تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 20 من 23 الأولىالأولى ... 1011121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 381 إلى 400 من 441

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #381
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3096 الى صـ 3110
    الحلقة (380)


    فلما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يستعلم خبرهم ، فجاءه وأطلعه على جلية الخبر ، وأنهم قاصدون إليه ، فاستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية مائة درع - وقيل أربعمائة - وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين : عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة ، وألفان من مسلمة الفتح ، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية ، ومضى لوجهه ، وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس ، والضحاك بن سفيان [ ص: 3096 ] الكلابي ، وجموع من عبس وذبيان ، ومزينة ، وبني أسد .

    ومر في طريقه بشجرة سدر خضراء ، وكان لهم في الجاهلية مثلها ، يطوف بها الأعراب ويعظمونها ، ويسمونها ذات أنواط ، فقالوا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ، فقال لهم : « قلتم كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده ! لتركبن سنن من كان قبلكم » .

    ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة ، وهو واد حزن فتوسطوه في غبش الصبح ، وقد كمنت هوازن في جانبيه ، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد ، وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا ، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر ، والفضل وقثم ابنا العباس ، وجماعة سواهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ( دلدل ) ، والعباس آخذ بشكائمها ، وكان جهير الصوت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة ـ ( قيل : وبالمهاجرين ) ـ فما سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا ، صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم ، فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم ، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتمع منهم حوالي المائة ، فاستقبلوا هوازن ، والناس متلاحقون ، واشتد الحرب ، وحمي الوطيس .

    ولما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته ، ثم قبض قبضة من تراب الأرض ، ثم استقبل به وجوههم وقال : « شاهت الوجوه » ! فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم ، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب .

    فلم يملكوا أنفسهم ، فولوا منهزمين ، ولحق آخر الناس ، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه ، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم ، واستحر القتل في بني مالك من ثقيف ، فقتل منهم يومئذ سبعون رجلا ، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس ، واتبعتهم طائفة من خيل [ ص: 3097 ] المسلمين الذين توجهوا من ( نخلة ) ، فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه .

    وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن ، أبا عامر الأشعري عم أبي موسى ، فقاتلهم ، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة ، فأخذ أبو موسى الراية ، وشد على قاتل عمه ، فقتله ، وانهزم المشركون ، وانفضت جموع أهل هوازن كلها ، واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة ، ثم جمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها ، فأمر بها فحبست ( بالجعرانة ) بنظر مسعود بن عمرو الغفاري .

    وسار صلى الله عليه وسلم من فوره إلى الطائف ، فحاصر بها ( ثقيف ) خمس عشرة ليلة ، وقاتلوا من وراء الحصون ، وأسلم من كان حولهم من الناس ، وجاءت وفودهم إليه ، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم عن الطائف ، ونزل الجعرانة فيمن معه من الناس وأتاه هناك وفد هوازن ، مسلمين راغبين ، فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال ، فاختاروا العيال والأبناء ، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : « ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم » ، وقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لم تطب نفسه عوضه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نصيبه ، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم .


    وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى ، والإبل أربعة وعشرون ألفا ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، وقسم صلى الله عليه وسلم الأموال بين المسلمين ، ونقل كثيرا من الطلقاء ـ وهم الذين من عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإطلاق يوم فتح مكة من الأسر ونحوه ـ يتألفهم على الإسلام ، مائة مائة من الإبل ، ومنهم مالك بن عوف النصري . فقال حين أسلم :


    ما إن رأيت ولا سمعت بمثله في الناس كلهم بمثل محمد

    أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي
    ومتى يشأ يخبرك عما في غد

    وإذا الكتيبة عردت أنيابها
    بالسمهري وضرب كل مهند

    فكأنه ليث على أشباله
    وسط الهباءة خادر في مرصد


    [ ص: 3098 ] الثاني : قال الإمام ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) في فصل جود فيه :

    الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنكت الحكمية ما نصه :

    كان الله عز وجل قد وعد رسوله ، وهو صادق الوعد ، وأنه إذا فتح مكة ، دخل الناس في دينه أفواجا ، ودانت له العرب بأسرها ، فلما تم له الفتح المبين ، اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام ، وأن يجمعوا ويتأهبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، ليظهر أمر الله ، وتمام إعزازه لرسوله ، ونصره لدينه ، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح ، وليظهر الله سبحانه رسوله وعباده ، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها ، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب ، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين ، وتبدو للمتوسمين .

    واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة ، والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم ، وقوة شوكتهم ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح ، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا رأسه منحنيا على فرسه ، حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه ، وخضوعا لعظمته ، واستكانة لعزته ، أن أحل له حرمه وبلده ، ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده ، وليبين سبحانه لمن قال : « لن نغلب اليوم عن قلة » ، أن النصر إنما هو من عنده ، وأنه من ينصره ، فلا غالب له ، ومن يخذله ، فلا ناصر له غيره ، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه ، لا كثرتكم التي أعجبتكم ، فإنها لم تغن عنكم شيئا ، فوليتم مدبرين ، فلما انكسرت قلوبهم ، أرسلت إليها خلع الجبر مع بريد النصر ، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا لم تروها ، وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون

    [ ص: 3099 ] ومنها : أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم مكة ، فلم يغنموا منها ذهبا ولا فضة ، ولا متاعا ولا سبيا ، ولا أرضا كما روى أبو داود ، عن وهب بن منبه ، قال : سألت جابرا : هل غنموا يوم الفتح شيئا ؟ قال : لا !

    وكانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب ، وهم عشرة آلاف ، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة ، فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم ، وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ، ونعمهم وشياههم ، وسبيهم معهم نزلا وضيافة ، وكرامة ، لحزبه وجنده ، وتمم تقديره سبحانه بأن أطمعهم في الظفر ، وألاح لهم مبادئ النصر ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا .

    فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه ، وبرزت الغنائم لأهلها ، وجرت فيها سهام الله ورسوله ، قيل : لا حاجة لنا في دمائكم ، ولا في نسائكم وذراريكم ، فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة ، فجاءوا مسلمين .

    فقيل : إن من شكر إسلامكم وإتيانكم أن نرد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم .

    و : إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم

    ومنها : أن الله سبحانه افتتح غزوات العرب بغزوة بدر ، وختم غزوهم بغزوة حنين ، ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر ، فيقال : بدر وحنين ، وإن كان بينهما سبع سنين ، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين ، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما ، وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فالأولى خوفتهم وكسرت من حدهم ، والثانية استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامهم ، وأذلت جمعهم حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله .

    [ ص: 3100 ] ومنها : أن الله سبحانه جبر بها أهل مكة ، وفرحهم بما نالوه من النصر والمغنم ، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم ، وإن كان عين جبرهم ، وعرفهم تمام نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هوازن ، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة ، وإنما نصروا عليهم بالمسلمين ، ولو أفردوا عنهم ، لأكلهم عدوهم . . . إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تعالى . انتهى .

    الثالث : قال بعضهم : دلت الآية على أنه يجب الانقطاع إلى الله تعالى ، والاتكال عليه .

    ودل ما حكي في القصة على جواز ما ورد حسنه من جواز التأليف ، وملاطفة المؤمنين والرمي بالحصا حالة الحرب ، والأصوات التي يرهب بها . انتهى .

    ولابن القيم في ( " زاد المعاد " ) فصول حسنة في فقه هذه الواقعة . فلينظر .

    الرابع : قوله : ويوم حنين قيل : منصوب بمضمر معطوف على ( نصركم ) ، أي : ونصركم يوم حنين ، واستظهر عطفه على محل في مواطن بحذف المضاف في أحدهما ، أي : ومواطن يوم حنين ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين .

    قال أبو مسعود : ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر . انتهى .

    قال الشهاب : فيكون عطف ( يوم حنين ) على منوال ( ملائكته وجبريل ) ، كأنه قيل : نصركم الله في أوقات كثيرة ، وفي وقت إعجابكم بكثرتكم ، ولا يرد عليه ما قيل إن المقام لا يساعد عليه ، لأنه غير وارد ، لتفضيل بعض الوقائع على بعض ، ولم يذكر المواطن توطئة ليوم حنين كالملائكة ، إذ ليس يوم حنين بأفضل من يوم بدر ، وهو فتح الفتوح ، وسيد الواقعات ، وبه نالوا القدح المعلى ، والدرجات العلى ، لأن القصد في مثله إلى أن ذلك الفرد فيه من المزية ما صيره مغايرا لجنسه ، لأن المزية ليس المراد بها الشرف ، وكثرة الثواب فقط ، حتى يتوهم هذا ، بل ما يشمل كون شأنه عجيبا ، وما وقع فيه غريبا ، للظفر بعد اليأس ، والفرج بعد الشدة ، إلى غير ذلك من المزايا . انتهى .

    [ ص: 3101 ] ثم أشار تعالى إلى أن موالاة المشركين ، مع عدم إفادتها التقوية المحصلة للنصر ، تضر بسريان نجاسة بواطنهم إلى بواطن المؤمنين الطاهرة ، فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 28 ] يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم .

    يا أيها الذين آمنوا أي : المطهرة بواطنهم بالإيمان إنما المشركون نجس أي : ذوو نجس ، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، هو مجاز عن خبث الباطن ، وفساد العقيدة ، مستعار لذلك ، أو هو حقيقة ، لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ، ولا يجتنبون النجاسات ، فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها .

    فلا يقربوا المسجد الحرام أي : لحج أو عمرة كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، قال المهايمي : لأن المسجد الحرام يجتمع فيه المتفرقون في الأرض ، ليسري صفاء القلوب من بعض إلى بعض ، وها هنا يخاف سريان الظلمات في العموم .

    بعد عامهم هذا أي : بعد حج عامهم هذا ، وهو عام تسع من الهجرة ، حين أمر أبو بكر على الموسم ، وتقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتبع أبا بكر بعلي رضي الله عنهما ، لينادي في المشركين : « ألا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان » . فأتم الله ذلك ، وحكم به شرعا وقدرا .

    وإن خفتم عيلة أي : فقرا بسبب منعهم من الحرم ، لانقطاع أرفاق كانت لكم من قدومهم فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء أي : من فتح البلاد ، وحصول المغانم ، وأخذ الجزية ، وتواجه الناس من أقطار الأرض .

    قال ابن إسحاق : إن الناس قالوا : لتقطعن عنا الأسواق ، فلتهلكن التجارة ، وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فقال الله تعالى : [ ص: 3102 ] وإن خفتم عيلة إلى قوله :

    وهم صاغرون أي : هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوضهم الله مما قطع عنهم بأمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية . انتهى .

    إن الله عليم أي : بما يصلحكم : حكيم أي : فيما يأمر به وينهى عنه .

    تنبيهات :

    الأول : دلت الآية على نجاسة المشرك ، كما في الصحيح « المؤمن لا ينجس » ، وأما نجاسة بدنه ، فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ، لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب .

    وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ ، رواه ابن جرير ، ونقله ابن كثير .

    وأقول : الاستدلال بكونه تعالى أحل طعام أهل الكتاب غير ناهض ، لأن البحث في المشركين وقاعدة التنزيل الكريم التفرقة بينهم وبين أهل الكتاب ، فلا يتناول أحدهما الآخر فيه .

    وقال بعض المفسرين اليمنيين : مذهب القاسم والهادي وغيرهما ، أن الكافر نجس العين ، آخذا بظاهر الآية ، لأنه الحقيقة ويؤيد ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني قال : فإنه قال : للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأتي أرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : « اغسلوها ثم اطبخوا فيها » ،

    [ ص: 3103 ] وقال زيد والمؤيد بالله والحنفية والشافعية : إن المشرك ليس نجس العين ، لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشرك ، واستعار من صفوان دروعا ولم يغسلها ، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسارى ولا تغسل ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطبخون في أواني المشركين ولا تغسل . وأولوا الآية بما تقدم من الوجوه ، وكل متأول ما احتج به الآخر . انتهى .

    الثاني : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) في قوله تعالى : فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا إن الكافر يمنع من دخول الحرم ، وإنه لا يؤذن له في دخوله ، لا للتجارة ولا لغيرها ، وإن كانت مصلحة لنا ، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء وغيرهم .

    واستدل بظاهر الآية من أباح دخوله الحرم سوى المسجد ، لقصره في الآية عليه ، واستدل الشافعي بظاهر الآية على أنهم لا يمنعون من دخول سائر المساجد ، لقوله : ( الحرام ) ، وقاس عليه غيره سائر المساجد .

    واستدل أبو حنيفة بظاهرها أيضا على أن الكتابي لا يمنع دخوله لتخصيصه بالمشرك . انتهى . وهو المتجه .

    قال الشهاب : وبالظاهر أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، إذ صرف المنع عن دخوله الحرم للحج والعمرة ، بدليل قوله تعالى : وإن خفتم عيلة فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم ، وهو ظاهر ، أي : لأن موضع التجارات ليس عين المسجد . ونداء علي كرم الله وجهه بقوله : « ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك » ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، يعينه ، فلا يقال إن منطوق الآية يخالفه . انتهى .

    الثالث : قال الناصر : قد يستدل بقوله تعالى : فلا يقربوا الآية ، من يقول إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وخصوصا بالمناهي ، فإن ظاهر الآية توجه النهي [ ص: 3104 ] إلى المشركين ، إلا أنه بعيد ، لأن المعلوم من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهي ، والمقصود تطهير المسجد الحرام بإبعادهم عنه ، فلا يحصل هذا المقصود إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه .

    ويرشد إلى أن المخاطب في الحقيقة المسلمون ، تصدير الكلام بخطابهم في قوله :

    يا أيها الذين آمنوا وتضمينه نصا بخطابهم بقوله : وإن خفتم عيلة وكثيرا ما يتوجه النهي على من المراد خلافه ، وعلى ما المراد خلافه ، إذا كانت ثم ملازمة كقوله : لا أرينك ها هنا ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون انتهى .

    الرابع : ( العيلة ) مصدر من ( عال ) بمعنى افتقر . قرئ ( عائلة ) ، وهو إما مصدر بوزن فاعلة ، أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر ، أي : حالا عائلة ، أي : مفقرة .

    قال ابن جني : هذه من المصادر التي جاءت على فاعلة ، كالعاقبة والعافية . ومنه قوله تعالى : لا تسمع فيها لاغية أي : لغوا ومنه قولهم : مررت به خاصة ، أي : خصوصا وأما قوله تعالى : ولا تزال تطلع على خائنة منهم فيجوز أن يكون مصدرا ، أي : خيانة ، وأن يكون على تقدير : نية أو عقيدة خائنة . وكذا ها هنا يقدر : إن خفتم حالا عائلة . انتهى .

    الخامس : إن قيل : ما وجه التعليق بالمشيئة في قوله تعالى : إن شاء مع أن المقام وسبب النزول ، وهو خوفهم الفقر ، يقتضي دفعه بالوعد بإغنائهم من غير تردد ؟

    فالجواب : أن الشرط لم يذكر للتردد ، بل لبيان أنه بإرادته لا سبب له غيرها ، فانقطعوا إليه ، واقطعوا النظر عن غيره ، ولينبه على أنه متفضل به ، لا واجب عليه ، لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى الإرادة ، فلا يقال إن هذا لا حاجة إلى أخذه من الشرط ، مع قوله : من فضله ، لأن قوله : من فضله يفيد أنه عطاء وإحسان ، وهذا يفيد أنه بغير إيجاب ، وشتان بينهما ، وقيل إنه للتنبيه على أنه بإرادته ، لا بسعي المرء وحيلته :


    لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أقطار السماء تعلقي


    [ ص: 3105 ] كذا في ( " العناية " ) .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 29 ] قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

    قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون اعلم أنه لما ذكر تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم ، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام وعدم الخوف من الفاقة المتوهمة من انقطاعهم ، ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية ، منبها في تضاعيف ذلك على بعض طرق الإغناء الموعود على الوجه الكلي ، مرشدا إلى سلوكه ابتغاء لفضله ، واستنجازا لوعده .

    قال مجاهد : نزلت الآية حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الروم ، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك .

    وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين . انتهى .

    ولا يخفى شمول الآية لكل ذلك بلا تخصيص .

    قال ابن كثير : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب - اليهود والنصارى - وكان ذلك في سنة تسع ، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ، ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ وحر .

    وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام [ ص: 3106 ] لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريبا من عشرين يوما ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى . انتهى .

    والتعبير عن ( أهل الكتاب ) بالموصول المذكور ، للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال ، فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، كما أمر تعالى ، إذ لديهم من فساد العقيدة ، فيما يجب له تعالى وفي البعث ، أعظم ضلال وزيغ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله يعني ما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة .

    وقيل : المراد برسوله الرسول الذي يزعمون اتباعه ، فالمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا ، إذ غيروا وبدلوا اتباعا لأهوائهم .

    وقوله : هاب : فيكون المراد : لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم ، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم ، وقوله تعالى : دين الحق من إضافة الموصوف للصفة ، أو المراد بالحق : الله تعالى .

    وقوله : حتى يعطوا الجزية أي : ما تقرر عليه أن يعطوه .

    قال ابن الأثير : الجزية المال الذي يعقد عليه الكتابي الذمة ، وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله .

    وقال الراغب : سميت بذلك للاجتزاء بها عن حقن دمهم .

    وقال الشهاب : قيل مأخذها من ( الجزاء ) بمعنى القضاء . يقال : جزيته بما فعل ، أو جازيته ، أو أصلها الهمز من ( الجزء والتجزئة ) ، لأنها طائفة من المال يعطى ، وقيل : إنها معرف ( كزيت ) ، وهو الجزية بالفارسية . انتهى .

    وقوله تعالى : عن يد حال من فاعل : ( يعطوا ) و ( اليد ) هنا إما بمعنى الاستسلام والانقياد ، يقال : هذه يدي لك ، أي : استسلمت إليك ، وانقدت لك ، وأعطى يده أي : انقاد .

    كما يقال في خلافه : نزع يده من الطاعة . لأن من أبى وامتنع ، لم يعط يده ، بخلاف المطيع [ ص: 3107 ] المنقاد ، وإما بمعنى النقد ، أي : حتى يعطوها نقدا غير نسيئة ، فيكون ك ( اليد ) في قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تبيعوا الذهب والفضة . . . إلى قوله : ( يدا بيد ) » .

    وإما بمعنى الجارحة الحقيقية ، و ( عن ) بمعنى الباء ، أي : لا يبعثون بها عن يد أحد ، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ .

    وإما بمعنى : من طيبة نفس ، قال أبو عبيدة : كل من انطاع لقاهر بشيء أعطاه ، من غير طيب نفس به وقهر له ، من يد في يد ، فقد أعطاه عن يد . ( " مجاز القرآن " ج 1 ص 256 ) .

    وإما بمعنى الجماعة ، أنشد ابن الأعرابي :


    أعطى فأعطاني يدا ودارا وباحة حولها عقارا


    الأساس ج 2 ص 560 واللسان ج 15 ص 425 , بيروت ومنه الحديث : « وهم يد على من سواهم » . أي : هم مجتمعون على أعدائهم ، يعاون بعضهم بعضا - قاله أبو عبيدة - وإما بمعنى الذل - نقله ابن الأعرابي وحكاه وجها في الآية - .

    هذا إن أريد باليد يد المعطي ، وإن أريد بها يد الآخذ ، فاليد إما بمعنى القوة ، أي : عن يد قاهرة مستولية ، ويقولون : ما لي به يد أي : قوة ، وإما بمعنى السلطان ، وهو كالذي قبله ، ومنه يد الريح سلطانها . قال لبيد :


    نطاف أمرها بيد الشمال


    لما ملكت الريح تصريف السحاب ، جعل لها سلطان عليه .

    وإما بمعنى النعمة ، أي : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبول الجزية ، وترك أنفسهم عليهم ، نعمة عليهم .

    [ ص: 3108 ] قال الناصر في ( " الانتصاف " ) : وهذا الوجه أملى بالفائدة .

    وإما بمعنى الغنى ، حكاه في ( " العناية " ) ، ونقله ( " التاج " ) من معاني اليد .

    وقوله تعالى : وهم صاغرون أي : أذلاء .

    تنبيهات :

    الأول : قوله تعالى : عن يد إما حال من الضمير في : ( يعطوا ) ، أو من الجزية أي : مقرونة بالانقياد ، ومسلمة بأيديهم ، وصادرة عن غنى ، ومقرونة بالذلة ، وكائنة عن إنعام عليهم . كذا في ( " العناية " ) .

    الثاني : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : هذه الآية أصل قبول الجزية من أهل الكتاب .

    الثالث : قال أيضا : استدل من قال بأن معنى اليد فيما تقدم الغنى ، أنها تجب على معسر ، ومن قال بأنه لا يرسل بها ، على أنه لا يجوز توكيل مسلم بها ، ولا أن يضمنها عنه ، ولا أن يحيل بها عليه .

    الرابع : قال السيوطي أيضا : استدل بقوله تعالى : وهم صاغرون من قال إنها تؤخذ بإهانة ، فيجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه ، ويحني ظهره ، ويضعها في الميزان ، ويقبض الآخذ لحيته ، ويضرب لهزمتيه .

    قال : ويرد به على النووي حيث قال : إن هذه سيئة باطلة . انتهى .

    قلت : ولقد صدق النووي عليه الرحمة والرضوان ، فإنها سيئة قبيحة ، تأباها سماحة الدين ، والرفق المعلوم منه ، ولولا قصده الرد على من قاله لما شوهت بنقلها ديباجة الصحيفة .

    ثم رأيت ابن القيم رد ذلك بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو مقتضى الآية ، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، قال : والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله تعالى عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك الصغار وبه قال الشافعي . انتهى .

    [ ص: 3109 ] ثم قال السيوطي : واستدل بالآية من قال : إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام ، لأن مفهومها الكف عنهم عند أدائها ، ومن الكف ألا يجلوا ، ومن قال لا حد لأقلها ، ومن قال هي عوض حقن الدم لا أجرة الدار . انتهى .

    الخامس : روى أبو عبيد في كتاب " الأموال " عن ابن شهاب قال : أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب ، أهل نجران ، وكانوا نصارى .

    السادس : قال أبو عبيد : ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب ، وعلى المجوس بالسنة .

    وقال ابن القيم : فلما نزلت آية الجزية ، أخذها صلى الله عليه وسلم من ثلاث طوائف : من المجوس ، واليهود ، والنصارى ، ولم يأخذها من عباد الأصنام .

    فقيل : لا يجوز أخذها من كافر غير هؤلاء ومن دان بدينهم ، اقتداء بأخذه وتركه . وقيل : بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب ، والأول : قول الشافعي رحمه الله ، وأحمد ، ( في إحدى روايتيه ) .

    والثاني : قول أبي حنيفة ، وأحمد رحمهما الله في الرواية الأخرى .

    وأصحاب القول الثاني يقولون : إنما لم يأخذها من مشركي العرب ، لأنها إنما نزل فرضها بعد أن أسلمت دارة العرب ، ولم يبق فيها مشرك ، فإنها نزلت بعد فتح مكة ، ودخول العرب في دين الله أفواجا ، فلم يبق بأرض العرب مشرك ، ولهذا غزا بعد الفتح تبوك ، وكانوا نصارى ، ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه ، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين .

    ومن تأمل السير ، وأيام الإسلام ، علم أن الأمر كذلك ، فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ عنه ، لا لأنهم ليسوا من أهلها ، قالوا : وقد أخذها من المجوس ، وليسوا بأهل كتاب ، ولا يصح أنه كان لهم كتاب ، ورفع وهو حديث لا يثبت مثله ، ولا يصح سنده .

    ولا فرق بين عباد النار ، وعباد الأصنام ، بل أهل الأوثان أقرب حالا من عباد النار ، وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار ، بل عباد النار أعداء إبراهيم الخليل ، فإذا أخذت منهم الجزية فأخذها من [ ص: 3110 ] عباد الأصنام أولى ، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت في " صحيح مسلم " أنه قال : « إذا لقيت عدوك من المشركين ، فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث ، فأيتهن أجابوك إليها ، فاقبل منهم ، وكف عنهم » . ثم أمره أن يدعوهم إلى الإسلام ، أو الجزية ، أو يقاتلهم .

    وقال المغيرة لعامل كسرى : « أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله ، أو تؤدوا الجزية » .

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش : « هل لكم في كلمة تدين لكم بها العرب ، وتؤدي العجم إليكم بها الجزية ؟ » . قالوا : ما هي ؟ قال : « لا إله إلا الله » .

    ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي حلة ، النصف في صفر ، والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا ، وثلاثين فرسا ، وثلاثين بعيرا ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح ، يغزون بها ، والمسلمون ضامنون بها ، حتى يردوها عليهم ، إن كانت باليمن كيدة أو غدرة ، وعلى ألا يهدم لهم بيعة ، ولا يخرج لهم قس ، ولا يفتنوا عن دينهم ، ما لم يحدثوا حدثا ، أو يأكلوا الربا .

    ولما وجه معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل محتلم دينارا أو قيمته من الثياب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #382
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3111 الى صـ 3125
    الحلقة (381)




    وفى هذا دليل على أن الجزية غير مقدرة الجنس ، ولا القدر ، بل يجوز أن تكون ثيابا وذهبا وحللا ، وتزيد وتنقص بحسب حاجة المسلمين ، واحتمال من تؤخذ منه ، وحاله [ ص: 3111 ] في الميسرة ، وما عنده من المال .

    ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خلفاؤه في الجزية بين العرب والعجم ، بل أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب ، وأخذها من مجوس هجر ، وكانوا عربا ، فإن العرب أمة ليس لها في الأصل كتاب ، وكانت كل طائفة منهم تدين بدين من جاورها من الأمم ، فكانت عرب البحرين مجوسا لمجاورتها فارس ، وتنوخ ، وبهرة ، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم ، وكانت قبائل من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن ، فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الجزية ، ولم يعتبر آباءهم ، ولا متى دخلوا في دين أهل الكتاب : هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده ، ومن أين يعرفون ذلك ، وكيف ينضبط وما الذي دل عليه ؟ وقد ثبت في السير والمغازي ، أن من الأنصار من تهود أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى ، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : لا إكراه في الدين وفي قوله لمعاذ : « خذ من كل حالم دينارا » دليل على أنها لا تؤخذ من صبي ولا امرأة .

    السابع : قال الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتابه ( " الخراج " ) :

    وليس في شيء من أموالهم ، الرجال منهم والنساء ، زكاة ، إلا ما اختلفوا به في تجارتهم ، فإن عليهم نصف العشر ، ولا يؤخذ من مال حتى يبلغ مائتي درهم ، أو عشرين مثقالا من الذهب ، أو قيمة ذلك من العروض للتجارة ، ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية ، ولا يقاموا في الشمس ولا غيرها ، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره ، ولكن يرفق بهم ، ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم ، ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفى منهم الجزية ، ولا يحل للوالي أن يدع أحدا من النصارى واليهود والمجوس والصابئين والسامرة ، إلا أخذ منهم الجزية ، ولا يرخص لأحد منهم في ترك شيء من ذلك ، ولا يحل [ ص: 3112 ] أن يدع واحدا ويأخذ من واحد ، ولا يسع ذلك ، لأن دماءهم وأموالهم إنما أحرزت بأداء الجزية ، والجزية بمنزلة مال الخراج .

    ثم قال أبو يوسف مخاطبا هارون الرشيد :

    وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم ، والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ، ولا يكلفوا فوق طاقتهم ، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم ، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه » . وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته : أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، ولا يكلفوا فوق طاقتهم .

    قال : وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد أنه مر على قوم قد أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام ، فقال : ما شأن هؤلاء ؟ فقيل له أقيموا في الشمس في الجزية ! قال : فكره ذلك ، ودخل على أميرهم ، وقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من عذب الناس عذبه الله » .

    قال : وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب مر بطريق الشام وهو راجع في مسيره من الشام على قوم قد أقيموا في الشمس ، يصب على رؤوسهم الزيت ، فقال : ما بال هؤلاء ؟ فقال : عليهم الجزية لم يؤدوها ، فهم يعذبون حتى يؤدوها ! فقال عمر : فما يقولون هم وما يعتذرون به في الجزية ؟ قالوا : يقولون لا نجد ! قال : فدعوهم لا تكلفوهم ما لا يطيقون ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تعذبوا الناس ، فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا ، يعذبهم الله يوم القيامة وأمر بهم فخلي سبيلهم » .

    [ ص: 3113 ] ثم قال : وحدثني عمير بن نافع عن أبي بكر قال : مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل ، شيخ ضرير البصر ، فضرب عضده من خلفه وقال : من أي أهل الكتاب أنت ؟ فقال : يهودي . قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : أسأل الجزية ، والحاجة والسن ، قال : فأخذ عمر بيده ، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه ، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شيبته ، ثم نخذله عند الهرم : إنما الصدقات للفقراء والمساكين والفقراء المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب .

    ووضع عنه الجزية وعن ضربائه . قال : قال أبو بكر : أنا شهدت ذلك من عمر ، ورأيت ذلك الشيخ . انتهى .

    الثامن : في الغرض من الجزية ورأفة المسلمين بمن أظلوهم بسيوفهم .

    قال الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر في كتاب " الإسلام والنصرانية " في هذا المعنى ، تحت بحث المقابلة بين الإسلامي الحربي والمسيحية السلمية ، ما نصه ص 74 :

    الإسلام الحربي ، كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ، ثم يترك الناس ، وما كانوا عليه من الدين ، يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك الاعتقاد ، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها ، لتكون عونا على صيانتهم ، والمحافظة على أمنهم في ديارهم ، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار ، لا يضايقون في عمل ، ولا يضامون في معاملة . خلفاء المسلمين ، كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال ، وكل من لم يعن على القتال .

    جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، ومن آذى ذميا فليس منا واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام ، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين [ ص: 3114 ] عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في الإسلام وضيق الصدر من طبع الضعيف ، فذلك مما لا يلصق بطبيعته ، ويخلط بطينته .

    المسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها ، تراقب أعمال أهله ، وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر ، مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم ، وتعميدهم ، أجلتهم عن ديارهم ، وغسلت الديار من آثارهم ، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا ، لا يمنع غير المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد ، أو شدة العضد ، كما شاهد التاريخ ، وكما يشهده كاتبوه .

    ثم قال : فأنت ترى الإسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها ، بشيء من المال ، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم ، وبأن يعيشوا في هدوء ، لا يعكرون معه صفو الدولة ، ولا يخلون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخي لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شؤونهم الخاصة بهم ، لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائرهم . انتهى .

    وفي كتاب ( " أشهر مشاهير الإسلام " ) في بحث إجلاء أهل نجران ما نصه :

    إن أساس الدعوة إلى الإسلام التبليغ ، وأنه لا إكراه في الدين ، فمن قبلها كان من المسلمين ، ومن أبى فعليه أن يخضع لسلطانهم ، وأن يعطيهم جزءا من ماله يستعينون به على حماية ماله وعرضه ونفسه ، وله عليهم حق الوفاء بما عاهدوه عليه ، وقال : لا يفتن عن دينه ، وأن تكون له الذمة والعهد أنى حل ، وحيثما وجد من ممالك الإسلام ، ما دام وافيا بعهده ، مؤديا لجزيته ، لا يخون المسلمين ، ولا يمالئ عليهم عدوهم ، وأحسن شاهد على هذا نسوقه إليك في هذا الفصل ، خبر أهل نجران اليمن ، وكانوا من الكتابيين ، لتعلم كيف كانت معاملة أهل الذمة ، ومبلغ محافظة الخلفاء على عهودهم معهم ، ما لم يخونوا أو يغدروا .

    وتحرير الخبر عنهم أنهم وفد وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام فأبوا ، [ ص: 3115 ] وسألوه الصلح ، وأن يقبل منهم الجزاء ، فصالحهم على شيء معلوم ، يؤدونه كل سنة للمسلمين وكتب لهم بذلك كتابا جعل لهم فيه ذمة الله وعهده ، وأن لا يفتنوا عن دينهم ، ومراتبهم فيه ، ولا يحشروا ولا يعشروا ، وأن يؤمنوا على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم ، وغائبهم وشاهدهم وعيرهم ، وبعثهم وأمثلتهم. لا يغير ما كانوا عليهن ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف ، غير ظالمين ولا مظلومين ، ولهم على ذلك جوار الله ، وذمة رسوله أبدا ، حتى يأتي أمر الله ، ما نصحوا وأصلحوا .

    واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا ، ولا يتعاملوا به .

    ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، أقرهم على حالهم ، وكتب لهم كتابا على نحو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أنه كان يتخوفهم ، ويود إجلاءهم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يبقين في جزيرة العرب دينان » .

    ولما حضر أبا بكر الوفاة ، أوصى عمر بن الخطاب بإجلاءهم لنقضهم العهد بإصابتهم الربا .

    فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ، لأن العرب أمة حديثة عهد بالإسلام ، قد عانى صلى الله عليه وسلم ما عانى في جمع كلمتها ، وتوحيد وجهتها ، فمن الخطر أن يوجد بين ظهرانيها قوم يدينون بغير دينها ، فيفتنون من جاورهم عن الإسلام ، على حداثة عهدهم فيه ، وعدم تمكنهم بعد من أصوله الصحيحة .

    هذا من وجه ، ومن وجه آخر ، فإن النجرانيين كانوا يتاجرون بالربا ، ولا يخفى ما فيه من الضرر على من جاورهم [ ص: 3116 ] من أهل اليمن ، الذين ينضب التعامل بالربا معين ثروتهم ، ويؤذن بفقرهم ، على غير شعور منهم ، لا سيما وأن الشريعة الإسلامية قد حرمته تحريما باتا ، ولا يؤمن من أن النجرانيين ، باستمرارهم على تعاطي الربا ، يحملون بعض من جاورهم من المسلمين على ارتكاب الإثم بالتعامل معهم بالربا .

    ومع هذه الأسباب التي تلجيء إلى إكراه النجرانيين على الإسلام ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرههم على ذلك ، لأن شريعته لم تأذن بإكراه أهل الكتاب على الإسلام ، لهذا تركهم على دينهم ، بعد أن دعاهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن ، فأبوا ، وأعطاهم كتاب العهد المذكور ، إلا أنه اشترط عليهم فيه أن لا يخونوا المسلمين ، ولا يتعاملوا بالربا كما رأيت .

    ولما استخلف أبو بكر أكد لهم عهدهم الأول ، مع أنه كان يرى في وجودهم في جزيرة العرب من الخطر ما كان يراه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يسعه في أمرهم إلا ما وسع الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا علم أنهم خانوا العهد ، وتعاملوا بالربا ، أمر في حال مرضه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإجلائهم عن جزيرة العرب ، دون أن يفتنوا في دينهم .

    ولما استخلف عمر رضي الله عنه ، كان أول بعث بعثه ، بعث أبي عبيد إلى العراق ، وبعث يعلى بن أمية إلى اليمن ، وأمره بإجلاء أهل نجران ، وأن يعاملهم بالرأفة ويشتري أموالهم ، ويخيرهم عن أرضهم في أي أرض شاءوا من بلاد الإسلام ، لا أن يعاملهم معاملة القوي الغالب للضعيف المغلوب ، كما هو شأن كل دولة من الدول قبل الإسلام وبعده ، حتى الآن ، في معاملة الأمم التي تخالف مذهبها ، وتخضع لقوة سلطانها ، فتفرقوا ، فنزل بعضهم الشام ، وبعضهم النجرانية بناحية الكوفة ، وبهم سميت .

    ولم تقف العناية بهم في إجلائهم ، والمحافظة على ما بيدهم من العهد ، وتعويضهم عما تركوه من العقار والمال عند هذا الحد ، بل كانوا يجدون بعد ذلك من الخلفاء كل رعاية ورفق .

    من ذلك أنهم شكوا مرة إلى عثمان رضي الله عنه - لما استخلف - ضيق أرضهم ، ومزاحمة الدهاقين لهم ، وطلبوا إليه [ ص: 3117 ] تخفيف جزيتهم ، فكتب إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، عامله على الكوفة ، كتابا يوصيه بهم ، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم ، لوجه الله ، وعقبى لهم من أرضهم .

    وروى البلاذري ، أنه لما ولي معاوية ، أو يزيد بن معاوية ، شكوا إليه تفرقهم ، وموت من مات منهم ، وإسلام من أسلم منهم ، وأحضروه كتاب عثمان بن عفان ، بما حطهم من الحلل ، وقالوا : إنما ازددنا نقصانا وضعفا ، فوضع عنهم مائتي حلة تتمة أربعمائة حلة .

    فلما ولي الحجاج العراق ، وخرج ابن الأشعث عليه ، اتهمهم والدهاقين بموالاته ، فرد جزيتهم إلى ما كانت عليه .

    فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة ، شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم ، فأمر فأحصوا فبلغوا العشر من عدتهم ، فألزمهم مائتي حلة جزية عن رؤوسهم فقط .

    فلما ولي يوسف بن عمر العراق ، في خلافة الوليد بن يزيد الأموي ردهم إلى ما كانوا عليه ، عصبية للحجاج .

    فلما انقضت دولة الأموي واستخلف أبو العباس السفاح ، رفعوا إليه أمرهم ، وما كان من عمر بن عبد العزيز ويوسف بن عمر ، فردهم إلى مائتي حلة ولما استخلف هارون الرشيد شكوا إليه تعنت العمال معهم ، فأمر فكتب لهم كتاب بالمائتي حلة ، وبالغ بالرفق بهم ، فأمر أن يعفوا من معاملة العمال ، وأن يكون مؤداهم بيت المال بالحضرة ، كي لا يتعنتهم أحد من العمال .

    هذا ما رواه المؤرخون في شأن هؤلاء الكتابيين الذين أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جزيرة العرب .

    وقد رأيت مما مر مبلغ عناية عمر رضي الله عنه بهم ، لما لم ير بدا من إجلائهم للأسباب التي مر ذكرها .

    وقد كان من السهل إكراههم على الإسلام ، ودخولهم فيه ، كما دخل أولئك الملايين من مشركي العرب ، وعامة سكان الجزيرة العربية ، طوعا أو كرها .

    وإنما هو الشرع الإسلامي ، منع من إكراه غير مشركي العرب على الإسلام ، كما منع من نقض العهد ، وخفر الذمة إلا بسبب مشروع .

    لهذا ، لما خان النجرانيون عهدهم بتعاملهم بالربا ، وقد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتعاملوا به في الجزيرة ، [ ص: 3118 ] ساغ لأمير المؤمنين إجلاؤهم إلى غيرها ، بعد أن عوضهم عن المال والعقار بمثله .

    وما زال الخلفاء بعده ـ مبالغة بالرفق بأهل الكتاب ، وقياما بواجب السيادة العادلة ، ووفاء بعهد الله والرسول - يعاملون النجرانيين بأحسن ما تعامل به عامة الرعية من المسلمين ويدفعون عنهم أذى الظلم والإجحاف كما رأيت .

