخرجونه من الإسلام بعمل إذا كان فعلا منهيا عنه مثل: الزنا و السرقة و شرب الخمر، مالم يتضمن ترك الإيمان، و أما إن تضمن ترك ما أمر الله بالإيمان به مثل: الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و البعث بعد الموت فإنه يكفر به، و كذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، و عدم تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة.
فإن قلت: فالذنوب تنقسم إلى: ترك مأمور و فعل منهى عنه.
قلت: لكن المأمور به إذا تركه العبد، فإما أن يكون مؤمنا بوجوبه أو لا يكون، فإن كان مؤمنا بوجوبه تاركا لأدائه فلم يترك الواجب كله، بل أدى بعضه وهو الإيمان به، و ترك بعضه وهو العمل به، وكذلك المحرم إذا فعله، فإما أن يكون مؤمنا بتحريمه، أولا يكون، فإن كان مؤمنا بتحريمه فاعلا له فقد جمع بين أداء و اجب و فعل محرم، فصار له حسنة و سيئة، و الكلام إنما هو فيما يعذر بترك الإيمان بوجوبه و تحريمه من الأمور المتواترة، و أما من لم يعتقد ذلك فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به، فالكلام في تركه هذا الاعتقاد كالكلام فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به".
الخلاصة:

التكفير متعلق بالواجبات و المحرمات الظاهرة المتواترة، فإن سميت المعلوم من الدين بالضرورة فلا بأس بذلك، و لكن ظهور هذه الواجبات ظهورا متواترا يختلف من شخص للآخر، فالأمر موقوف على شرط العلم و بلوغ الحجة، فإن العلم يختلف من شخص للآخر، ومن زمن للآخر، ولكن المهم في كل هذا هو الكلام في ترك الإيمان بها، لا في تركها أو فعلها، ومع بلوغ الحجة فقد يعذر بالتأويل، فالشرائع إنما تلزم بعد العلم.
و قد ثبت أن المعلوم من الدين بالضرورة يختلف من حيث الزمان و المكان، ومن حيث نوعه، و الإسلام معرض لاندراس بنص الشارع، و عند اندراس العلم تبطل هذه الحجة، فعندما يصير المعلوم من الدين بالضرورة في زمن من الأزمان هو شهادة لا إله إلا الله فقط، و بطريقة تقليدية يصير التكفير في إنكار هذا المعلوم من الدين بالضرورة، و إن كانت واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة في يوم من الأيام من المعلوم من الدين بالضرورة، ولكنها في هذا الزمن الذي اخبر عنه الرسول في حديث حذيفة لم تصر منه، وهذا دليل قوي على تغير المعلوم من الدين بالضرورة فرجع الأمر في النهاية إلى بلوغ الحجة و السلامة من التأويل.
وقد ثبت عن أبي الدرداء أنه عاد لبيته غاضبا وهو يقول:" ما أعرف من هذه الأمة من أمر دينها إلا الصلاة"["مسند الشاميين"{221/2}] وفي "الآحاد والمثاني"{237/4} عن انس من حديث الزهري:" والله ما أنتم على شيء مما كانوا عليه إلا الصلاة".
و ثبت عن أنس أنه قال:"إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه و سلم من الموبقات"["صحيح البخاري"{2381/5 رقم:6127}].
و قال النبي صلى الله عليه إخبارا عن الأمراء و الحكام: "تعرف منهم وتنكر".
ونحن إذا ذهبنا إلى المدينة المنورة وزرنا البقيع علمنا أنه كان في عهد الصحابة و التابعين و تابعيهم من المعلوم من الدين بالضرورة ترك تجصيص القبور و البناء عليها، الأمر الذي صار اليوم في المسلمين شائعا منتشرا، و في بعض البلاد يبنون على القبور قبابا.
و عليه فإن التكفير منوط بقاعدة التكفير و التفسيق و التبديع و التحريم المبنية أساسا على توفر الشروط و انتفاء الموانع، فمن توفر فيه شرط التكفير كبلوغ الحجة إليه و انتفت الموانع كشبهة أو تأويل سائغ وجب تكفيره و إلا لم يجز، و الله اعلم.
أما مسألة تقديم العقل على النقل فتحتاج إلى جمع و تبويب و ترتيب و اخذ ورد، ولكن يكفي طالب العلم أن ينظر في كتب أصول الفقه أو الكلام في فصل"مباديء العلوم"، و "الظاهر"، و "الظن و اليقين" وغيرها ليعرف موقف الأشاعرة منها، كما يمكنه أن يعرفها عمليا من خلال تعاملهم مع النصوص الصحيحة .
و في مناسبة قريبة سنتعرض لها بالتفاصيل اللازمة إن شاء الله.
وفي الأخير نسأل الله سبحانه و تعالى أن يوفقنا للدعوة إلى دينه على بصيرة، و أن يجعل سبيلنا العلم والرأفة بالمسلمين عموما و بأهل السنة خصوصا، و أن يجعلنا من رحمته التي يصيب بها من يشاء من خلقه، و اعلموا أن الدوام يثقب الرخام، ولكن السر في صلابة الآلة وصلاحياتها، و قد يظهر الباطل و يعم الأغلبية، كما قد يظهر الحق و يعم الأغلبية، وهذا يدعونا للعلم و الرفق، و أن ندع الكلام الزائد و إن كان حقا، فليس كل ما يكون حقا يفعل و يعمل، بل ينظر في رجحان المصلحة على المفسدة، وفي القدرة عليه، و غير ذلك من شروط مبينة في موضعها.
و يمكن الإخوة الأفاضل في الموقعين المذكورين من كان منهم له قدرة و استعداد أن يلتقوا في موقع معين يحددون بعض المقالات التي ينشرها الأشاعرة وغيرهم على الشبكة، يتناولون الرد عليها و مناقشتهم فيها، إما في موقعهم، أو في موقع يخصصونه لذلك.
المهم أن يتخذوا أقوم الطرق لذلك بما لا يتعارض ومنهجهم، و لا يكون فيه مفسدة راجحة، و أعود فأكرر أن صنيع الإخوة في "الاستقامة" مما يشرف كل سني على هذه المعمورة، و إننا نستبشر الخير الكثير منه، دون أن نغفل، و نسأل الله أن لا نغفل عن ذلك طرفة عين أننا كلنا معرضون للخطأ كبيرا كان أو صغيرا هذا الخطأ، المهم المقاصد و الخطوط العامة التي ننطلق منها.
بارك الله فيكم ،و الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده، و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرزيو، الجزائر، في2003-08-21
مختار الأخضر الطيباوي

