بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري



يقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله الكريم في سورة الحجرات


يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

المقطع اول من هذه الآية الكريمة هي من بقية الآداب, وما بعدها يتعلق بالاعتقاد أدّبَنا الله تعالى نحن عباده المؤمنين وعلمنا كيف تكون الأخوة فيما بيننا , فقال عزوجل

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ

وفي تعليمه عزوجل لنا بعدم السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، ونهي عن العمل بالظن و
التجسس والغيبة

بعد ذلك نهانا المولى عزوجل عن التفاخر والفخر بالآباء والأجداد والأنساب والأحساب , وما الى ذلك من تفاخر

في ضمن هذه الآية خاطب الله تعالى فيها عباده جميعا وخصّ منهم الخطاب المؤمنين, وذلك ليُدخل فيها المؤمن والكافر, فتبيّن لكل منا


بأنه لا فخر إلا بالتقوى، ولا فضل لعربي على عجمي , ولا لعجمي على عربي إلا بتقوى الله تعالى

ففي هذه الآية يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى

وقد قيل إن المراد هو خلقهم من أصل واحد من آدم وحواء، أي أن أصلنا جميعا يرجع إلى أصل واحد أب وأم كما في قوله تعالى

إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
أي من رجل خلق من تراب وهو آدم وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا خلق زوجته منه



وإذا كان الأصل واحدا فلا فخر، لا فخر بالحسب ولا بالنسب ولا بغير ذلك، إنما الفخر بالتقوى, ولهذا قال عزوجل
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ

ولهذا ينادينا نحن عباده ب يا بني آدم كما في قوله تبارك وتعالى في سورة يس

أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ ألاّ تعبدوا الشيطان انه لكم عدؤٌّ مُبين

وكما في قوله تعالى في سورة الاعراف

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا

وقوله تعالى في موضع آخر
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ

وقد ردت أحاديث كثيرة في النهي عن مثل هذا التفاخر

كقوله صلى الله عليه وسلم
لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا أو ليكونن أهون على الله من الجُعل

وقوله عليه الصلاة والسلام
إن الله قد أذهب عنكم عُبية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب


وقوله عليه الصلاة والسلام

أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة

وكما نرى من الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل الفخر والتفاخر بالأحساب والأنساب من أمر الجاهلية الأولى, وكذلك جعل منها الطعن في الأنساب. لا شك أن ذكر الجاهلية يعد تنفيرا من هذه الخصال


ومنها الفخر؛ فالتفاخر بأفعال الآباء والأجداد لا يفيد، لا يفيد الإنسان إنما يفيده فعله وعمله هو؛ ولهذا يوبخ من يفتخر بآبائه , ورحم الله من قال:

كنْ ابن مـَنْ شئتَ واكتسـبْ أدبـاً.... يُغنيكَ محمودُهُ عن النسبِ
ذلك أنه من تحلى بهاتين الصفتين العظيمتين الأدب والعلم, فقد هدي الى صراط مستقيم, خاصة اذا علمنا أنّ الله تعالى مدح نبيه الكريم بخلقه وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس, فقال عزوجل في سورة القلم: وانك لعلى خلُقٍ عظيم

وقوله عليه الصلاة والسلام: انما بُعثتُ لأتممَ مكارم الأخلاق
ذلك أن الأخلاق هي عنوان الأمم , ورحم الله من قال
انما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فان هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

أي إذا اكتسبت أدبا واكتسبت علما أغناك عن أن تقول أنا ابن فلان أو آبائي فيهم كذا وكذا فلا فخر إلا بالتقوى،

ثم لا شك أن الآباء إذا كان لهم شرف فينتسب إليهم ويدعوا لهم وله أن يذكرهم ذكرا حسنا، ولهذا ورد أي في حديث أبي سفيان رضي الله عنه أول ما سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم-
قال كيف نسبه فيكم؟
فقال رضي الله عنه: هو فينا ذو نسب

يعني أنه من أصل شريف وذلك ليكون له رفعة في قومه وإن كان لا ينفعه في الأصل أو في الآخرة إلا فعله

ولما أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم بالدوافع للنكاح قال عليه الصلاة والسلام

تُنكحُ المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك

والمراد بالحسب شهرة النسب شهرة الآباء والأجداد وأفعالهم ونحو ذلك

وهذا مما يتفاخر به بعض من يتقدم إلى قوم ليخطب منهم ولكن قد يُفسدها حسبها وشرفها، وكذلك الرجل


واذا عدنا الى قول المولى تبارك وتعالى

إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا

نجد أن الله تعالى قد جعل الناس قبائل متعددة ومتفرقة في نواح البلاد, قبيلة آل فلان قبيلة تميم وقبيلة أسد وقبيلة خزيمة وقبيلة مضر وقبيلة ربيعة وهكذا لماذا؛ لأجل التعارف لا لأجل التفاخر،

أن يُعرف هذا الإنسان فيقال مثلا: هذا من ربيعة، وهذا من مُضر، وهذا من أسد، وهذا من تميم وهذا من غسان