    ونتج من هذه القصة ثلاثة أمور :

    الأمر الأول : عدم إكراه النجرانيين على الإسلام ، مع تعين الخطر من وجودهم في جزيرة العرب ، لحداثة عهد أهلها بالإسلام ، ذلك لأن عدم الإكراه من أصول الشريعة الإسلامية ، والجهاد الذي يعظم أمره أعداء المسلمين إنما شرع لحماية الدعوة لا للإكراه ، إلا جهاد مشركي العرب يومئذ ، فقد شرع لإرغامهم على الإسلام ، لأسباب حكيمة لا تخفى على بصير ، أهمها تطهير نفوس تلك الأمة العظيمة من شرور الوثنية ، واستئصال شأفة الجهل والتوحش من جزيرة العرب ، التي كانت وسطا بين ممالك الشرق والغرب ، من آسيا وإفريقيا وأوربا ، بل هي نقطة الصلة السياسية والتجارية بين تلك الممالك ، فانتشار أنوار المدنية والدين فيها ، يستلزم انتشارها بطبيعة المجاورة والإشراف على تلك الممالك أيضا ، قد كان ذلك كما هو معلوم .

    والأمر الثاني : عدم حيد الخلفاء عن أمر الشارع فيما أمر به من الوفاء بالعهود ، وتأكيدهم لعهد النجرانيين ، الواحد تلو الآخر ، على ضعف هؤلاء وقلتهم ، وقوة الخلافة الإسلامية وسلطانها ، وإن ذلك لم يكن عن رهبة أو رغبة ، بل عن محض تمسك بالعهد ، وعدل بين الشعوب الخاضعين لسلطة الخلافة ، وسلطان الإسلام ، من كل ملة ودين .

    والأمر الثالث : حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قاعدة حماية الذمي في نفسه وماله ، بتعويضه النجرانيين عن أرضهم ومالهم بالمثل من أرض المسلمين ومالهم ، لما قضت الضرورة بإجلائهم عن أرضهم ، إلى غيرها من بلاد المسلمين .

    وقد ذكر في سيرة أبي بكر عن عمر رضي الله [ ص: 3119 ] عنهما ما فعله من هذا القبيل من أهل عربسوس من ثغور الروم ، وكيف أنه لما أمر بإجلائهم عن أرضهم لخيانتهم جوار المسلمين ، ونكثهم عهد الأمانة والصدق ، أمر بأن يعوضوا عن مالهم وعقارهم ونعمهم ضعفين .

    وما زال الخلفاء في أيام الفتوح العظيمة وما بعدها يحافظون على حق القرار الثابت ، والملك القديم ، للأقوام المغلوبين للمسلمين ، الخاضعين لسلطانهم ، سواء كانوا من المسيحيين أو غيرهم ، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه طرد قوما من أرضهم ، أو انتزعها منهم بغير حق ولا عوض .

    لا عبرة بما ربما يقع من هذا القبيل على بعض الأفراد من جور بعض العمال الذين غلبت شهواتهم على الفضيلة ، فحادوا عن طريق الشرع ، فإنه قد يصيب أفراد المسلمين من جور هؤلاء أكثر مما يصيب غيرهم ، وليس في هذا ما يقدح في أصول الحكم الإسلامي الذي يأبى الظلم ، ويدعو إلى الرأفة والعدل ، هذا شأن الإسلام في المحافظة على حقوق الأمم المغلوبة .

    وقد رأيت مما تقدم أنه لم يعط للمسلمين من حقوق الغلب التي ينتحلها الغالبون في كل عصر ، إلا ما تدعو إليه الضرورة القصوى ، وتستلزمه سلامة الملك والدين ، لا ما تدعو إليه شهوات الملك ، ورغبات الأمة الغالبة .

    وقد علم هذا المسلمون وخلفاؤهم ، وأن لأهل الذمة ما لهم ، وعليهم ما عليهم ، فبالغوا في الرأفة بأهل جوارهم ، والداخلين في ذمتهم من أرباب الملل الأخرى ، فتركوا لهم حرية التملك والدين ، لم ينازعوهم حقا من حقوق المواطنة والجوار ، بل كانوا يعتبرونهم جزءا من الدولة ، وعضوا من أعضاء مجتمعهم لا غنى عن مشاركته في العمل ، ومشاطرته أسباب السعادة المدنية ، والحياة الوطنية .

    يؤيد هذا اعتماد الخلفاء الأمويين والعباسيين على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في ترتيب دواوين الخراج وترجمة علوم اليونان ، وتقريب النابغين منهم في علوم الهندسة والطب إليهم ، واعتمادهم في شفاء عللهم عليهم ، بل بلغ بالمسلمين اعتبارهم لأهل الكتاب عضوا من جسم هيأتهم الاجتماعية ، لا يجوز فصله في حال من الأحوال أن جيوش التتار لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام ، [ ص: 3120 ] ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ، ثم خضد المسلمون شوكة التتار في الشام ، ودان ملوكهم بالإسلام ، خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية رأس العلماء في عصره أمير التتار قطلوشاه بإطلاق الأسرى ، فسمح له بالمسلمين ، وأبى أن يسمح له بأهل الذمة ، فقال له شيخ الإسلام : لا بد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ، ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ، ولا من أهل الذمة ، فأطلقهم له . انتهى .

    ومنه يعلم شأن الحكم الإسلامي في أهل الذمة ، ومبلغ عناية الخلفاء والعلماء بهم . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 30 ] وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون .

    وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله جملة مبتدأة ، سيقت لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه ، وانتظامهم بذلك في سلك المشركين .

    وقرئ ( عزير ) بالتنوين على الأصل ، وحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس تخفيفا ، وهو مبتدأ وما بعده خبره ، ولهم أوجه أخرى في إعرابه ، والوجه ما ذكرناه .

    وليعلم أن الذي دعا الفريقين إلى مقاليهما هو الغلو في التعظيم ، فأما اعتقاد النصارى فهو مشهور معلوم ، تكفل التنزيل الكريم بذكره مرارا ، ودحر شبهه .

    وأما اليهود في ( عزير ) فغلاتهم أوجهلتهم يتفوهون بهذه الكلمة الشنعاء ، وأما بقيتهم فيعتبرونه في مقام موسى ، ويحترمون دائما ذكره ، ويعتقدون أن الله تعالى قد أقامه لجمع التوراة المبددة ، ولتجديد الملة الموسوية ، وإرجاعها إلى عهدها ، وإصلاح ما فسد من آدابها وعوائدها ، بإلهام ، [ ص: 3121 ] فإن نسخة التوراة الأصلية ، وبقية أسفارهم فقدت لما أغار أهل بابل جند بخت نصر على بيت المقدس ، وهدموه ، وسبوا أهله إلى مملكتهم بابل ، وأقاموا هناك سبعين سنة ، ثم لما نبغ فيهم ( عزير ) واشتهر ، واستعطف أحد ملوكهم في سراحهم ، فأطلق له الملك الإجازة ، فعاد من بابل بمن بقي من اليهود إلى بيت المقدس ، وجدد ما اندثر من الشريعة الموسوية .

    قال بعض الكتابيين في قاموس له : زعم اليهود أن أئمتهم عقدوا مجمعا في عهد ( عزرا ) وجمعوا الأسفار العبرانية في قانون متعارف عندهم اليوم ، وضموا إليه ما لم يكن من قبل جلاء بابل .

    وفي ( " الذخيرة " ) من كتبهم ما نصه : أجمع القوم على أن ( عزرا ) الذي كان خبيرا بآثار وطنه وقدمها ، وماهرا بمعرفة الطقوس اليهودية ، وبارعا بالعلوم المقدسة ، هو أول من قرر هذا القانون ، وأثبت أجزاءه المختلفة ، بعد الأسر البابلي في نحو السنة 542 قبل ميلاد المسيح ، ولما تفرقت التوراة آن الجلاء ، قام ( عزرا ) وجمع ما وجد من النسخ المتناثرة ، وألف منها نسخة صححها ونقحها ما استطاع ، وبدل أسماء الأماكن التي انتسخ ثم استعمالها ، بأسماء أخرى أشهر في عرفهم ، ونسق الكل نسقا محكما ، واتفق الجميع على أنه اعتاض في كل الأسفار عن حروف الخط العبراني بحروف كلدانية ، ألف استعمالها اليهود مدة أسرهم الذي استمر سبعين سنة . انتهى .

    فلهذا العمل المهم عندهم دعوه : ( ابنا ) . وفيه من الجراءة على المقام الرباني ما فيه . ولو زعموا إرادة المجاز في ذلك ، فلا مناص لهم من لحوق الكفر بهم ، فإنه يجب الاحتياط في تنزيهه تعالى ، حتى بعفة اللسان ، عن النطق بما يوهم نقصا في جانبه ، فيتبرأ من مثل هذا اللفظ مطلقا ومن كل ما شاكله .

    هذا وقد قيل إن القائل لذلك بعض من متقدميهم ، وقيل ناس من أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا دلالة في الآية على واحد منهما بخصوصه ، ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل ، مما شاع .

    [ ص: 3122 ] لطيفة :

    قرئ ( عزير ) بالتنوين على الأصل ، لأنه منصرف ، وقرئ بحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس ، لا لأنه أعجمي غير منصرف للعلمية والعجمية ، كما قيل ، لأن ذلك إنما يصح لو كان على لفظه الأصلي ، وهو ( عزراء ) أو ( عزريا ) لفظان عبرانيان ، معنى الأول معين ، والثاني الله مساعد ، أما وقد تصرفت فيه العرب بالتصغير ، فلا .

    وظاهر أن أغلب الأسماء القديمة ، لانتقالها من أمة إلى أخرى وكثرة تداولها ، تطرق إليها من شوائب التحريف ، والزيادة والنقصان ، ما غير صيغتها الأصلية بعض التغيير ولما استعملت العرب من الأسماء العبرانية ونحوها ما أدخلته إلى لغتها ، إما منحوتة من القديمة ، أو محرفة منها ، أصبحت بالاصطلاح من قبيل الأعلام العربية ، إلا ما بقي على وضعه الأول .

    وقوله تعالى : ذلك إشارة إلى ما صدر عنهم من العظيمتين ، وما فيه من معنى البعد ، للدلالة على بعد درجة المشار إليه في الشناعة والفظاعة . قاله أبو السعود .

    قولهم بأفواههم قال الزمخشري : فإن قلت : كل قول يقال بالفم ، فما معنى ( بأفواههم ) قلت فيه وجهان :

    أحدهما : أن يراد به أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به ، فارغ من معنى تحته ، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم ، لا تدل على معان .

    وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ، ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له مقول بالفم لا غير .

    والثاني : أن يراد بالقول المذهب ، كقولهم : ( قول أبي حنيفة ) ، يريدون مذهبه ، وما يقول به ، كأنه قيل : ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم ، لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة ، حتى يؤثر في القلوب .

    وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له ، لم تبق شبهة في انتفاء الولد . انتهى .

    وثمة وجه ثالث شائع في مثله ، وهو التأكيد لنسبة هذا القول إليهم ، مع التعجيب [ ص: 3123 ] من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة .

    قال بعضهم : القول قد ينسب إلى الأفواه وإلى الألسنة ، والأول أبلغ .

    يضاهئون قول الذين كفروا من قبل أي : يضاهئ قولهم قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم ، فضلوا كما ضل أولئك .

    قيل : المراد بـ : ( الذين كفروا ) مشركوا مكة ، القائلون بأن الملائكة بنات الله ، وهذا يتم إن أريد ( باليهود والنصارى ) في الآية ، يهود المدينة ونصارى نجران في عهده صلى الله عليه وسلم ، وهو وجه في الآية كما تقدم ، فإنهم سبقوا من أهل مكة بالكفر به صلى الله عليه وسلم .

    وقيل : المراد بهم قدماؤهم ، يعني أن من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم منهم ، يضاهئ قولهم قول قدمائهم ، والمراد عراقتهم في الكفر ، أي : أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث .

    قال أبو السعود : وفيه أنه لا تعدد في القول ، حتى يتأتى التشبيه ، وجعله بين قولي الفريقين ، مع اتحاد المقول ، ليس فيه مزيد مزية .

    وقيل : الضمير للنصارى ، أي : يضاهئ قولهم : المسيح ابن الله قول اليهود عزير إلخ لأنهم أقدم منهم .

    قال أبو السعود : وهو أيضا كما ترى ، فإنه يستدعي اختصاص الرد والإبطال بقوله تعالى : ذلك قولهم بأفواههم بقول النصارى . انتهى .

    والمضاهاة المشابهة ، يقال : ضاهيت ، وضاهأت - كما قاله الجوهري - وقراءة العامة ( يضاهون ) ، بهاء مضمومة بعدها واو .

    وقرأ عاصم بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة ، وهما بمعنى من المضاهأة ، وهي المشابهة ، وهما لغتان .

    وقيل : الياء فرع عن الهمزة ، كما قالوا : قريت وتوضيت وأخطيت .

    قاتلهم الله أي : لعنهم أو قتلهم ، أو عاداهم أو تعجب من شناعة قولهم .

    أنى يؤفكون أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل .

    وقوله تعالى :
    [ ص: 3124 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 31 ] اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون .

    اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تعالى ، وفيه وصفهم بنوع آخر من الشرك .

    والأحبار علماء اليهود جمع حبر ، بكسر الحاء وفتحها ، وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه ـ كذا ذكره أئمة اللغة - قال بعضهم : ( الحبر ) أعظم الأشراف بين الإسرائيليين ، يكون عندهم وسيلة للتقرب لله ، ومرتبة وراثية في آل هارون ، يكون بكر أشيخ من فيها . انتهى .

    و ( الرهبان ) جمع راهب ، بمعنى المتعبد الخاشع الزاهد ، وأصل الترهب عن النصارى ، التخلي عن أشغال الدنيا ، وترك ملاذها والزهد فيها ، والعزلة عن أهلها .

    وفي الحديث « لا رهبانية في الإسلام » . وقوله تعالى : أربابا من دون الله قال الرازي : الأكثرون [ ص: 3125 ] من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، أي : لما روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : « يا عدي ! اطرح عنك هذا الوثن » . وسمعته يقرأ في سورة براءة : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : « أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه » .

    وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق ، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته ، وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها ، فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عدي المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال « بلى إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم » .

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا عدي ! ما تقول ؟ أيضرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ؟ ما يضرك أن يقال : لا إله إلا الله ، فهل تعلم إلها غير الله » ؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #383
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3126 الى صـ 3140
    الحلقة (382)



    [ ص: 3126 ] قال فلقد رأيت وجهه استبشر ، ثم قال : « إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون »
    .

    قال ابن كثير : وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية ، أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .

    وقال السدي : استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .

    وقد ذكر بعض المفسرين وجها في تفسير اتخاذهم أربابا ، قال : بأن أطاعوهم بالسجود لهم .

    قال الشهاب : والأول هو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ، فينبغي الاقتصار عليه ، لأنه لما أتاه عدي بن حاتم وهو يقرؤها قال له : إنا لم نعبدهم ، فقال : « ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم ؟ فهذه هي العبادة » ، والناس يقولون : فلان يعبد فلانا ، إذا أفرط في طاعته ، فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة ، أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة ، وهي طاعة مخصوصة على مطلقها ، والأول أبلغ . انتهى .

    فقال الرازي : قال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟ فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان ، فكانوا يأخذون بأقوالهم ، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى .

    قال الرازي : قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء ، قرأت عليهم آيات كثيرة في كتاب الله تعالى في بعض مسائل ، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات ، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها ، وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب ، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات ، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل المدينة . انتهى .

    [ ص: 3127 ] وما أمروا أي : والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم : إلا ليعبدوا إلها واحدا أي : يطيعوا أمره ، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه ، وقوله : لا إله إلا هو صفة ثانية ل إلها أو استئناف مقرر للتوحيد : سبحانه عما يشركون أي : به في العبادة والطاعة .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 32 ] يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .

    يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم أي : يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته ، وتقدسه عن الولد ، أو القرآن ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويأبى الله إلا أن يتم نوره أي : بإعلاء التوحيد ، وإعزاز الإسلام ولو كره الكافرون أي : بدلائل التوحيد ، ذلك .

    قال أهل المعاني : نور الله استعارة أصلية تصريحية لحجته أو ما بعدها ، لتشبيه كل منها بالنور في الظهر ، والإطفاء ترشيح ، أو هو استعارة تمثيلية ، شبه حالهم في محاولتهم إبطال النبوة بالتكذيب ، بحال من يطلب إطفاء نور عظيم ، منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده بنفخه .

    لطائف :

    الأولى : قال الشهاب : روعي في كل من المشبه والمشبه به الإفراط والتفريط ، حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم ، ونسب النور إلى الله ، ومن شأن النور المضاف إليه أن يكون عظيما ، فكيف يطفأ بنفخ الفم ، مع ما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور ، والإطفاء من المناسبة .

    [ ص: 3128 ] الثانية : لا يخفى أن قوله تعالى : إلا أن يتم استثناء مفرغ ، وهو في محل نصب مفعول به ، والاستثناء المفرغ يكون في الفعل المنفي لا موجب ، إلا أن يستقيم المعنى .

    وهنا صح التفريغ من الموجب وهو : ويأبى الله لأنه نفي في المعنى ، لأنه وقع في مقابلة : يريدون وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادة ، أي : لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره ، فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه ، فضلا عن الإطفاء - أفاده أبو السعود - .

    وقال الزجاج : المستثنى منه محذوف تقديره : ( ويكره الله كل شيء إلا إتمام نوره ) .

    قال الشهاب : فالمعنى على العموم المصحح للتفريغ عنده ، فللناس في توجيه التفريغ هنا مسلكان .

    والحاصل أنه إن أريد كل شيء يتعلق بنوره بقرينة السياق ، صح إرادة العموم ، ووقوع التفريغ في الثابتات ، كما ذهب إليه الزجاج ، إذ ما من عام إلا وقد خصص ، فكل عموم نسبي لكنه يكتفى به ، ويسمى عموما .

    ألا ترى أن مثالهم ( قرأت إلا يوم كذا ) ، قد قدره كل يوم ، والمراد من أيام عمره ، لا من أيام الدهر .

    فإن نظر إلى الظاهر في أمثاله كان عاما ، واستغنى عن النفي ، وإن نظر إلى نفس الأمر ، فهو ليس بعام ، فيؤول بالنفي ، والمعنى فيهما واحد وإنما أول به هنا عند من ذهب إلى تأويله ، لاقتضاء المقابلة له ، إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي ، فيلزمه جريان التفريغ في كل شيء ، وليس كذلك ما صرح به الرضي .

    ولذا قيل : الاستثناء المفرغ ، وإن اختص بالنفي ، إلا أنه قد يمال مع المعنى بمعونة القرائن ، ومناسبة المقامات ، فيجري بعض الإيجابات مجرى النفي في صحة التفريغ معها - ذكره الشهاب أيضا - .

    الثالثة : قال أبو السعود : وفي إظهار ( النور ) في مقام الإضمار مضافا إلى ضميره عز وجل زيادة اعتناء بشأنه ، وتشريف له على تشريف ، وإشارة بعلة الحكم .
    [ ص: 3129 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 33 ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .

    هو الذي أرسل رسوله بالهدى أي : القرآن الذي هو هدى للمتقين ، ودين الحق أي : التوحيد الثابت الذي لا يزول ليظهره أي : الدين الحق على الدين كله أي : على سائر الأديان ولو كره المشركون أي : أن يكون ذلك .

    وجواب ( لو ) فيهما محذوف ، لدلالة ما قبله عليه ، وجملة : هو الذي إلخ بيان وتقرير لمضمون الجملة قبلها ، لأن المراد من إتمام نوره إظهاره ولكونه بحسب المآل بمعناه ، ذيله بما ذيله به بعينه ، لكنه عبر عن الكافرين بالمشركين تفاديا عن صورة التكرار - كذا في ( " العناية " ) - .

    وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله زوى لي الأرض ، مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها » .

    وروى الإمام أحمد عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول : صلى هذا الحي من محارب الصبح ، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة » .

    [ ص: 3130 ] وأخرج أيضا عن تميم الداري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزا ، ويذل ذليلا ، عزا يعز الله به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر » .

    وكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ، ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية .

    وأخرج أيضا عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام ، يعز عزيزا ، ويذل ذليلا ، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها » .

    وأخرج أيضا عن عدي بن حاتم قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا عدي ! أسلم تسلم » . فقلت : إني من أهل دين . قال : « أنا أعلم بدينك منك » . فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال : « نعم ألست من الركوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك ؟ » قلت : بلى ! قال : « فإن هذا لا يحل لك في دينك » . قال فلم يعد أن قالها ، فتواضعت لها . قال : « أما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام ، تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة له ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ » قلت : لم أرها ، وقد سمعت بها . قال : « فوالذي نفسي بيده ! [ ص: 3131 ] ليتمن الله هذا الأمر ، حتى تخرج الظعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز » ، قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : « نعم ! كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد » .

    قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ! لتكونن الثالثة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها .


    وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى » ، فقلت : يا رسول الله ! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق الآية ، إن ذلك تام ! قال : « إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل ، ثم يبعث الله ريحا طيبة ، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم » .

    قال في ( " اللباب " ) : معنى الآية ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها ، وهو ألا يعبد الله إلا به .

    وكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : هذا وعد من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عاليا على جميع الأديان ، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى .

    وكذلك قال الضحاك والسدي : لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام .

    وقال الشافعي : قد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها ، بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خلفه من الأديان باطل ، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ، ودين الأميين ، فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام ، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين ، وجرى عليهم حكمه .

    قال : فهذا هو ظهوره على الدين كله . انتهى .

    [ ص: 3132 ] قلت : ما ذكره الشافعي هو من ظهوره ، والأدق ما تقدم ، من أنه سوف يعتنقه كل فرقة ، فإن ما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلا .

    ثم بين تعالى حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم ، إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أربابا يطيعونهم في الأوامر والنواهي ، واتباعهم لهم فيما يأتون وما يذرون ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 34 ] يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم .

    يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل

    أي : بالطريق المنكر من الرشا في الأحكام ، والتخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك .

    و ( الأكل ) مجاز عن الأخذ ، بعلاقة العلية والمعلولية ، لأنه الغرض الأعظم منه ، وفيه من التقبيح لحالهم ، وتنفير السامعين عنه ما لا يخفى ويصدون عن سبيل الله أي : عن دين الإسلام وحكمه ، واتباع الدلائل إلى ما يهوون ، أو عن المسلك المقرر في التوراة والإنجيل ، إلى ما افتروه وحرفوه .

    ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه على أمر الله ، وتناسيهم وعيده في الكنز بقوله سبحانه : والذين يكنزون الذهب والفضة أي : يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض ولا ينفقونها في سبيل الله أي : الذي هو الزكاة ، فبشرهم بعذاب أليم
    [ ص: 3133 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 35 ] يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون .

    يوم يحمى عليها أي : يوقد عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم أي : ويقال لهم ضما إلى ما هم فيه ، هذا ما كنزتم لأنفسكم أي : لتتلذذوا به ، فكان سبب تعذيبها فذوقوا ما كنتم تكنزون أي : وباله ، وهو ألمه وشدته بالكي .

    وفي هذه الآية فوائد :

    الأولى : قال بعضهم في قوله تعالى : ( ليأكلون ) دلالة على تحريم الرشا على الباطل ، وقد ورد « لعن الله الراشي والمرتشي » .

    وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب، وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف .

    رجح الجواز ليتوصل إلى الحق ، كالاستفداء .

    قال الحاكم يدخل في تحريم الرشا الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه ، وكل من حرف شيئا لغرض الدنيا . انتهى .

    الثانية : في الآية - كما قال ابن كثير - تحذير من علماء السوء وعباد الضلال ، كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى .

    وفي الحديث الصحيح : « لتركبن سنن من قبلكم حذو [ ص: 3134 ] القذة بالقذة » ، قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : « فمن ؟ » ، وفي رواية : فارس والروم ؟ قال : « ومن الناس إلا هؤلاء ؟ » . ثم أنشد لابن المبارك :


    وهل أفسد الدين إلا الملو ك ، وأحبار سوء ورهبانها


    الثالثة : قوله تعالى : ( والذين ) مبتدأ ، والخبر : يكنزون أو منصوب تقديره : بشر الذين يكنزون .

    والتعريف في الموصول للعهد والمعهود ، إما الأحبار والرهبان ، وإما المسلمون الكانزون ، لجري ذكر الفريقين ، وإما ما هو أعم .

    والأول روي عن معاوية ، والثاني عن السدي ، والثالث عن ابن عباس وأبي ذر .

    قال الزمخشري : يجوز أن يكون الموصو إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم : أخذ البراطيل ، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الله .

    ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى تغليظا ، ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت ، ومن لا يعطي منكم طيب ماله ، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم . انتهى .

    قال في ( " الأنوار " ) : ويؤيد الثاني أنه لما نزل كبر على المسلمين ، فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم » - رواه أبو داود والحاكم وصححه - .

    وقوله صلى الله عليه وسلم : « ما أدي زكاته فليس بكنز » - أخرجه الطبراني والبيهقي – [ ص: 3135 ] أي : ليس بالكنز المتوعد عليه في الآية ، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه .

    وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها » ونحوه ، فالمراد منها : ما لم يؤد حقها ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، فيما أورده الشيخان : البخاري في " تاريخه " ، ومسلم في " صحيحه " ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره » . انتهى .

    وقد اشتهرت محاورة معاوية لأبي ذر في هذه الآية .

    روى البخاري عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا بأبي ذر ، فقلت : ما أنزلك هذا المنزل ؟ قال : كنت في الشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية :

    والذين يكنزون الذهب والفضة فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك كلام ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة فقدمتها ، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال : إن شئت تنحيت ، فكنت قريبا .

    فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ، ولو أمر علي عبد حبشي لسمعت وأطعت .

    ولابن جرير في رواية ، بعد قول عثمان له : تنح قريبا ، قلت : والله لن أدع ما كنت أقول .

    وروى أبو يعلى أن أبا ذر كان يحدث ويقول : لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم ، إلا ما ينفقه في سبيل الله ، أو يعده لغريم .

    فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك بالشام [ ص: 3136 ] حاجة ، فابعث إلى أبي ذر ، فكتب إليه عثمان أن اقدم علي ، فقدم .

    قال ابن كثير : كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته .

    فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، ثم أنزله بالربذة : وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان .

    وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ، فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب .

    فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به .

    وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه ، يتزلزل .

    قال : فوضع القوم رؤوسهم ، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا . قال : وأدبر واتبعته حتى جلس إلى معاوية فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم ، فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئا ، إنما يجمعون الدنيا - رواه مسلم ، وللبخاري نحوه - .

    وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : « ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا ، [ ص: 3137 ] يمر علي ثلاثة أيام ، وعندي منه شيء ، إلا دينار أرصده لدين » .

    قال ابن كثير : فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا .

    أي : وما أخرجه الشيخان أيضا عنه ، قال : انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال : « هم الأخسرون ورب الكعبة ! » قال : فجئت حتى جلست ، فلم أتقار حتى قمت فقلت : يا رسول الله ! فداك أبي وأمي ، من هم ؟ قال : « هم الأكثرون أموالا ، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ، من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، وقليل ما هم » .

    وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه ، أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوسا .

    قال : قلت : لو ادخرته لحاجة يومك ، وللضيف ينزل بك قال : إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل إفراغا .

    قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة ، تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت ، وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك ، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي ، حيث قال : هل علي غيرها قال : « لا ، إلا أن تطوع » . انتهى .

    [ ص: 3138 ] وبالجملة ، فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته . وقد ترجم لذلك البخاري في ( " صحيحه " ) فقال : ( باب ما أدي زكاته فليس بكنز ) .

    ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعا : « إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك » .

    - حسنه الترمذي وصححه الحاكم - .

    وعن ابن عمر : كل ما أديت زكاته ، وإن كان تحت سبع أرضين ، فليس بكنز وكل ما لا تؤدى زكاته فهو كنز ، وإن كان ظاهرا على وجه الأرض .

    - أورده البيهقي مرفوعا ، ثم قال : المشهور وقفه ، كحديث جابر : « إذا أديت زكاة مالك ، فقد أذهبت عنك شره » . أخرجه الحاكم ، والمرجح وقفه .

    هذا وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز .

    روى البخاري في " صحيحه " أن أعرابيا قال لابن عمر : أخبرني عن قول الله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية ، قال ابن عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها ، فويل له .

    إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال .

    زاد ابن ماجه : ثم قال ابن عمر : ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا ، أعلم عدده ، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى .

    ورواه أبو داود في كتاب ( " الناسخ والمنسوخ " ) ، فهذا يشعر بأن الوعيد على الاكتناز . وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به ، كان في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة ، لما فتح الله الفتوح ، وقدرت نصب الزكاة .

    ويشعر أيضا [ ص: 3139 ] بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة ، وجزم به ابن الأثير في ( " تاريخه " ) ، وقواه بعضهم بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ، ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عاملا فقال : « ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية » . وأقول : إنما وجبت في التاسعة .

    وأقول : هذا الحديث ضعفوه ، والأقوى منه كون هذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة كما قدمنا ، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعا .

    قال ابن حجر في ( " الفتح " ) : والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر ، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو أي : ما فضل عن الكفاية ، فكان ذلك واجبا في أول الأمر ، ثم نسخ - والله أعلم - .

    وفي المسند من طريق يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ، ثم يخرج إلى قومه ، ثم يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع للرخصة ، ويتعلق بالأمر الأول .

    وما سقناه من مذهب أبي ذر ، هو ما ساقه المفسرون وشراح الحديث .

    وزعم بعضهم أن الذي حدا أبا ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء حيث قال : الذي صح أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يعتبرون الفيء لكافة المسلمين ، يستوي فيه المقاتلون وغيرهم ، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين فكلهم داخل تحت ذلك الحكم .

    قال : والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين ، أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام ، والوالي عليها من [ ص: 3140 ] قبل الخليفة عثمان معاوية رضي الله عنهما ، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال ، لصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين ، وكان أبو ذر مشهورا بالورع شديد الحرص على حقوق المسلمين ، يقول الحق ولو على نفسه .

    أخذ يتكلم بهذا الأمير بين الناس ، واتخذ له حزبا من أهل الشام يساعده على مطالبة معاوية برد المال للمسلمين ، وبيان عدم الرضا بكنزه في بيت المال ، لأي حال من الأحوال ، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين ، وتابعه على قوله جماعة كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سرا وجهرا ، حتى كادت تكون فتنة ، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله عنهم أجمعين ، فنفاه إلى الربذة خوفا من حدوث ما لا تحمد عقباه . انتهى .

    ونقل ما يقرب منه ابن حجر في ( " الفتح " ) حيث قال : والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه .

    الرابعة : إنما قيل : ولا ينفقونها بضمير المؤنث ، مع أن الظاهر التثنية ، إذ المذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة ، وذلك لأن الكثير منهما هو الذي يكون كنزا ، فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ، ولو ثنى احتمل خلافه . وقيل : الضمير عائد على الكنوز أو الأموال المفهومة من الكلام ، فيكون الحكم عاما ، ولذا عدل فيه عن الظاهر . وتخصيصهما بالذكر لأنهما الأصل الغالب في الأموال للتخصيص .

    وقيل : الضمير للفضة ، واكتفى بها ، لأنها أكثر ، والناس إليها أحوج ، ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى ، مع قربها لفظا .

    الخامسة : في قوله تعالى : ( فبشرهم ) تهكم بهم ، كما في قوله :


    تحية بينهم ضرب وجيع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #384
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3141 الى صـ 3155
    الحلقة (383)


    [ ص: 3141 ] وقيل : البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة ، لتأثيره في القلب ، سواء كان من الفرح أو من الغم .

    السادسة : قيل في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي دون غيرها ، بأن جمع ذويها وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية ، والملابس البهية ، فلوجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم كان الكي بجباههم ، ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ، ولما لبسوه على ظهورهم كويت .

    وقيل : لأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع ، فتكلح وجوههم ، وتقطب . ثم إذا كرر الطلب ازوروا عنه وتركوه جانبا ، ثم إذا ألح ولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى ، وهي النهاية في الرد ، والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل .

    وهذا دأب مانعي البر والإحسان ، وعادة البخلاء ، فكان ذلك سببا لكي هذه الأعضاء . وقيل : لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة ، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخره وجنباه ، فيكون كناية عن جميع البدن .

    وقال القاشاني : جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح ، وحب المال ، وكل رذيلة لها كية يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا . ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال ، وكان هو الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة ، وهاوية الهوى ، فيكوى به .

    وإنما خصت هذه الأعضاء ، لأن الشح مركوز في النفس ، والنفس تغلب القلب من هذه الجهات ، لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح ، وممر الحقائق والأنوار ، ولا من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية ، لعدم تمكن الطبيعة من ذلك ، فبقيت سائر الجهات ، فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب ، كما تراه يعاب بها في الدنيا ، ويجزى من هذه الجهات أيضا ، إما بأن يواجه بها جهرا فيفضح ، أو يسار بها في جنبه ، أو يغتاب بها من وراء ظهره . انتهى .

    [ ص: 3142 ] السابعة : قال أبو البقاء : ( يوم ) من قوله تعالى : يوم يحمى عليها ظرف على المعنى ، أي : يعذبهم في ذلك اليوم .

    وقيل : تقديره عذاب يوم ، وعذاب بدل من الأول ، فلما حذف المضاف أقام ( اليوم ) مقامه . وقيل : التقدير اذكروا ، و ( عليها ) في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل .

    وقيل : القائم مقام الفاعل مضمر ، أي : يحمى الوقود أو الجمر ، و ( بها ) أي : بالكنوز . وقيل هي بمعنى ( فيها ) ، أي : في جهنم وقيل : ( يوم ) ظرف لمحذوف تقديره : يوم يحمى عليها يقال لهم هذا ما كنزتم .

    ولما بين تعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى إيثارا لحظوظهم ، أتبعه بما جرأ عليه المشركون ، في نظيره من تغيير الأشهر التي حرمها الله تعالى بغيرها ، وهو النسيء الآتي ، وقوفا مع شهواتهم أيضا ، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم ، فقال سبحانه :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 36 ] إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين .

    إن عدة الشهور أي : عددها عند الله أي : في حكمه اثنا عشر شهرا وهي القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية في كتاب الله أي : في اللوح المحفوظ ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه .

    وقوله : يوم خلق السماوات والأرض متعلق بما في الجار والمجرور من معنى الاستقرار . أراد ( بالكتاب ) على أنه مصدر ، والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر ، منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة . أفاده أبو السعود .

    [ ص: 3143 ] منها أي : من تلك الشهور الاثني عشر أربعة حرم ثلاثة سرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب ذلك أي : تحريم الأشهر الأربعة المذكورة الدين القيم أي : المستقيم ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم أي : بهتك حرمتها بالقتال فيها .

    وقال ابن إسحاق : أي : لا تجعلوا حرامها حلالا ، ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة أي : جميعا ، واعلموا أن الله مع المتقين أي : بالنصر والإمداد .

    ثم بين تعالى ثمرة هذه المقدمة ، وهو تحريم تغيير ما عين تحريمه من الأشهر الحرم ، وإيجاب الحذو بها على ما سبق في كتابه ، ناعيا على المشركين كفرهم ، بإهمالهم ذلك ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 37 ] إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين .

    إنما النسيء أي : تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر مصدر ( نسأه ) إذا أخره زيادة في الكفر لأنه تحليل ما حرمه الله ، وتحريم ما حلله ، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم يضل به الذين كفروا أي : بالله عن أحكامه إذا يجمعون بين الحل والحرمة في شهر واحد يحلونه عاما أي : يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة ، ويحرمون مكانه شهرا آخر .

    ويحرمونه عاما أي : يتركونه على حرمته القديمة ، ويحافظون عليها سنة أخرى ، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم ، والتعبير عن ذلك بالتحريم ، باعتبار إحلالهم له في العام الماضي ، والجملتان تفسير للضلال ، أو حال .

    قال الزمخشري : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام ، وهم محاربون ، شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه [ ص: 3144 ] ويحرمون مكانه شهرا آخر ، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرمون من أشق شهور العام أربعة أشهر ، وذلك قوله تعالى : ليواطئوا عدة ما حرم الله أي : ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ، ولا يخالفوها ، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين ، وربما زادوا في عدد الشهور ، فيجعلونا ثلاثة عشر ، أو أربعة عشر ، ليتسع لهم الوقت .

    ولذلك قال عز وعلا : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا يعني من غير زيادة زادوها فيحلوا ما حرم الله بتركهم التخصيص للأشهر بعينها زين لهم سوء أعمالهم فاعتقدوا قبيحها حسنا : والله لا يهدي القوم الكافرين

    اعلم أن في هاتين الآيتين مسائل :

    الأولى : أن الأحكام تعلق بالأشهر العربية ، وهي شهور الأهلة ، دون الشهور الشمسية .

    قيل : جعل أول الشهور الهلالية المحرم ، حدث في عهد عمر رضي الله عنه ، وكان قبل ذلك يؤرخ بعام الفيل ، ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأول .

    وقد نقل ابن كثير هنا عن السخاوي وجوه تسمية الأشهر بما سميت به ، ونحن نورد ذلك مأثورا عن أمهات اللغة المعول عليها فنقول :

    1 - المحرم : على أنه اسم المفعول ، هو أول الشهور العربية ، أدخلوا عليه الألف واللام لمحا للصفة في الأصل ، وجعلوها علما بهما ، مثل النجم والدبران ونحوهما ، ولا يجوز دخولهما على غيره من الشهور عند قوم ، وعند قوم يجوز على صفر وشوال .

    وجمع المحرم محرمات ، والمحرم شهر الله ، سمته العرب بهذا الاسم ، لأنهم كانوا لا يستحلون فيه القتال ، وأضيف إلى الله تعالى إعظاما له ، كما قيل للكعبة ( بيت الله ) . وقيل : سمي بذلك ، لأنه من الأشهر الحرم . قال ابن سيده : وهذا ليس بقوي .

    2 - صفر : الشهر الذي بعد المحرم . قال بعضهم : إنما سمي لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع . وقيل : لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا . وروي عن رؤبة أنه قال : سموا الشهر ( صفرا ) ، لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل ، فيتركون من لقوا صفرا من المتاع ، [ ص: 3145 ] وذلك أن صفرا بعد المحرم ، فقالوا : صفر الناس منا صفرا . قال ثعلب : الناس كلهم يصرفون صفرا إلا أبا عبيدة ، فمنعه للعلمية والتأنيث ، بإرادة الساعة ، يعني أن الأزمنة كلها ساعات ، وإذا جمعوه مع المحرم قالوا : ( صفران ) ، ومنه قول أبي ذؤيب :


    أقامت به كمقام الحني ف شهري جمادى وشهري صفر


    ( استشهد به في اللسان في مادة : ) ص فـ ر ( ، وليس في ديوان الهذليين ) .

