بسم الله الرحمن الرحيم
كتبه غالب الساقي

ما دام أن الله سبحانه خلق للإنسان قدرة واختيارا وإرادة وهو لا يحاسبه سبحانه إلا على ما يقدر عليه أما ما يعجز عنه فهو لا يحاسبه عليه ولا يكلفه ما لا يطيقه فلا يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على فعل المعاصي لكونه إنما يفعل المعصية باختياره ويترك الطاعة باختياره

 إن من يحتج بالقدر على فعل المعاصي وترك الطاعات يسير على خطا المشركين ويتبع سبيلهم فقد حكى الله سبحانه عنهم سلوك هذا السبيل وخيم العواقب، قال سبحانه وتعالى:{سَيَقُول ُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)}[الأنعام].
وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)}[النحل].
وقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)}[يس].
وقال تعالى :{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)}[الزخرف].
فمن يحتج بقدر الله على الاستمرار على الكفر والمعاصي هو يأخذ بمذهب المشركية الذي حكاه الله عنهم .
 إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوضح لنا عدم جواز ترك العمل بحجة الإيمان بالقدر حين سألة بعض أصحابه : "أَفَلاَ نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟"فأجا هم بقوله : « اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ». ثُمَّ قَرَأَ ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)" متفق عليه .

 تارك الأسباب الشرعية الموصلة إلى جنة الله ورضوانه والنجاة من عذابه احتجاجا بالقدر لا نجده تاركا للأسباب المادية الموصلة إلى جلب المنافع ودفع المفاسد الدنيوية.
فهو مثلا لا يقبل أن يتناول السموم ويرتكب المخاطر في أمور الدنيا احتجاجا بالقدر في حين أنه يحتج به على ما هو أخطر من ذلك على فعل المعاصي التي توصل إلى الخسران المبين في الآخرة .
وفي حين أنه يحتج بالقدر على ترك الطاعات هو مقبل على جلب مصالح دنياه آخذ بالأسباب التي توصله إلى مبتغاه لا يترك شيئا منها ولا يقصر في سلوك كل سبيل يوصل إليها احتجاجا بالقدر .
فهو إذا طلب الولد أخذ بأسبابه ولم يطلبه بدون زواج.
وإذا طلب المال سلك السبل التي توصله إليه ولا يجلس في بيته عاطلا عن العمل محتجا بالقدر على حصول الرزق .
وإذا أحس بالجوع تناول الطعام لينال الشبع ولا يترك ذلك احتجاجا بالقدر .
فكونه يأخذ بالأسباب الدنيوية ولا يحتج بالقدر على تركها ولا يأخذ بالأسباب الشرعية محتجا بالقدر على تركها يدل بوضوح على أنه متناقض مبطل يدعي ما لا حقيقة له ولا نصيب له من الصحة.
 ثم يقال لهذا المحتج هل تقبل هذه الحجة نفسها التي تحتج بها لتستمر على معصية الله وترك طاعته لو صدرت من شخص ظلمك أو أساء إليك؟ حتما لا تعد ذلك عذرا مقبولا فلو كان احتجاجك أمرا صوابا لقبلته من غيرك حين يظلمك ورضيت به عذرا ولكن هيهات هيهات .

 ثم يقال له هل اطلعت على اللوح المحفوظ ورأيت فيه أنك ستستمر على هذه المعصية حتى الموت ما أدراك قد يكون مقدرا لك التوبة والموت على الطاعة فكيف تزعم أنه قد قدر لك المعصية مع أنك لا تعلم الغيب ولا تعلم ما في اللوح المحفوظ .

 ونقول له أيضا لو أن هذا المنهج الذي سلكته سلكه من يريد قتل الناس وقطع الطريق عليهم ونهب أموالهم واحتج على ذلك بالقدر هل تعد ذلك لهم عذرا مقبولا فإن قلت نعم قيل إذا فلا يحق لأحد أن يمنعهم من ذلك ولا أن يعقابهم على ذلك وعلينا أن لا نحول بينهم وبين ما أرادوا وهذا لا يمكن أن يقوله من له مسكة من عقل.

فإذا ما تبين بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعايب
فاعلم أن الاحتجاج بالقدر يكون محمودا ومطلوبا عند المصائب لكوننا مأمورين بالصبر والرضى عند المصائب والاستغفار والتوبة عند المعائب.
قال تعالى : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)}[غافر].
وقال-تبارك وتعالى-"{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)}[الحديد].
وقال تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}[التغابن].
قال ابن كثير في تفسيره:"{ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعَوَّضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه".
ولا بأس أيضا بالاحتجاج بالقدر بعد التوبة من المعصية لارتفاع اللوم عن التائب وعدم إسقاط حق أو إثبات باطل في هذا الاحتجاج .