انّ العرب العاربة والعرب المستعربة هم الذين احتفظوا بأنسابهم فمنهم من يفتخر بنسبه ومنهم من يحفظ نسبه؛ لأجل أن يُعرف ويتميز عن غيره، أما غير العرب فالأكثر أنهم لا يتميزون لا يميزون أنسابهم إنما فقط يمكن الرجل يعرف آباه وجده وجد أبيه، ولا يدري ما بعدهم ولا يتميز قبيلة عن قبيلة إلا القليل

ومع اختلاط العرب بالترك وبالفرس في صدر الإسلام لما انتقل كثير من العرب وسكنوا في خراسان وفي كثير من البلاد، بلاد فارس وفي الهند وغيرها، ضاعت أنسابهم فاحتاج الرواة إلى أن ينسبوهم إلى البلدان منهم من احتفظ بنسبه ومنهم من نسب إلى بلده كالبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم

مسلم احتفظ بنسبه أي بأنه من قبيلة قشير، قبيلة عربية. وكثر- أيضا- في رواة الحديث الموالي الذين ليس لهم نسب بالعربية وإنما هم من العتقاء وصاروا- أيضا- ينسبون إلى بلدانهم أو نحو ذلك

وبكل حال
فالله تعالى ذكر الحكمة من جعلهم شعوبا وقبائل، القبيلة يراد بها الأقربون ويقال لهم العشيرة والفخذ، في العشيرة قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ يعني أقاربكم، وهذا بيان أن الإنسان يحتفظ بعشيرته ويعرفهم ومعرفة عشيرته وأقاربه؛ لأجل صلة الرحم أي لأجل الصلة ولأجل البر بهم لا لأجل الافتخار بهم

وكذلك القبيلة لأجل الانتساب إليهم وكذلك الشعوب

الشعوب هم القبائل الكبيرة
شعوبا يعني قبائل كبيرة مثل ربيعة ومضر وتميم وحنظلة وحنيفة ويربوع
ذكروا أن قبائل العرب المستعربة هم ذرية إسماعيل الذين أخذوا العربية عن غيرهم ولكنهم أصبحوا عربا

وأما العرب العاربة فأصلهم في اليمن ثم امتدوا إلى الشام ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ

حديثا فيه أن سبأ رجل ولد له من العرب ولد له عشرة من الولد فتشاءم منهم أربعة، وتيامن منهم ستة، فأما الذين تشاءموا يعني صاروا في الشام فلخم وجزام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا فملحج وكندة والأزد والأشعريون وحمير وأنمار.
فاحتفظوا بها؛ لأجل أن يعرفوا لِتَعَارَفُوا ثم قال تعالى

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ

هذا بيان لما يفتخر به، أي لا تفتخروا بالآباء والأجداد ولكن افتخروا بالتقوى

وجاء في الحديث أن قوما قالوا: يا رسول الله أي الناس أكرم؟

قال عليه الصلاة والسلام
أكرمهم عند الله أتقاهم
قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال عليه الصلاة والسلام
فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله ابن خليل الله
قالوا: ليس عن هذا نسألك
قال عليه الصلاة والسلام فعن معادن العرب تسألوني؟
قالوا: نعم
قال عليه الصلاة والسلام: فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا

يعني أن الخصال التي كانوا في الجاهلية يتمادحون بها تبقى في الإسلام.
خيارهم في الإسلام هم خيارهم في الجاهلية بشرط أن يكونوا فقهاء، يعني عالمين بما ينفعهم وعالمين بما يلزمهم من أمر الله تعالى

فالخصال التي كانوا يتمدحون بها في الجاهلية إذا كانت خصال حميدة فإنها- أيضا- يمدح بها في الإسلام، فيمدح في الجاهلية والإسلام بالكرم والجود ونحوه
يقول بعضهم
ويظهر عيب الناس في المرء بخله
ويسـتره عنهـم جميعـا سـخاؤه

فالكرم والجود مما يمدح به في الإسلام والجاهلية، كذلك الشجاعة والإقدام يمدح بها في الجاهلية وهكذا في الإسلام، كذلك الأخلاق والآداب، كذلك لين الجانب وحسن الخلق هذه من الخصال التي يتأدب بها، يقول تعالى

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

التقوى

هي توقي عذاب الله تعالى وتوقي غضبه ومعصيته والبعد عن ذلك
وفسرت بتفاسير، ذكرها ابن كثير رحمه الله في أول سورة البقرة عند قوله

الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ

ومنها تفسير بعضهم بقوله: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله عزوجل، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقابه سبحانه وتعالى
وفسرها بعضهم بمثال، يعني مثال حسي، قال: إذا كنت حافيا ومشيت في أرض فيها شوك فكيف تمشي؟
قال: أتوقى ذلك وأنظر مواضع قدمي فلا أضع قدمي إلا في مكان ليس فيه شوك ولا أذى
فقال: هذا هو التقوى، يعني توقي هذا الأذى ونحوه، ورحم الله من قال
خــلِّ الـذنـــوب صغيرهــا وكبيرها ذاك التقى
وكن كمـاشٍ فــوق أرض الشوك يحذرُ ما يرى
لا تحقرنّ صغيرةٍ انّ الجبال من الحصى


فهذا بيان حقيقة التقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ


والله وحده أعلم

وجزا الله عنا فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين مقدّم هذا الشرح الميسر