    قال ابن دريد : الصفران من السنة شهران ، سمي أحدهما في الإسلام المحرم ; وجمعه أصفار ، مثل سبب وأسباب ، وربما قيل : ( صفرات ) .

    3 و 4 الربيع شهران بعد صفر ، سميا بذلك لأنهما حدا في هذا الزمن ، فلزمهما في غيره قالوا : لا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر ، بزيادة ( شهر ) وتنوين ( ربيع ) ، وجعل ( الأول ) و ( الآخر ) وصفا تابعا في الإعراب ، ويجوز فيه الإضافة ، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند بعضهم ، لاختلاف اللفظين ، نحو : وحب الحصيد ولدار الآخرة و : حق اليقين ومسجد الجامع . قال بعضهم : إنما التزمت العرب لفظ شهر قبل ( ربيع ) ، لأن لفظ ( ربيع ) مشترك بين الشهر والفصل ، فالتزموا لفظ شهر ( في الشهر ) ، وحذفوه في ( الفصل ) للفصل .

    قال الأزهري أيضا : والعرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ ( شهر ) إلا شهري ربيع ورمضان .

    ويثنى الشهر ويجمع ، فيقال شهرا ربيع ، وأشهر ربيع ، وشهور ربيع .

    5 و 6 - جمادى الأولى والآخرة ( كحبارى ) ، الشهران التاليان لشهري ربيع . وجمادى [ ص: 3146 ] معرفة مؤنثة . قال ابن الأنباري : أسماء الشهور كلها مذكرة ، إلا جماديين ، فهما مؤنثان . تقول مضت جمادى بما فيها ، قال الشاعر :


    إذا جمادى منعت قطرها زان جناني عطن مغضف


    ثم قال : فإن جاء تذكير جمادى في شعر ، فهو ذهاب إلى معنى الشهر . كما قالوا : هذه ألف درهم ، على معنى: هذه الدراهم .

    والجمع على لفظها جماديات ، والأولى والآخرة صفة لها ، فالآخرة بمعنى المتأخرة .

    قالوا : ولا يقال جمادى الأخرى ، لأن الأخرى بمعنى الواحدة فتتناول المتقدمة والمتأخرة ، فيحصل اللبس . فقيل الآخرة لتختص بالمتأخرة ، وإنما سميت بذلك لجمود الماء فيها ، عند تسمية الشهور ، من البرد . قال :


    في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا


    لا ينبح الكلب فيها غير واحدة حتى يلف على خرطومه الذنبا


    7 - رجب : سمي به لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه يقال : رجب فلانا ، هابه وعظمه . كرجبه . منصرف وله جموع : أرجاب وأرجبة وأرجب ، ورجاب ورجوب وأراجب ، وأراجيب ورجبانات .

    وإذا ضموا له شعبان قالوا ( رجبان ) للتغليب .

    وفي الحديث : « رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان » ، وقوله : « بين جمادى وشعبان » تأكيد للشأن وإيضاح ، لأنهم كانوا يؤخرونه من شهر إلى شهر ، فيتحول عن موضعه الذي يختص به ، فبين لهم أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ، لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء ، وإنما قيل : رجب [ ص: 3147 ] مضر وأضافه إليهم ، لأنهم كانوا أشد تعظيما له من غيرهم ، وكأنهم اختصوا به ، وذكر له بعضهم سبعة عشر اسما .

    8 - شعبان : جمعه شعبانات وشعابين ، من ( تشعب ) إذا تفرق كانوا يتشعبون فيه في طلب المياه ، وقيل في الغارات .

    وقال ثعلب : قال بعضهم : إنما سمي شعبان لأنه شعب ، أي : ظهر بين شهر رمضان ورجب .

    9 - رمضان : سمي به لأن وضعه وافق الرمض ( بفتحتين ) ، وهو شدة الحر ، وجمعه رمضانات وأرمضاء .

    وعن يونس أنه سمع رماضين ، مثل شعابين . وقيل : هو مشتق من ( رمض الصائم يرمض ) ، إذا اشتد حر جوفه من شدة العطش ، وهو قول الفراء .

    قال بعض العلماء : يكره أن يقال جاء رمضان وشبهه ، إذا أريد به الشهر ، وليس معه قرينة تدل عليه ، وإنما يقال : جاء شهر رمضان ، واستدل بحديث : « لا تقولوا: رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا: شهر رمضان » وهذا الحديث ضعفه البيهقي ، وضعفه ظاهر ، لأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أن رمضان من أسماء الله تعالى ، فلا يعمل به .

    والظاهر جوازه من غير كراهة ، كما ذهب إليه البخاري وجماعة من المحققين ، لأنه لم يصح في الكراهة شيء .

    وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يدل على الجواز مطلقا كقوله : « إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين »

    وحقق السهيلي أن لحذف ( شهر ) مقاما يباين مقام ذكره ، يراعيه البليغ .

    وحاصله أن في حذفه إشعارا بالعموم ، وفي ذكره خلاف ذلك ، لأنك إذا قلت: شهر [ ص: 3148 ] كذا ، كان ظرفا وزال العموم من اللفظ ، إذ المعنى في الشهر ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: « من صام رمضان » ، ولم يقل : ( شهر رمضان ) ، ليكون العمل فيه كله . انتهى . فليتأمل .

    10 - شوال : شهر عيد الفطر ، وأول أشهر الحج ، وجمعه شوالات وشواويل ، وقد تدخله الألف واللام .

    قال ابن فارس : وزعم ناس أن الشوال سمي بذلك لأنه وافق وقتا تشول فيه الإبل ، أي : ترفع ذنبها للقاح ، وهو قول الفراء .

    وقال غيره : سمي بتشويل ألبان الإبل ، وهو توليه وإدباره ، وكذلك حال الإبل في اشتداد الحر ، وانقطاع الرطب وكانت العرب تتطير من عقد المناكح فيه ، وتقول : إن المنكوحة تمتنع من ناكحها ، حتى تمتنع طروقة الجمل إذا لقحت وشالت بذنبها . فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم طيرتهم ، وقالت عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال ، وبنى بي في شوال ، وأي نسائه كان أحظى عنده مني ؟

    11 - ذو القعدة : بفتح القاف والكسر لغة ، سمي به لأن العرب كانوا يقعدون فيه عن الأسفار ، والغزو والميرة وطلب الكلأ ، ويحجون في ذي الحجة ، والجمع ذوات القعدة ، وذوات القعدات ، والتثنية ذواتا القعدة وذواتا القعدتين ، فثنوا الاسمين وجمعوهما ، وهو عزيز ، لأن الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة ، ولا تتوالى على كلمة علامتا تثنية ولا جمع .

    12 - ذو الحجة : الشهر الذي يقع فيه الحج سمي بذلك للحج فيه ، والجمع ذوات الحجة ، ولم يقولوا : ( ذوو ) على واحده ، والفتح فيه أشهر من الكسر ، و ( الحجة ) بالكسر المرة الواحدة من الحج ، وهو شاذ لأن القياس في المرة الفتح - انتهى .

    وقد أوردنا هذا ملخصا عن ( " المصباح " ) و ( " القاموس " ) و ( " شرحه " ) .

    المسألة الثانية : قدمنا أن الأشهر الحرم الأربعة ، ثلاثة سرد أي : متتابعة ، وواحد فرد [ ص: 3149 ] وكانت العرب لا تستحل فيها القتال ، إلا حيان : خثعم وطيئ ، فإنهما كانا يستحلان الشهور ، وكان الذين ينسؤون الشهور أيام الموسم يقولون حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين ، فكانت العرب تستحل دماءهم خاصة في هذه الشهور .

    وكان لقوم من غطفان وقيس ، يقال لهم الهباءات ، ثمانية أشهر حرم ، يقال لها ( البسل ) يحرمونها تشددا وتعمقا .

    الثالثة : قال ابن كثير : إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، لأجل أداء المناسك - الحج والعمرة - فحرم قبل أشهر الحج شهر وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك .

    وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول ، لأجل زيارة البيت والاعتمار به ، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا .

    الرابعة : قال النووي في ( " شرح مسلم " ) : وقد اختلفوا في كيفية عدتها على قولين حكاهما الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه ( " صناعة الكاتب " ) قال : ذهب الكوفيون إلى أنه يقال : المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة قال : والكتاب يميلون إلى هذا القول ليأتوا بهن من سنة واحدة قال : وأهل المدينة يقولون : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وقوم ينكرون هذا ويقولون : جاءوا بهن من سنتين .

    قال أبو جعفر : وهذا غلط بين ، وجهل باللغة ، لأنه قد علم المراد ، وأن المقصود ذكره ، وأنها في كل سنة ، فكيف يتوهم أنها من سنتين ؟ قال : والأولى والاختيار ما قاله أهل المدينة ، لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالوا ، من رواية ابن عمر وأبي هريرة وأبي بكرة رضي الله عنهم ، قال : وهذا أيضا قول أكثر أهل التأويل .

    الخامسة : استنبط بعضهم من قوله تعالى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم أن الإثم [ ص: 3150 ] في هذه الأشهر المحرمة آكد وأبلغ في الإثم في غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم .

    وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة : أنه تعالى اختص من الأشهر أربعة أشهر جعلهن حراما ، وعظم حرماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم .

    وقال قتادة : إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء . وقال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظيم الأمور بما عظم الله به عند أهل الفهم ، وأهل العقل - نقله ابن كثير - . ثم ذكر : أن ابن جرير اختار في قوله تعالى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم ما قاله ابن إسحاق فيما تقدم .

    أقول : هو الظاهر المتبادر .

    السادسة : قال المهايمي : إنما كان منها أربعة حرم ليكون ثلث السنة تغليبا للتحليل الذي هو مقتضى سعة الرحمة ، على التحريم الذي هو مقتضى الغضب فجعل أول السنة وآخرها وهو المحرم وذو الحجة ، ولما لم يكن له وسط صحيح ، أخذ أول النصف الآخر وهو رجب ، فبقي من الثلث شهر ، فأخذ قبل الآخر وهو ذو القعدة ، ليكون مع آخر السنة المتصلة بأولها وترا ، وبقي وترية رجب فتتم السنة على التحريم باعتبار أولها وآخرها ، وأوسطها ، مع تذكر وترية الحق المؤكد للتحريم .

    انتهى .

    [ ص: 3151 ] السابعة : استدل جماعة بقوله تعالى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ ، وكذا بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام وبقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية .

    وذهب آخرون إلى أن تحريم القتال فيها ، منسوخ بآية السيف ، يعني قوله تعالى :

    وقاتلوا المشركين كافة قالوا : ظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرا عاما في الشهر الحرام ، لأوشك أن يقيده بانسلاخها ، وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام ، وهو ذو القعدة ، كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم ، لجؤوا إلى الطائف ، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما ، وانصرف ولم يفتتحها ، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام .

    وأجاب الأولون بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم ، كما في قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم الآية ، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مفيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم ، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه ، فقوله تعالى :

    وقاتلوا المشركين كافة الآية ، من باب التهييج والتحضيض ، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم ، فاجتمعوا كذلك لهم ، أو هو إذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام ، إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص وقال تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم الآية _ ، [ ص: 3152 ] وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدؤوا القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندها قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ، ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ، فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياما ، ثم قفل عنهم ، لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا أمر مقرر ، وله نظائر كثيرة .

    فالمحرم هو ابتداء القتال في الأشهر الحرام ، لا إتمامه ، وبهذا يحصل الجمع ، ولذا قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح ، ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها .

    الثامنة : قال في ( " الإكليل " ) في قوله تعالى : إن عدة الشهور الآية ، إن الله وضع هذه الأشهر وسماها ورتبها على ما هي عليه ، وأنزل ذلك على أنبيائه ، فيستدل بها لمن قال : إن اللغات توقيفية .

    التاسعة : في ( " الإكليل " ) أيضا : استدل بقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة من قال إن الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كان فرض عين .

    العاشرة : قال ابن إسحاق : كان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما حرم الله ، وحرم منها ما أحل الله عز وجل ( القلمس ) وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، ثم قال بعده على ذلك ابنه عباد ، ثم ابنه قلع ، ثم أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن [ ص: 3153 ] عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام ، فكانت العرب إذا فرغت من حجها ، اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيبا فحرم رجبا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ويحل المحرم ( عاما ) ، ويجعل مكانه ( صفر ) ، ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله ، فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله . انتهى .

    و ( القلمس ) بقاف فلام مفتوحتين ثم ميم مشددة . قال في ( " القاموس وشرحه " ) : هو رجل كناني من نسأة الشهور على معد في الجاهلية ، كان يقف عند جمرة العقبة ويقول : اللهم إني ناسئ الشهور، وواضعها مواضعها، ولا أعاب ولا أحاب. اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين ، وحرمت صفر المؤخر ، وكذا في الرجبين ، ( يعني رجبا وشعبان ) ، ثم يقول : انفروا على اسم الله تعالى . قال شاعرهم :


    وفينا ناسئ الشهر القلمس


    وقال عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان :


    لقد علمت معد أن قومي كرام الناس أن لهم كراما


    ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما


    فأي الناس فاتونا بوتر وأي الناس لم نعلك لجاما


    وروي أن أول من سن النسيء عمرو بن لحي ، والذي صح من حديث أبي هريرة [ ص: 3154 ] وعائشة ، أن عمرو بن لحي أول من سيب السوائب ، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : « رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار » .

    ثم حرض تعالى المؤمنين على قتال الكفرة ، إثر بيان طرف من قبائحهم الموجبة لذلك ، وأشار إلى توجه العتاب والملامة إلى المتخلفين عنه ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 38 ] يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .

    وقوله : إلى الأرض متعلق بـ : اثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد ، أي : اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل ، وكرهتم مشاق الغزو المستتبعة للراحة الخالدة ، كقوله تعالى : أخلد إلى الأرض واتبع هواه

    أو مائلين إلى الإقامة بأرضكم ودياركم ، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف ، استنفروا لغزو الروم في وقت عسرة وقحط وقيظ ، وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها ، ومع بعد الشقة ، وكثرة العدو ، فشق عليهم .

    وقوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا أي : الحقيرة الفانية : من الآخرة أي : بدل الآخرة ونعيمها الدائم فما متاع الحياة الدنيا أظهر في مقام الإضمار لزيادة التقرير ، أي : فما التمتع بلذائذها في الآخرة أي : في جنب الآخرة أي : إذا قيست إليها ، و ( في ) [ ص: 3155 ] هذه تسمى ( في القياسية ) ، لأن المقيس يوضع بجنب ما يقاس به إلا قليل أي : مستحقر لا يؤبه له .

    روى الإمام أحمد ومسلم عن المستورد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع » - وأشار بالسبابة - .

    ثم توعد تعالى من لم ينفر إلى الغزو ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 39 ] إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير .

    إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم أي : لنصرة نبيه ، وإقامة دينه : ولا تضروه شيئا لأنه الغني عن العالمين ، أي : وإنما تضرون أنفسكم . وقيل : الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي : ولا تضروه ، لأن الله وعده النصر ، ووعده كائن لا محالة .

    والله على كل شيء قدير أي : من التعذيب والتبديل ونصرة دينه بغيرهم ، وفي هذا التوعد على من يتخلف عن الغزو من الترهيب الرهيب ما لا يقدر قدره .

    تنبيه :

    قال بعضهم : ثمرة الآية لزوم إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد ، وكذا يأتي مثله في دعاء الأئمة ، ويأتي مثل الجهاد الدعاء إلى سائر الواجبات ، وفي ذلك تأكيد من وجوه :

    الأول : ما ذكره من التوبيخ .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #385
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3156 الى صـ 3170
    الحلقة (384)



    [ ص: 3156 ] الثاني : قوله تعالى : اثاقلتم إلى الأرض وأن الميل إلى المنافع والدعة واللذات لا يكون رخصة في ذلك .

    الثالث : في قوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا فهذا زجر .

    الرابع : قوله تعالى : فما متاع الآية . وهذا تخسيس لرأيهم .

    الخامس : ما عقب من الوعيد بقوله : إلا تنفروا يعذبكم

    السادس : ما بالغ فيه بقوله : عذابا أليما

    السابع : قوله : ويستبدل الآية .

    الثامن : قوله : والله على كل شيء قدير ففيه تهديد .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 40 ] إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنـزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم .

    إلا تنصروه أي : بالخروج معه إلى تبوك فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا

    يعني كفار مكة حين مكروا به ، فصاروا سبب خروجه ، فخرج ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثاني اثنين حال من ضميره صلى الله عليه وسلم ، أي : أحد اثنين إذ هما في الغار بدل من : إذ أخرجه بدل البعض ، إذ المراد به زمان متسع .

    والغار نقب في أعلى ثور ، وهو جبل في الجهة اليمنى من مكة على مسيرة ساعة ، مكثا فيه ثلاثا ، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما ، ثم يسيرا إلى المدينة ، إذ يقول بدل ثان ، أي : [ ص: 3157 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أي : أبي بكر : لا تحزن وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه أشفق من المشركين أن يعلموا بمكانهما ، فيخلص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أذى ، وطفق يجزع لذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحزن إن الله معنا أي : بالنصرة والحفظ .

    روى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال : نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رؤوسنا ، فقلت : يا رسول الله ! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه ! فقال : « يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما » .

    فأنـزل الله سكينته أي : أمنته التي تسكن عندها القلوب عليه أي : على النبي صلى الله عليه وسلم وأيده بجنود لم تروها يعني الملائكة ، أنزلهم ليحرسوه في الغار ، أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله : نصره الله وقوى أبو السعود الوجه الثاني ، بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم .

    قلت : لا إباءة ، لأن هذا وصف لازم لإمداد القوة الغيبية في كل حال ، وفي الثاني تفكيك في الأسلوب لبعد المتعاطفين ، فافهم . والله أعلم .

    وجعل كلمة الذين كفروا السفلى أي : المغلوبة المقهورة ، و ( الكلمة ) الشرك ، أو دعوة الكفر ، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك ، أو هي بمعنى الكلام مطلقا على أنها دعوة الكفر وكلمة الله هي العليا يعني التوحيد ، أو دعوة الإسلام كما تقدم ، أي : التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة وكلمة الله بالرفع على الابتداء و : هي العليا مبتدأ وخبر . أو تكون ( هي ) فصلا .

    وقرئ بالنصب أي : وجعل كلمة الله ، والأول [ ص: 3158 ] أوجه وأبلغ ، لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت ، وإن الجعل لم يتطرق لها لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها ، وفي إضافة ( الكلمة ) إلى ( الله ) إعلاء لمكانها ، وتنويه لشأنها والله عزيز أي : غالب على ما أراد : حكيم في حكمه وتدبيره .

    تنبيه :

    قال بعض مفسري الزيدية : استدل على عظيم محل أبي بكر من هذه الآية من وجوه : منها : قوله تعالى : إذ يقول لصاحبه لا تحزن وقوله : إن الله معنا وقوله فأنـزل الله سكينته عليه قيل : على أبي بكر .

    عن أبي علي والأصم ، قال أبو علي : لأنه الخائف المحتاج إلى الأمن ، وقيل : على الرسول ، عن الزجاج وأبي مسلم .

    قال جار الله : وقد قالوا : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر ، لأنه رد كتاب الله تعالى . انتهى .

    وقال السيوطي في ( " الإكليل " ) : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : أنا ، والله ! صاحبه ، فمن هنا قالت المالكية : من أنكر صحبة أبي بكر كفر وقتل ، بخلاف غيره من الصحابة ، لنص القرآن على صحبته . انتهى .

    وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : « أنت صاحبي على الحوض ، وصاحبي في الغار » - أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب - .

    وقد ساق الفخر الرازي اثني عشر وجها من هذه الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ، فأطال وأطاب .

    ولما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول لتبوك ، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر ، أتبعه بهذا الأمر الجزم ، فقال سبحانه :
    [ ص: 3159 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 41 ] انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون .

    انفروا خفافا وثقالا حالان من ضمير المخاطبين ، أي : على أي حال كنتم خفافا في النفور لنشاطكم له ، وثقالا عنه ، لمشقته عليكم ، أو خفافا لقلة عيالكم وأذيالكم ، وثقالا لكثرتها ، أو خفافا من السلاح وثقالا منه ، أو ركبانا ومشاة ، أو شبابا وشيوخا أو مهازيل وسمانا ، واللفظ الكريم يعم ذلك كله ، والمراد حال سهولة النفر وحال صعوبته .

    وقد روي عن ثلة من الصحابة أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط ، ويستشهدون بهذه الآية .

    ولما كانت البعوث إلى الشام ، قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة حتى أتى على هذه الآية ، فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا ، جهزوني يا بني ! فقال بنوه : يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك فقال : ما سمع عذر أحد ، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل .

    وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ، ويقول : فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا ، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاما واحدا .

    وقال أبو راشد الحراني : وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وقد فصل عنها يريد الغزو ، فقلت له : قد أعذر الله إليك ، فقال : أتت علينا سورة البعوث : انفروا خفافا وثقالا

    وعن حيان بن زيد قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص - فرأيت شيخا كبيرا هما ، قد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته فيمن أغار ، [ ص: 3160 ] فأقبلت إليه فقلت : يا عم ! لقد أعذر الله إليك ، قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي ! استنفرنا الله خفافا وثقالا ، ألا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه . وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله عز وجل - وروى ذلك كله ابن جرير - .

    فرحم الله تلك الأنفس الزكية ، وحياها من بواسل ، باعت أرواحها في مرضاة ربها ، وإعلاء كلمته ، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية .

    ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ، ومرضاة رسوله ، فقال : وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ما في اسم الإشارة إلى النفير والجهاد من معنى البعد ، للإيذان ببعد منزلته في الشرف ، والمراد بكونه خيرا ، أنه خير في نفسه ، أو خير من الدعة ، والتمتع بالأموال .

    تنبيه :

    قال الحاكم : الجهاد بالمال ضروب : منها إنفاقه على نفسه في السير في الجهاد ، ومنها صرف ذلك إلى الآلات التي يستعان بها على الجهاد ، ومنها صرفه إلى من ينوب عنه أو يخرج معه .

    وقال بعض مفسري الزيدية : ذكر المؤيد بالله أن من له فضل مال ، وجب عليه أن يدفعه إلى الإمام ، إن دعت إليه حاجة .

    وذكر الراضي بالله وجوب دفع ما دعت الحاجة إليه من الأموال في الجهاد ، قليلا كان أو كثيرا ، ويتعين ذلك بتعيين الإمام .

    وأما من طريق الحسبة ، فقال الراضي بالله : يجب ذلك إن حصل خلل لا يسده إلا المال ، ويدخل في هذا إلزام الضيفة ، وتنزيل الدور ، وقد قال الراضي بالله : للإمام أن يلزم الرعية على ما يراه من المصلحة .

    [ ص: 3161 ] وعن المؤيد بالله : إن للإمام إنزال جيشه دور الرعية إذا لم يتم له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالجند، واحتاجوا إلى ذلك . كما يجوز دخول الدار المغصوبة لإزالة المنكر.

    وكذا ذكر أبو مضر أنه ينزل في الزائد على حاجة أهل الدور ، وأما من ينزل الدار من جيشه بظلم أو فساد ، فإن عرف ذلك عورض بين مطلب الإمام في دفعه المنكر ، وبين هذا المنكر الواقع من الجند ، أيهما أغلظ . انتهى .

    ثم صرف تعالى الخطاب عن المتخلفين ، ووجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معددا لما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا ، مبنيا لدناءة همهم في هذا الخطب ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 42 ] لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون .

    لو كان أي : ما تدعوهم إليه عرضا قريبا أي : نفعا سهل المأخذ ، وسفرا قاصدا أي : وسطا لاتبعوك أي : لا لأجلك ، بل لموافقة أهوائهم ولكن بعدت عليهم الشقة بضم الشين ، وقرئ بكسرها ، أي : الناحية التي ندبوا إليها . وسميت الناحية التي يقصدها المسافر بذلك ، للمشقة التي تلحقه في الوصول إليها .

    وقرئ ( بعدت ) بكسر العين . قال الشهاب : بعد يبعد كعلم يعلم ، لغة فيه ، لكنه اختص ببعد الموت غالبا . و ( لا تبعد ) ، يستعمل في المصائب للتفجع والتحسر كقوله :


    لا يبعد الله إخوانا لنا ذهبوا أفناهم حدثان الدهر والأبد


    وسيحلفون أي : هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك بالله متعلق ب ( سيحلفون ) ، [ ص: 3162 ] أو هو من جملة كلامهم .

    والقول مراد في الوجهين ، أي : سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك ، معتذرين بالعجز ، يقولون بالله : لو استطعنا لخرجنا معكم أي : إلى تلك الغزوة .

    ثم بين تعالى أن هذه الدعوى الكاذبة والحلف لا يفيدانهم ، بقوله سبحانه : يهلكون أنفسهم أي : بهذا الحلف والمخالفة ودعوى العجز والله يعلم إنهم لكاذبون لأنهم كانوا يستطيعون الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 43 ] عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين .

    عفا الله عنك لم أذنت لهم أي : لهؤلاء المنافقين بالتخلف حين اعتلوا بعللهم ، حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود ، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب ، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو .

    ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 44 ] لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين .

    لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله أي : لمنع إيمانهم به ، من مخالفته ، مع القدرة واليوم الآخر لمنع إيمانهم به من ترك تعويض الثواب والحياة الأبديين إذا أمروا : أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم أي : لأنهم يودون الجهاد بها قربة ، فيبذلونها في سبيله : والله عليم بالمتقين أي : فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم .

    ففيه شهادة لهم بالانتظام في زمرة الأتقياء ، وعدة لهم بأجزل الثواب .
    [ ص: 3163 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 45 ] إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون .

    إنما يستأذنك أي : في ترك الجهاد بهما : الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر إذ لا يرجون ثوابه ولا حياته ، وهم المنافقون ، ولذا قال : وارتابت قلوبهم أي : فيما تدعوهم إليه ، أي : رسخ فيها الريب فهم في ريبهم يترددون أي : ليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى هلكى ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .

    تنبيهات :

    الأول : اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو ، دون ما يوهم العتاب ، من مراعاة جانبه عليه الصلاة والسلام ، وتعهده بحسن المفاوضة ، ولطف المراجعة ما لا يخفى على أولي الألباب .

    قال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف : بدأ بالعفو قبل ذلك المعفو .

    قال مكي : عفا الله عنك افتتاح كلام مثل ( أصلحك الله وأعزك ) . وقال الداودي : إنها تكرمة .

    أقول : ويؤيد ذلك قول علي بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه :


    عفا الله عنك ألا حرمة تعوذ بعفوك أن أبعد

    ألم تر عبدا عدا طوره
    ومولى عفا ورشيدا هدى

    أقلني أقالك من لم يزل
    يقيك ويصرف عنك الردى


    وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب - غير صحيح - فالواجب تفسيره في كل مقام بما يناسبه .

    [ ص: 3164 ] قال الشهاب : وهو يستعمل حيث لا ذنب ، كما تقول لمن تعظمه : عفا الله عنك، ما صنعت في أمري ؟ وفي الحديث : « عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له » .

    وقال السخاوندي : وهو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم ، ولولا العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب

    وقال القاضي عياض في ( " الشفا " ) : وأما قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم فأمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي ، فيعد معصية ولا عده الله عليه معصية ، بل يعده أهل العلم معاتبة ، وغلطوا من ذهب إلى ذلك .

    قال نفطويه : وقد حاشاه الله من ذلك ، بل كان مخيرا في أمرين .

    قالوا : وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي ، وكيف ؟ وقد قال الله تعالى : فأذن لمن شئت منهم فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى بما لم يطلعه عليه من سرهم ، أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، وأنه لا حرج عليه فيما فعل ، وليس ( عفا ) هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق » . ولم تجب عليهم قط ، أي : لم يلزمهم ذلك .

    ونحوه للقشيري قال : إنما يقول : ( العفو لا يكون إلا عن ذنب ) ، من لم يعرف كلام العرب ، قال : ومعنى : عفا الله عنك أي : لم يلزمك ذنبا . انتهى .

    وقد عد ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته .

    وللعلامة أبي مسعود مناقشة معه في ذلك ، أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة ، قال رحمه الله :

    ولقد أخطأ وأساء الأدب ، وبئس ما فعل فيما قال وكتب ، من زعم أن الكلام كناية عن الجناية ، وأن معناه أخطأت ، وبئس ما فعلت ، هب أنه كناية ، أليس إيثارها على التصريح [ ص: 3165 ] بالجناية للتلطيف في الخطاب ، والتخفيف في العتاب ، وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة، بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة ( بئسما ) ، المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها ، ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين ، أو منفعة للمسلمين ، بل كان فيه فساد وخبال ، حسبما نطق به قوله عز وجل : لو خرجوا إلخ ، وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى : ولكن كره الله انبعاثهم الآية ، نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير ، ويفتضحوا على رءوس الأشهاد ، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم ، بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم ، وأرضوه بالأكاذيب .

    على أنه لم يهنأ لهم عيش ، ولا قرت لهم عين ، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان ، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان . انتهى .

    قال الخفاجي : وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك ، فأبدله بالعفو تعظيما لشأنه ، ولذا قدم العفو على ما يوجب الجناية ، فلا خطأ فيه .

    قال رحمه الله : ولو اتقى هو والموجه موضع التهم - كان أولى وأحرى . انتهى .

    الثاني : استدل بالآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحيانا بالاجتهاد ، كما بسطه الرازي .

    قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : واستدل بها من قال : إن اجتهاده قد يخطئ ولكن ينبه عليه بسرعة .

    الثالث : قال الرازي : دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأني ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحق من التقريب أو الإبعاد .

    الرابع : قال أبو السعود : تغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي [ ص: 3166 ] صلته فعل دال على الحدوث ، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام ، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص ، غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين ، وأن ما صدر من الآخرين ، وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص ، لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ، ناشئ عن رسوخهم في الكذب . ودقق رحمه الله في بيان لطائف أخر . فلتراجع .

    الخامس : قيل : نفي الفعل المستقبل الدال على الاستمرار في قوله تعالى : لا يستأذنك يفيد نفي الاستمرار .

    وهذا معنى قول الزمخشري : ليس من عادة المؤمنين أي : يستأذنوك .

    قال النحرير : ولا يبعد حمله على استمرار النفي ، كما في أكثر المواضع ، أي : عادتهم عدم الاستئذان .

    قال الناصر : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا ، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي له معروفا ، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما ، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره ، وصلوات الله على خليله وسلامه ، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم ، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الخلة الجميلة ، والآداب الجليلة ، فقال تعالى : فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين أي : ذهب على خفاء منهم ، كيلا يشعروا به ، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ، ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة ، فهذا من الآداب التي ينبغي أي : يتمسك بها ذوو المروءة ، وأولو القوة .

    وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين ، والتثاقل عن المبادرة إليه ، بعد الحض عليه والمناداة .

    وأسوأ أحوال المتثاقل ، وقد دعي الناس إلى الغزاة ، أن يكون متمسكا بشعبة من النفاق . نعوذ بالله من التعرض لسخطه .

    [ ص: 3167 ] ثم بين تعالى جلية شأن أولئك المنافقين المستأذنين ، بأنهم لم يريدوا الخروج للجهاد حقيقة ، ولذلك خذلهم ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 46 ] ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين .

    ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة بضم العين وتشديد الدال ، أي : قوة من مال وسلاح وزاد ونحوها ولكن كره الله انبعاثهم أي : نهوضهم للخروج فثبطهم أي : فكسلهم وضعف رغبتهم وقيل اقعدوا مع القاعدين أي : من النساء والصبيان .

    تنبيهات :

    الأول : دل قوله تعالى : لأعدوا له عدة على أن عدة الحرب من الكراع والسلاح وجميع ما يستعان به على العدو ، من جملة الجهاد .

    فما صرف في المجاهدين صرف في ذلك ، وهذا جلي فيما يتقى به من العدة كالسلاح ، فأما ما يحصل به الإرهاب من الرايات والطبول ونحو ذلك ، مما يضعف به قلب العدو ، فهو داخل في الجهاد ، وقد قال تعالى في سورة الأنفال : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ويكون ذلك كلباس الحرير حالة الحرب ، وهذا جلي حيث لا يؤدي إلى السرف .

    الثاني : إن الفعل يحسن بالنية ، ويقبح بالنية ، وإن استويا في الصورة ، لأن النفير واجب مع نية النصر ، وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح ، وذلك لأنه تعالى أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل منه من إرادة المكر بالمسلمين .

    [ ص: 3168 ] الثالث : للإمام منع من يتهم بمضرة المسلمين ، أن يخرج للجهاد ، فله نفي الجاسوس والمرجف والمخذل . ذكر ذلك كله بعض مفسري الزيدية .

    الرابع : ذكروا أن قوله تعالى : وقيل اقعدوا مع القاعدين تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم ، يعني نزل خلق داعية القعود فيهم منزلة الأمر ، والقول الطالب ، كقوله تعالى : فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم أي : أماتهم ، أو هو تمثيل لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود ، أو هو حكاية قول بعضهم لبعض ، أو هو إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالقعود .

    قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : مع القاعدين ؟ قلت : هو ذم لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : رضوا بأن يكونوا مع الخوالف

    قال الناصر : وهذا من تنبيهاته الحسنة . ونزيده بسطا فنقول :

    لو قيل : ( اقعدوا ) مقتصرا عليه ، لم يفد سوى أمرهم بالقعود ، وكذلك : ( كونوا مع القاعدين ) .

    ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد ، الموسومين بهذه السمة ، إلا من عبارة الآية ، ولعن الله فرعون ، لقد بالغ في توعيد موسى عليه السلام بقوله : لأجعلنك من المسجونين ولم يقل : لأجعلنك مسجونا . لمثل هذه النكتة من البلاغة .

    ثم بين تعالى سر كراهته لخروجهم بقوله :
    [ ص: 3169 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 47 ] لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين .

    لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا أي : فسادا وشرا ولأوضعوا خلالكم أي : ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالفساد .

    قال الشهاب : الإيضاع : إسراع سير الإبل . يقال : وضعت الناقة ، تضع إذا أسرعت ، وأوضعتها أنا .

    والمراد : الإسراع بالنمائم ، لأن الراكب أسرع من الماشي . فقيل : المفعول مقدر ، وهو النمائم ، فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها ، وأثبت لها الإيضاع . ففيه تخييلية ومكنية .

    وقيل : إنه استعارة تبعية ، شبه سرعة إفسادهم لذات البين بالنميمة ، بسرعة سير الركائب ، ثم استعير لها الإيضاع ، وهو للإبل .

    و ( خلال ) جمع خلل ، وهو الفرجة ، استعمل ظرفا بمعنى ( بين ) .

    واعلم أن قوله : ولأوضعوا مرسوم في الإمام بألفين ، لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربي ، والخط العربي اختراع قريبا من نزول القرآن ، وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحها ألفا أخرى ونحوه : أو لأذبحنه

    يبغونكم الفتنة أي : يطلبون لكم ما تفتنون ، بإيقاع الخلاف فيما بينكم ، وإلقاء الرعب في قلوبكم ، وإفساد نياتكم وفيكم سماعون لهم أي : منقادون لقولهم مستحسنون لحديثهم ، وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، لضعف عقولهم ، فيتوهمون منهم النصح والإعانة ، وهم يريدون التخذيل والفتنة ، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين ، وفساد كبير .

    وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير ، أي : فيكم عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم .

    [ ص: 3170 ] قال ابن كثير : وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جميع الأحوال . والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين .

    قال محمد بن إسحاق : كان استأذن ، فيما بلغني ، من ذوي الشرف منهم عبد الله بن أبي ابن سلول والجد بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله ، لعلمه بهم أن يخرجوا فيفسدوا عليه جنده .

    وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيها يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ، فقال : وفيكم سماعون لهم انتهى .

    والله عليم بالظالمين ولا يخفى عليه شيء من أمرهم ، وفيه شمول للفريقين : القاعدين والسماعين .

    ثم برهن تعالى على ابتغائهم الفتنة في كل مرة بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 48 ] لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .

    لقد ابتغوا الفتنة من قبل أي طلبوا الشر بتشتيت شملك ، وتفريق صحبك عنك ، من قبل غزوة تبوك ، كما فعل عبد الله بن أبي ابن سلول حين انصرف بأصحابه يوم أحد عن المسلمين وقلبوا لك الأمور أي دبروا لك الحيل والمكايد ودوروا الآراء في إبطال أمرك .

    قال الشهاب : المراد من الأمور المكايد ، فتقليبها مجاز عن تدبيرها ، أو ( الآراء ) ، فتقليبها تفتيشها وإحالتها .

    حتى جاء الحق وهو تأييدك ونصرك وظفرك وظهر أمر الله أي : علا دينه وهم كارهون أي : على رغم منهم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #386
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3171 الى صـ 3185
    الحلقة (385)



    قال ابن كثير : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها . فلما نصره الله يوم بدر ، وأعلى كلمته . قال ابن أبي وأصحابه : هذا أمر [ ص: 3171 ] قد توجه ، ( أي : أقبل ) ، فدخلوا في الإسلام ظاهرا . ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله ، أغاظهم ذلك وساءهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 49 ] ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .

    ومنهم من يقول ائذن لي أي : في القعود ولا تفتني أي : لا توقعني في الفتنة .

    روي عن مجاهد وابن عباس أنها نزلت في الجد بن قيس ، أخي بني سلمة ، وذلك فيما رواه محمد بن إسحاق ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم وهو في جهازه : « هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر ؟ » فقال : يا رسول الله ! أوتأذن لي ولا تفتني ؟ فوالله ! لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى ، إن رأيت نساء بني الأصفر ، ألا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « أذنت لك ! » .

    قال الشهاب يعني أنه يخشى العشق لهن ، أو مواقعتهن من غير حل .

    وبنات الأصفر : للروم ، كبني الأصفر . وقيل في وجه التسمية وجوه : منها أنهم ملكهم بعض الحبشة ، فتولد بينهم نساء وأولاد ذهبية الألوان . انتهى .

    قال ابن كثير : كان الجد بن قيس هذا من أشرف بني سلمة .

    وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : « من سيدكم يا بني سلمة ؟ » قالوا : الجد بن قيس ؟ [ ص: 3172 ] على أنا نبخله .

    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وأي داء أدوأ من البخل ؟ ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض ، بشر بن البراء بن معرور »
    .

    وقوله تعالى : ألا في الفتنة سقطوا قال أبو السعود : أي : في عينها ونفسها ، وأكمل أفرادها الغني عن الوصف بالكمال ، الحقيق باختصاص اسم الجنس به ، سقطوا لا في شيء مغاير لها ، فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها . وذلك بم فعلوا من العزيمة على التخلف والجرأة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة ، ومن القعود بالإذن المبني عليه ، وعلى الاعتذارات الكاذبة ، وقرئ بإفراد الفعل ، محافظة على لفظ ( من ) . وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه ، مع تقديم الظرف ، إيذان بأنهم وقعوا فيها ، وهم يحسبون أنها منجى من الفتنة ، زعما منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن . وفي التعبير عن ( الافتتان ) بالسقوط في الفتنة ، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة ، المفصحة عن ترديهم في درجات الردى أسفل سافلين . انتهى .