[i] ــ هذه الجملة:" ما دمنا نعلم بيقين أن إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة مكفر بإجماع المسلمين الذين يعتد بإجماعهم" ، و قد وردت في بحثي كالتالي:" و أضاف أن هذا القول من ابن تيمية خلط و تخبط عجيبان, ما دمنا نعلم بيقين أن إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة مكفر بإجماع المسلمين الذين يعتد بإجماعهم، و مما لا ريب فيه أن إنكار قول الله: ( الله خالق كل شيء ) كليا أو جزئيا، إنكار لما هو معروف من الدين بالضرورة، و أنه لم يسمع ولم ير إلى هذا اليوم، أن القدرية يعتقدون أن أفعال الحيوان لم يخلقها الله، و هاهي ذي كتب الفرق أمامنا لم يجد في شيء منها مثل هذا النقل عنهم، وأنه رأى العلامة المحقق الشيخ محمد زاهد الكوثري قد سبقه إلى البحث عن هذا النقل الغريب و أصله، فكتب تعليقا عليه: " لم نر من صرح بذلك منهم في كتاب من كتبهم، و إلزام الشيء غير القول به"

[ii] ــ من معلوم أن مفهوم الخلق عند الأشاعرة يختلف عن مفهومه عند أهل السنة و الجماعة، و عن مفهومه عند المعتزلة، فالأشاعرة يفرقون بين الخلق و الجعل، و يحملون الجعل على معنى واحد هو التصيير، بينما أهل السنة ـ وهذا ظاهر في كتاب الله لا يحتاج إلى نقل ـ يفسرون كلمة جعل بمعنيين الأول بمعنى خلق و الثاني بمعنى صير، كذلك تنكر الأشعرية أن يكون الله قد خلق شيئا بيديه الكريمتين، وهم في ذلك يعاندون الحديث الصحيح و القرآن، لأنهم ينفون صفة اليد، فلم يخلق آدم بيديه، ولم يغرس أشجار الفردوس بيديه، ولم يكتب التوراة بيديه.
فإن قالوا:اليد هي بمعنى النعمة استحال المعنى و إن قالوا: هي بمعنى القدرة، قلنا لهم:كل شيء خلقه الله بقدرته فلم يعد لهذه الثلاثة مزية تذكر بها.
ونحن إذا دخلنا مع الأشاعرة في أصولهم الكلامية وجدناهم يفسرون الخلق بنظرية يونانية وثنية هي النظرية الذرية، و التي خلاصتها أن الله عاجز أن يخلق مخلوقا كاملا بدون التدخل المستمر، و أن ما يخلقه الله هو أشبه بالدمى لا حياة فيها ولا قدرة لها لأنهم ينفون عن المخلوق الفعل و الاختيار، فالله عز وجل في الاعتقاد الأشعري إله جبار قادر فقط، بينما الله في كتابه و في سنة رسوله وفي اعتقاد أهل السنة و الجماعة و أكثر العقلاء إله قادر حكيم كامل، والفرق بين التصورين هو أن التصور الأشعري يصف الله عز وجل بالقدرة المحضة فقط مما يستلزم معه نسبة العبث لفعله سبحانه و تعالى، بينما في التصور الثاني يفعل الله بحكمة و اختيار، المهم توضيح كل هذا في موضعه.