    وإن جهنم لمحيطة بالكافرين أي : ستحيط بهم يوم القيامة ، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب ، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا .

    ثم بين عداوتهم ، زيادة في تشهير مساوئهم ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 50 ] إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون .

    إن تصبك حسنة أي : من فتح وظفر وغنيمة تسؤهم أي : تورثهم مساءة لفرط عداوتهم وإن تصبك مصيبة أي : من نوع شدة يقولوا قد أخذنا أمرنا أي : بالحزم في القعود من قبل أي : من قبل إصابة المصيبة ، فيتبجحوا بما صنعوا حامدين [ ص: 3173 ] لآرائهم ويتولوا أي : عن مجتمعهم الذي أظهروا فيه الفرح برأيهم ، وهم فرحون أي : برأيهم وبما أصابكم وبما سلموا .

    ثم أرشد تعالى إلى جوابهم ببطلان ما بنوا عليه مسرتهم ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 51 ] قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون .

    قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا أي : ما أثبته لمصلحتنا الدنيوية أو الأخروية ، فلا وجه لهذا الفرح ، لرضانا بقضائه في تلك المصيبة ، فلم يسؤنا بالحقيقة كيف ؟

    ولم يكتبها علينا ليضرنا بها ، إذ : هو مولانا أي : يتولى أمورنا ، فإنما كتبها علينا ليوفقنا للصبر والرضا بها ، فيعطينا من الأجر ما هو خير منها وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي : لأنه لا ناصر ولا متولي لأمرهم غيره .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 52 ] قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون .

    قل هل تربصون أي : تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين أي : العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب ، وهما النصر والشهادة ونحن نتربص بكم أي : إحدى السوئين من العواقب إما : أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أي : كما أصاب من قبلكم من الأمم أو بعذاب : بأيدينا وهو القتل على الكفر .

    فتربصوا أي : بنا ما ذكر من عواقبنا إنا معكم متربصون أي : منتظرون ما هو عاقبتكم [ ص: 3174 ] فلا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه ، لا يتجاوزه ، فلا تشاهدون إلا ما يسرنا ، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 53 ] قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين .

    قل أنفقوا يعني أموالكم في سبيل الله ووجوه البر طوعا أو كرها مصدران وقعا موقع الفاعل ، أي : طائعين من قبل أنفسكم ، أو كارهين مخافة القتل لن يتقبل منكم أي : ذلك الإنفاق . ثم بين سبب ذلك بقوله : إنكم كنتم قوما فاسقين أي : عاتين ، متمردين .

    لطائف :

    قال الزمخشري : فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : لن يتقبل منكم ! قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله تبارك وتعالى : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها ، ونحوه قوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم

    وقوله :


    أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة


    أي : لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك ، أسأت إلينا أم أحسنت .

    [ ص: 3175 ] فإن قلت : متى يجوز هذا ؟ قلت : إذا دل الكلام عليه ، كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيدا وغفر له .

    فإن قلت : لم فعل ذلك ؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي أن كثيرا كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي ، وقوة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة والإحسان ، وانظري : هل يتفاوت حالي معك ، مسيئة كنت أو محسنة ! وفي معناه قول القائل :


    أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا لتضربه لم يستغشك في الود


    وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا ، هل يتقبل منكم ؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه ؟

    فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبل ، أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم ، ورده عليهم ما يبذلون منه ، أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ، ذاهبا هباء لا ثواب له ؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعا .

    وقد روي أن الآية من تتمة جواب الجد بن قيس حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا مالي أعينك به ، فاتركني ولا تفتني . والله أعلم .
    [ ص: 3176 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 54 ] وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون .

    ولما بين تعالى قبائح أفعال المنافقين ، وما لهم في الآخرة من العذاب المهين ، وعدم قبول نفقاتهم ، تأثره ببيان أن ما يظنونه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم ، فينجلي تمام الانجلاء أن النفاق مهواة الخسار ، لجلبه آفات الدنيا والآخرة ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 55 ] فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون .

    فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم أي : لأن ذلك استدراج لهم ، كما قال : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا أي : بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب ، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب ، وقوله : ليعذبهم قيل : اللام زائدة .

    وقيل : المفعول [ ص: 3177 ] محذوف ، وهذه تعليلية ، أي : يريد إعطاءهم لتعذيبهم ، وتزهق أنفسهم وهم كافرون أي : فيموتوا كافرين ، لاهين بالتمتع عن النظر في العاقبة ، فيكون ذلك استدراجا لهم .

    وأصل ( الزهوق ) الخروج بصعوبة - أفاده القاضي - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 56 ] ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون .

    ويحلفون بالله يعني المنافقين إنهم لمنكم في الدين ليدفعوا ، بدلالة اليمين ، دلائل النفاق وما هم منكم في ذلك يعني أنهم كاذبون ولكنهم قوم يفرقون أي : يخافون القتل ، وما يفعل بالمشركين ، فيتظاهرون بالإسلام تقية ، ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة .

    ثم أشار إلى سبب الخوف ، وهو اضطرارهم إلى مساكنهم مع ضعفهم ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 57 ] لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون .

    لو يجدون ملجأ أي : حصنا يلتجئون إليه أو مغارات يعني غيرانا في الجبال يسكن كل واحد منهم غارا أو مدخلا يعني موضع دخول يدخلون فيه ، والسرب في الأرض لولوا إليه أي : لأقبلوا نحوه وهم يجمحون أي : يسرعون إسراعا ، لا يردهم شيء ، كالفرس الجموح ، أي : النفور الذي لا يرده لجام ، أي : لو وجدوا شيئا من هذه الأمكنة التي هي منفور عنها ، مستنكرة ، لأتوه لشدة خوفهم ، وكراهتهم للمسلمين ، وغمهم بعز الإسلام ، ونصر أهله .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 58 ] ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون .

    ومنهم من يلمزك أي : يعيبك في الصدقات أي : في قسمتها .

    ثم بين فساد [ ص: 3178 ] لمزهم ، وأنه لا منشأ له سوى حرصهم على حطام الدنيا بقوله : فإن أعطوا منها أي : قدر ما يريدون رضوا فجعلوه عدلا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون فيجعلونه غير عدل .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 59 ] ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون .

    ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله أي : كفانا فضله ، وما قسمه لنا سيؤتينا الله من فضله ورسوله أي : بعد هذا ، حسبما نرجو ونؤمل .

    إنا إلى الله راغبون أي : في أن يغنمنا ويخولنا فضله .

    والجواب محذوف بناء على ظهوره . أي : لكان خيرا لهم .

    روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم فيئا ، أتاه ذو الخويصرة : رجل من بني تميم - فقال : يا رسول الله ! اعدل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ويلك من يعدل إذا لم أعدل ؟ » فقال عمر بن الخطاب : ايذن لي فيه فأضرب عنقه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية » .
    [ ص: 3179 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 60 ] إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم

    إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم

    لما ذكر تعالى لمزهم في الصدقات تأثره ببيان حقية ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من القسمة ، إذ لم يتجاوز فيها مصارفها المشروعة له ، وهو عين العدل ، وذلك أنه تعالى شرع قسمها لهؤلاء ، ولم يكله إلى أحد غيره ، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئا ، ففيم اللمز لقاسمها ، صلوات الله عليه ؟

    روى البخاري عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي » .

    وروى أبو داود عن زياد بن الحارث رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة ، فقال له : « إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك » .

    فالآية رد لمقالة أولئك اللمزة ، وحسم لأطماعهم ، ببيان أنهم بمعزل من الاستحقاق . وإعلام بمن إعطاؤهم عدل ، ومنعهم ظلم .

    [ ص: 3180 ] والفقراء ، جمع فقير ، فعيل بمعنى فاعل ، يقال فقر يفقر من باب تعب ، إذا قل ماله .

    والمساكين : جمع مسكين ، من ( سكن سكونا ) ، ذهبت حركته ، لسكونه إلى الناس ، وهو بفتح الميم في لغة بني أسد ، وبكسرها عند غيرهم .

    قال ابن السكيت : المسكين : الذي لا شيء له ، والفقير : الذي له بلغة من العيش . وكذلك قال يونس ، وجعل الفقير أحسن حالا من المسكين .

    قال : وسألت أعرابيا : أفقير أنت ؟ فقال : لا ، والله بل مسكين ، وقال الأصمعي : المسكين أحسن حالا من الفقير ، وهو الوجه ; لأن الله تعالى قال : أما السفينة فكانت لمساكين وكانت تساوي جملة ، وقال في حق الفقراء : لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وقال ابن الأعرابي : المسكين هو الفقير ، وهو الذي لا شيء له ، فجعلهما سواء . كذا في ( " المصباح " ) .

    قال البدر القرافي : وإذا اجتمعا افترقا ، كما إذا أوصي للفقراء والمساكين ، فلا بد من الصرف للنوعين ، وإن افترقا اجتمعا ، كما إذا أوصي لأحد النوعين ، جاز الصرف للآخر .

    قال المهايمي : ثم ذكر تعالى من يحتاج إليهم المحتاجون إلى الصدقات ، فقال : والعاملين عليها أي : الساعين في تحصيلها : القابض والوازن والكيال والكاتب ، ويعطون أجورهم منها .

    ثم ذكر من يحتاج إليهم الإمام فقال : والمؤلفة قلوبهم وهم قوم ضعفت نيتهم في الإسلام ، فيحتاج الإمام إلى تأليف قلوبهم بالعطاء ، تقوية لإسلامهم ، لئلا يسري ضعفهم إلى غيرهم ، أو أشراف يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم .

    ثم ذكر تعالى من يعان بها في دفع الرق بقوله : وفي الرقاب أي : وللإعانة في فك الرقاب ، فيعطي المكاتبون منها ما يستعينون به على [ ص: 3181 ] أداء نجوم الكتابة ، وإن كانوا كاسبين ، وهو قول الشافعي والليث ، أو : وللصرف في عتق الرقاب ، بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق .

    قال ابن عباس والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق .

    ولا يخفى أن ( الرقاب ) يعم الوجهين ، وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة .

    ثم ذكر تعالى من تفك ذمته في الديون بقوله : والغارمين

    وهم الذين ركبتهم الديون لأنفسهم في غير معصية ، ولم يجدوا وفاء ، أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء .

    ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله : وفي سبيل الله

    فيصرف على المتطوعة في الجهاد ، ويشترى لهم الكراع والسلاح .

    قال الرازي : لا يوجب قوله : وفي سبيل الله القصر على الغزاة ، ولذا نقل القفال في ( " تفسيره " ) عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ، لأن قوله : وفي سبيل الله عام في الكل . انتهى .

    ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من : ( سبيل الله ) فيصرف للحجاج منه .

    قال في ( الإقناع ) و ( شرحه ) : والحج من ( سبيل الله ) نصا ، روي عن ابن عباس وابن عمر ، لما روى أبو داود ، أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله ، فأرادت امرأته الحج ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اركبيها ، فإن الحج من ( سبيل الله ) ، فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة ، أو يستعين به فيه ، وكذا في نافلتهما ، لأن كلا من ( سبيل الله ) . انتهى .

    قال ابن الأثير : و ( سبيل الله ) عام ، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله عز وجل ، بأداء الفرائض والنوافل ، وأنواع التطوعات ، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد ، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه . انتهى .

    وقال في ( " التاج " ) : كل سبيل أريد به الله عز وجل وهو بر ، داخل في سبيل الله .

    [ ص: 3182 ] ثم ذكر تعالى الإعانة لأبناء الطريق بقوله :

    وابن السبيل فيعطي المجتاز في بلد ما يستعين به على بلوغه لبلده .

    وقوله تعالى : فريضة من الله ناصبه مقدر ، أي : فرض الله ذلك فريضة ، وقوله : والله عليم أي : بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم .

    وقوله : حكيم أي : لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي منها سوق الحقوق إلى مستحقيها .

    تنبيهات :

    الأول : ظاهر الآية يقضي بالقسمة بين الثمانية الأصناف ، ويؤيد هذا وجهان :

    الأول : ما يقتضيه اللفظ اللغوي ، إن قلنا : الواو للجمع والتشريك .

    والثاني : ما رواه أبو داود في سننه من قوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأها ثمانية أجزاء » الحديث .

    وقد ذهب إلى هذا الشافعي وعكرمة والزهري ، إلا إن استغنى أحدها فتدفع إلى الآخرين ، بلا خلاف .

    وذهبت طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد منهم عمر وابن عباس ، وحذيفة وعطاء وابن جبير والحسن ومالك وأبو حنيفة ، والهادي والقاسم وأسباطهما ، وزيد . قال في ( " التهذيب " ) : وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر ، بوجوه :

    الأول : أن الله تعالى قال في سورة البقرة : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها .

    الثاني : الخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم .

    الثالث : حديث سلمة بن صخر ، فإنه عليه الصلاة والسلام جعل له صدقة بني زريق .

    الرابع : أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه .

    الخامس : المعارضة [ ص: 3183 ] للفظ بالمعنى ، فإن المقصود سد الخلة .

    وقال صاحب ( " النهاية " ) : وهذا أقرب إلى المعنى ، والأول أقرب إلى اللفظ ، ويؤيد أنها مستحقة بالمعنى لا بالاسم ، أنا لو قلنا تستحق بالاسم لزم أن من كان فقيرا غازيا غارما مسافرا ، أن يستحق سهاما لهذه الأسباب جميعا - كذا في تفسير بعض الزيدية - .

    وقال الناصر في ( " الانتصاف " ) : القول بوجوب صرفها إلى جميع الأصناف ، حتى لا يجوز ترك صنف واحد منها أخذا من إشعار ( اللام ) بالتمليك ، كما ذهب إليه الشافعي : لا يسعده السياق ، فإن الآية مصدرة بكلمة الحصر الدالة على قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة ، وأنها مختصة بهم ، وأن غيرهم لا يستحق فيها نصيبا ، كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم ، فهذا هو الغرض الذي سيقت له الآية ، فلا اقتضاء فيها لما سواه . انتهى .

    الثاني : قال بعضهم : لفظ ( الصدقات ) بعمومه يجمع الصدقة الواجبة والنافلة ، ثم إن الصدقة الواجبة تتنوع أنواعا ، منها الزكوات لما هو العشر أو نصف العشر ، أو ربع العشر ، وزكاة المواشي والفطرة والكفارات ، نحو كفارة اليمين والظهار والصوم ، وكذلك الهدي في الحج ، ومنها ما يؤخذ من أموال الكفار ورؤوسهم ، ولهذا سمى الله الغنائم صدقة في سبب نزول الآية ، وذلك في قسمة غنائم ( حنين ) ، فإذا كان اللفظ يعم ما ذكر ، فهل تحمل الآية على عمومها في قسمتها على ما ذكر ، أو يخصص البعض ؟

    ثم قال : والعلماء قسموا الصدقات ، وجعلوا مصارفها مختلفة ، والكفارة لم يذكر أنها تصرف في الثمانية المصارف .

    وقد ورد قوله تعالى : ( فكفارته إطعام ستين مسكينا ) وفي الحديث : « أطعم عن كل يوم مسكينا » ، وورد في الفطرة : « أغنوهم هذا اليوم » .

    وورد الأدلة مخصصة لعموم لفظ الصدقات ؟ فإن الزكوات مجمع عليها في أن مصرفها الثمانية الأصناف ، أم كيف تنزل الآية على القواعد الأصولية ؟ . انتهى كلامه .

    [ ص: 3184 ] ولا يخفى كونها مخصصة لعموم لفظ الصدقات ، لأن الخاص يقضي على العام على أن المراد قصرها على هذه الأصناف ، فكل ما ذكر لم يخرج عنها لشمولها له . والله أعلم .

    الثالث : ( المؤلفة قلوبهم ) حكمهم باق ، لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة من المسلمين والمشركين ، فيعطون عند الحاجة .

    ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم ، على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم ، لا لسقوط سهمهم ، فإن الآية من آخر ما نزل ، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر .

    ومنع وجود الحاجة على ممر الزمان ، واختلاف أحوال النفوس في القوة والضعف لا يخفى فساده . كذا في ( " الإقناع " ) و ( " شرحه " ) .

    والمؤلفة كما في ( " الإقناع " ) هم رؤساء قومهم : من كافر يرجى إسلامه ، أو كف شره ، ومسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه ، أو إسلام نظيره ، أو نصحه في الجهاد ، أو في الدفع عن المسلمين ، أو كف شره كالخوارج ونحوهم ، أو قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها . انتهى .

    الرابع : قال في ( " الإكليل " ) : استدل بعموم الآية من أجاز الدفع للفقير القادر على الاكتساب .

    وللذمي ، ولمن تلزمه نفقته لسائر القرابة ، للزوج ، ولآله صلى الله عليه وسلم ، حيث حرموا حظهم من الخمس ، ولمواليهم ، ولمن جوز نقلها .

    وقال ابن الفرس : يؤخذ من قوله تعالى : والعاملين جواز أخذ الأجرة لكل من اشتغل بشيء من أعمال للمسلمين .

    قال : وقد احتج به أبو عبيد على جواز أحد القضاة الرزق فقال : قد فرض الله للعاملين على الصدقة ، وجعل لهم منها حقا بقيامهم فيه وسعيهم ، فكذلك القضاة يجوز لهم أخذ الأجرة على عملهم ، وكذا كل من شغل بشيء من أعمال المسلمين .

    الخامس : قال الزمخشري : فإن قلت : لم عدل عن اللام إلى ( في ) ، في الأربعة الأخيرة ؟ قلت : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن ( في ) للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ، ويجعلوا مظنة لها ومصبا ، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم ، من التخليص والإنقاذ .

    [ ص: 3185 ] ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ، وتكرير ( في ) ، في قوله تعالى : وفي سبيل الله وابن السبيل فيه فضل ترجيح لهذين ، على الرقاب والغارمين . انتهى .

    قال الناصر : وثم سر آخر هو أظهر وأقرب ، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم ، وإنما يأخذونه ملكا ، فكان دخول اللام لائقا بهم ، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم ، بل ولا يصرف إليهم ، ولكن في مصالح تتعلق بهم .

    فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون ، فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك ( باللام ) المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم ، وإنما هم محال لهذا الصرف ، والمصلحة المتعلقة به .

    وكذلك ( الغارمون ) ، إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم ، تخليصا لذممهم ، لا لهم وأما : ( سبيل الله ) فواضح فيه ذلك .

    وأما : ( ابن السبيل ) فكأنه كان مندرجا في سبيل الله ، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته ، مع أنه مجرد من الحرفين جميعا ، وعطفه على المجرور ( باللام ) ممكن ، ولكنه على القريب منه أقرب . والله أعلم .

    ثم قال : وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه ، استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجها في الاستدلال لمالك ، رحمه الله ، على أن الغرض بيان المصرف و ( اللام ) لذلك لام الملك ، فيقول : متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف ، فيتعين تقديره ، فإما أن يكون التقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء ، كقول مالك ، أو مملوكة للفقراء ، كقول الشافعي ، لكن الأول متعين لأنه تقدير ، يكتفى به في الحرفين جميعا ، يصح تعلق ( اللام ) به و ( في ) معا ، فيصح أن نقول : هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا ، بخلاف تقديره مملوكة ، فإنه إنما يلتئم مع اللام ، وعند الانتهاء إلى ( في ) يحتاج إلى تقدير : مصروفة ليلتئم بها .

    فتقديره من ( اللام ) عام التعلق ، شامل الصحة ، متعين ، والله الموفق . انتهى .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #387
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3186 الى صـ 3200
    الحلقة (386)


    [ ص: 3186 ] السادس : قال الزمخشري : فإن قلت : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكايدهم ؟

    قلت : دل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسما لأطماعهم ، وإشعارا باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم وما لها ، وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه . انتهى .

    وتقدم بيانه أيضا .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 61 ] ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم .

    ومنهم أي : من الذين يحلفون بالله إنهم لمنكم ، ومن أشد من اللامز في الصدقات إذ هم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن أي : يسمع كل ما يقال له ويصدقه ، ويعنون إنه ليس بعيد الغور ، بل سريع الاغترار بكل ما يسمع .

    قال أبو السعود : وإنما قالوه لأنه صلوات الله عليه كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ، ويصفح عنهم حلما وكرما ، فحملوه على سلامة القلب ، وقالوا ما قالوا .

    قال اللغويون : ( الأذن ) الرجل المستمع القابل لما يقال له ، وصفوا به الواحد والجمع ، فيقال : رجل أذن ، ورجال أذن ، فلا يثنى ولا يجمع ، وإنما سموه باسم العضو تهويلا وتشنيعا ، فهو مجاز مرسل ، أطلق فيه الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته ، لفرط استماعه ، آلة السماع ، كما سمي الجاسوس عينا لذلك ، ونحوه :


    إذا ما بدت ليلى فكلي أعين وإن حدثوا عنها فكلي مسامع


    [ ص: 3187 ] وجعله بعضهم من قبيل التشبيه : بـ ( الأذن ) في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل .

    قال الشهاب : وليس بشيء يعتد به . وقيل إنه على تقدير مضاف ، أي : ذو أذن .

    قال الشهاب : وهو مذهب لرونقه . وقيل : هو صفة مشبهة من ( أذن إليه وله ) ، كفرح : استمع . قال عمرو بن الأهيم :


    فلما أن تسايرنا قليلا أذن إلى الحديث فهن صور


    ولقعنب بن أم صاحب :


    إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا مني ، وما سمعوا من صالح دفنوا


    صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا


    وفي الحديث : « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن » .

    قال أبو عبيد : يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لمن يتلوه ، يجهر به .

    وقوله عز وجل : وأذنت لربها وحقت أي : استمعت . كذا في ( " تاج العروس " ) .

    وعلى هذا فـ ( أذن ) صفة بمعنى سميع ولا تجوز فيه ، ففيه أربعة أوجه .

    وعطف قوله تعالى : ( ويقولون ) عطف تفسير : لأنه نفس الإيذاء .

    وقوله تعالى : قل أذن خير لكم من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة ، كرجل صدق ، تريد المبالغة في الجودة والصلاح ، كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الأذن أو إضافته على معنى ( في ) ، أي : هو أذن في الخير والحق ، وفيما يجب سماعه وقبوله ، وليس [ ص: 3188 ] بأذن في غير ذلك .

    ودل عليه قراءة حمزة ( ورحمة ) بالجر عطفا عليه ، أي : هو أذن خير لكم ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله .

    ثم فسر كونه أذن خير بقوله : يؤمن بالله قال القاشاني : هو بيان لينه صلى الله عليه وسلم وقابليته ، لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب ولطافة النفس ولينها ويؤمن للمؤمنين أي : يصدق قولهم في الخيرات ، ويسمع كلامهم فيها ويقبله ، ورحمة أي : وهو رحمة للذين آمنوا منكم أي : يعطف عليهم ، ويرق لهم ، فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم ، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم ، بالبر والصلة ، وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة والأمر بالمعروف ، باتباعهم إياه فيها ، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين ، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل ، إلى غير ذلك . قاله القاشاني .

    وقال غيره : أي : هو رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم ، معشر المنافقين ، حيث يقبله ، لا تصديقا لكم ، بل رفقا بكم ، وترحما عليكم ، ولا يكشف أسراركم ، ولا يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى تعالى من الحكمة في الإبقاء عليكم .

    قال الشهاب : والمعنى هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله فيصدقها ويستمع للمؤمنين ، فيسلم لهم ما يقولون ، ويصدقهم ، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر ، يسمعون آيات الله ولا يثقون بها ، ويسمعون قول المؤمنين ، ولا يقبلونه وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع أقوالهم إلا شفقة عليهم ، لا أنه يقبلها لعدم تمييزه ، كما زعموا .

    وقال القاشاني في ( " تفسيره " ) : كانوا يؤذونه ، صلوات الله عليه ، ويغتابونه بسلامة القلب ، وسرعة القبول والتصديق لما يسمع ، فصدقهم في ذلك وسلم وقال : هو كذلك ، ولكن بالنسبة إلى الخير ، فإن النفس الأبية والغليظة الجافية ، والكزة القاسية التي تتصلب في الأمور ، ولا تتأثر ، غير مستعدة للكمال ، إذ الكمال الإنساني لا يكون إلا بالقبول والتأثر ، فكلما كانت النفس ألين عريكة ، وأسلم قلبا ، وأسهل قبولا ، كانت أقبل للكمال ، وأشد استعدادا له .

    وليس هذا اللين هو من باب الضعف والبلاهة الذي يقتضي الانفعال من كل [ ص: 3189 ] ما يسمع ، حتى المحال ، والتأثر من كل ما يرد عليه ويراه ، حتى الكذب والشرور والضلال ، بل هو من باب اللطافة ، وسرعة القبول لما يناسبه من الخير والصدق ، فلذلك قال : قل أذن خير إذ صفاء الاستعداد ، ولطف النفس ، يوجب قبول ما يناسبه من باب الخيرات ، لا ما ينافيه من باب الشرور ، فإن الاستعداد الخيري لا يقبل الشر ، ولا يتأثر به ، ولا ينطبع فيه ، لمنافاته إياه ، وبعده عنه . انتهى .

    لطائف :

    الأولى : في قوله تعالى : قل أذن خير أبلغ أسلوب في الرد عليهم ، فإنه صدقهم في كونه أذنا ، إلا أنه فسره بما هو مدح له ، وثناء عليه .

    قال الناصر : لا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه ، لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة ، ثم كر على طمعهم بالحسم ، وأعقبهم في تنقصه باليأس منه .

    ويضاهي هذا من مستعملات الفقهاء ، القول بالموجب ، لأن في أوله إطماعا للخصم بالتسليم ، ثم بتا للطمع على قرب ، ولا شيء أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه . والله الموفق .

    الثانية : ( اللام ) في قوله تعالى : ( للمؤمنين ) مزيدة للتفرقة بين الإيمان المشهور ، وهو الاعتراف ، وبين الإيمان بمعنى التسليم والتصديق - قاله أبو السعود تبعا للقاضي ـ .

    قال الشهاب : يعني أن الإيمان بالله بمعنى الاعتراف والتصديق ، يتعدى بالباء ، فلذا قال ( بالله ) ، والإيمان للمؤمنين بمعنى جعلهم في أمان من التكذيب بتصديقه لهم ، لما علم من خلوصهم ، متعد بنفسه ، فاللام فيه مزيدة للتقوية .

    الثالثة : قال أبو السعود : إسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل ، بعد نسبته إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار ، للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار .

    وقوله تعالى : والذين يؤذون رسول الله أي : بما نقل عنهم من قولهم : هو أذن ونحوه لهم عذاب أليم أي : بما يجترئون عليه من إيذانه .

    [ ص: 3190 ] قال أبو السعود : وهذا اعتراض مسوق من قبله عز وجل على نهج الوعيد ، غير داخل تحت الخطاب .

    وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة مضافا إلى الاسم الجليل ، لغاية التعظيم ، التنبيه على أن أذيته راجعة إلى جنابه عز وجل ، موجبة لكمال السخط والغضب . انتهى .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 62 ] يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين .

    يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين

    قال الزمخشري : الخطاب للمسلمين ، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ، أو يتخلفون عن الجهاد ، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذرهم ، ويرضوا عنهم ، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين كما تزعمون ، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق . انتهى .

    ولما كان الظاهر بعد العطف بالواو التثنية ، وقد أفرد ، وجهوه :

    بأن إرضاء الرسول إرضاء لله تعالى لقوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله فلتلازمهما جعلا كشيء واحد ، فعاد عليهما الضمير المفرد ، و : ( أحق ) ، على هذا ، خبر عنهما من غير تقدير .

    أو بأن الضمير عائد إلى الله تعالى ، و : ( أحق ) خبره ، لسبقه .

    والكلام جملتان ، حذف خبر الجملة الثانية ، لدلالة الأولى عليه ، أي : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك .

    [ ص: 3191 ] وسيبويه جعله للثاني ، لأنه أقرب ، مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر كقوله :


    نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأي مختلف


    أو بأن الضمير لهما بتأيل ما ذكر ، أو كل منهما ، وأنه لم يثن تأدبا لئلا يجمع بين الله وغيره في ضمير تثنية ، وقد نهى عنه ، على كلام فيه .

    أو بأن الكلام في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإرضائه ، فيكون ذكر الله تعظيما له وتمهيدا ، فلذا لم يخبر عنه ، وخص الخبر بالرسول . قال الشهاب : وفيه تأمل . انتهى .

    وقد عهد لهم القول بمثله في آيات كثيرة ، وجواب الشرط مقدر يدل عليه ما قبله ، وقراءة التاء على الالتفات ، للتوبيخ .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 63 ] ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم .

    ألم يعلموا أي : أولئك المنافقون .

    قال أبو السعود : والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة ، مع علمهم بسوء عاقبتها .

    وقرئ بالتاء على الالتفات ، لزيادة التقريع والتوبيخ أي : ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارع والإنذارات أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها أي : من يخالف الله ورسوله .

    قال الليث : حاددته أي : خالفته ، والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة ، واشتقاقه من ( الحد ) ، [ ص: 3192 ] بمعنى الجهة والجانب ، كما أن المشاقة من ( الشق ) بمعناه أيضا ، فإن كل واحد من المتخالفين والمتعاديين في حد وشق ، غير ما عليه صاحبه .

    فمعنى : يحادد الله يصير في حد غير حد أولياء الله ، بالمخالفة .

    وقال أبو مسلم : المحادة مأخوذة من الحديد ، حديد السلاح .

    وقوله تعالى : ذلك الخزي العظيم أي : الذل والهوان الدائم . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 64 ] يحذر المنافقون أن تنـزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون .

    يحذر المنافقون أن تنـزل عليهم أي : في شأنهم ، فإن ما نزل في حقهم ، نازل عليهم ( سورة تنبئهم بما في قلوبهم ) أي : من الأسرار الخفية ، فضلا عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق .

    ومعنى تنبئتها إياهم بما في قلوبهم ، مع أنه معلوم لهم ، وأن المحذور عندهم اطلاع المؤمنين على أسرارهم ، لا اطلاع أنفسهم عليها أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم ، فتنتشر فيما بين الناس ، فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة ، فكأنها تخبرهم بها .

    والمراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم ، كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه ، فتنبئهم بها ، وتنعي عليهم قبائحهم .

    وقيل : معنى ( يحذر ليحذر ) ، وقيل : الضميران الأولان للمؤمنين ، والثالث للمنافقين ، ولا يبالي بالتفكيك عند ظهور الأمر بعود المعنى إليه ، أي : يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين . أفاده أبو السعود .

    فإن فلت : المنافق كافر ، فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول ؟ أجيب : بأن القوم ، وإن كانوا كافرين بدين الرسول ، إلا أنهم شاهدوا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بما يكتمونه ، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم .

    [ ص: 3193 ] وقال الأصم : إنهم كانوا يعرفون كونه رسولا صادقا من الله ، إلا أنهم كفروا به حسدا وعنادا .

    وتعقبه القاضي بأن يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه ، أن يكون محادا لهما . لكن قال الرازي : هو غير بعيد ، لأن الحسد إذا قوي في القلب ، صار بحيث ينازع في المحسوسات . انتهى .

    وقال أبو مسلم : هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر كل شيء ، ويدعي أنه عن الوحي ، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره ، ولذلك قال تعالى : قل استهزئوا أي : بالله وآياته ورسوله ، أو افعلوا الاستهزاء ، وهو أمر تهديد : إن الله مخرج ما تحذرون أي : مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه من إنزال السورة ، ومن مثالبكم ومخازيكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم ، كقوله تعالى : أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم إلى قوله :

    ولتعرفنهم في لحن القول ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة ( الفاضحة ) ، فاضحة للمنافقين .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 65 ] ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون .

    ولئن سألتهم أي : عن إتيانهم بتلك القبائح المتضمنة للاستهزاء بما ذكر ، ليقولن أي : في الاعتذار ، إنه لم يكن عن القلب حتى يكون نفاقا وكفرا بل : إنما كنا نخوض أي : ندخل هذا الكلام لترويح النفس ونلعب أي : نمزح قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون أي : في ترويحكم ومزاحكم ، ولم تجدوا لهما كلاما آخر .
    [ ص: 3194 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 66 ] لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين .

    لا تعتذروا أي : لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة ، فالنهي عن الاشتغال به وإدامته إذ أصله وقع قد كفرتم أي : أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه وباستهزائكم بمقالكم بعد إيمانكم أي : بعد إظهاركم الإيمان .

    تنبيه :

    قال في ( " الإكليل " ) : قال إلكيا : فيه دلالة على أن اللاعب والجاد في إظهار كلمة الكفر سواء ، وأن الاستهزاء بآيات الله كفر - انتهى - .

    قال الرازي : لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف ، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان ، والجمع بينهما محال .

    وقال الإمام ابن حزم في ( " الملل " ) : كل ما فيه كفر بالبارئ تعالى ، واستخفاف به ، أو بنبي من أنبيائه ، أو بملك من ملائكته ، أو بآية من آياته عز وجل ، فلا يحل سماعه ، ولا النطق به ، ولا يحل الجلوس حيث يلفظ به . ثم ساق الآية .

    وقوله تعالى : إن نعف عن طائفة منكم أي : لتوبتهم وإخلاصهم ، أو تجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين أي : مصرين على النفاق ، أو مقدمين على الإيذاء والاستهزاء .

    تنبيه :

    روي في صفة استهزاء المنافقين روايات عدة : قال ابن إسحاق : كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ، أخو بني عمرو بن [ ص: 3195 ] عوف ، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشن بن حمير ، ( ويقال مخشي ) ، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا . والله ! لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال ، إرجافا وترهيبا للمؤمنين ، فقال مخشن بن حمير : والله ! لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة ، وأنا نتقلب أن ينزل فينا قرآن ، لمقالتكم هذه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر : « أدرك القوم ، فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ! قلتم : كذا وكذا » . فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت - ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته - : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله عز وجل فيهم : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب

    وقال مخشن بن حمير : يا رسول الله ! قعد بي اسمي واسم أبي ، وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيدا لا يعلم بمكانه فقتل بيوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر انتهى .

    وقال عكرمة : ممن إن شاء الله تعالى عفا عنه يقول : اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها ، تقشعر منها الجلود ، وتوجل منها القلوب ، اللهم فاجعل وفاتي قتيلا في سبيلك ، لا يقول أحد : أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت .

    قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره .

    ومما روي في استهزائهم أن رجلا من المنافقين قال : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى النبي صلوات الله عليه وقد ارتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون الآية ، وهو متعلق بسيف الرسول ، وما يلتفت إليه صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 3196 ] قال الزجاج : ( الطائفة ) في اللغة أصلها الجماعة ، لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة . انتهى .

    وإيقاع الجمع على الواحد معروف في كلام العرب .

    وقوله تعالى :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 67 ] المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون .

    المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض أي : متشابهون في النفاق والبعد عن الإيمان ، كتشابه أبعاض الشيء الواحد . والمراد الاتحاد في الحقيقة والصفة . فمن اتصالية .

    قال الزمخشري : أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين ، وتكذيبهم في قولهم ويحلفون بالله إنهم لمنكم ، وتقرير قوله : وما هم منكم ، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله : يأمرون بالمنكر كالكفر والمعاصي ، وينهون عن المعروف كالإيمان والطاعات : ويقبضون أيديهم أي : بخلا بالمبرات ، والإنفاق في سبيل الله ، فإن قبض اليد كناية عن الشح والبخل ، كما أن بسطها كناية عن الجود ، لأن من يعطي يمد يده ، بخلاف من يمنع نسوا الله فنسيهم أي : أغفلوا ذكره وطاعته ، فتركهم من رحمته وفضله .

    قال الشهاب : معنى : ( نسوا الله ) أنهم لا يذكرونه ولا يطيعونه ، لأن الذكر له مستلزم لإطاعته ، فجعل النسيان مجازا عن الترك ، وهو كناية عن ترك الطاعة ، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم .

    [ ص: 3197 ] قال النحرير : جعل النسيان مجازا لاستحالة حقيقته عليه تعالى ، وامتناع المؤاخذة على نسيان البشر .

    إن المنافقين هم الفاسقون أي : الكاملون في الفسق ، الذي هو التمرد في الكفر ، والانسلاخ عن كل خير .

    وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم ، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول : كسلت ، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله : ( كسالى ) فما ظنك بالفسق ؟ أفاده الزمخشري .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 68 ] وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم .

    وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم أي : عقابا وجزاء : ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم أي : لا ينقطع .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 69 ] كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون .

    كالذين من قبلكم أي : أنتم مثل الذين أو فعلتم مثلهم ، أي : ممن أنعم عليهم [ ص: 3198 ] ثم عذبوا ، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد كانوا أشد منكم قوة في أنفسهم وأكثر أموالا أي : تفيدهم مزيد قوة ، ومنافع جمة وأولادا أي : تفيدهم مزيد قوة لا تفوت بفوات المال ، ومنافع أخر فاستمتعوا بخلاقهم أي : انتفعوا بنصيبهم ، ثم أعطاكم أيها المنافقون أقل مما أعطاهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أي : دخلتم في الباطل ، كالخوض الذي خاضوه ، أو كالفوج الذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة أي : لم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين ، أما في الآخرة فظاهر ، وأما في الدنيا فما لهم من الذل والهوان وغير ذلك وأولئك هم الخاسرون أي : الذين خسروا الدارين .

    روى ابن جريج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده ! لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، وباعا بباع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ أهل الكتاب ؟ قال : « فمن ؟ » وفي رواية قال أبو هريرة :

    « اقرءوا إن شئتم القرآن » : كالذين من قبلكم الآية ـ قال أبو هريرة : الخلاق : الدين ـ قالوا : يا رسول الله ! كما صنعت فارس والروم ؟ قال : « فهل الناس إلا هم » ؟
    وهذا الحديث له شاهد في الصحيح - أفاده ابن كثير - .

    لطيفة :

    قال الزمخشري : فإن قلت : أي فائدة في قوله : فاستمتعوا بخلاقهم ؟ وقوله : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن منه ، كما أغنى قوله : كالذي خاضوا عن [ ص: 3199 ] أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا ؟ قلت : فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ، ورضاهم بها ، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ، ويهجن أمر الراضي به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماحة فعله فتقول : أنت مثل فرعون ، كان يقتل بغير جرم ، ويعذب ويعسف ، وأنت تفعل مثل فعله . وأما : وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه ، مستغن باستناده إليه ، عن تلك التقدمة .

    ثم وعظ تعالى المنافقين بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 70 ] ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .

    ألم يأتهم أي : بطريق التواتر نبأ أي : خبر الذين من قبلهم وهو إهلاكهم بعد تنعيمهم لكفرهم قوم نوح أنعم عليهم بنعم ، منها تطويل أعمارهم ، ثم أهلكوا بالطوفان وعاد قوم هود ، أنعم عليهم بنعم منها مزيد قوتهم ، ثم أهلكوا بالريح وثمود قوم صالح ، أنعم عليهم بنعم ، منها القصور ، ثم أهلكوا بالرجفة وقوم إبراهيم أهلكوا بالهدم - كذا في ( " التنوير " ) .

    وقال المهايمي : أنعم عليهم بنعم منها عظم الملك ، ثم أهلك ملكهم نمرود بالبعوض الداخل في أنفه وأصحاب مدين قوم شعيب ، أنعم عليهم بنعم ، منها التجارة ، ثم أهلكهم بإفاضة النار عليهم والمؤتفكات قريات قوم لوط ، ائتفكت بهم ، أي : انقلبت بهم ، فصار عاليها سافلها ، وأمطروا حجارة من سجيل .

    [ ص: 3200 ] وقوله تعالى : أتتهم رسلهم بالبينات استئناف لبيان نبئهم ، أن جاءتهم بالآيات الدالة على رسالتهم فما كان الله ليظلمهم أي : بإهلاكه إياهم ، لأنه أقام عليهم الحجة ، بإرسال الرسل ، وإزاحة العلل .

    والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام ، أي : فكذبهم فأهلكهم الله تعالى ، فما ظلمهم بذلك ولكن كانوا أنفسهم يظلمون أي : بالكفر والتكذيب ، وترك شكره تعالى ، وصرفهم نعمه إلى غيره ما أعطاهم إياهم لأجله ، فاستحقوا ذلك العذاب .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 71 ] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم .

    والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في مقابلة قوله في المنافقين ، بعضهم من بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة أي : فلا يزالون يذكرونه تعالى ، فهو في مقابلة ما سبق من قوله : نسوا الله

    ويؤتون الزكاة بمقابلة قوله : ويقبضون أيديهم ويطيعون الله ورسوله أي : في كل أمر ونهي ، وهو بمقابلة وصف المنافقين ، بكمال الفسق والخروج عن الطاعة : أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #388
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3201 الى صـ 3215
    الحلقة (387)


    [ ص: 3201 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 72 ] وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم .

    وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار أي : من تحت شجرها ومسكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن خالدين فيها ومساكن طيبة أي : منازل حسنة تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش ، في جنات عدن أي : إقامة وثبات ويقال : عدن علم لموضع معين في الجنة ، لآثار فيه ، ولما كان ومساكن معطوفا على : ( جنات ) ، قيل : إن المتعاطفين إما أن يتغايرا بالذات ، فيكونوا وعدوا بشيئين ، وهما الجنات بمعنى البساتين ومساكن في الجنة ، فلكل أحد جنة ومسكن ، أو الجنات المقصود بها غير عدن ، وهي لعامة المؤمنين ، وعدن للنبيين عليهم الصلاة والسلام ، والشهداء والصديقين ، وإما أن يتحدا ذاتا ويتغايرا صفة ، فينزل التغاير الثاني منزلة الأول ، ويعطف عليه ، فكل منهما عام ، ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهار والبساتين ، والثاني باعتبار الدور والمنازل .

    قال القاضي : فكأنه وصف الموعود أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم ، أول ما يقرع أسماعهم ، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش ، معرى من شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا ، وفيها ما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين .

    ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار العليين ، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال : ورضوان من الله أكبر إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة ، وبه يناط نيل كل شرف وسيادة ، لعل عدم نظمه في [ ص: 3202 ] سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موعود ، ولأنه مستمر في الدارين . أفاده أبو السعود .

    وإيثار رضوان الله على ما ذكر إشارة إلى إفادة أن قدرا يسيرا منه خير من ذلك .

    وقد روى الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة : « يا أهل الجنة ! فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ; وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا » .

    وروى المحاملي والبزار عن جابر ، رفعه : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله عز وجل : « هل تشتهون شيئا فأزيدكم ؟ قالوا : يا ربنا ! ما هو خير مما أعطيتنا ؟ قال : رضواني أكبر » .

    ذلك هو الفوز العظيم أي : لا ما يعده الناس فوزا من حظوظ الدنيا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 73 ] يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير

    يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين قيل : مجاهدة المنافقين بالحجة لا بالسيف .

    قال في ( " العناية " ) : ظاهر الآية يقتضي مقاتلة المنافقين ، وهم غير مظهرين للكفر ، ونحن مأمورون بالظاهر ، فلذا فسر الآية السلف بما يدفع ذلك ، بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى ، سواء كان بالقتال أو بغيره ، وهو إن كان حقيقة فظاهر ، وإلا [ ص: 3203 ] حمل على عموم المجاز ، فجهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين بإلزامهم الحجج ، وإزالة الشبه ونحوه ، أو بإقامة الحدود عليهم ، إذا صدر منهم موجبها ، كما روي عن الحسن في الآية .

    وقيل عليه بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضا ، وأجيب بأنها في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت عنهم . انتهى .

    قال ابن العربي : هذه دعوى لا برهان عليها ، وليس العاصي بمنافق ، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا ، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا ، وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين .

    وقال ابن كثير : روي عن علي رضي الله عنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف ، سيف للمشركين : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين وسيف للكفار أهل الكتاب : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية ، وسيف للمنافقين : جاهد الكفار والمنافقين وسيف للبغاة : فقاتلوا التي تبغي الآية ، وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ، وهو اختيار ابن جرير . انتهى .

    وفي ( " الإكليل " ) استدل بالآية من قال بقتل المنافقين . انتهى .

    واغلظ عليهم أي : اشدد على كلا الفريقين بالقول والفعل ومأواهم جهنم وبئس المصير
    [ ص: 3204 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 74 ] يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير .

    يحلفون بالله ما قالوا أي : فيك شيئا يسوءك ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي ، وذلك أنه اقتتل رجلان : جهني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار : ألا تنصرون أخاكم ! والله ، ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : ( سمن كلبك يأكلك ) . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية .

    وروى الأموي في " مغازيه " عن ابن إسحاق أن الجلاس بن سويد بن الصامت ـ وكان ممن تخلف من المنافقين - لما سمع ما ينزل فيهم قال : والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول ، لنحن شر من الحمير ، فسمعها عمير بن سعد ، وكان في حجره ، فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم علي أن يصله شيئا تكرهه ، ولقد قلت مقالة ، فإن ذكرتها لتفضحني ، ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون علي من الأخرى .

    فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ما قال الجلاس ، فلما بلغ ذلك الجلاس ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحلف بالله ما قالها ، فأنزل الله عز وجل فيه : يحلفون بالله الآية ، فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ونزع فأحسن النزوع
    .

    [ ص: 3205 ] وهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا ، كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مكفرة لهم مما هو من هذا القبيل ، وإن لم يمكنا تعيين شيء منها في هذه الآية .

    وقوله تعالى : وهموا بما لم ينالوا قال ابن كثير : قيل أنزلت في الجلاس بن سويد ، وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته ، لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبي صلوات الله عليه .

    وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في غزوة تبوك ، في بعض تلك الليالي ، في حال السير ، وكانوا بضعة عشر رجلا .

    قال الضحاك : ففيهم نزلت هذه الآية .

    قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، أمر مناديا فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد .

    فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ، ويسوق به عمار ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، غشوا عمارا ، وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة : « قد ، قد » ، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ، ورجع عمار ! فقال : يا عمار ! هل عرفت القوم ؟ فقال : قد عرفت عامة الرواحل ، والقوم متلثمون .

    قال : هل تدري ما أرادوا ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه . فقل : فسار عمار رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « نشدتك بالله ، كم تعلم كان أصحاب العقبة » ؟ قال : أربعة عشر رجلا . فقل : « إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر » .

    قال فعدد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة ، قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما علمنا ما أراد القوم .

    فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .


    وما نقموا أي : ما أنكروا وما عابوا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإنهم كانوا قبل مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة في ظنك من العيش ، فأثروا بالغنائم ، وقتل للجلاس [ ص: 3206 ] مولى ، فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بديته فاستغنى .

    والمعنى أن المنافقين عملوا بضد الواجب ، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم ما هموا به ، ولا ذنب إلا تفضله عليهم ، فهو على حد قولهم : ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك ، وقول ابن قيس الرقيات :


    ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحملون إن غضبوا


    وقول النابغة :


    ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب


    ويقال : نقم من فلان الإحسان ، ( كعلم ) إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة كما في ( " التاج " ) .

    ثم دعاهم تعالى إلى التوبة بقوله : فإن يتوبوا أي : من الكفر والنفاق يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا أي : بالقتل والهم والغم والآخرة أي : بالنار وغيرها وما لهم في الأرض من ولي أي : يشفع لهم في دفع العذاب .

    ولا نصير أي : فيدفعه بقوته .

    [ ص: 3207 ] ثم يبين تعالى بعض من نقم لإغناء الله تعالى إياه بما آتاه من فضله ، ممن نكث في يمينه ، وتولى عن التوبة ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 75 ] ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين .

    ومنهم من عاهد الله أي : حلف لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين أي : بإعطاء كل ذي حق حقه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 76 ] فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون .

    فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا أي : من العهد : وهم معرضون
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 77 ] فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون .

    فأعقبهم أي : فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك ، أو فأورثهم البخل نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه أي : من التصدق والصلاح وبما كانوا يكذبون في العهد .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 78 ] ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب .

    ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم أي : ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وأن الله علام الغيوب أي : ما غاب عن العباد .

    [ ص: 3208 ] تنبيهات :

    الأول : قال السيوطي في ( " لباب النقول " ) : أخرج الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في ( " الدلائل " ) بسند ضعيف عن أبي أمامة ، أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ! ادع الله أن يرزقني مالا . قال : « ويحك يا ثعلبة ! قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تطيقه » . قال : والله لئن آتاني الله مالا لأوتين كل ذي حق حقه . فدعا له ، فاتخذ غنما ، فنمت حتى ضاقت عليه أزقة المدينة ، فتنحى بها ، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة فتنحى بها ، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة ، فتنحى بها ، فكان يشهد الجمعة ثم يخرج إليها ، ثم نمت ، فتنحى بها ، فترك الجمعة والجماعات ، ثم أنزل الله على رسوله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فاستعمل على الصدقات رجلين ، وكتب لهما كتابا ، فأتيا ثعلبة ، فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : انطلقا إلى الناس ، فإذا فرغتم فمروا بي ففعلا ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية ، فانطلقا ، فأنزل الله : ومنهم من عاهد الله إلى قوله : يكذبون الحديث .

    وأخرج ابن جرير وابن مردويه ، من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه ، وفيه أنه جاء بعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته له : « إن الله منعني أن أقبل منك » ، فجعل التراب على رأسه . فقال : « هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني » ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وكذا عمر وعثمان ، ثم إنه هلك في أيام عثمان .

    قال الشهاب : مجيء ثعلبة وحثوه التراب ، ليس للتوبة من نفاقه ، بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين ، وقوله صلوات الله عليه : « هذا عملك » ، أي : جزاء عملك ، وهو عدم إعطائه المصدقين ، مع مقالته الشنعاء .

    [ ص: 3209 ] قال الحاكم : إن قيل : كيف لم تقبل صدقته وهو مكلف بالتصدق ؟ أجيب : بأنه يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك ، كيلا يجترئ الناس على نقض العهد ، ومخالفة أمر الله تعالى ، ورد سعاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون لطفا في ترك البخل والنفاق .

    الثاني : قال بعض المفسرين من الزيدية : ثمرة الآية وسبب نزولها أحكام :

    منها : أن الوفاء بالوعد واجب ، إذا تعلق العهد بواجب ، والعهد إن حمل على اليمين بالله ، فذلك ظاهر ، وإن حمل على النذر ، ففي ذلك تأكيد لما أوجب الله .

    ومنها : أن للإمام أن يفعل مثل ذلك لمصلحة ، أي : يمتنع من أخذ الواجب إذا حصل له وجه شابه الوجه الذي حصل في قصة ثعلبة . انتهى .

    الثالث : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : فيها أن إخلاف الوعد والكذب من خصال النفاق ، فيكون الوفاء والصدق من شعب الإيمان .

    وفيها المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه لقوله : فأعقبهم نفاقا واستدل به قوم على أن من حلف إن فعل كذا فلله علي كذا ، أنه يلزمه .

    وآخرون على أن مانع الزكاة يعاقب بترك أخذها منه ، كما فعل بمن نزلت الآية فيه . انتهى .

    الرابع : قال الرازي : ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد ، وخلف الوعد ، يورث النفاق ، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه ، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به .

    ومذهب الحسن البصري رحمه الله أنه يوجب النفاق لا محالة ، وتمسك فيه بهذه الآية ، وبقوله عليه السلام : « ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » .

    [ ص: 3210 ] الخامس : دل قوله تعالى : إلى يوم يلقونه على أن ذلك المعاهد مات منافقا .

    قال الرازي : وهذا الخبر وقع مخبره مطابقا له ، فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فقال : « إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك » . وبقي على تلك الحالة ، وما قبل أحد من الخلفاء رضي الله عنهم صدقته حتى مات ، فكان إخبارا عن غيب ، فكان معجزا .

    السادس : الضمير في ( يلقونه ) للفظ الجلالة ، والمراد ب ( اليوم ) يوم القيامة ، وله نظائر كثيرة في التنزيل .

    وأعرب بعض المفسرين حيث قال : الضمير في ( يلقونه ) إما لله ، والمراد باليوم وقت الموت ، أو للبخل والمراد يوم القيامة والمضاف محذوف ، وهو الجزاء . انتهى .

    واللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان لقاء مناسبا لحالهم من وقوفهم للحساب مع حجبهم عنه تعالى ، لأنهم ليسوا أهلا لرؤيته ، تقدس اسمه .

    وإذا أضيف إلى المؤمنين ، كما في قوله تعالى : تحيتهم يوم يلقونه سلام كان لقيا مناسبا لمقامهم من رؤيته تعالى ، وذلك لما أفصحت عنه آيات أخر من حال الفريقين ، مما يتنزل مثل ذلك عليها .

    فمن وقف في بعض الآيات على لفظة ، وأخذ يستنبط منها ، ولم يراع من استعملت فيه ، وأطلقت عليه ، كان ذلك جمودا وتعصبا ، لا أخذا بيد الحق .

    نقول ذلك ردا لقول الجبائي : إن اللقاء في هذه الآية لا يفيد رؤيته تعالى ، للإجماع على أن الكفار لا يرونه تعالى ، فلا يفيدها أيضا في قوله تعالى : تحيتهم يوم يلقونه سلام

    وللرازي معه مناقشة من طريق أخرى . وما ذكرناه أمتن . والله أعلم .

    السابع : قال الرازي : ( السر ) ما ينطوي عليه صدورهم ، و ( النجوى ) ما يفاوض فيه بعضهم بعضا فيما بينهم ، وهو مأخوذ من النجو ، وهو الكلام الخفي ، كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما ، وتباعدا من غيرهما .

    ثم بين تعالى من مساوئ المنافقين نوعا آخر ، وهو لمزهم المتصدقين بقوله سبحانه :
    [ ص: 3211 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 79 ] الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم .

    الذين يلمزون أي : يعيبون المطوعين أي : المتبرعين من المؤمنين في الصدقات فيزعمون أنهم تصدقوا رياء والذين أي : ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم أي : لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلا ، وهو مقدار طاقتهم .

    فيسخرون منهم أي : يهزؤون بهم ، ويقولون إن الله غني عن صدقتهم ، سخر الله منهم أي : جازاهم على سخرهم ولهم عذاب أليم

    روى البخاري في " صحيحه " عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت آية الصدقة ، كنا نحامل فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائي . وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا ، فنزلت : الذين يلمزون الآية ، رواه مسلم أيضا .

    وروى الإمام أحمد عن أبي السليل ، عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة » ؟ فجاء رجل لم أر رجلا أشد منه سوادا ، ولا أصغر منه ولا آدم ، بناقة لم أر أحسن منها ، فقال : يا رسول الله ، دونك هذه الناقة . قال : فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه ، فوالله لهي خير منه ، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « كذبت ! بل هو خير منك ومنها ثلاث مرات » ، ثم قال : « ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا » ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله .

    [ ص: 3212 ] قال ابن إسحاق : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي أخا بني عجلان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة ، وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوها وقالوا : ما هذا إلا رياء .

    وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل ، أخا بني أنيف ، أتى بصاع من تمر ، فأفرغها في الصدقة فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل .

    وروى الحافظ البزار في مسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا » ، فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله ! عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما لربي ، وألفين لعيالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أمسكت » .

    وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال : يا رسول الله ! أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي ، وصاع لعيالي . قال ، فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ، وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله الآية .


    وقوله صلى الله عليه وسلم « أريد أن أبعث بعثا » أي : لغزو الروم ، وذلك في غزوة تبوك .

    تنبيهات :

    الأول : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : في هذه الآية تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين . انتهى .

    الثاني : في : الذين يلمزون وجوه الإعراب : خبر مبتدأ بتقدير : ( هم الذين ) أو مفعول أعني أو أذم الذين ، أو مجرور بدل من ضمير : ( سرهم ) ، وجوز أيضا أن يكون [ ص: 3213 ] مبتدأ خبره : سخر الله منهم وقيل : فيسخرون ودخلت ( الفاء ) لما في ( الذين ) من الشبه بالشرط . وأما : ( الذين لا يجدون ) إلخ فقيل : معطوف على : الذين يلمزون وقيل : على : ( المؤمنين ) ، والأحسن أنه معطوف على المطوعين

    قال في ( " الفتح " ) : ويكون من عطف الخاص على العام ، والنكتة فيه التنويه بالخاص ، لأن السخرية من المقل أشد من المكثر غالبا .

    الثالث : قال في ( " الفتح " ) : قراءة الجمهور : المطوعين بتشديد الطاء والواو . وأصله المتطوعين ، أدغمت التاء في الطاء . انتهى .

    أي : لقرب المخرج ، والتطوع التنفل ، وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب .

    و ( الجهد ) ، قال الليث : هو شيء قليل يعيش به المقل ، وبضم الجيم قرأ الجمهور . وقرأ ابن هرمز وجماعة بالفتح ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد .

    وقيل : المفتوح بمعنى المشقة ، والمضموم بمعنى الطاقة ، وقيل : المضموم قليل يعاش به ، والمفتوح : العمل .

    والمختار أنهما بمعنى ، وهو الطاقة وما تبلغه القوة . قال الفراء : الضم لغة أهل الحجاز ، والفتح لغيرهم . والهزء والسخرية بمعنى .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 80 ] استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين .

    استغفر لهم أي : لهؤلاء المنافقين أو لا تستغفر لهم أي : فإنهما في حقهما سواء .

    ثم بين استحالة المغفرة لهم وإن بولغ في الاستغفار بقوله تعالى : إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك أي : عدم الغفران لهم بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين أي : الخارجين عن حدوده .

    [ ص: 3214 ] تنبيهات :

    الأول : جملة قوله تعالى : استغفر لهم إلخ ، إنشائية لفظا ، خبرية معنى .

    والمراد التسوية بين الاستغفار لهم ، وتركه في استحالة المغفرة .

    وتصويره بصورة الأمر ، للمبالغة في بيان استوائهما ، كأنه عليه الصلاة والسلام أمر بامتحان الحال ، بأن يستغفر تارة ، ويترك أخرى ، ليظهر له جلية الأمر ، كما مر في قوله تعالى :

    قل أنفقوا طوعا أو كرها وقد وردت بصيغة الخبر في سورة المنافقون في قوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين

    الثاني : قال الزمخشري : ( السبعون ) جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير . قال علي بن أبي طالب عليه السلام :


    لأصبحن العاص وابن العاصي سبعين ألفا عاقدي النواصي


    أي : فذكرها للمبالغة في حسم مادة الاستغفار لهم ، جريا على أساليب العرب في ذكرها للمبالغة لا للتحديد ، بأن يكون ما زاد عليها بخلافها .

    وقال أبو السعود : شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير ، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد ، فكأنها العدد بأسره .

    وقيل : هي أكمل الأعداد ، لجمعها معانيها ، ولأن الستة أول عدد تام ، لتعادل أجزائها الصحيحة ، إذ نصفها ثلاثة ، وثلثها [ ص: 3215 ] اثنان ، وسدسها واحد ، وجملتها سبعة ، وهي مع الواحد سبعة ، فكانت كاملة ، إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال ، ثم السبعون غاية الكمال ، إذ الآحاد غايتها العشرات ، والسبعمائة غاية الغايات - انتهى .

    الثالث : روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما أراد أن يصده عن الصلاة على عبد الله بن أبي : إنما خيرني الله فقال : استغفر لهم الآية ، وسأزيده على السبعين .

    فظاهر هذا أن ( أو ) للتخيير ، وأن السبعين له حد يخالفه حكم ما وراءه ، وهو من الإشكال بمكان .

    ولذا قال الزمخشري : فإن قلت : كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ؟ والذي يفهم من هذا العدد كثرة الاستغفار ، كيف وقد تلاه بقوله :ذلك بأنهم كفروا الآية ، فبين الصارف عن المغفرة لهم ، حتى قال : قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين .

    ثم أجاب الزمخشري بقوله : قلت لم يخف عليه ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه ، كقول إبراهيم عليه السلام : ومن عصاني فإنك غفور رحيم

    وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته ، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض . انتهى .

    قال الشراح : يعني أنه أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير ، فجوز الإجابة بالزيادة قصدا إلى إظهار الرأفة والرحمة ، كما جعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم جزاء من عصاني أي : لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام .

    قوله : فإنك غفور رحيم دون أن يقول : شديد العقاب ، فخيل أنه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم ، وحثا على الاتباع .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #389
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3216 الى صـ 3230
    الحلقة (388)



    وفهم المعنى الحقيقي من [ ص: 3216 ] لفظ اشتهر مجازه ، لا ينافي فصاحته ، ومعرفته باللسان فإنه لا خطأ فيه ، ولا بعد ، إذ هو الأصل ، ورجحه عنده شغفه بهدايتهم ، ورأفته بهم ، واستعطاف من عداهم .

    قال الناصر : وقد أنكر القاضي رضي الله عنه حديث الاستغفار ، ولم يصححه وتغالى قوم في قبوله ، حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة ، وبنوه على أنه عليه السلام فهم من تحديد نفي الغفران بالسبعين ، ثبوت الغفران بالزائد عليه ، وذلك سبب إنكار القاضي عليهم وقيل : لما سوى الله بين الاستغفار وعدمه ، ورتب عليه عدم القبول ، ولم ينه عنه ، فهم أنه خير ومرخص فيه ، وهذا مراده صلى الله عليه وسلم ، لا أنه فهم التخيير من ( أو ) ، حتى ينافي التسوية بينهما ، المرتب عليها عدم المغفرة ، وذلك تطييبا لخاطرهم ، وأنه لم يأل جهدا في الرأفة بهم .

    قال الشهاب : والتحقيق أن المراد التسوية في عدم الفائدة ، وهي لا تنافي التخيير ، فإن ثبت فهو بطريق الاقتضاء ، لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما ، فلا بد من أحدهما ، فقد يكون في الإثبات كقوله تعالى : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لأنه مأمور بالتبليغ ، وقد يكون في النفي كما هنا ، وفي قوله : سواء عليهم أستغفرت لهم الآية ، فهو محتاج إلى البيان ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنه رخص لي » ، ولعله رخص له في ابن أبي لحكمة ، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول . انتهى .

    وقال الحافظ ابن حجر في ( " الفتح " ) : روى عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لأزيدن على السبعين » ، فأنزل الله تعالى : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم

    ثم قال : ويحتمل أن تكون الأيتان معا نزلتا في ذلك . انتهى .

    ثم أشار تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين وهو جعلهم الفرح مكان الحزن ، والكراهة مكان الرضا . بقوله سبحانه :
    [ ص: 3217 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 81 ] فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون .

    فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله المخلفون : هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ، فأذن لهم في التخلف كما قلنا ، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك .

    وإيثار : ( المخلفون ) على ( المتخلفون ) ، لأنه صلى الله عليه وسلم منع بعضهم من الخروج ، فغلب على غيرهم ، أو المراد من خلفهم كسلهم أو نفاقهم ، أو لأن الشيطان أغراهم بذلك ، وحملهم عليه .

    وقوله تعالى : بمقعدهم متعلق ب ( فرح ) ، أي : بقعودهم عن غزوة تبوك . ف ( مقعد ) على هذا ، مصدر ميمي ، أو هو اسم مكان ، والمراد به المدينة .

    وقوله : خلاف رسول الله أي : خلفه ، وبعد خروجه ، حيث خرج ولم يخرجوا .

    ف خلاف ظرف بمعنى خلف وبعد .

    يقال : فلان أقام خلاف الحي أي : بعدهم ، ظعنوا ولم يظعن ، ويؤيده قراءة من قرأ : ( خلف رسول الله ) ، فانتصابه على أنه ظرف ل ( مقعدهم ) ، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك .

    قال الشهاب : واستعمال ( خلاف ) بمعنى ( خلف ) ، لأن جهة الخلف خلاف الأمام ، وجوز أن يكون ( الخلاف ) بمعنى ( المخالفة ) ، فهو مصدر ( خالف ) ، كالقتال ، ويعضده قراءة من قرأ ( خلف رسول الله ) بضم الخاء ، وفي نصبه وجهان :

    الأول : أنه مفعول له ، والعامل إما ( فرح ) ، أي : فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود ، وإما ( مقعدهم ) ، لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم ، فهو علة إما للفرح أو للقعود .

    [ ص: 3218 ] والثاني : أنه حال ، والعامل أحد المذكورين ، أي : فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم بالقعود ، أو فرحوا بالقعود مخالفين له .

    وقوله تعالى : وكرهوا إلخ أي : لما في قلوبهم من مرض النفاق .

    قال أبو السعود : وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال : وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو ، إيذانا بأن الجهاد في سبيل الله ، مع كونه من أجل الرغائب ، وأشرف المطالب ، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح ، الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قال الزمخشري : في قوله تعالى : وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم تعريض بالمؤمنين ، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى ، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى ، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض ـ أي : ( الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب ) ـ وكره ذلك المنافقون ، وكيف لا يكرهونه ؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان ، وداعي الإيقان .

    قال الشهاب : ووجه التعريض ظاهر ، لأن المراد كرهوه ، لا كالمؤمنين الذين أحبوه .

    وقوله تعالى : وقالوا لا تنفروا في الحر أي : قالوا لإخوانهم لا تنفروا إلى الجهاد في الحر ، فإنه لا يستطاع شدته .

    وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، وذلك تثبيتا لهم على التخلف ، وتواصيا فيما بينهم بالشر والفساد ، أو قالوا للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد ، ونهيا عن المعروف ، وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود وكراهية الجهاد ، ونهي الغير عن ذلك - أفاده أبو السعود - .

    وقوله تعالى : قل أي : ردا عليهم وتجهيلا لهم : نار جهنم أي : التي ستدخلونها [ ص: 3219 ] بما فعلتم : أشد حرا أي : مما تحذرون من الحر المعهود ، وتحذرون الناس منه ، فما لكم لا تحذرونها ، وتعرضون أنفسكم لها ، بإيثار القعود على النفير .

    وقوله تعالى : لو كانوا يفقهون اعتراض تذييلي من جهته تعالى ، غير داخل تحت القول المأمور به ، مؤكد لمضمونه .

    وجواب ( لو ) إما مقدر ، أي : لو كانوا يفقهون أنها كذلك ، أو كيف هي ، أو أن مآلهم إليها لما فعلوا ما فعلوا ، أو لتأثروا بهذا الإلزام ، وإما غير منوي ، على أن لو لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها ، أي : لو كانوا من أهل الفقه الفطانة ، كما في قوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

    كذا في ( أبي السعود ) .

    تنبيهان :

    الأول : قال الزمخشري : قوله تعالى : قل نار جهنم إلخ ، استجهال لهم ، لأن من تصون من مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل . ولبعضهم :


    مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أريها شبه الصاب

    فكيف بأن تلقي مسرة ساعة
    وراء تقضيها مساءة أحقاب


    - انتهى -

    [ ص: 3220 ] أي : فهم كما قال الآخر :


    كالمستجير من الرمضاء بالنار


    وقال آخر :


    عمرك بالحمية أفنيته خوفا من البارد والحار


    وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار


    الثاني : روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءا » ، زاد الإمام أحمد : « من نار جهنم » .

    وروى الشيخان عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة ، لمن له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه ، وإنه أهونهم عذابا » .

    ثم أخبر تعالى عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل ، والبكاء الطويل ، المؤدي إليه أعمالهم السيئة ، التي من جملتها ما ذكر من الفرح ، بقوله سبحانه :
    [ ص: 3221 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 82 ] فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون .

    فليضحكوا قليلا أي : ضحكا قليلا ، أو زمانا قليلا ، غايته مدة حياتهم وليبكوا كثيرا أي : بكاء ، أو زمانا كثيرا ، بعد الموت ، أبد الآباد جزاء بما كانوا يكسبون أي : بفرحهم بمخالفة الله ورسوله ، من الكفر والمعاصي العظائم .

    لطائف :

    الأولى : سر إخراج حالهم الدنيوي والأخروي على صيغة الأمر ، الدالة على تحتم وقوع المخبر به ، فإنه أمر الآمر المطاع مما لا يكاد يتخلف عنه المأمور به ، فإن قيل : إنهم ذكروا أنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة ، لاقتضائه تحقق المأمور به ، فالخبر آكد ، فما باله عكس هنا ؟

    فالجواب : لا منافاة بينهما ، لأن لكل مقام مقالا ، والنكت لا تتزاحم ، فإذا عبر عن الأمر بالخبر ، لإفادة أن المأمور ، لشدة امتثاله ، كأنه وقع منه ذلك ، وتحقق قبل الأمر كان أبلغ .

    وإذا عبر عن الخبر بالأمر كأنه لإفادة لزومه ووجوبه ، فكأنه مأمور به ، أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى .

    الثانية : الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في قوله : ( بما كانوا يكسبون ) دلالة على الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا .

    الثالثة : ( جزاء ) مفعول له للفعل الثاني ، أي : ليبكوا جزاء ، أو مصدر حذف ناصبه ، أي : يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء .

    ولما جلى سبحانه ما جلى من أمرهم ، فرع عليه قوله :
    [ ص: 3222 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 83 ] فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين .

    فإن رجعك الله أي : ردك من غزوة تبوك إلى طائفة منهم أي : من المنافقين المتخلفين في المدينة فاستأذنوك للخروج معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك ، دفعا للعار السابق فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة أي : فخذلكم الله ، وسقطتم عن نظره ، بل غضب عليكم ، وألزمكم العار .

    فاقعدوا مع الخالفين أي : من النساء والصبيان دائما .

    لطائف :

    قوله تعالى : لن تخرجوا معي أبدا إخبار في معنى النهي للمبالغة ، وذكر القتال لأنه المقصود من الخروج ، فلو اقتصر على أحدهما كفى إسقاطا لهم عن مقام الصحبة ، ومقام الجهاد ، أو عن ديوان الغزاة ، وديوان المجاهدين ، وإظهارا لكراهة صحبتهم ، وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند ، أو ذكر الثاني للتأكيد ، لأنه أصرح في المراد ، والأول لمطابقته لسؤاله كقوله :


    أقول له ارحل لا تقيمن عندنا


    فهو أدل على الكراهة لهم - أفاده الشهاب - .

    قال أبو السعود فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين ، ولزهم في قرن الخالفين ، عقوبة لهم أي عقوبة .

    ثم قال : وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث ، هو الأكثر الدائر على الألسنة . فإنك لا تكاد تسمع قائلا يقول : هي كبرى امرأة ، أو أولى مرة .
    [ ص: 3223 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 84 ] ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون .

    ولا تصل على أحد منهم مات أبدا قال المهايمي : لأنها شفاعة ، ولا شفاعة في حقهم ولا تقم على قبره أي : لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء .

    قال الشهاب : القبر مكان وضع الميت ، ويكون بمعنى الدفن ، وجوز هنا .

    إنهم كفروا بالله ورسوله في الحياة في الباطن وماتوا وهم فاسقون أي : خارجون عن الإيمان الظاهر ، الذي كانوا به في حكم المؤمنين .

    تنبيهات :

    الأول : روى الشيخان في سبب نزول الآية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما توفي عبد الله ابن أبي ، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر ، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! تصلي عليه ، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟

    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما خيرني الله فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيده على السبعين » . قال : إنه منافق . قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل آية : ولا تصل على أحد منهم إلخ .


    [ ص: 3224 ] قال الحافظ أبو نعيم : وقع في رواية في قول عمر : ( أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين ؟ ) ، ولم يبين محل النهي ، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري : وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم ، ولفظه : وقد نهاك الله أن تستغفر لهم . انتهى .

    يعني في قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى فإنها نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم : « لأستغفرن لك ، ما لم أنه عنك » . وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا ، ووفاة عبد الله بن أبي في ذي القعدة ، سنة تسع بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك . كذا في ( " فتح الباري " ) .

    ووقع في مسند الإمام أحمد ما تقدم من حديث عمر نفسه .

    قال عمر : لما توفي عبد الله بن أبي دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام عليه ، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه ، تحولت حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله ! أعلى عدو الله : عبد الله بن أبي القائل يوم كذا ، كذا وكذا ؟ يعدد أيامه ، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : « أخر عني يا عمر ، إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي : استغفر لهم الآية ، لو أعلم أني لو زدت على السبعين ، غفر له ، لزدت » .

    قال : ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره ، حتى فرغ منه . قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم .

    قال : فوالله ! ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية ، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ، ولا قام على قبره ، حتى قبضه الله عز وجل .


    [ ص: 3225 ] ورواه البخاري والترمذي أيضا .

    وروى الإمام أحمد عن جابر قال : لما مات عبد الله بن أبي ، أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إنك إن لم تأته لم نزل نعير به ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال : « أفلا قبل أن تدخلوه ؟ » فأخرج من حفرته ، وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه ، وألبسه قميصه . ورواه النسائي ، وروى نحوه البخاري والبزار في مسنده ، وزاد : فأنزل الله الآية .

    زاد ابن إسحاق في " المغازي " بسنده قال : فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله ، ولا قام على قبره .

    وقد روى الإمام أحمد عن أبي قتادة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها ، فإن أثني عليها خير قام فصلى عليها ، وإن كان غير ذلك ، قال لأهلها : « شأنكم بها » . ولم يصل عليها .

    الثاني : إنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على أحدهم إذا مات ، لأن صلاة الميت دعاء واستغفار واستشفاع له ، والكافر ليس بأهل لذلك .

    [ ص: 3226 ] الثالث : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : في قوله تعالى : ولا تصل على أحد منهم الآية ، تحريم الصلاة على الكافر ، والوقوف على قبره ، وأن دفنه جائز ، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ، ومشروعية الوقوف على قبره ، والدعاء له ، والاستغفار . انتهى .

    قال عثمان رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت ، وقف عليه وقال : « استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل » . - انفرد بإخراجه أبو داود - .

    الرابع : قال الحافظ ابن حجر في ( " الفتح " ) ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين ، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم .

    قال الواقدي : أنبأنا معمر عن الزهري قال حذيفة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني مسر إليك سرا ، فلا تذكره لأحد ، إني نهيت أن أصلي على فلان ، رهط ذوي عدد من المنافقين » .

    قال ، فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة ، فإن مشى معه ، وإلا لم يصل عليه .

    ومن طريق أخرى ، عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر رجلا .

    وقال حذيفة مرة : إنه لم يبق منهم غير رجل واحد . ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك ، أن الله علم أنهم يموتون على الكفر ، بخلاف من سواهم ، فإنهم تابوا . انتهى .

    ثم بين تعالى أن دوام غضبه عليهم لا ينافي إعطاءهم الأموال والأولاد ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 85 ] ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون .

    ولا تعجبك أموالهم وأولادهم أي : لأنه لم يرد الله الإنعام عليهم بها ، ليدل على [ ص: 3227 ] رضاه عنهم ، بل الانتقام منهم ، قال : إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا أي : بالمشقة في تحصيلها وحفظها والحزن عليها وتزهق أنفسهم وهم كافرون أي : فيموتون كافرين غافلين عن التدبر في العواقب .

    وقد تقدمت الآية في هذه السورة مع تغاير في ألفاظها .

    قال الزمخشري : أعيد قوله : ولا تعجبك لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ، ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهم ، يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين ، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يحب أن يحذر منه . انتهى .

    وقال الفارسي : ليست للتأكيد ، لأن تيك في قوم وهذه في آخرين . وقد تغاير نطقها ، فهنا : ( ولا ) ، بالواو لمناسبة عطف نهي على نهي قبله في قوله : ولا تصل إلخ ، فناسب الواو ، وهناك بالفاء لمناسبة التعقيب لقوله قبله :

    ولا ينفقون إلا وهم كارهون أي : للإنفاق . فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد ، فنهى عن الإعجاب المتعقب له . وهنا : وأولادهم ، دون ( لا ) ، لأنه نهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادة لا ، لأنه نهى كل واحد واحد ، فدل مجموع الآيتين على النهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين ، وهنا : أن يعذبهم وهناك ( ليعذبهم ) بلام التعليل وحذف المفعول ، أي : إنما يريد اختيارهم بالأموال والأولاد ، وهنا المراد التعذيب ، فقد اختلف متعلق الإرادة فيهما ظاهرا ، وهناك : في الحياة الدنيا وهنا : في الدنيا تنبيها على أن حياتهم كلا حياة فيها ، وناسب ذكرها بعد الموت ، فكأنهم أموات أبدا . انتهى .

    وقوله تعالى :
    [ ص: 3228 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 86-87 ] وإذا أنـزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون .

    وقوله تعالى :

    وإذا أنـزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون إنكار وذم للمتخلفين عن الجهاد ، الناكلين عنه ، مع وجود الطول الذي هو الفضل والسعة ، وإخبار بسوء صنيعهم ، إذ رضوا بالعار والقعود مع الخوالف ، لحفظ البيوت ، وهن النساء ، وذلك لإيثارهم حب المال على حب الله ، وأنه بسبب ذلك وطبع على قلوبهم أي : ختم عليها فهم لا يفقهون أي : ما في حب الله والتقرب إليه بالجهاد من الفوز والسعادة ، وما في التخلف من الشقاء والهلاك فوائد :

    الأولى : قال الزمخشري : يجوز أن يراد السورة بتمامها ، وأن يراد بعضها ، في قوله : وإذا أنـزلت سورة كما يقع ( القرآن ) و ( الكتاب ) على كله وعلى بعضه .

    وقيل : هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد . انتهى .

    وقيل : المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد .

    قال الشهاب : وهذا أولى وأفيد ، لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مر . وقد قيل : إن ( إذا ) تفيد التكرار بقرينة المقام لا بالوضع ، وفيه كلام مبسوط في محله .

    [ ص: 3229 ] الثانية : إنما خص ذوي الطول ، لأنهم المذمومون ، وهم من له قدرة مالية ، ويعلم منه البدنية أيضا بالقياس .

    الثالثة : الخوالف : جمع خالفة ، وهي المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال ، والمراد ذمهم وإلحاقهم بالنساء ، كما قال :


    كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول


    والخالفة تكون بمعنى من لا خير فيه ، والتاء فيه للنقل للاسمية ، فإن أريد هاهنا ، فالمقصود من لا فائدة فيه للجهاد .

    وجمع على فواعل على الوجهين : أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلتأنيث لفظه ، لأن فاعلا لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور ، إلا شذوذا ، كنواكس ، أفاده الشهاب .

    ثم بين تعالى ما للمؤمنين من الثناء الحسن ، والمثوبة الحسنى ضد أولئك ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 88 ] لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون .

    لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم أي : في سبيل الله ، لغلبة حب الله عليهم ، على حب الأموال والأنفس وأولئك لهم الخيرات أي : منافع الدارين ، النصر والغنيمة في الدنيا ، والجنة والكرامة في العقبى وأولئك هم المفلحون أي : الفائزون بالمطلوب .
    [ ص: 3230 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 89 ] أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم .

    أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم أي : الذي لا فوز وراءه .

    ثم بين تعالى أحوال منافقي الأعراب ، إثر بيان منافقي أهل المدينة ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 90 ] وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم .

    وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم أي : في ترك الجهاد ، وهم أحياء ممن حول المدينة . و : المعذرون فيه قراءتان ، التشديد والتخفيف ، والمشددة لها تفسيران :

    أحدهما : من ( عذر في الأمر ) إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد ، فتكلف العذر ، فعذره باطل .

    والثاني : من ( اعتذر ) ، وهو محتمل لأن يكون عذره باطلا وحقا ، وأصله عليهما ، ( معتذرون ) نقلت فتحة التاء إلى العين ، وقلبت التاء ذالا ، وأدغمت فيها .

    وأما التخفيف فهي من أعذر إذا كان له عذر ، وهم صادقون على هذا .

    وقوله تعالى : وقعد الذين كذبوا الله ورسوله أي : في دعوى الإيمان ، وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ، ولم يعتذروا ، بل قعدوا من قلة المبالاة بالله ورسوله .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #390
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3231 الى صـ 3245
    الحلقة (389)



    ثم أوعدهم تعالى بقوله : سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم الضمير في ( منهم ) إما للأعراب مطلقا ، فالذين كفروا منافقوهم ، أو أعم ، وإما للمعذرين ، فإن [ ص: 3231 ] منهم من اعتذر لكسله ، لا لكفر ، وجوز أن يكون المعنى بالذين كفروا منهم ، المصرون على الكفر .

    ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه ، وما هو عارض عن له بسبب مرض شغله عن الخروج في سبيل الله ، أو بسبب عجزه عن التجهز للحرب ، وبدأ بالأول فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 91 ] ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم .

    ليس على الضعفاء وهم العاجزون مع الصحة ، عن العدو ، وتحمل المشاق ، كالشيخ والصبي ، والمرأة والنحيف ولا على المرضى أي : العاجزين بأمر عرض لهم ، كالعمى والعرج والزمانة ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون أي : ولا على الأقوياء والأصحاء الفقراء ، والعاجزين عن الإنفاق في السفر والسلاح ، حرج أي : إثم في القعود ، والحرج أصل معناه الضيق ، ثم استعمل للذنب ، وهو المراد : إذا نصحوا لله ورسوله أي : أخلصوا الإيمان والعمل الصالح ، فلم يرجفوا ، ولم يثيروا الفتن وأوصلوا الخيرات للجاهدين ، وقاموا بصالح بيوتهم .

    وقوله تعالى : ما على المحسنين من سبيل استئناف مقرر لمضمون ما سبق ، أي : ليس عليهم جناح ، ولا إلى معاتبتهم سبيل ، و ( من ) مزيدة للتأكيد ، ووضع ( المحسنين ) موضع الضمير ، للدلالة على انتظامهم ، بنصحهم لله ورسوله ، في سلك المحسنين ، أو تعليل لنفي الحرج عنهم ، أي : ما على جنس المحسنين من سبيل ، وهم من جملتهم أفاده أبو السعود .

    [ ص: 3232 ] قال الشهاب : ( ليس على محسن سبيل ) ، كلام جار مجرى المثل ، وهو إما عام ، ويدخل فيه من ذكر ، أو مخصوص بهؤلاء ، فالإحسان : النصح لله والرسول ، والإثم المنفي إثم التخلف ، فيكون تأكيدا لما قبله بعينه على أبلغ وجه ، وألطف سبك ، وهو من بليغ الكلام ، لأن معناه لا سبيل لعاتب عليه ، أي : لا يمر به العاتب ، ويجوز في أرضه ، فما أبعد العتاب عنه ! فتفطن للبلاغة القرآنية كما قيل :


    سقيا لأيامنا التي سلفت إذ لا يمر العذول في بلدي


    وقوله تعالى : والله غفور رحيم تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر ، مشير إلى أن بهم حاجة إلى المغفرة ، وإن كان تخلفهم بعذر - أفاده أبو السعود ـ .

    أي : لأن المرء لا يخلو من تفريط ما ، فلا يقال إنه نفى عنهم الإثم أولا ، فما الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب ؟ أفاده الشهاب .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 92 ] ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون .

    ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم عطف على : ( المحسنين ) ، أو على ( الضعفاء ) أي : لتعطيهم ظهرا يركبونه إلى الجهاد معك قلت أي : لهم لا أجد ما أحملكم عليه أي : إلى الجهاد .

    قوله تعالى : تولوا جواب ( إذا ) ، أي : خرجوا من عندك وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون أي : في الحملان ، فهؤلاء وإن كانت لهم قدرة على تحمل المشاق ، فما عليهم من سبيل أيضا .

    [ ص: 3233 ] تنبيهات :

    الأول : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : في قوله تعالى : ليس على الضعفاء إلخ رفع الجهاد عن الضعيف والمريض ، ومن لا يجد نفقة ولا أهبة للجهاد ولا محملا . انتهى .

    وقال بعض الزيدية : هذه الآية الكريمة قاضية بنفي الحرج ، وهو الإثم على ترك الجهاد لهذه الأعذار ، بشرط النصيحة لله ولرسوله ، أي : بأن يريد لهم ما يريد لنفسه .

    - عن أبي مسلم - .

    الثاني : قال الحاكم : في الآية دلالة على أن النصح في الدين واجب ، وأنه يدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والشهادات والأحكام والفتاوى وبيان الأدلة .

    الثالث : قال ابن الفرس : يستدل بقوله تعالى : ما على المحسنين من سبيل على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها .

    وقال بعض الزيدية : يدل على أن المستودع والوصي والملتقط ، لا ضمان عليهم مع عدم التفريط ، وأنه لا يجب عليهم الرد ، بخلاف المستعير .

    الرابع : دل قوله تعالى : ولا على الذين إلخ ، على أن العادم للنفقة ، الطالب للإعانة ، إذا لم تحصل له ، فلا حرج عليه ، وفيه إشارة إلى المعونة إذا بدلت له من الإمام ، لزمه الخروج .

    الخامس : دلت الآية على جواز البكاء وإظهار الحزن على فوات الطاعة، وإن كان معذورا .

    السادس : قوله تعالى : تفيض من الدمع أبلغ من يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض ، ومن للبيان ، كقولك : أفديك من رجل . ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز - أفاده الزمخشري - .

    السابع : روى ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب ( براءة ) ، فإني لواضع القلم على أذني ، إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فنزلت : ليس على الضعفاء الآية .

    [ ص: 3234 ] وروى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه ، فيهم عبد الله بن مغفل بن مقرن المزني ، فقالوا : يا رسول الله ! احملنا . فقال لهم : « والله ! لا أجد ما أحملكم عليه » فتولوا وهم يبكون ، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملا ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل عذرهم في كتابه ، فقال : ليس على الضعفاء

    وروى الإمام أحمد عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد خلفتم بالمدينة رجالا ، ما قطعتم واديا ، ولا سلكتم طريقا ، إلا أشركوكم في الأجر ، حبسهم المرض » . ورواه مسلم .

    ثم رد تعالى الملامة على المستأذنين في القعود وهم أغنياء ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 93 ] إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون .

    إنما السبيل أي : بالعتاب والعقاب على الذين يستأذنونك وهم أغنياء أي : قادرون على تحصيل الأهبة رضوا بأن يكونوا مع الخوالف أي : من النساء والصبيان وسائر أصناف العاجزين ، أي : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف .

    قال المهايمي : وهذا الرضا ، كما هو سبب العتاب ، فهو أيضا سبب العقاب ، لأنه لما كان عن قلة مبالاتهم بالله ، غضب الله عليهم وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون أي : ما يترتب عليه من المصائب الدينية والدنيوية ، أو لا يعلمون أمر الله فلا يصدقون .

    [ ص: 3235 ] لطيفة :

    قال الشهاب : اعلم أن قولهم : لا سبيل عليه ، معناه : لا حرج ولا عتاب ، وأنه بمعنى لا عاتب يمر عليه ، فضلا عن العتاب ، وإذا تعدى ب ( إلى ) كقوله :


    ألا ليت شعري هل إلى أم سالم سبيل ؟ فأما الصبر عنها فلا صبر


    فبمعنى الوصول كما قال :


    هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج


    ونحوه ، فتنبه لمواطن استعماله ، فإنه من مهمات الفصاحة . انتهى .

    ثم أخبر تعالى عما سيتصدون له عند القفول من تلك الغزوة ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 94 ] يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .

    يعتذرون إليكم إذا رجعتم أي : سدا للسبيل عليهم في التخلف : قل لا تعتذروا أي : لظهور كذبكم ، إذ لم يمنعكم فقر ولا مرض ، ولا يفيدكم الاعتذار لن نؤمن لكم أي : لن نصدق قولكم .

    وقوله تعالى : قد نبأنا الله من أخباركم [ ص: 3236 ] تعليل لانتفاء التصديق ، أي : أعلمنا بالوحي من أسراركم ونفاقكم ، وفسادكم ما ينافي التصديق وسيرى الله عملكم ورسوله أي : من الرجوع عن الكفر ، أو الثبات عليه ، علما يتعلق به الجزاء ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة أي : للجزاء بما ظهر منكم ، من الأعمال ووضع المظهر موضع المضمر ، لتشديد الوعيد ، وأنه تعالى مطلع على سرهم وعلنهم ، لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم ، فيجازيهم على حسب ذلك .

    قال في ( " النبراس " ) : المراد بالغيب ما غاب عن العباد ، أو ما لم يعلمه العباد ، أو ما يكون ، وبالشهادة ما علمه العباد ، أو ما كان .

    فينبئكم أي : يخبركم بما كنتم تعملون أي : في الدنيا ، قبل إعلامهم به .

    وذكره لهم للتوبيخ .

    قال أبو السعود : المراد بالتنبئة بذلك ، المجازاة به ، وإيثارها عليها ، لمراعاة ما سبق من قوله تعالى : قد نبأنا الله إلخ ، فإن المنبأ به الأخبار المتعلقة بأعمالهم ، وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم ، وإنما يعلمونها حينئذ .

    ثم أخبر تعالى عما سيؤكدون به معاذيرهم ، من أيمانهم الفاجرة ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 95 ] سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون .

    سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم أي : فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم .

    فأعرضوا عنهم أي : فأعطوهم طلبتهم إنهم رجس تعليل لترك معاتبتهم ، يعني أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم ، وإنما يعاتب الأديم ذو البشرة ، والمؤمن [ ص: 3237 ] يوبخ على زلة تفرط منه ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار ، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم - أفاده الزمخشري - .

    وقال الشهاب : يعني أنهم يتركون ، ويجتنب عنهم كما تجتنب النجاسة ، وهم طلبوا إعراض الصفح ، فأعطوا إعراض مقت .

    وقوله تعالى : ومأواهم جهنم من تمام التعليل ، فالعلة نجاسة جبلتهم التي لا يمكن تطهيرها ، لكونهم من أهل النار ، فاللوم يغريهم ولا يجديهم ، والكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل ، أو تعليل ثان يعني وكفتهم النار عتابا وتوبيخا ، فلا تكلفوا عتابهم .

    وقوله تعالى : جزاء بما كانوا يكسبون يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون علة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 96 ] يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين .

    يحلفون لكم بل مما سبق ، وعدم ذكر المحلوف به لظهوره ، أي : يحلفون به تعالى : لترضوا عنهم أي : باعتقاد طهارة ضمائرهم وإخلاصهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين فيه تبعيد عن الرضا عنهم على أبلغ وجه وآكده ، فإن الرضا عمن لا يرضى الله تعالى عنه ، مما لا يكاد يصدر عن المؤمن .

    ثم أشار تعالى إلى أن منافقي الأعراب أشد رجسا فلا يغتر بحلفهم ، وإن لم يكذبهم الوحي ، فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 97 ] الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله والله عليم حكيم .

    الأعراب وهم أهل البدو أشد كفرا ونفاقا أي : من أهل الحضر ، لجفائهم [ ص: 3238 ] وقسوتهم وتوحشهم ، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ، ومعرفة الكتاب والسنة : وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله أي : وأحق بجهل حدود الدين ، وما أنزل الله من الشرائع والأحكام والله عليم أي : يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر حكيم أي : فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ، مخطئهم ومصيبهم ، من عقابه وثوابه .

    لطائف :

    الأولى : قال الشهاب : العرب ، هذا الجيل المعروف مطلقا ، والأعراب سكان البادية منهم ، فهو أعم .

    وقيل : العرب سكان المدن والقرى ، والأعراب سكان البادية من العرب ، أو مواليهم ، فهما متباينان ، ويفرق بين جمعه وواحده بالياء فيهما .

    الثانية : ما ذكر في الآية من أجدرية جهل الأعراب من بعدهم عن سماع الشرائع ، وملابسة أهل الحق ، يشير إلى ذم سكان البادية وهو يطابق ما رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من سكن البادية جفا » ، وتتمته : « ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إن الجفاء والقسوة في الفدادين » .

    قال ثعلب : الفدادون أصحاب الوبر ، لغلظ أصواتهم ، وهم أصحاب البادية ، ويقال : من صحب الفدادين ، فلا دنيا نال ولا دين .

    مأخوذ من ( الفديد ) ، وهو رفع الصوت أو شدته .

    [ ص: 3239 ] قال ابن كثير : ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي ، لم يبعث الله منهم رسولا ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى ، كما قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى

    ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرد عليه أضعافها حتى رضي قال : « لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي » ، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة والطائف والمدينة واليمن ، فهم ألطف أخلاقا من الأعراب ، لما في طباع الأعراب من الجفاء .

    الثالثة : روى الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم ( نهاوند ) ، فقال الأعرابي : والله ! إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني ! فقال زيد : ما يريبك من يدي ، إنها الشمال ؟ فقال الأعرابي : والله ! ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال ؟ فقال زيد بن صوحان : صدق الله : الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله .

    ثم أشار تعالى إلى فريق آخر من منافقي الأعراب ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 98 ] ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم .

    ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما أي : يعد ما يصرفه في سبيل الله ، ويتصدق به صورة ، غرامة وخسرانا ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله عز وجل ، وابتغاء المثوبة عنده .

    والغرامة والمغرم والغرم ( بالضم ) : ما ينفقه المرء من ماله وليس يلزمه ، ضررا محضا وخسرانا .

    وقال الراغب : الغرم ما ينوب الإنسان في ماله من [ ص: 3240 ] ضرر لغير جناية منه ، ويتربص بكم الدوائر أي : ينتظر بكم دوائر الدهر ـ جمع ( دائرة ) وهي النكبة والمصيبة تحيط بالمرء ـ ، فتربص الدوائر ، انتظار المصائب ، ليقلب أمر المسلمين ويتبدل ، فيخلصوا مما عدوه مغرما عليهم دائرة السوء اعتراض بالدعاء عليهم ، بنحو ما يتربصونه ، أو إخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم .

    قال الشهاب : الدائرة اسم للنائبة ، وهي بحسب الأصل مصدر ، كالعافية والكاذبة ، أو اسم فاعل بمعنى عقبة دائرة ، والعقبة أصلها اعتقاب الراكبين وتناوبهما .

    ويقال : للدهر عقب ونوب ودول ، أي : مرة لهم ومرة عليهم .

    و ( السوء ) يقرأ بضم السين وهو الضرر ، وهو مصدر في الحقيقة . يقال : سؤته سوءا ومساءة ومسائية ، ويقرأ بفتح السين وهو الإفساد والرداءة - قاله أبو البقاء - .

    والله سميع أي : لما يقولونه عند الإنفاق مما لا خير فيه عليم أي : بما يضمرونه من الأمور الفاسدة التي منها تربصهم الدوائر . وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى .

    ثم نوه تعالى بمؤمني الأعراب الصادقين ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 99 ] ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم .

    ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله امتثالا لأمره ، وترجيحا لحبه ، وقطعا لحب ما سواه .

    و : قربات مفعول ثان ل ( يتخذ ) ، وجمعها باعتبار أنواعها ، أو أفرادها .

    قال الشهاب : القربة ( بالضم ) ، ما يتقرب به إلى الله ، ونفس التقرب ، فعلى الثاني [ ص: 3241 ] يكون معنى اتخاذها سببا له ، على التجوز في النسبة أو التقدير .

    و : عند الله صفة ل قربات أي : ظرف ل ( يتخذ ) وصلوات الرسول أي : سبب دعواته بالرحمة المكملة لقصوره ، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم صل على آل أبي أوفى » ألا إنها قربة لهم الضمير لما ينفق ، والتأنيث باعتبار الخير ، والتنكير للتفخيم ، أي : قربة عظيمة جامعة لأنواع القربات ، يكملها الله بدعوة الرسول ، ويزيد على مقتضاها بما أشار إليه بقوله : سيدخلهم الله في رحمته أي : جنته .

    إن الله غفور يستر عيب المخل : رحيم يقبل جهد المقل .

    قال الزمخشري : قوله تعالى : ألا إنها شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد ، من كون نفقته قربات وصلوات وتصديقا لرجائه ، على الاستئناف ، مع حرفي التنبيه والتحقيق ، المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه .

    وكذلك : سيدخلهم وما في ( السين ) من تحقيق الوعد .

    وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان ، إذا خلصت النية من صاحبها . انتهى .

    وفيه ( " الانتصاف " ) : النكتة في إشعار ( السين ) بالتحقيق أن معنى الكلام معها : أفعل كذا ، وإن أبطأ الأمر ، أي : لا بد من فعله ، قال الشهاب : وفيه تأمل .

    ولما بين تعالى فضيلة مؤمني الأعراب بما تقدم ، تأثره ببيان من هم فوقهم بمنازل من الفضيلة والكرامة ، بقوله سبحانه :
    [ ص: 3242 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 100 ] والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم .

    والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أي : ممن تقدم بالهجرة والنصرة . وقيل : عنى بالفريق الأول من صلى إلى القبلتين ، أو من شهد بدرا ، أو من أسلم قبل الهجرة وبالثاني أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية ، وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير ، فعلمهم القرآن .

    واختار الرازي الوجه الأول ، وقال : والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة ، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ، ولم يبين أنهم سابقون فلماذا ؟

    فبقي اللفظ مجملا ، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا ، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارا ، وهو الهجرة والنصرة ، فوجب أن يكون المراد منه : السابقون الأولون في الهجرة والنصرة ، إزالة للإجمال عن اللفظ .

    وأيضا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة ، من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ، ومخالف للطبع ، فمن أقدم عليه أولا ، صار قدوة لغيره في هذه الطاعة ، وكان ذلك مقويا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسببا لزوال الوحشة عن خاطره ، وكذلك السبق في النصرة ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم .

    وقرئ ( الأنصار ) بالرفع ، عطفا على السابقون .

    والذين اتبعوهم بإحسان أي : سلكوا سبيلهم بالإيمان والطاعة رضي الله عنهم لأن الهجرة أمر شاق على النفس ، لمفارقة الأهل والعشيرة .

    والنصرة منقبة شريفة ، [ ص: 3243 ] لأنها إعلاء كلمة الله ، ونصر رسوله وأصحابه ، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم - قاله المهايمي - .

    ورضوا عنه بما وفقهم إليه من الإيمان والإحسان ، وما آتاهم من الثواب والكرامة وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار وذلك بدل ما تركوا من دورهم وأهليهم ، وبدل ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم ، ولغرسهم جنات القرب في قلوبهم ، وإجرائهم أنهار المعارف في قلوبهم وقلوب من اتبعوهم بهذه الهجرة والنصرة والإحسان - قاله المهايمي ـ .

    وقرأ ابن كثير : ( من تحتها الأنهار ) كما هو في سائر المواضع .

    خالدين فيها أبدا لتخليدهم هذا الدين بإقامة دلائله ، وتأسيس قواعده ، إلى يوم القيامة ، والعمل بمقتضاه ، واختيار الباقي على الفاني ذلك الفوز العظيم أي : الذي لا فوز وراءه .

    تنبيهات :

    الأول : قال في ( " الإكليل " ) : في هذه الآية تفضيل السابق إلى الإسلام والهجرة ، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم .

    الثاني : قيل : المراد ب ( السابقين الأولين ) جميع المهاجرين والأنصار ، ف ( من ) بيانية لتقدمهم على من عداهم .

    وقيل : بعضهم - وهم قدماء الصحابة - و ( من ) تبعيضية ، وقد اختار كثيرون الثاني ، واختلفوا في تعيينهم على ما ذكرناه أولا ، ورأى آخرون الأول .

    روي عن حميد بن زياد قال : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي : ألا تخبرني عن الصحابة فيما كان بينهم ؟ وأرد الفتن - فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم .

    قلت له : والسابقون الأولون الآية ، فأوجب للجميع الجنة والرضوان ، وشرط على تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسنا لا سوءا .

    [ ص: 3244 ] أي : لقوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان

    الثالث : قال الشهاب : تقديم المهاجرين لفضلهم على الأنصار كما ذكر في قصة السقيفة ، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه ، لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 101 ] وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم .

    وممن حولكم يعني حول بلدتكم ، وهي المدينة من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق

    أي : مرنوا ومهروا فيه وقوله عز شأنه لا تعلمهم دليل لمرانتهم عليه ، ومهارتهم فيه ، أي : يخفون عليك ، مع علو كعبك في الفطنة وصدق الفراسة ، لفرط تأنقهم وتصنعهم في مراعاة التقية ، والتحامي عن مواقع التهم .

    قال في ( " الانتصاف " ) وكأن قوله تعالى : مردوا على النفاق توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه صلى الله عليه وسلم ، لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به . انتهى .

    وقوله تعالى : نحن نعلمهم تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق ، أي : لا يعلمهم إلا الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر ، وإظهار الإخلاص .

    وقوله تعالى : سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم للمفسرين في المرتين [ ص: 3245 ] وجوه : إظهار نفاقهم وإحراق مسجد الضرار ، أو الفضيحة وعذاب القبر ، أو أخذ الزكاة لما أنهم يعدونها مغرما بحتا ، ونهك الأبدان ، وإتعابها بالطاعات الفارغة عن الثواب .

    وقال محمد بن إسحاق : هو - فيما بلغني عنهم - ما هم من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه ، عذاب الآخرة ، ويخلدون فيه .

    قال أبو السعود : ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق ، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه .

    ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير ، كما في قوله تعالى : ( فارجع البصر كرتين ) أي : كرة بعد أخرى ، لقوله تعالى : أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام

    تنبيه :

    لا ينافي قوله تعالى : لا تعلمهم نحن نعلمهم قوله تعالى : ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين ، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان يراه صباحا ومساء ، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ، فقال : « لتأتينكم أجوركم ، ولو كنتم [ ص: 3246 ] في جحر ثعلب » .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #391
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3246 الى صـ 3260
    الحلقة (390)


    وأصغى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال : « إن في أصحابي منافقين ، أي : يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له »
    .

    وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء ، أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : الإيمان هاهنا ، وأشار بيده إلى لسانه والنفاق هاهنا ، وأشار بيده إلى قلبه ، ولم يذكر الله إلا قليلا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، ارزقه حبي وحب من يحبني ، وصير أمره إلى خير » . فقال : يا رسول الله ! إنه كان لي أصحاب من المنافقين ، وكنت رأسا فيهم ، أفلا آتيك بهم ؟ قال : « من أتانا استغفرنا له ، ومن أصر على دينه ، فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا » - ورواه الحاكم أيضا - .

    وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس ، فلان في الجنة وفلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري ! لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك ! قال نبي الله نوح عليه السلام : قال وما علمي بما كانوا يعملون وقال نبي الله شعيب عليه السلام : بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا تعلمهم نحن نعلمهم

    لطيفة :

    قوله تعالى : ومن أهل المدينة عطف على : ( ممن حولكم ) عطف مفرد على مفرد .

    وقوله تعالى : مردوا على النفاق إما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، مسوقة لبيان علوهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به ، وإما صفة للمبتدأ المذكور فصل بينها وبينه به عطف على خبره ، وإما صفة لمحذوف أقيمت هي مقامه ، وهو مبتدأ خبره ( من أهل المدينة ) والجملة عطف على الجملة السابقة ، أي : ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق - أفاده أبو السعود - .

    [ ص: 3247 ] ولما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة ، رغبة عنها وتكذيبا وشكا ، بين حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة ، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق ، فقال عز شأنه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 102 ] وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم .

    وآخرون اعترفوا بذنوبهم أي : أقروا بها ، وهي تخلفهم عن الغزو ، وإيثار الدعة عليه ، والرضا بسوء جوار المنافقين ، أي : لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم خلطوا عملا صالحا كالندم وما سبق من طاعتهم وآخر سيئا كالتخلف عن الجهاد عسى الله أن يتوب عليهم أي : يقبل توبتهم إن الله غفور رحيم يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه .

    تنبيهات :

    الأول : أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عن ابن عباس قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه ، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهلاك وقالوا : نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد ! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري ، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الذي يطلقها ، ففعلوا وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته فقال : « من هؤلاء الموثقون بالسواري » ؟ فقال رجل : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا ، فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم . فقال : « لا أطلقهم ، حتى أومر بإطلاقهم » ، فأنزل الله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم فلما نزلت أطلقهم وعذرهم ، [ ص: 3248 ] وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم ، لم يذكروا بشيء ، وهم الذين قال الله فيهم : وآخرون مرجون لأمر الله الآية ، فجعل أناس يقولون : هلكوا ، إذ لم ينزل عذرهم ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يتوب عليهم ، حتى نزلت : وعلى الثلاثة الذين خلفوا

    وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه ، وزاد : فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا ، فقالوا : يا رسول الله ! هذه أموالنا ، فتصدق بها عنا ، واستغفر لنا فقال : « ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا » ، فأنزل الله : خذ من أموالهم صدقة الآية .

    وأخرج هذا القدر وحده عن سعيد بن جبير ، والضحاك وزيد بن أسلم وغيرهم . وأخرج عبد عن قتادة أنها نزلت في سبعة : أربعة منهم ربطوا أنفسهم بالسواري ، وهم أبو لبابة ومرداس ، وأوس بن خذام وثعلبة بن وديعة .

    وأخرج أبو الشيخ وابن منده في ( " الصحابة " ) من طريق الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : كان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك ستة : أبو لبابة ، وأوس بن خذام ، وثعلبة بن وديعة ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية .

    فجاء أبو لبابة وأوس بن ثعلبة ، فربطوا أنفسهم بالسواري ، وجاءوا بأموالهم ، فقالوا : يا رسول الله ! خذ هذا الذي حبسنا عنك ، فقال : لا أحلهم حتى يكون قتال ، فنزل القرآن : وآخرون اعترفوا بذنوبهم الآية
    ، إسناده قوي ، كذا في ( " اللباب " ) .

    قال ابن كثير : هذه الآية ، وإن كانت نزلت في أناس معينين ، إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين .

    وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة إنه الذبح ، وأشار بيده إلى حلقه ، ثم نقل ما تقدم .

    [ ص: 3249 ] الثاني : روى البخاري في التفسير في هذه الآية ، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : « أتاني الليلة آتيان ، فابتعثاني ، فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ، ولبن فضة ، فتلقانا رجل ، شطر من خلفهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر ، فوقعوا فيه ، ثم رجعوا إلينا ، قد ذهب ذلك السوء عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي : هذه جنة عدن ، وهذا منزلك . قالا : أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح ، فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وتجاوز الله عنهم » .

    الثالث : قال الزمخشري : فإن قلت : قد جعل كل واحد منهما مخلوطا ، فما المخلوط به ؟ قلت : كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به ، لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه ، فيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن ، لأنك جعلت الماء مخلوطا ، واللبن مخلوطا به ؟ وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما ، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء .

    وناقشه الناصر في ( " الانتصاف " ) فقال : التحقيق في هذا أنك إذا قلت : ( خلطت الماء باللبن ) ، فالمصرح به في هذا الكلام أن الماء مخلوط ، واللبن مخلوط به ، والمدول عليه لزوما لا تصريحا كون الماء مخلوطا به ، واللبن مخلوطا .

    وإذا قلت : خلطت الماء واللبن ، فالمصرح به جعل كل واحد منهما مخلوطا ، وأما ما خلط به كل واحد منهما ، فغير مصرح به ، بل من اللازم أن كل واحد منهما له مخلوط به ، يحتمل أن يكون قرينه أو غيره .

    فقول الزمخشري : [ ص: 3250 ] إن قولك : ـ ( خلطت الماء واللبن ) ، يفيد ما يفيد مع الباء ، وزيادة - ليس كذلك .

    فالظاهر في الآية - والله أعلم - أن العدول عن الباء إنما كان لتضمين الخلط معنى العمل ، كأنه قيل : عملوا صالحا وآخر سيئا ، ثم انضاف إلى العمل معنى الخلط ، فعبر عنهما معا به . انتهى .

    قال النحرير : يريد الزمخشري أن ( الواو ) كالصريح في خلط كل بالآخر ، بمنزلة ما إذا قلت : ( خلطت الماء باللبن ) ، و ( خلطت اللبن بالماء ) ، بخلاف الباء ، فإن مدلولها لفظا إلا خلط الماء مثلا باللبن ، وأما خلط اللبن بالماء ، فلو ثبت لم يثبت إلا بطريق الالتزام ودلالة العقل . انتهى .

    وهو متجه ولا حاجة للتضمين المذكور .

    ثم قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من قولهم : ( بعت الشاء شاة ودرهما ) ، بمعنى شاة بدرهم ، أي : ف ( الواو ) بمعنى الباء ، ونقل ذلك سيبويه .

    وقالوا : إنه استعارة ، لأن ( الباء ) للإلصاق ، و ( الواو ) للجمع ، وهما من واد واحد . وقال ابن الحاجب في قولهم المذكور : أصله شاة بدرهم ، أي : كل شاة بدرهم ، وهو بدل من الشاة ، أي : مع درهم ، ثم كثر فأبدلوا من ( باء المصاحبة ) ( واوا ) ، فوجب نصبه وإعرابه بإعراب ما قبله ، كقولهم : كل رجل وضيعته .

    قال الشهاب : وهو تكلف ، ولذا قالوا : إنه تفسير معنى ، لا إعراب . انتهى .

    قال الواحدي : العرب تقول : خلطت الماء باللبن ، وخلطت الماء واللبن ، كما تقول : جمعت زيدا وعمرا . و ( الواو ) في الآية أحسن من ( الباء ) ، لأنه أريد معنى الجمع ، لا حقيقة الخلط ، ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيئ ، كما يختلط الماء باللبن ، لكن قد يجمع بينهما . انتهى .

    وفي الآية نوع من البديع يسمى ( الاحتباك ) ، هو مشهور ، لأن المعنى : خلطوا عملا صالحا بسيئ وآخر سيئا بصالح .

    [ ص: 3251 ] الرابع : قال الرازي : ههنا سؤال ، وهو أن كلمة ( عسى ) شك ، هو في حق الله تعالى محال . وجوابه من وجوه :

    الأول : قال المفسرون : كلمة عسى من الله واجب ، والدليل عليه قوله تعالى :

    فعسى الله أن يأتي بالفتح وفعل ذلك ، وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام ، والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئا ، فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة ( عسى ) ، أو ( لعل ) تنبيها على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئا ، وأن يكلفني بشيء ، بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطول ، فذكر كلمة عسى ، الفائدة فيه هذا المعنى ، مع أنه يفيد القطع بالإجابة .

    الوجه الثاني : أن المقصود بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق ، لأنه أبعد من الاتكال والإهمال .

    الخامس : قال القاشاني : الاعتراف بالذنب هو إبقاء نور الاستعداد ، ولين الشكيمة ، وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه ، لأنه ملك الرجوع والتوبة ، ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة ، وانفتاح عين القلب ، إذ لو ارتكمت الظلمة ورسخت الرذيلة ، ما استقبحه ، ولم يره ذنبا ، بل رآه فعلا حسنا ، لمناسبته لحاله ، فإذا عرف أنه ذنب ففيه خير .

    ثم أمر تعالى رسوله صلوات الله عليه أن يأخذ من أموالهم التي تقدموا إليه ، أن يتصدق بها عنهم كفارة لذنوبهم ، كما تقدم في الروايات قبل ، بقوله عز وجل :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 103 ] خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم .

    خذ من أموالهم أي : بعضها صدقة

    قال المهايمي : لتصدق توبتهم إذ : تطهرهم [ ص: 3252 ] أي : عما تلطخوا به من أوضار التخلف . وعن حب المال الذي كان التخلف بسببه وتزكيهم بها أي : عن سائر الأخلاق الذميمة التي حصلت عن المال .

    قال الزمخشري : التزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال وصل عليهم أي : واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم إن صلاتك سكن لهم أي : تسكن نفوسهم إليها ، وتطمئن قلوبهم بها ، ويثقون بأنه سبحانه قبل توبتهم .

    وقال قتادة : سكن ، أي : وقار .

    وقال ابن عباس : رحمة لهم . وقد روى الإمام أحمد عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا للرجل ، أصابته وأصابت ولده وولد ولده . وفي رواية : إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده .

    والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم والله سميع أي : يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم عليم أي : بما في ضمائرهم من الندم والغم ، لما فرط منهم .

    تنبيهات :

    الأول : تطهرهم قرئ مجزوما على أنه جواب للأمر ، وأما بالرفع فعلى أنه حال من ضمير المخاطب في خذ أو صفة ل ( صدقة ) ، والتاء للخطاب أو للصدقة .

    والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده ، أي : بها .

    وقرئ تطهرهم ، من أطهره بمعنى طهره ، ولم يقرأ : وتزكيهم ، إلا بإثبات الياء وهو خبر لمحذوف ، والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه ، أي : وأنت تزكيهم بها ، هذا على قراءة "تطهرهم" بالجزم .

    وأما على قراءة الرفع فـ ( تزكيهم ) عطف على ( تطهرهم ) حالا أو صفة .

    الثاني : قرئ صلاتك بالتوحيد ، و ( صلواتك ) بالجمع ، مراعاة لتعدد المدعو لهم .

    وقال الشهاب : جمع ( صلاة ) ، لأنها اسم جنس ، والتوحيد لذلك ، أو لأنها مصدر في الأصل .

    [ ص: 3253 ] الثالث : قال الشهاب : السكن السكون ، وما يسكن إليه من الأهل والوطن ، فإن كان المراد الأول ، فجعلها نفس السكن والاطمئنان مبالغة ، وهو الظاهر ، وإن كان الثاني فهو مجاز بتشبيه دعائه ، في الالتجاء إليه بالسكن ، انتهى .

    قال أبو البقاء : سكن بمعنى مسكون إليها ، فلذلك لم يؤنثه ، وهو مثل القبض بمعنى المقبوض .

    الرابع : قيل : المأمور به في الآية الزكاة . و ( من ) تبعيضية ، وكانوا أرادوا التصدق بجميع مالهم ، فأمره الله أن يأخذ بعضها لتوبتهم ، لأن الزكاة لم تقبل من بعض المنافقين ، فترتبط الآية بما قبلها .

    وقيل : ليست هذه الصدقة المفروضة ، بل هم لما تابوا ، بذلوا جميع مالهم كفارة للذنب الصادر منهم ، فأمره الله تعالى بأخذ بعضها وهو الثلث ، وهذا ما روي عن الحسن ، وهو المختار عندهم . ونقل الرازي أن أكثر الفقهاء على أن هذه الآية كلام مبتدأ قصد به إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء ، إذ هي حجتهم في إيجاب الزكاة ، ثم نظر فيه بأن حملها على ما ذكروه يوجب ألا تنتظم الآية مع سابقها ولاحقها .

    وأقول : لا ريب في ارتباط الآية بما قبلها ، كما أفصحت عنه الرواية السابقة . وخصوص سببها لا يمنع عموم لفظها ، كما هو القاعدة في مثل ذلك ، ولذا رد الصديق رضي الله عنه على من تأول من بعض العرب هذه الآية أن دفع الزكاة لا يكون إلا للرسول صلوات الله عليه ، لأنه المأمور بالأخذ ، وبالصلاة على المتصدقين ، فغيره لا يقوم مقامه وأمر بقتالهم ، فوافقته الصحابة ، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة ، كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    فاستدل من ذلك على وجوب دفع الزكاة إلى الإمام ، ومثله نائبه ، وهؤلاء المتأولون المرتدون غاب عنهم أن الزكاة إنما أوجبها الله تعالى سدا لحاجة المعدم ، وتفريجا لكربة الغارم ، وتحريرا لرقاب المستعبدين ، وتيسيرا لأبناء السبيل ، فاستل بذلك ضغائن أهل الفاقة ، على من فضلوا عليهم في الرزق ، وأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء ، وساق الرحمة في نفوس [ ص: 3254 ] هؤلاء على أولئك البائسين ، فالإمام لا خصوصية لذاته فيها ، بل لأنه يجمع ما يرد منها لديه ، فينفقها في سبلها المذكورة .

    الخامس : استدل بقوله تعالى : وصل عليهم على ندب الدعاء للمتصدق .

    قال الشافعي رحمه الله : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ، ويقول : آجرك الله فيما أعطيت وجعله طهورا ، وبارك لك فيما أبقيت ، وقال آخرون : يقول : اللهم صل على فلان ، ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى ، وكان من أصحاب الشجرة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال :

    « اللهم صل عليهم » ، فأتاه أبي بصدقته فقال : « اللهم صل على آل أبي أوفى »
    . أخرجاه في الصحيحين .

    قال ابن كثير : وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت : يا رسول الله ! صل علي وعلى زوجي ، فقال : « صلى الله عليك وعلى زوجك » .