[iii] ــ قال الشافعي في " الرسالة"{ف:961، ص:357}:" العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله{...} مثل الصلوات الخمس و أن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة أموالهم، و أنه حرم عليهم الزنا و القتل و السرقة و لخمر، وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه و يعلموه و يعطوه من أنفسهم و أموالهم، و أن يكفوا عن ما حرم عليهم منه، وهذا الصنف من العلم موجود نصا في كتاب الله، وموجود عاما عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عن من مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم، وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل، ولا يجوز فيه التنازع".
قلت: وهذا غير متوفر بهذا الشكل في العصور المختلفة، فقد حرم الله كثيرا من الأشياء بنص القرآن و حرمه الرسول في أحاديث صحيحة، و مع ذلك تتعاطه بعض الأمة، ومنها من تعتقد إباحته مثل السحر و التعاويذ الشركية.
ثم عرف الشافعي ـ رحمه الله ـ علم الخاصة فقال:" ما ينوب العباد من فروع الفرائض و ما يخص به من الأحكام و غيرها، مما ليس فيه نص كتاب، ولا في أكثره نص سنة، و إن كانت في شيء منه فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة، وما كان منه يحتمل التأويل و يستدرك قياسا".
قلت: فقد جعل الشافعي علم الخاصة ما لا يوجد فيه نص من القرآن و لا من السنة إلا في النادر من الأخبار، التي لا يعرفها إلا الخاصة، ومعلوم أن كثيرا من المسائل التي تنكرها الطوائف فيها نصوص كثيرة من القرآن و السنة و أحيانا فيها إجماع السلف الصالح، ومع ذلك تنكرها هذه الطوائف كما مثلنا في هذا المقال.
وعليه و جب أن نقول: علم العامة حجة على العامة، و علم الخاصة حجة على الخاصة، و العلم المشترك بينهم وهو المعلوم من الدين بالضرورة حجة عليهم جميعا، فلا يمكن أن نحصر التكفير في هذا وحده، فإن من المسائل التي لا تعلمها العامة هي معلومة بالضرورة من دين الرسول عند الخاصة[أي لا تحتاج إلى نظر أو استدلال]، وتوقيف التكفير فيها على علم العامة توقيف المعلوم على المجهول، فإذا عرف احد الخاصة النصوص القرآنية و النبوية الكثيرة و كلام أئمة السلف من الصحابة و التابعين الثابت عنهم بالسند فينكرها، لأخذه بأصل عقلي ما أنزل الله به من سلطان كتماثل الأجسام و الجواهر، فعلمه حجة عليه.
و قد كفر السلف الصالح من ينكر علم الله السابق، ومع ذلك قد يوجد في الأمة من ينكره ولا يكفر، كما أنكرته عائشة في الحديث المشهور حتى بين لها النبي صلى الله عليه و سلم ذلك، فالتكفير موقوف على بيان الرسول وعلم كل واحد به.

[iv] ــ و ربما أحسن مثال على ذلك ـ وهو مما ينطبق على من حصر التكفير في المعلوم من الدين بالضرورة ـ أدلة وجود الله أو دليل الربوبية، فنحن نعلم أن دليل وجود الله فطري بديهي، يشعر به الإنسان قبل أن يشعر بغيره، فهو دليل مغروس في فطرته، ومع ذلك لما فسدت فطرت المتكلمين بسبب المباحث الكلامية و غفلوا عن الأدلة القرآنية راحوا يبحثون عن أدلة عقلية يثبتون بها وجود الله، و لو سألتهم و سألت غيرهم أيعقل في ذهنك أن يوجد مفعولا لا فاعل له؟ لأجابوك بالنفي كلهم، و مع ذلك اجتهدوا في تحصيل الحاصل و توضيح الواضح.

[v] ـ أما في مسألة التوسل فإنها شبه ميتة يلبسون بها على الناس هذه البدع، ولا تمت للأدلة الشرعية بأية صلة، بل لا تحتاج لجهد لدحضها، فهي في معظمها من جنس قياسات المشركين التي فندها الله في كتابه.