    أقول : وبهذين الحديثين يرد على من زعم أن المراد بـ : ( صل عليهم ) الصلاة على الموتى حكاه السيوطي في ( " الإكليل " ) .

    السادس : دلت الآية كالحديثين ، على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالا .

    قال الرازي : روى الكعبي في " تفسيره " أن عليا رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه وهو مسجى : عليك الصلاة والسلام . ومن الناس من أنكر ذلك .

    ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد ، إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم .

    ثم قال الرازي : إن أصحابنا يمنعون من ذكر صلوات الله عليه ، وعليه الصلاة والسلام ، إلا في حق الرسول ، والشيعة يذكرونه في علي وأولاده ، [ ص: 3255 ] واحتجوا بأن نص القرآن دل على جوازه فيمن يؤدي الزكاة ، فكيف يمنع في حق علي والحسن والحسين عليهم رضوان الله ؟ قال : ورأيت بعضهم قال : أليس أن الرجل إذا قال : سلام عليكم ، يقال له : وعليكم السلام ، فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين ، فأولى آل البيت . انتهى .

    وأقول : إن المنع من ذلك أدبي لا شرعي ، لأنه صار - في العرف - دعاء خاصا به صلى الله عليه وسلم ، وشعارا له ، كالعلم بالغلبة ، فغيره لا يطلق عليه ، إلا تبعية له ، أدبا لفظيا .

    السابع : قال الرازي : في سر كون صلاته عليه السلام سكنا لهم : أن روح محمد عليه السلام كانت روحا قوية مشرقة صافية باهرة ، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ، فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم ، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم ، وصفت أسرارهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 104 ] ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم .

    ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها ، وإخبار بأن كل من تاب إليه ، تاب عليه ، ومن تصدق تقبل منه .

    تنبيهات :

    الأول : الضمير في : ( يعلموا ) للمتوب عليهم ، فيكون ذكر قبول توبتهم ، مع أنه تقدم ما يشير إليه ، تحقيقا لما سبق من قبول توبتهم ، وتطهير الصدقة وتزكيتها لهم ، وتقريرا لذلك ، وتوطينا لقلوبهم ببيان أن المتولي لقبول توبتهم ، وأخذ صدقاتهم هو الله سبحانه ، وإن أسند الأخذ والتطهير والتزكية إليه صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 3256 ] قال أبو مسلم : المقصود من الاستفهام التقرير في النفس ، ومن عادة العرب في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه ، أن يقول : أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته ؟ أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره ؟ فبشر تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم . انتهى .

    وجوز عود الضمير لغيرهم من المنافقين فالاستفهام توبيخ وتقريع لهم على عدم التوبة ، وترغيب فيها ، وإزالة لما يظنون من عدم قبولها وقرئ بالتاء .

    وهو على الأول التفات ، وعلى الثاني بتقدير ( قل ) ، ويجوز أن يكون الضمير للمنافقين والتائبين معا ، للتمكن والتخصص .

    الثاني : الضمير أعني ( هو ) إما للتأكيد ، أو له مع التخصص ، بمعنى أنه يفعل ذلك البتة ، لأن ضمير الفصل يفيد ذلك ، والخبر المضارع من مواقعه .

    وقيل : معنى التخصيص في هو ، أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردها ، فاقصدوه ، ووجهوها إليه ، لأن كثرة رجوعهم إليه ، صلوات الله عليه ، مظنة لتوهم ذلك .

    الثالث : تعدية القبول ب ( عن ) ، لتضمنه معنى التجاوز ، والعفو عن ذنوبهم التي تابوا عنها ، وقيل : ( عن ) هنا بمعنى ( من ) ، كما يقال : أخذت هذا منك وعنك .

    الرابع : الأخذ هنا استعارة للقبول والإثابة ، لأن الكريم والكبير إذا قبل شيئا عوض عنه ، وقد يجعل الإسناد إلى الله مجازا مرسلا .

    وقيل : في نسبة الأخذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : خذ ثم إلى ذاته تعالى ، إشارة إلى أن أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ، قائم مقام أخذ الله ، تعظيما لشأن نبيه ، كقوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله

    [ ص: 3257 ] الخامس : جملة : وأن الله هو التواب الرحيم تأكيد لما عطف عليه ، وزيادة تقرير لما يقرره ، مع زيادة معنى ليس فيه ، كما أفادته صيغة المبالغة التي تفيد تكرر ذلك منه أي : ألم يعلموا أنه المختص بقبول التوبة ، وأن ذلك سنة مستمرة له ، وشأن دائم ؟

    لطيفة :

    نقل ابن كثير عن الحافظ ابن عساكر ، عن حوشب قال : غزا الناس في زمن معاوية ، وعليهم عبد الرحمن بن الخالد بن الوليد ، فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية ، فلما قفل الجيش ندم ، وأتى الأمير ، فأبى أن يقبلها منه ، وقال : قد تفرق الناس ، ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة ، فجعل الرجل يأتي الصحابة ، فيقولون له مثل ذلك .

    فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه ، فأبى عليه ، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع ، فمر بعبد الله ابن الشاعر السكسكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ فذكر له أمره ، فقال له : أومطيعي أنت ؟ فقال نعم . فقال : اذهب إلى معاوية فقل له : اقبل مني خمسك ، فادفع إليه عشرين دينارا ، وانظر إلى الثمانين الباقية ، فتصدق بها عن ذلك الجيش ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ، ففعل الرجل .

    فقال معاوية : لأن أكون أفتيت بها ، أحب إلي من كل شيء أملكه . أحسن الرجل . انتهى .

    في هذه الرواية إثبات ولد لخالد ، وفي ظني أن صاحب ( " أسد الغابة " ) ذكر أنه لم يعقب ، فليحقق .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 105 ] وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .

    وقل أي : لأهل التوبة والتزكية والصلاة ، لا تكتفوا بها ، بل : اعملوا جميع [ ص: 3258 ] ما تؤمرون به فسيرى الله عملكم أي : فيزيدكم قربا على قرب ، ورسوله فيزيدكم صلوات والمؤمنون فيتبعونكم ، فيحصل لكم أجرهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء - هكذا قاله المهايمي - وهو قوي في الارتباط .

    وقال أبو مسلم : إن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة ، كما قال : وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية ، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية ، فذكر تعالى أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم ، والتنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة ، عند حضور الأولين والآخرين ، بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد .

    ونقل عن مجاهد أن الآية وعيد للمخالفين أوامره ، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول والمؤمنين .

    قال ابن كثير : وهذا كائن لا محالة يوم القيامة ، كما قال تعالى : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية وقال تعالى : يوم تبلى السرائر وقال تعالى : وحصل ما في الصدور وقد ظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا ، كما روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعا : « لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوة ، لأخرج الله عمله للناس كائنا من كان » .

    وروي أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ - كما في مسند أحمد والطيالسي - .

    وستردون إلى عالم الغيب والشهادة أي : بالموت فينبئكم بما كنتم تعملون أي : بالمجازاة عليه .

    قال أبو السعود : في وضع الظاهر موضع المضمر ـ أي : ( حيث لم يقل : إليه ) ـ من تهويل [ ص: 3259 ] الأمر ، وتربية المهابة ، ما لا يخفى . ووجه تقديم ( الغيب ) في الذكر لسعة علمه ، وزيادة خطره على الشهادة ، غني عن البيان .

    وعن ابن عباس : الغيب ما يسرونه من الأعمال ، والشهادة ما يظهرونه ، كقوله تعالى : أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، فالتقدم حينئذ لتحقق أن نسبة علمه المحيط بالسر والعلن واحدة ، على أن أبلغ وجه وآكده ، أو للإيذان بأن رتبة السر متقدمة على رتبة العلن ، إذ ما من شيء يعلن إلا وهو ، أو مبادئه القريبة أو البعيدة ، مضمر قبل ذلك في القلب . فتعلق علمه تعالى به في حالته الأولى ، متقدم على تعلقه به في حالته الثانية .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 106 ] وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم .

    وآخرون يعني من المتخلفين : مرجون لأمر الله أي : مؤخرون أمرهم انتظارا لحكمه تعالى فيهم ، لتردد حالهم بين أمرين إما يعذبهم لتخلفهم عن غزوة تبوك .

    وإما يتوب عليهم يتجاوز عنهم والله عليم أي : بأحوالهم ، حكيم أي : فيما يحكم عليهم .

    تنبيهات :

    الأول : قرئ في السبعة : ( مرجؤون ) بهمزة مضمومة ، بعدها واو ساكنة . وقرئ ( مرجون ) بدون همزة . كما قرئ : ( ترجي من تشاء ) بهما ، وهما لغتان ، يقال : أرجأته وأرجيته ، وكأعطيته ، ويحتمل أن تكون الياء بدلا من الهمزة ، كقولهم : قرأت وقريت ، [ ص: 3260 ] وتوضأت وتوضيت ، وهو في كلامهم كثير .

    وعلى كونه لغة أصلية فهو يائي ، وقيل : إنه واوي كذا في ( " العناية " ) .

    الثاني : روي عن الحسن أنه عني بهذه الآية قوم من المنافقين . وكذا قال الأصم : إنهم منافقون أرجأهم الله ، فلم يخبر عنهم ما علمه منهم ، وحذرهم بهذه الآية ، إن لم يتوبوا ، أن ينزل فيهم قرآنا ، فقال : إما يعذبهم وإما يتوب عليهم

    وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد : إنهم الثلاثة الذي خلفوا ، أي : عن التوبة ، وهم مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، قعدوا في غزوة تبوك في جملة من قعد ، كسلا وميلا إلى الدعة وطيب الثمار والظلال ، لا شكا ونفاقا ، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري ، كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك ، وهم هؤلاء الثلاثة ، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء ، وأرجئ هؤلاء عن التوبة ، حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله : وعلى الثلاثة الذين خلفوا

    قال في ( " العناية " ) : وإنما اشتد الغضب عليهم مع إخلاصهم ، والجهاد فرض كفاية ، لما قيل إنه كان على الأنصار خاصة فرض عين ، لأنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه .

    ألا ترى قول راجزهم في الخندق :


    نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا


    وهؤلاء من أجلهم ، فكان تخلفهم كبيرة .

    الثالث : ( إما ) في الآية ، إما للشك بالنسبة إلى المخاطب ، أو للإبهام بالنسبة إليه أيضا ، بمعنى أنه تعالى أبهم على المخاطبين أمرهم .

    والمعنى : ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء [ ص: 3261 ] والخوف ، والمراد تفويض ذلك إلى إرادته تعالى ومشيئته ، أو للتنويع ، أي : أمرهم دائر بين هذين الأمرين .

    وقوله تعالى :







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #392
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3261 الى صـ 3275
    الحلقة (391)


    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 107 ] والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون .

    والذين أي : ومن المنافقين الذين : اتخذوا أي : بنوا : مسجدا ضرارا أي : مضارة لأهل مسجد قباء وكفرا أي : تقوية للكفر الذي يضمرونه وتفريقا بين المؤمنين أي : الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعا واحدا ، يؤدون أجل الأعمال ، وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام ، بجمع قلوب أهله على الخيرات ، ورفع الاختلاف من بينهم وإرصادا أي : إعدادا وترقبا وانتظارا .

    لمن حارب الله ورسوله من قبل أي : كفر بالله ورسوله من قبل ، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فاسقا ) . وكانوا أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما سنفصله ـ .

    وليحلفن أي : بعد ظهور نواياه ومقاصدهم السيئة إن أردنا إلا الحسنى أي : ما أردنا ، ببناء المسجد ، إلا الخصلة الحسنى ، أو الإرادة الحسنى ، وهي الصلاة ، وذكر الله ، والتوسعة على المصلين والله يشهد إنهم لكاذبون أي : في حلفهم .
    [ ص: 3262 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 108 ] لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين .

    لا تقم فيه أي : لا تصل في مسجد الشقاق أبدا أي : في وقت من الأوقات ، لكونه موضع غضب الله ، ولذلك أمر بهدمه وإحراقه كما يأتي . وإطلاق ( القائم ) على المصلي والمتهجد معروف ، كما في قولهم : فلان يقوم الليل ، وفي الحديث « من قام رمضان إيمانا واحتسابا » .

    لمسجد أسس على التقوى أي :

    بنيت قواعده على طاعة الله وذكره ، وقصد التحفظ من معاصي الله ، بفعل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهو مسجد قباء من أول يوم أي : من أيام وجوده أحق أن تقوم أي : تصلي فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أي : المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة .

    ثم أشار إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 109 ] أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين .

    أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله أي : مخافة منه ورضوان أي : طلب رضوان منه : خير أم من أسس بنيانه على شفا أي : طرف جرف بضم الراء [ ص: 3263 ] وسكونها أي : مهواة هار أي : مشرف على السقوط فانهار به أي : سقط معه في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 110 ] لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم .

    لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم أي : لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزول وسمه عن قلوبهم ، ولا يضمحل أثره إلا أن تقطع قلوبهم أي : قطعا ، وتتفرق أجزاء ، فحينئذ يسلون عنه .

    وأما ما دامت سالمة مجتمعة ، فالريبة باقية فيها متمكنة ، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويرا لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أي : يراد حقيقة تقطيعها وتمزيقها بالموت ، أو بعذاب النار .

    وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم والله عليم أي : بنياتهم حكيم أي : فيما أمر بهدم بنيانهم ، حفظا للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة .

    تنبيهات :

    الأول : قال الزمخشري : في مصاحف أهل المدينة والشام : ( الذين اتخذوا ) بغير واو ، لأنها قصة على حيالها ، وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم .

    الثاني : سبب نزول هذه الآيات أنه كان بالمدينة ، قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير .

    فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصار للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، [ ص: 3264 ] شرق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام ( أحد ) ، فكان أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته .

    فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا ، يا فاسق ، يا عدو الله ! ونالوا منه وسبوه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد .

    فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة . وذلك أنه لما فرغ الناس من ( أحد ) ، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله ، فوعده ومناه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار ، من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وكان أمرهم أن يتخذوا له معقلا ومرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك .

    فأتوه فقالوا : يا رسول الله ! إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه .

    فقال : « إني على جناح سفر ، وحال شغل ، ولو قدمنا ، إن شاء الله تعالى ، أتيناكم ، فصلينا لكم فيه » .

    فلما نزل بذي أوان - موضع على ساعة من المدينة - أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عامرا ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه .

    فخرجا سريعين ، حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ، فدخل أهله ، فأخذ سعفا من النخل ، فاشعل فيه نارا ، ثم خرجا يشتدان ، حتى دخلا المسجد ، وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه ، وتفرقوا عنه ، ونزل فيهم ما نزل
    - ذكره ابن كثير ، وأسند أطرافه إلى ابن إسحاق وابن مردويه - .

    [ ص: 3265 ] وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء ، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ، فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم فقال : لا ، ونعمة عين ! أليس هو إمام مسجد الضرار ؟ قال مجمع : يا أمير المؤمنين ! لا تعجل علي ، فوالله ! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، وكنت غلاما قارئا للقرآن ، وكانوا شيوخا لا يقرؤون ، فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ، ولم أعلم ما في نفوسهم . فعذره عمر ، فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء .

    الثالث : ما قدمناه من أن المسجد في الآية هو مسجد قباء ، لأن السياق في معرضه ، وبيان أحقية الصلاة فيه من ذاك ، لأنه أسس على طاعة الله وطاعة رسوله ، وجمع كلمة المؤمنين .

    ولما في الآية من الإشعار بالحث على تعاهده بالصلاة فيه ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكبا وماشيا ، ويصلي فيه ركعتين - كما في الصحيح - .

    وقد روي عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : « إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون فيه ؟ » فقالوا ، يا رسول الله ! ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء ، - رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني ، واللفظ له - .

    وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : هو مسجده - رواه الإمام أحمد ومسلم ـ .

    [ ص: 3266 ] قال ابن كثير : ولا منافاة ، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى . انتهى .

    ومرجعه إلى أن هذا الوصف ، وإن كان يصدق عليهما - إلا أن الأحرى به بعد هو المسجد النبوي ، أي : فالحديث ليس في معرض تعيين ما في الآية ، بل في بيان الأحق بهذا الوصف الآن .

    وقال السهروردي : كل منهما مراد ، لأن كلا منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه .

    والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك ، دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء ، والتنويه بمزية هذا عن ذاك .

    الرابع : قال السهيلي ـ نور الله مرقده ـ : في الآية ـ يعني قوله تعالى : من أول يوم - من الفقه ، صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله عنه حين شاورهم في التاريخ ، فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة ، لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام ، والحين الذي أمن فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وبنيت المساجد ، وعبد الله كما يجب ، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل ، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى : من أول يوم أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن .

    فإن كان الصحابة أخذوه من هذه الآية ، فهو الظن بهم ، لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات ، وإن كان ذلك على رأي واجتهاد ، فقد علمه الله وأشار إلى صحته قبل أن يفعل ، إذ لا يعقل قول القائل : فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم ، أو شهر معلوم ، أو تاريخ معلوم .

    وليس ههنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم ، لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال ، فتدبره ، ففيه معتبر لمن ادكر ، وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر .

    الخامس : ( التأسيس ) وضع الأساس ، وهو أصل البناء ، وأوله ، وبه إحكامه ، ففي [ ص: 3267 ] الآية شبه التقوى والرضوان تشبيها, مكنيا مضمرا في النفس ، بما يعتمد عليه أصل البناء .

    و أسس بنيانه تخييل فهو مستعمل في معناه الحقيقي ، أو هو مجاز بناء على جوازه ، فتأسيس البنيان بمعنى إحكام أمور دينه ، أو تمثيل لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة ، بحال من بنى بناء محكما مؤسسا يستوطنه ويتحصن به . أو البنيان استعارة أصلية ، و ( التأسيس ) ترشيح أو تبعية ، و ( الشفا ) : الحرف والشفير .

    و ( جرف الوادي ) : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول ، فيبقى واهيا .

    و ( الهار ) : الهائر ، وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . قيل : هو مقلوب ، وأصله ( هاور ) ، أو ( هاير ) . وقيل : حذفت عينه اعتباطا ، فوزنه ( فال ) . والإعراب على رائه كباب ، وقيل : لا قلب فيه ولا حذف ، ووزنه في الأصل ( فعل )

    بكسر العين ، ككتف ، وهو هور أو هير ، ومعناه ساقط أو مشرف على السقوط . وفاعل ( انهار ) ، إما ضمير البنيان ، وضمير ( به ) للمؤسس ، أي : سقط بنيان الباني بما عليه . أو لـ ( الشفا ) ، وضمير ( به ) للبنيان .

    والظاهر في التقابل أن يقال : أم من أسس بنيانه على ضلال وباطل وسخط من الله ، ولذا قال في " الكشاف " : المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة قوية ، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه ، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها ، وأقلها بقاء وهو ( الباطل والنفاق ) ، الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك .

    وضع ( شفا الجرف ) في مقابلة التقوى ، لأنه جعل مجازا عما ينافي ( التقوى ) ، يعني أنه شبه الباطل بشفا جرف هار ، في قلة الثبات ، فاستعير للباطل بقرينة مقابلته للتقوى ، والتقوى حق ، ومنافي الحق هو الباطل .

    وقوله فانهار ترشيح ، وباؤه للتعدية ، أو للمصاحبة ، ( فشفا جرف هار ) ، استعارة تصريحية تحقيقية ، والتقابل باعتبار المعنى المجازي المراد منها .

    فإن قلت لماذا غاير بينهما حيث أتى بالأول على طريقة الكناية والتخييل ، وبالثاني على طريق الاستعارة والتمثيل ؟

    [ ص: 3268 ] قلت : التفنن في الطريق رعاية لحق البلاغة ، وعدولا عن الظاهر ، مبالغة في الطرفين ، إذ جعل أولئك مبنيا على تقوى ورضوان ، هو أعظم من كل ثواب ، وحال هؤلاء على فساد أشرف بهم على أشد نكال وعذاب ، ولو أتى به على مقتضى الظاهر لم يفده ، ما فيه من التهويل .

    وقولنا : ( فانهار ترشيح ) ، أوضحه " الكشاف " بقوله : لم جعل الجرف الهائر مجازا بعضها عن الباطل ، قيل : فانهار به في نار جهنم على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم ، فانهار به ذلك الجرف ، فهوى في قعرها .

    السادس : دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار ، أنه لا حكم له ولا حرمة ، ولا يصح الوقف عليه .

    وقد حرق الراضي بالله كثيرا من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة وسبل بعضها . نقله بعض المفسرين .

    قال الزمخشري : قيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار .

    وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه ، فإنه بني على ضرار ، كل مسجد بني على ضرار ، أو رياء وسمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضرارا .

    وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه ، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين ، يضار أحدهما صاحبه . انتهى .

    وقال الإمام ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) في فوائد غزوة تبوك :

    ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها ، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه ، وهو مسجد يصلى فيه ، ويذكر اسم الله فيه . لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين ، ومأوى للمنافقين ، وكل مكان هذا شأنه ، فواجب [ ص: 3269 ] على الإمام تعطيله ، إما بهدم أو تحريق ، وإما بتغيير صورته ، وإخراجه عما وضع له .

    وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار ، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله ، أحق بذلك وأوجب ، وكذلك محال المعاصي والفسوق ، كالحانات وبيوت الخمارين ، وأرباب المنكرات .

    وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر ، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه ( فويسقا ) ، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية .

    وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة ، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم ، كما أخبر هو عن ذلك . انتهى .

    ثم قال ابن القيم : ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة ، كما لم يصح وقف هذا المسجد .

    وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر ، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد ـ نص على ذلك الإمام أحمد وغيره - فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه ، وكان الحكم للسابق ، فلو وضعا معا لم يجز .

    ولا يصح هذا الوقف ، ولا يجوز ، ولا تصح الصلاة في هذا المسجد ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ولعنه من اتخذ القبر مسجدا ، أو أوقد عليه سراجا .

    قال ابن القيم : فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه ، وغربته بين الناس كما ترى . انتهى .

    السابع : قال بعض المفسرين اليمانيين : في الآية دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة ، يعني التأسيس على التقوى ، وفيها أن نية القربة في عمارة المسجد شرط ، لأن [ ص: 3270 ] النية هي التي تميز الأفعال .

    وفيها : أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار - ذكر ذلك الحاكم ـ لأنه قال تعالى :

    لا تقم فيه أبدا وأراد بـ ( القيام ) الصلاة .

    الثامن : قال ابن كثير : في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائه على عبادة الله وحده ، لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات .

    وقد روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح ، فقرأ الروم فأوهم ، فلما انصرف قال : « إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء » . فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكمالها ، والقيام بمشروعاتها .

    التاسع : ذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية ، الطهارة من الذنوب ، والتوبة منها ، والتطهر من الشرك .

    قال الرازي : وهذا القول متعين ، لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى ، واستحقاق ثوابه ومدحه ، ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين ، والكفر بالله ، والتفريق بين المسلمين ، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم ، وما ذلك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي . انتهى .

    أقوال : لا تسلم دعوى التعين ، فإن اللفظ يتناول الطهارتين الباطنة والظاهرة . بل الثانية ما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء : « قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون » ؟ فقالوا : نستنجي بالماء .

    [ ص: 3271 ] وروى البزار عن ابن عباس قال : هذه الآية في أهل قباء ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نتبع الحجارة بالماء .

    فإن صح ذلك كان المراد من الآية ، وتكون حثا على الطهارة المذكورة ، ومدحا لها . وكون ذويها على الضد من صفات أولئك ، يستفاد من عموم هذا ، ومن قوله تعالى : لمسجد أسس على التقوى الآية .

    العاشر : قال القاشاني : لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت ، وتسخيره ، لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال ، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية ، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء ، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة ، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم .

    ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبي من أنبياء الله ، بنية صادقة ، ونفس شريفة صافية ، عن كمال إخلاص لله تعالى ؟ ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس ، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع ، والكدورة والتفرقة في بعضها .

    وما هو إلا لذلك ، فلهذا قال : لمسجد أسس على التقوى الآية ، لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس ، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام ، فإذا كان موضع القيام مبنيا على التقوى وصفاء النفس ، تأثرت النفس باجتماع الهمة ، وصفاء الوقت ، وطيب الحال ، وذوق الوجدان ، وإذا كان مبنيا على الرياء والضرار ، تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض .

    وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني ، وصدق نيته ، مؤثر في البناء ، وأن تبرك المكان ، وكونه مبنيا على الخير ، يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ، ممن يناسب حاله حال بانيه ، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة لقوله : والله يحب المطهرين
    [ ص: 3272 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 111 ] إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .

    إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم

    لما هدى الله تعالى المؤمنين إلى الإيمان ، والأنفس مفتونة بحب الأموال والأنفس ، استنزلهم لفرط عنايته بهم ، عن مقام محبة الأموال والأنفس ، بالتجارة المربحة ، والمعاملة المرغوبة بأن جعل الجنة ثمن أموالهم وأنفسهم ، فعرض لهم خيرا مما أخذ منهم .

    فالآية ترغيب في الجهاد ببيان فضيلته ، إثر بيان حال المتخلفين عنه .

    قال أبو السعود : ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه ، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى ، وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة ، بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية ، ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد ، أنفس المؤمنين وأموالهم .

    والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة ، الجنة ، ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال : إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ، ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة ، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها ، إيذانا بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم .

    ثم إنه لم يقل ( بالجنة ) ، بل بأن لهم الجنة مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم ، واختصاصه بهم . وكأنه قيل : ( بالجنة الثابتة لهم ، المختصة بهم ) .

    [ ص: 3273 ] وفي ( " الكشاف " ) و ( " العناية " ) ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية ، لأنه أبرزه في صورة عقد عاقده رب العزة ، وثمنه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط ، بل إذا كانوا قاتلين أيضا لإعلاء كلمته ، ونصر دينه ، وجعله مسجلا في الكتب السماوية ، وناهيك به من صك .

    وجعل وعده حقا ، ولا أحد أوفى من وعده ، فنسيئته أقوى من نقد غيره ، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم ، وهو استعارة تمثيلية ، صور جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه ، وإثابة الله لهم على ذلك الجنة ، بالبيع والشراء ، وأتى بقوله يقاتلون إلخ ، بيانا لمكان التسليم وهو المعركة ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم « الجنة تحت ظلال السيوف » ، ثم أمضاه بقوله : وذلك هو الفوز العظيم

    ولما في هذا من البلاغة واللطائف المناسبة للمقام ، لم يلتفتوا إلى جعل اشترى وحده استعارة أو مجازا عن الاستبدال ، وإن ذكروه في غير هذا الموضع ، لأن قوله فاستبشروا ببيعكم يقتضي أنه شراء وبيع ، وهذا لا يكون إلا بالتمثيل .

    ومنهم من جوز أن يكون معنى : اشترى من المؤمنين أنفسهم بصرفها في العمل الصالح ، و : ( أموالهم ) بالبذل فيها . وجعل قوله : يقاتلون مستأنفا لذكر بعض ما شمله الكلام ، اهتماما به . انتهى .

    وقوله تعالى : وعدا عليه مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلا ، وذكر كونه في التوراة وما عطف عليها ، تأكيد له ، وإخبار بأنه منزل على الرسل في الكتب الكبار .

    وفيه أن مشروعية الجهاد ومثوبته ثابتة في شرع من قبلنا ، وقد بقي في التوراة والإنجيل الموجودين - على تحريفهما - ما يشير إلى الجهاد والحث عليه ، نقلها عنهما من رد على الكتابيين الزاعمين أن الجهاد من خصائص الإسلام ، فانظره في الكتب المتداولة في ذلك .

    ثم وصف تعالى المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بقوله :
    [ ص: 3274 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 112 ] التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين .

    التائبون أي : عن المعاصي ، ورفعه على المدح أي : هم التائبون ، كما دل عليه قراءة ( التائبين ) بالياء إلى قوله ، و ( الحافظين ) نصبا على المدح ، أو جرا صفة للمؤمنين .

    وجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده ، أي : التائبون من المعاصي حقيقة ، الجامعون لهذه الخصال العابدون أي : الذين عبدوا الله وحده ، وأخلصوا له العبادة ، وحرصوا عليها الحامدون لله على نعمائه ، أو على ما نابهم من السراء والضراء السائحون أي : الصائمون ، أو الضاربون في الأرض تدبرا واعتبارا . وسننبه عليه الراكعون الساجدون أي : المصلون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله أي : في تحليله وتحريمه وبشر المؤمنين الموصوفين بالنعوت المذكورة .

    ووضع المؤمنين موضع ضميرهم ، للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان ، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك ، وحذف المبشر به للتعظيم ، أو للعلم به ، لقوله في آية الأحزاب : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا

    تنبيهات :

    الأول : ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين .

    قال الزجاج : هو قول أهل التفسير واللغة جميعا . ورواه الحاكم مرفوعا ، وكذلك ابن جرير .

    قال ابن كثير : ووقفه أصح .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #393
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3276 الى صـ 3290
    الحلقة (392)



    [ ص: 3275 ] وعن ابن عباس : كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة ، فهو الصيام .

    وعن الحسن : السائحون الصائمون شهر رمضان .

    قال الشهاب : استعيرت السياحة للصوم لأنه يعوق عن الشهوات ، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر .

    ونقل الرازي عن أبي مسلم أن السائحين : السائرون في الأرض ، وهو مأخوذ من السيح ، سيح الماء الجاري ، والمراد به من خرج مجاهدا مهاجرا .

    وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين ، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات .

    وروى مثله ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال : هم المهاجرون .

    وعن عكرمة أنهم المنتقلون لطلب العلم .

    قال ابن كثير : جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد ، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله » .

    أقول : لو أخذ هذا الحديث تفسيرا للآية لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها ، لأن الجهاد في سبيل الله ، كما يطلق على قتال المشركين ، يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى ، ومنه الهجرة والصوم ، والسفر للتفقه في الدين أو للاعتبار ، بل ذلك هو الجهاد الأكبر .

    هذا على إرادة التوفيق بين المأثورات ، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية ، أعني الضرب في الأرض خاصة ، الذي عبر عنه عكرمة بالمنتقلين لطلب العلم ، لكان بمفرده كافيا في المعنى ، مشيرا إلى وصف عظيم ، وهذا ما حدا بأبي مسلم أن يقتصر عليه ، هو الحق في تأويل الآية .

    [ ص: 3276 ] وقد رأيت لبعض المحققين مقالة في تأييده ، يجدر بالمحقق أن يقف عليها ، وهاك خلاصتها : قال : الكتاب الحكيم يأمر الإنسان كثيرا بأن يضحي قسما من حياته في السياحة والتسيار ، لأجل اكتشاف الآثار ، والوقوف على أخبار الأمم البائدة ليكون ذلك مثال عظة واعتبار ، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد .

    ولا أريد أن أحشر لقارئ تلك الآيات ، فإن ذلك يؤدي إلى التطويل ، بل أريد أن أجتزئ منها بما يكفل ثبوت الدعوى ، وذلك في قوله تعالى : السائحون في هذه الآية ، ولم يقع لفظ ( سائحون ) في القرآن الكريم إلا هذه المرة الفذة .

    ومع ذلك فقد تغلب عليها أهل التفسير ، فمنهم من قال هم الصائمون ، ومنهم من قال غيره .

    والصحيح أن السائحون معناه السائرون ، مأخوذا من السيح وهو الجري على وجه الأرض ، والذهاب فيها ، وهذه المادة تشعر بالانتشار .

    يقال : ساح الماء أي : جرى وانتشر ، والسيح أيضا الماء الجاري الذاهب في وجه الأرض .

    ويطلق السائح على معنى يضاد الجامد ، وهو الماء المسفوح ، لأنه بانمياعه ينتشر في وعائه .

    وقد عهدنا بألفاظ القرآن أنها يجب حملها على ظواهرها ، وعلى معانيها الحقيقية ، اللهم ما لم يمنع مانع عقلي ، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة وعليه فيجب حمل لفظ السائحون على معناه الظاهر الحقيقي ، وهو السائرون الذاهبون في الديار ، لأجل الوقوف على الآثار ، تواصلا للعظة بها والاعتبار ، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ .

    وكذلك عهدنا بالمعنى المجازي أنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي ، في حال أن الأمر هنا بالعكس ، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي ، وذلك مثل آية : سيروا [ ص: 3277 ] أولم يسيروا أفلم يسيروا فسيروا وآخرون يضربون في الأرض ومن يهاجر في سبيل الله الآية .

    فهذه الآيات هي قرائن نيرة تؤذن بأن السيح معناه السير ، فإنها وإن تكن من مادة أخرى ، إلا أن معناه يلاقي معنى السيح ، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة ، وذلك كآية : فسيحوا في الأرض أربعة فكلمة سيحوا هنا تفسر السائحون في الآية هذه ، وهم يقولون : خير ما فسرته بالوارد .

    وبالجملة ، فصرف هذا اللفظ عن ظاهره تكسيل للأمة ، وتدبير على فتور همتها ، وضعف نشاطها ، وحيلولة بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة ، ورؤية عمران المسكونة ، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين ، وفيه ستر لنور الكتاب الذي هو أول مرشد للعالم ألا يألوا جهدا في السير والسياحة ، وأن ينقلب في البلاد أي : تنقيب .

    وسيأتي تتمة لهذا في تفسير آية : سائحات في سورة التحريم إن شاء الله تعالى .

    قال الرازي : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس ، لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس ، [ ص: 3278 ] فلا بد له من الصبر عليها ، وقد يلقى أفاضل مختلفين ، فيستفيد من كل ما ليس عند الآخر .

    وقد يلقى الأكابر من الناس ، فيحقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة ، فينتفع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحول الخاصة بهم ، فتقوى معرفته .

    وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين . انتهى .

    وقال بعضهم : لا يعزب عنك أيها اللبيب أنه تعالى حث بني الإنسان على السفر في محكم كتابه العزيز ، وندد على من ارتدا منهم رداء الكسل ، وأوقع نفسه في وهدة الخمول ، وتلذذ بالتقاعد عن جوب البلاد ، وقطع الوهاد ، فقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها وقال صلى الله عليه وسلم : « سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا » .

    وقد تكلم كثير من العلماء والحكماء والأدباء على مزايا السفر نظما ونثرا .

    ومن أجل فوائده زيادة علمه ، وانتفاع غيره بما يعلمه وما يكتسبه ، ومنها ، وهو أعظمها ، رضا ربه ، ومزيد ثوابه بنفعه لعباده ، وأحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده .

    وكذلك باتعاظه بأحوال الناس ، واعتباره بأمورهم ، واطلاعه في ساحته على الأسرار المكنونة ، والحكم التي دبر الله بها أمر المخلوقات وأحكم بها صنع الكائنات .

    فمن وقف على سر الخالق زاد في تعظيمه وتقرب إليه بالطاعة والامتثال لأوامره ونواهيه ، وليس بخاف ما وقع للأنبياء والمرسلين ، والصحابة والتابعين ، والأولياء والصالحين ، من التنقلات والأسفار ، في القرى والأمصار ، للنظر والاعتبار .

    [ ص: 3279 ] الثاني : قال القاضي : إنما جعل ذكر الركوع والسجود ، كناية عن الصلاة ، لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة ، هو قيامه وقعوده ، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود ، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره .

    ويمكن أن يقال : القيام أول مراتب التواضع لله تعالى ، والركوع وسطها ، والسجود غايتها . فخص الركوع والسجود بالذكر ، لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية ، وتنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم . ذكره الرازي .

    الثالث : ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوها :

    فأما الأول : أعني قوله تعالى : والناهون عن المنكر فقالوا : سر العطف فيه إما الدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة ، وصفة واحدة ، لأن بينهما تلازما في الذهن والخارج ، لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر ، لأن أحدهما طلب فعل ، والآخر طلب ترك ، فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف ، بخلاف ما قبلهما ، أو لأنه لما عدد صفاتهم ، عطف هذين ليدل على أنه شيء واحد ، وخصلة واحدة ، والمعدود مجموعهما ، كأنه قيل : الجامعون بين الوصفين ، أو العطف لما بينهما من التقابل ، أو لدفع الإيهام ، وهذا معنى قول ( " المغني " ) : الظاهر أن العطف في هذا الوصف إنما كان من جهة أن الأمر والنهي من حيث أمر ونهي ، متقابلان بخلاف بقية الصفات ، أو لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر ، وهو ترك المعروف ، والناهي عن المنكر آمر بالمعروف . فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين ، وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر .

    وأما الثاني : أعني قوله تعالى : والحافظون لحدود الله فقيل : سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبع ، من حيث إن السبعة هو العدد التام ، والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ، ولذلك تسمى ( واو الثمانية ) ونظر فيه بأن الدال على التمام لفظ [ ص: 3280 ] ( سبعة ) لاستعماله في التكثير ، لا معدوده .

    والقول بواو الثمانية ذكروه في قوله تعالى : سبعة وثامنهم كلبهم وضعفه في ( " المغني " ) .

    وقيل : سر العطف التنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل ، وهذا مجملها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفا ، نحو: زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله ، بالإجمال والتفصيل ، والعموم ، والخصوص ، عطف عليه .

    وقيل : بقوة الجامع بالتلازم ، لأن من حصل الأوصاف السابقة ، فقد حفظ حدود الله .

    وقيل : المراد بحفظ الحدود ظاهره ، وهي إقامة الحدود ، كالقصاص على من استحقه .

    والصفات الأولى إلى قوله : الآمرون صفات محمودة للشخص في نفسه ، وهذه له باعتبار غيره ، فلذا تغير تعبير الصنفين ، فترك العاطف في القسم الأول ، وعطف في الثاني .

    ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ، ترك فيها العطف لشدة الاتصال ، بخلاف هذه ، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به .

    وهذا هو الداعي لإعراب التائبون مبتدأ موصوفا بما بعده ، والآمرون خبره .

    فكأنه قيل : الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم ، وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملا في نفسه ، وبهذا اتسق النظم أحسن نسق من غير تكلف ، والله أعلم بمراده . كذا في ( " العناية " ) و ( " حواشي المغني " ) .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 113 - 114 ] ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى [ ص: 3281 ] من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم .

    ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم

    لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة ، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيدا ، حيث نهى عن الاستغفار لهم بعد تبين شركهم وكفرهم ، لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة ، حتى مع الأقرباء ، لأن قرابتهم وإن أفادتهم المناسبة بهم والرحمة بهم ، فلا تفيدهم قبول نور الاستغفار إن الله لا يغفر أن يشرك به فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده .

    ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه ، أنه كان لأجل وعد تقدم منه له ، بقوله : سأستغفر لك ربي وقوله : لأستغفرن لك وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك فلما تبين له ذلك تبرأ منه أي : من أبيه بالكلية ، فضلا عن الاستغفار له .

    وبين تعالى الحامل لإبراهيم على الاستغفار ، بأنه فرط ترحمه وصبره بقوله : إن إبراهيم لأواه أي : كثير التأوه من فرط الرحمة ، ورقة القلب حليم أي : صبور على ما يعترضه من الإيذاء ، ولذلك حلم عن أبيه ، مع توعده له بقوله :

    لئن لم تنته لأرجمنك واستغفر له بقوله : سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وذلك قبل التبيين ، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك .

    وفي الآية تأكيد لوجوب الاجتناب بعد التبيين ، بأنه صلى الله عليه وسلم تبرأ من أبيه بعد التبيين ، وهو في كمال رقة القلب والحلم ، فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابا وتبرؤا .

    [ ص: 3282 ] تنبيهات :

    الأول : ساق المفسرون ههنا روايات عديدة في نزول الآية ، ولما رآها بعضهم متنافية ، حاول الجمع بينها بتعدد النزول ، ولا تنافي ، لما قدمناه من أن قولهم ( نزلت في كذا ) قد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع من كذا بمعنى أن نزولها يتناوله . وقد يراد به أن كذا كان سببا لنزولها ، وما هنا من الأول ، ونظائره كثيرة في التنزيل ، وقد نبهنا عليه مرارا ، لا سيما في المقدمة . فاحفظه .

    الثاني : قال عطاء بن أبي الرباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنى ، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين ، ثم قرأ الآية . وهذا فقه جيد .

    الثالث : قال بعض اليمانيين : استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل . وهذا يحكى عن أبي جعفر : إذا قال : ( آه ) لم تبطل صلاته ، لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك ، ومذهب الأئمة بطلانها ، سواء قال : ( آه ) أو ( أوه ) ، لأن ذلك من كلام الناس ، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة . انتهى .

    الرابع : قال في ( " العناية " ) : ( أواه ) فعال للمبالغة من ( التأوه ) ، وقياس فعله أن يكون ثلاثيا ، لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه وحكى قطرب له فعلا ثلاثيا ، وهو ( آه يؤوه ) ، كقام يقوم ، أوها ، وأنكر عليه غيره بأن لا يقال إلا أوه وتأوه قال :


    إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين


    [ ص: 3283 ] والتأوه قول ( آه ) ونحوه مما يقوله الحزين ، فلذا كني به عن الحزن ، ورقة القلب . انتهى .

    و ( أوه ) بفتح الواو المشددة ساكنة الهاء ، وأواه ، وأوه بسكون الواو ، والحركات الثلاث قال :


    فأوه على زيارة أم عمرو فكيف مع العدا ومع الوشاة ؟


    وربما قلبوا الواو ألفا ، فقالوا : آه من كذا قال :


    آه من تياك آها تركت قلبي متاها


    و ( آه ) بكسر الهاء منونة وحكي أيضا آها وواها ، وفيها لغات أخرى أوصلها " التاج " إلى اثنتين وعشرين لغة ، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن ، مبنيات على ما لزم آخرها إلا ( آها ) ، فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر ، كأنه قيل : أتأسف تأسفا .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 115 ] وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم .

    وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون هذا من تتمة ما تقدم من تأكد مباينة المشركين ، والبراءة منهم ، وترك الاستغفار لهم ، وذلك لأنهم حقت عليهم الكلمة ، حيث قامت عليهم الحجة بإبلاغ الرسول إليهم ما يتقون ، ودلالته إياهم على الصراط السوي فضلوا عنه ، فأضلهم الله ، واستحقوا عقابه .

    [ ص: 3284 ] وقوله تعالى : إن الله بكل شيء عليم تعليل لما سبق ، أي : إنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل بمعرفته ، فبين لهم ذلك ، كما فعل هنا .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 116 ] إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير .

    إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير تقوية لما تقدم من التبرؤ منهم ، وإرشاد للمؤمنين بأن يتكلوا على ربهم ، ولا يرهبوا من أولئك ، فإنه إذا كان ناصرهم فلا يضرهم كيدهم ، وتنبيه على لزوم امتثال أمره ، والانقياد لحكمه ، والتوجه إليه وحده ، إذ لا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه تعالى .

    تنبيه :

    وقف كثير من المفسرين في الآية هنا ، أعني قوله تعالى : وما كان الله ليضل قوما الآية ، على ما روي في الآية قبلها ، من نزولها في استغفار وقع من المؤمنين للمشركين ، فربطوا هذه الآية بتلك ، على الرواية المذكورة ، ونزلوها على المؤمنين ، فقالوا : وما كان الله ليضل قوما أي : ليحكم عليهم باستغفارهم للمشركين بالضلال بعد إذ هداهم بالنبوة والإيمان ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه ، فتتركوا ، فأما إذا لم يبين فلا ضلال ، إلى آخر ما قالوه . . . .

    وما أبعده من تفسير وتأويل الرازي ذكره وجها ، وأشفعه بما اعتمدناه ، وهو الحق .
    [ ص: 3285 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 117 ] لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم .

    لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم

    اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك ، مؤمنهم ومنافقهم ، والمنفق لها طوعا أو كرها ، والمرغب فيها أو عنها ، والمتخلف نفاقا أو كسلا ، وأنبأ عما لحق كلا من الوعد والوعيد ، وميز الصادقين من غيرهم ، ختم بفرقة منهم كانوا تخلفوا ميلا للدعة وهم صادقون في إيمانهم ، ثم ندموا فتابوا وأنابوا ، وعلم الله صدق توبتهم ، فقبلها ، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية ، وصدرها بتوبته على رسوله ، وكبار صحبه جبرا لقلوبهم ، وتنويها لشأنهم بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم وبعثا للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرين والأنصار ، كل على حسبه ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأنها صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء ، كما وصفهم بالصالحين ، ليظهر فضيلة الصلاح والوصف للمدح ، كما يكون لمدح الموصوف ، يكون لمدح الصفة ، وهذا من لطائف البلاغة ، وهو كما قال حسان رضي الله عنه :


    ما إن مدحت محمدا بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمد


    وفي الآية بيان فضل المهاجرين والأنصار .

    [ ص: 3286 ] قال الحاكم : ودلت على فضل عثمان ، لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه ، وقد جمع تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم ، ووصفهم باتباعه ، فوجب القطع بموالاتهم .

    وقوله تعالى : في ساعة العسرة أي : في وقتها ، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق ، كما تستعمل الغداة والعشية واليوم ، والعسرة حالهم في غزوة تبوك ، كانوا في عسرة من الظهر ، يعتقب العشرة على بعير واحد ، وفي عسرة من الزاد ، حتى إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتدالون التمرة بينهم ، يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، ثم يمصها الآخر ، ثم يشرب عليها : وفي عسرة من شدة لهبان الحر ومن الجدب ، وفي عسرة من الماء ، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره ، فعصر فرثه فشربه ، وجعل ما بقي على كبده .

    وقد حكى القالي في " أماليه " أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها ، سقوا الإبل على أتم أظمائها ثم قطعوا مشافرها ، أو خزموها لئلا ترعى ، فإذا احتاجوا إلى الماء افتظوا كروشها ، فشربوا ثميلها ، وهو كثير في الأشعار . كذا في ( " العناية " ) .

    ونقل الرازي عن أبي مسلم ، أنه يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة ، جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول ، وعلى المؤمنين ، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها .

    وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وقوله : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوقات الشديدة ، والأحوال الصعبة ، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم . انتهى .

    [ ص: 3287 ] أقول هذا الاحتمال ، وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم ، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية ، وسباقها ، القاصران على غزوة تبوك ، ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج ، واتباعه عليه السلام ، بل وقع أحيانا في مصاف القتال .

    وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها ( غزوة العسرة ) ، ومن خرج فيها ( جيش العسرة ) .

    وقوله تعالى : من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم أي : عن الحق ، أو الثبات على الإتباع للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم .

    وفي تكرير التوبة عليهم بقوله تعالى : ثم تاب عليهم تأكيد ظاهر ، واعتناء بشأنها ، هذا إذا كان الضمير راجعا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم ، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني ، فلا تكرار .

    قال بعضهم : ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب ، تفضلا منه ، وتطييبا لقلوبهم . ثم ذكر الذنب بعد ذلك ، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم . ثم أتبعه بقوله : إنه بهم رءوف رحيم تأكيدا لذلك .

    وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 118 ] وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم .

    وعلى الثلاثة الذين خلفوا أي : تركوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال ، كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم ، والثلاثة هم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وكلهم من الأنصار ، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بتوبتهم .

    وقوله تعالى : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي : مع سعتها ، وهو مثل الحيرة في أمرهم ، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقرون فيه ، قلقا وجزعا مما هم فيه ، إذ لم يمكنهم [ ص: 3288 ] الذهاب لأحد ، لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من مجالستهم ومحادثتهم . و ( إذا ) ، يجوز كونها شرطية جوابها مقدر ، وأن تكون ظرفية غاية لما قبلها .

    وضاقت عليهم أنفسهم أي : قلوبهم من فرط الوحشة والجفوة والغم ، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وذلك لأنهم لازموا بيوتهم ، وهجروا نحوا من خمسين ليلة ، وفيه ترق من ضيق الأرض إلى ضيقهم في أنفسهم ، وهو في غاية البلاغة وظنوا أي : علموا أن لا ملجأ من الله أي : لا مفر من غضب الله إلا إليه أي : إلى استغفاره ثم تاب عليهم ليتوبوا أي : ليستقيموا على توبتهم ، ويستمروا عليها ، أو ليعدوا من جملة التائبين ، أو المعنى : قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل ، إذا صدرت منهم هفوة ، ولا يقنطوا من كرمه : إن الله هو التواب الرحيم
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 119 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين .

    يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين أي : في إيمانهم ومعاهدتهم لله ولرسوله على الطاعة ، من قوله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه أو هم الثلاثة ، أي : كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم .

    تنبيهات :

    الأول : روى الإمام أحمد والشيخان حديث كعب وصاحبيه مبسوطا بما يوضح هذه الآية :

    قال الزهري : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه - وكان قائد كعب من بنيه ، حين عمي - قال : سمعت كعبا يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 3289 ] في غزوة تبوك .

    قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط ، إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ، ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .

    ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، حين توافقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر .

    وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط ، حتى جمعتهما في تلك الغزاة .

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها ، إلا ورى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز ، واستقبل عدوا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ، ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم وجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان ـ .

    قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل .

    وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة ، حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر - أي : أميل - فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا ، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا ، والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، وقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ، ثم ألحقه ، فغدوت بعد لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فألحقهم - وليتني فعلت - ثم لم يقدر ذلك لي .

    فكنت إذا خرجت في الناس ، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذره الله عز وجل . ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك . فقال وهو جالس في القوم بتبوك : « ما فعل كعب بن مالك ؟ » فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه ، والنظر في عطفيه ! فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت . والله ! يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 3290 ] قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك ، حضرني بثي أتذكر الكذب ، وأقول : بم أخرج من سخطته غدا ؟ وأستعين على ذلك بك ذي رأي من أهلي .

    فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما ، زاح عن الباطل ، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس - فلما فعل ذلك ، جاءه المتخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم رسول الله علانيتهم ، ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي : « تعال ! » فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : « ما خلفك ؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرا ؟ » فقلت يا رسول الله ! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر . لقد أعطيت جدلا ، ولكني ، والله لقد علمت ، لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ، ليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه ، إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل . والله ما كان لي عذر ، والله ! ما كنت قط أفزع ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #394
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ التوبة
    المجلد الثامن
    صـ 3291 الى صـ 3305
    الحلقة (393)


    قال : فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك ! » فقمت ، وقام إلي رجال من بني سلمة ، واتبعوني ، فقالوا لي : والله ! ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك .

    قال : فوالله ! ما زالوا حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي .

    قال : ثم قلت لهم : هل لقي معي هذا أحد ؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك . قلت : فمن هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العامري ، وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا ، لي فيهما أسوة .

    [ ص: 3291 ] قال : فمضيت حين ذكروهما لي .

    فقال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا ، أيها الثلاثة ، من بين من تخلف . فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة .

    فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأسلم وأقول في نفسي : أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني .

    حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين ، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي ، وأحب الناس إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني ، فسلمت عليه ، فوالله ! ما رد علي السلام . فقلت له : يا أبا قتادة ! أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال فسكت .

    قال : فعدت له فنشدته فسكت ، فعدت له فنشدته فسكت ، فقال : الله ورسوله أعلم . قال ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار . فبينما أنا أمشي بسوق المدينة ، إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ، ممن قدم بطعامه يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ قال فطفق الناس يشيرون إلي ، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان ، وكنت كاتبا ، فإذا فيه :

    أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك .

    قال - فقلت حين قرأته - : وهذا أيضا من البلاء .

    قال : فتيممت به التنور فسجرته به . حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين ، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول : [ ص: 3292 ] يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك . قال : فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال : بل اعتزلها ولا تقربها .

    قال : وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك . قال : فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء ! قال : فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! إن هلالا شيخ ضعيف ، ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : لا ، ولكن لا يقربك ! قالت : وإنه والله ! ما به من حركة إلى شيء ، وإنه والله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا .

    قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه . قال : فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقوله فيها إذا استأذنته ، وأنا رجل شاب .

    قال : فلبثنا عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين انتهى عن كلامنا .

    قال : ثم صليت صلاة الصبح ، صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا ، قد ضاقت علي نفسي ، وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع ، يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك ! قال : فخررت ساجدا ، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا ، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض إلي رجل فرسا ، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه .

    والله ـ ما أملك يومئذ غيرهما - واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بتوبة الله ، يقولون : ليهنك توبة الله عليك ! حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ، والناس حوله ، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول ، حتى صافحني وهنأني ـ والله ! ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره - قال : [ ص: 3293 ] فكان كعب لا ينساها لطلحة .

    قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ وهو يبرق وجهه من السرور ـ : « أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ! » قال ، قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : « لا ، بل من عند الله » . قال ، وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه ، حتى كأنه قطعة قمر ، حتى يعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي ، صدقة إلى الله وإلى رسوله . قال : « امسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك » . قال ، فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت . قال ، فوالله ! ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث ، منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن مما أبلاني الله تعالى . والله ! ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي .

    قال ، وأنزل الله : لقد تاب الله إلى آخر الآيات .

    قال كعب : فوالله ! ما أنعم علي من نعمة قط ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي ، شر ما قال لأحد . فقال الله تعالى : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين

    قال : وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوا ، فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو ، وإنما هو تخليفه إيانا ، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له ، واعتذر إليه ، فقبل منه .


    [ ص: 3294 ] وفي رواية : ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي ، وكلام صاحبي ، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا ، فاجتنب الناس كلامنا ، فلبث كذلك حتى طال علي الأمر ، فما من شيء أهم إلي من أن أموت ، فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون بتلك المنزلة ، فلا يكلمني أحد منهم ، ولا يصلي علي ، ولا يسلم علي .

    قال : وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة ، وكانت أم سلمة محسنة في شأني ، معتنية بأمري . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك » . قالت : أفلا أرسل إليه فأبشره ؟ قال : « إذا فيحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل » .

    حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ، آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا
    - أخرجه البخاري ومسلم - .

    قال ابن كثير : هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته ، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها .

    الثاني : قال بعض المفسرين : في الآية دليل على الشدة على من فعل الخطيئة وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة .

    الثالث : في الآية دليل على التحريض على الصدق .

    قال القاشاني : في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أي : في جميع الرذائل بالاجتناب عنها ، خاصة رذيلة الكذب ، وذلك معنى قوله : وكونوا مع الصادقين فإن الكذب أسوء الرذائل وأقبحها ، لكونه ينافي المروءة ، وقد قيل : لا مروءة لكذوب ، إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان إخبار الغير عما لا يعلم ، فإذا كان الخبر غير مطابق ولم تحصل فائدة النطق ، وحصل منه اعتقاد غير مطابق ، وذلك من خواص الشيطنة فالكذاب شيطان . وكما أن الكذب أقبح الرذائل ، فالصدق أحسن الفضائل ، وأصل كل حسنة ، ومادة كل خصلة محمودة ، وملاك كل خير وسعادة، وبه يحصل كل كمال ، [ ص: 3295 ] وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه ، كما قال : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في عقد العزيمة ، ووعد الخليقة . كما قال في إسماعيل :

    إنه كان صادق الوعد

    وإذا روعي في المواطن كلها ، حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل ، صدقت المنامات والواردات ، والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات ، كأنه أصل شجرة الكمال ، وبذرة ثمرة الأحوال . انتهى .

    ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين ، أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب كفاية ، فلا يجوز تخلف الجميع ، ولا يلزم النفر للناس كافة ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 120 ] ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين .

    ما كان لأهل المدينة أي : المتيسر لهم ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله أي : عند توجهه إلى الغزو ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أي : لا يضنوا بأنفسهم عما يصيب نفسه ، أي : لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد .

    قال الزمخشري : أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يكابدوا معه الأهوال [ ص: 3296 ] برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه ، علما بأنها أعوز النفس عند الله وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت ، مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيموا لها وزنا ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه .

    وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية . انتهى .

    روي أن أبا ذر رضي الله عنه ، أبطأ به بعيره ، فحمل متاعه على ظهره ، واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده : « كن أبا ذر ! » فقال الناس : هو ذاك ! فقال : « رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده » .

    وروي أن أبا خيثمة الأنصاري رضي الله عنه ، بلغ بستانه ، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل ، وبسطت له الحصير ، وقربت إليه الرطب ، والماء البارد .

    فنظر فقال : ظل ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، وامرأة حسناء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ، ما هذا بخير ! فقام فرحل ناقته ، وأخذ سيفه ورمحه ، ومر كالريح . فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق ، فإذا براكب يزهاه السراب ، فقال : « كن أبا خيثمة ! » فكانه ، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستغفر له .


    قال السهيلي في ( " الروض " ) : كن أبا ذر ، كن أبا خيثمة ، لفظه لفظ الأمر ، ومعناه كما تقول : أسلم ، أي : سلمك الله . انتهى .

    [ ص: 3297 ] وكذا قال غيره من المتقدمين كالفارسي ، وذكره المطرزي في قول الحريري : كن أبا زيد .

    وفي شعر ابن هلال :


    ومعذر قال الإله لحسنه : كن فتنة للعالمين فكانها


    ولم يزيدوا في بيانه على هذا ، وهو تركيب بديع غريب ، ومعناه ساقه الله إلينا . وجعله إياه ، ليكون هو القادم علينا ، فأقيم فيه العلة مقام المعلول في الجملة الدعائية الإنشائية ، على حد قوله في الحديث : « أبل وأخلق » . أي : عمرك الله ، ومتعك الله بلباسك لتبلى وتخلق .

    وقولهم : أسلم . أي : سلمك الله لتسلم ، ثم لما أقيم مقامه أبقي مسندا إلى فاعله ، وإن كان المطلوب منه هو الله ، وهو قريب من قولهم : ( أرينك ههنا ) ، أي : لا تجلس حتى أراك ، وهو تمثيل أو كناية . كذا في ( " العناية " ) .

    ذلك إشارة إلى ما دل عليه قوله ( ما كان ) من النهي عن التخلف أو وجوب المشابهة بأنهم أي : بسبب أنهم : لا يصيبهم ظمأ أي : شيء من العطش : ولا نصب أي : تعب من السير لا سيما مع العطش ولا مخمصة أي : مجاعة تضعفهم عن السير : في سبيل الله ولا يطئون موطئا أي : لا يدوسون مكانا يغيظ الكفار أي : الذين هم أعداء الله ، وإغضاب العدو يفيد رضا عدوه ولا ينالون من عدو نيلا أي : قتلا أو هزيمة أو سرا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين أي : على إحسانهم . وهو تعليل لـ : ( كتب ) ، وتنبيه على أن تحمل المشاق إحسان ، لأن القصد به إعلاء كلمة الله تعالى .
    [ ص: 3298 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 121 ] ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون .

    ولا ينفقون نفقة صغيرة أي : لا يشق مثلها ولا كبيرة مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في غزوة تبوك ، وهو ألف دينار وثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها ولا يقطعون واديا في مسيرهم ، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل ، اسم فاعل من ( ودي ) ، إذا سال ، فهو السيل نفسه ، ثم شاع في محله ، ثم صار حقيقة في مطلق الأرض ، وجمعه ( أودية ) كناد بمجلس ، جمعه ( أندية ) وناج جمعه ( أنجية ) ، ولا رابع لها في كلام العرب إلا كتب لهم أي : أثبت لهم به عمل صالح ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون أي : ليجزيهم على كل عمل لهم ، كامل أو قاصر ، جزاء أحسن أعمالهم . أي : فإذا مالوا بأنفسهم فاتهم ذلك ، وكانت المؤاخذة عليهم أشد .

    ولما بين تعالى ، فيما تقدم ، خطر التخلف عن الرسول في الجهاد ، وشدد الوعيد على المتخلفين التاركين للنفير ، دفع ما يتوهم من وجوب النفر على الجميع ، وفيه ما فيه من الحرج ، والإخلال بأمر المعاش ، بأن وجوبه كفائي ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 122 ] وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون .

    وما كان المؤمنون لينفروا كافة أي : ما صح ولا استقام ، بحيث تخلو بلدانهم عن الناس فلولا نفر أي : فحين لم يمكن نفير الكافة ، ولم يكن مصلحة ، فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة أي : من كل جماعة كثيرة ، جماعة قليلة منهم [ ص: 3299 ] يكفونهم النفير : ليتفقهوا في الدين أي : ليتعلموا أمر الدين من النبي صلى الله عليه وسلم ولينذروا قومهم أي : يعلموهم ويخبروهم ما أمروا به ، وما نهوا عنه : إذا رجعوا إليهم أي : من غزوتهم لعلهم يحذرون أي : فيصلحون أعمالهم .

    تنبيهات :

    الأول : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : في الآية أن الجهاد فرض كفاية ، وأن التفقه في الدين ، ونشر العلم ، وتعليم الجاهلين كذلك ، وفيها الرحلة في طلب العلم .

    واستدل بها قوم على قبول خبر الواحد ، لأن الطائفة نفر يسير ، بل قال مجاهد : إنها تطلق على الواحد . انتهى .

    وقال الجصاص في ( " الأحكام " ) : في الآية دلالة على لزوم خبر الواحد في الديانات التي لا تلزم العامة ، ولا تعم الحاجة إليها ، وذلك لأن الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحوى الدلالة عليه من وجهين :

    أحدهما : أن الإنذار يقتضي فعل المأمور به ، وإلا لم يكن إنذارا .

    والثاني : أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة ، لأن معنى قوله : لعلهم يحذرون ليحذروا ، وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد ، لأن الطائفة تقع على الواحد ، فدلالتها ظاهرة . انتهى .

    وفي " القاموس " : أن الطائفة من الشيء القطعة منه ، أو الواحدة فصاعدا ، أو إلى الألف ، أو أقلها رجلان ، أو رجل ، فيكون بمعنى ( النفس الطائفة ) .

    قال الراغب : إذا أريد بالطائفة الجمع ، فجمع ( طائف ) ، وإذا أريد به الواحد ، فيصح أن يكون جمعا ، وكني به عن الواحد ، وأن يجعل كـ ( راوية ) و ( علامة ) ، ونحو ذلك .

    الثاني : إن قيل : كان الظاهر في الآية : ليتفقهوا في الدين وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون ، فلم وضع موضع ( التعليم ) الإنذار ، وموضع ( يفقهون ) يحذرون ؟ [ ص: 3300 ] يجاب : بأن ذلك آذن بالغرض منه ، وهو اكتساب خشية الله ، والحذر من بأسه .

    قال الغزالي رحمه الله : كان اسم الفقه في العصر الأول ، اسما لعلم الآخرة ، ومعرفة دقائق آفات النفوس ، ومفسدة الأعمال ، والإحاطة بحقارة الدنيا ، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة ، واستيلاء الخوف على القلب ، ويدل عليه هذه الآية . كذا في ( " العناية " ) .

    قال الزمخشري في الآية : وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه ، إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ، ويؤمونه من المقاصد الركيكة ، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد ، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ، ومنافسة بعضهم بعضا ، وفشو داء الضرائر بينهم ، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر ، أو شرذمة جثوا بين يديه ، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم . فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل :

    لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا انتهى .

    الثالث : قال القاشاني في الآية : يجب على كل مستعد من جماعة ، سلوك طريق طلب العلم ، إذا لا يمكن لجميعهم ، أما ظاهرا فلفوات المصالح ، وأما باطنا فلعدم الاستعداد .

    ثم قال : والتفقه في الدين هو من علوم القلب ، لا من علوم الكسب ، إذ ليس كل من يكتسب العلم يتفقه ، كما قال : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه والأكنة هي الغشاوات الطبيعية ، والحجب النفسانية فمن أراد التفقه فلينفر في سبيل الله ، وليسلك طريق التزكية والتصفية ، حتى يظهر العلم من قلبه على لسانه ، فالمراد من التفقه علم راسخ في القلب ، ضارب بعروقه في النفس ، ظاهر أثره على الجوارح ، بحيث لا يمكن صاحبه ارتكاب ما يخالف ذلك العلم ، وإلا لم يكن عالما .

    ألا ترى كيف سلب الله الفقه عمن لم تكن رهبة [ ص: 3301 ] الله أغلب عليه من رهبة الناس بقوله : لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لكون رهبة الله لازمة للعلم ، كما قال : إنما يخشى الله من عباده العلماء وسلب العلم عمن لم يعمل به في قوله : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإذا تفقهوا ، وظهر علمهم على جوارحهم ، أثر في غيرهم ، وتأثروا منه ، لارتوائهم به ، وترشحهم منه ، كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلزم الإنذار الذي هو غايته . انتهى .

    ولما أمر تعالى في صدر السورة ، بالبراءة من مشركي العرب وقتالهم ، ثم شرح أحوال المنافقين ومخازيهم ، أشار إلى خاتمتها بما يطابق فاتحتها بذلك ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 123 ] يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين .

    يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار أي : يقربون منكم ، وهم مشركو جزيرة العرب ، كما قلنا .

    وقوله تعالى : وليجدوا فيكم غلظة قالوا إنها كلمة جامعة للجرأة والصبر على القتال ، وشدة العداوة ، والعنف في القتل والأسر .

    وظاهرها أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين غلظة ، والمقصود أمر المؤمنين بالاتصاف بصفات كالصبر وما معه ، حتى يجدهم الكفار متصفين بها ، فهي على حد قولهم : لا أرينك ههنا .

    والغلظة هي ضد الرقة ، مثلثة الغين ، وبها قرئ . لكن السبعة على الكسر

    واعلموا أن الله مع المتقين أي : بالنصرة والمعونة .
    [ ص: 3302 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 124 ] وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون .

    وإذا ما أنـزلت سورة أي : طائفة من القرآن المعجز المحيط بجملة من الحجج ورفع الشبه فمنهم أي : من المنافقين من يقول بعضهم لبعض ، أيكم زادته هذه أي : السورة إيمانا إنكارا واستهزاء بالمؤمنين ، واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا لأنها أزيد لليقين والثبات ، وأثلج للصدر ، لكثرة الدلائل ، ورفع الشبه وهم يستبشرون أي : بنزولها وبما فيه من المنافع الدينية والدنيوية .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 125 ] وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون .

    وأما الذين في قلوبهم مرض أي : كفر وسوء عقيدة فزادتهم رجسا إلى رجسهم أي : كفرهم بها مضموما إلى الكفر بغيرها وماتوا وهم كافرون أي : واستحكم ذلك الكفر فيهم ، بسبب الزيادة إلى موتهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 126 ] أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون .

    أولا يرون يعني المنافقين أنهم يفتنون أي : يبتلون بإظهار مكرهم وخيانتهم ، [ ص: 3303 ] أو بنقض عهدهم في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون أي : من صنيعهم ونقض عهدهم ولا هم يذكرون أي : يتعظون بأنها آيات قاطعة ، وكون الابتلاء بسبب مخالفتها .

    ثم بين أحوالهم عند نزولها وهم في محفل تبليغ الوحي ، إثر بيان مقالتهم ، وهم غائبون عنه بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 127 ] وإذا ما أنـزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون .

    وإذا ما أنـزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد

    قال الزمخشري : يعني تغامزوا بالعيون إنكارا للوحي ، وسخرية به ، قائلين : هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نصبر على استماعه ، ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا . يقولون : هل يراكم من أحد ثم انصرفوا أي : عن محفل الوحي خوفا من الافتضاح صرف الله قلوبهم أي : عن الإيمان حسب انصرافهم عن حضرته عليه السلام .

    والجملة إخبارية أو دعائية بأنهم أي : بسبب أنهم قوم لا يفقهون أي : لا يتدبرون أمر الله حتى يفقهوا .

    تنبيهات :

    الأول : دلت الآية المتقدمة على زيادة الإيمان بما ذكر ، وسواء قلنا بدخول الأعمال في مسمى الإيمان ، وهو الحق أو لا ، وأنه مجرد التصديق القلبي ، فالزيادة مما يقبلها قطعا ، والأول بديهي ، والثاني مثله ، إذ ليس إيمان الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، والصحابة رضي الله عنهم ، كإيمان غيرهم وهذا مما لا يرتاب فيه .

    الثاني : ذكر تعالى من مخازي المنافقين نوعين : عدم اعتبارهم بالابتلاء ، وتمكن الكفر [ ص: 3304 ] منهم ، وازدياده في وقت يقتضي زيادة الإيمان ، وهو تكرير التنزيل .

    ولما كان القصد بيان إصرارهم على كفرهم ، وعدم نفع العظات فيهم ، ختم مخازيهم بذلك ، لأنه نتيجتها ، وقدم عليه ما يصيبهم من الابتلاء ، لأن فيه ردعا عظيما لو تذكروا .

    وقد تلطف القاشاني في إيضاح ذلك ، وجود التقرير فيه ، وعبارته :

    البلاء قائد من الله تعالى يقود الناس إليه ، وقد ورد في الحديث : « البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه » ، فإن كل مرض وفقر وسوء حال يحل بأحد ، بكسر سورة نفسه وقواها ، ويقمع صفاتها وهواها ، فيلين القلب ، ويبرز من حجابها ، وينزعج من الركون إلى الدنيا ولذاتها ، وينقبض منها ويشمئز ، فيتوجه إلى الله .

    وأقل درجاته أنه إذا اطلع على أن لا مفر منه إلا إليه ، ولم يجد مهربا ومحيصا من البلاء سواه ، تضرع إليه وتذلل بين يديه ، كما قال : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما

    وبالجملة يوجب رقة الحجاب أو ارتفاعه ، فليغتنم وقته وليتعوذ ، وليتخذ ملكة يعود إليها أبدا حتى يستقر التيقظ والتذكر ، وتتسهل التوبة والحضور ، فلا يتعود الغفلة عند الخلاص فتغلب ، وتتقوى النفس عند الأمان ، وينسبل الحجاب أغلظ مما كان ، كما قال : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه انتهى .

    الثالث : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : أخذ ابن عباس من قوله : ثم انصرفوا كراهية أن يقال : انصرفت من الصلاة - أخرجه ابن أبي حاتم - .

    ومرجع هذا إلى أدب لفظي ، باجتناب ما يوهم ، أو ما نعي به على العصاة .

    [ ص: 3305 ] وقد عقد الإمام ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) فصلا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق ، واختيار الألفاظ ، فليراجع .

    ثم بين تعالى ما امتن به على المؤمنين من بعثة خاتم النبيين بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 128 ] لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .

    لقد جاءكم رسول من أنفسكم أي : رسول عظيم من جنسكم ، ومن نسبكم ، عربي قرشي مثلكم ، كما قال إبراهيم عليه السلام : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم وقال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم

    وكلم جعفر بن أبي طالب النجاشي ، والمغيرة بن شعبة رسول كسرى ، فقالا :

    إن الله بعث فينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته . الحديث .

    ثم ذكر تعالى ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله : عزيز عليه ما عنتم أي : شديد عليه شاق ، لكونه بعضا منكم ، عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة ، والوقوع في العذاب حريص عليكم أي : على هدايتكم ، كي لا يخرج أحد منكم عن اتباعه ، والاستسعاد بدين الحق الذي جاء به بالمؤمنين رءوف إذ يدعوهم لما ينجيهم من العقاب بالتحذير عن الذنوب والمعاصي ، لفرط رأفته رحيم إذ يفيض عليهم العلوم والمعارف ، والكمالات المقربة بالتعليم والترغيب فيها ، برحمته .
    [ ص: 3306 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 129 ] فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .

    فإن تولوا أي : أعرضوا عن الإيمان بك ، وناصبوك : فقل حسبي الله أي : فاستعن به ، وفوض إليه ، فهو كافيك وناصرك عليهم .

    وقال القاشاني : أي : لا حاجة لي بكم ، ولا باستعانتكم ، كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المألوم المتعفن الذي يجب قطعه عقلا ، أي : الله كافيني فلا مؤثر غيره ، ولا ناصر إلا هو ، كما قال : لا إله إلا هو عليه توكلت أي : فوضت أمري إليه ، وبه وثقت : وهو رب العرش العظيم أي : المحيط بك شيء ، يأتي منه حكمه وأمره إلى الكل ، وتخصيصه لكونه أعظم المخلوقات ، فيدخل ما دونه ، وقرئ ( العظيم ) بالرفع ، على أنه صفة الرب جل وعز .

    تم ما علقناه صباح الاثنين في 24 رجب سنة 1322 هجرية ، في سدة جامع السنانية بدمشق الشام ، اللهم يسر لنا بفضلك الإتمام ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين إلى يوم الدين .

    ويليه الجزء التاسع وفيه تفسير سور : يونس وهود ويوسف والرعد .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #395
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُونُسَ
    المجلد التاسع
    صـ 3321 الى صـ 3335
    الحلقة (394)




    [ ص: 3320 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    10 - سُورَةُ يُونُسَ

    سُمِّيَتْ بِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِتَضَمُّنِهَا قَوْلَهُ: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ فَفِيهِ غَايَةُ مَا يُفِيدُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَضَرَرُ تَرْكِهِ وَتَأْخِيرِهِ، وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْأَعْلَى مِنْ إِنْزَالِ الْكِتَابِ -قَالَهُ الْمَهَايِمِيُّ-.

    وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الْآيَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ الْآيَةَ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَقِيلَ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مَكِّيٌّ، وَالْبَاقِي مَدَنِيٌّ -حَكَاهُ ابْنُ الْفُرْسِ وَالسَّخَاوِيُّ فِي (جَمَالِ الْقُرَّاءِ).

    وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ.

    [ ص: 3321 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

    [ 1 ] الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ

    الر مَسْرُودٌ عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ بِطَرِيقِ التَّحَدِّي، أَوِ اسْمٌ لِلسُّورَةِ فَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ مُسَمَّاةٌ بِـ "الر". وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا قَبْلَ جَرَيَانِ ذِكْرِهَا لِمَا أَنَّهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا عَلَى جَنَاحِ الذِّكْرِ وَبِصَدَدِهِ، صَارَتْ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ، أَوِ النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ: اقْرَأْ.

    وَكَلِمَةُ "تِلْكَ" إِشَارَةٌ إِلَيْهَا، أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ "الر" مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، فَقَدْ نَزَّلَ حُضُورَ مَادَّتِهَا، الَّتِي هِيَ الْحُرُوفُ الْمَذْكُورَةُ مَنْزِلَةَ ذِكْرِهَا فَأُشِيرَ إِلَيْهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمَبْسُوطَةِ.. . إِلَخْ.

    وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ اسْمًا لِلسُّورَةِ، فَقَدْ نَوَّهَتْ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا بَعْدَ تَنْوِيهِهَا بِتَعْيِينِ اسْمِهَا، أَوِ الْأَمْرِ بِقِرَاءَتِهَا. وَمَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الْبُعْدِ; لِلتَّنْبِيهِ عَلَى بُعْدِ مَنْزِلَتِهَا فِي الْفَخَامَةِ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

    آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ "الر" مُبْتَدَأً، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَالْمَعْنَى: هِيَ آيَاتٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْهُ، مُتَرْجَمَةٌ بِاسْمٍ مُسْتَقِلٍّ، وَالْمَقْصُودُ بِبَيَانِ بَعْضِيَّتِهَا مِنْهُ، وَصْفًا بِمَا اشْتُهِرَ اتِّصَافُهُ بِهِ مِنَ النُّعُوتِ الْفَاضِلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ.

    وَالْمُرَادُ بِـ "الْكِتَابِ": إِمَّا جَمِيعُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلِ الْكُلُّ حِينَئِذٍ ; لِاعْتِبَارِ تَعْيِينِهِ وَتَحَقُّقِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا جَمِيعُ الْقُرْآنِ النَّازِلِ وَقْتَئِذٍ، الْمُتَفَاهِمِ بَيْنَ النَّاسِ إِذْ ذَاكَ.

    وَ "الْحَكِيمِ" أَيْ ذُو الْحِكْمَةِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى فُنُونِ الْحُكْمِ الْبَاهِرَةِ، وَنُطْقِهِ بِهَا، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ وَصْفِ الْكَلَامِ بِصِفَةِ صَاحِبِهِ، أَوْ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تَشْبِيهِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ النَّاطِقِ بِالْحِكْمَةِ -أَفَادَهُ أَبُو السُّعُودِ-.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 3322 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 2 ] أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين

    أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جارية أبدا على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال، وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه، وعدم مناسبة حالهم لحاله، ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه، و (القدم) بمعنى السبق مجازا، لكونه سببه وآلته، كما تطلق (اليد) على النعمة، و (العين) على الجاسوس، و (الرأس) على الرئيس. ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة، فهو مجاز بمرتبتين أو (القدم) بمعنى المقام كـ: مقعد صدق بإطلاق الحال وإرادة المحل، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله (قدم صدق) أي محققة مقررة، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم، ظاهرا وباطنا.

    قال في (الانتصاف): ولم يرد في سابقة السوء تسميتها (قدما) إما لأن المجاز لا يطرد، وإما أن يكون مطردا، ولكن غلب العرف على قصرها، كما يغلب في الحقيقة.

    قال الكافرون وهم المتعجبون "إن هذا" أي الكتاب الحكيم لسحر مبين أي ظاهر. وقرئ "لساحر" على أن الإشارة إلى الرسول صلوات الله عليه. وهو دليل عجزهم واعترافهم، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا، وذلك لأن التعجب أولا، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعا، حتى عند نفس المعارض، دأب العاجز المفحم.
    ثم بين تعالى بطلان تعجبهم، وما بنوا عليه، وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه، وصحة ما أنكروه، بالتنبيه على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير، ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير، فقال سبحانه:

    [ ص: 3323 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 3 ] إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون

    إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش قال البخاري في صحيحه في الرد على الجهمية:

    قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع، وقال مجاهد: استوى على العرش علا، أي بلا تمثيل ولا تكييف. والعرش: هو الجسم المحيط بجميع الكائنات، وهو أعظم المخلوقات. و (الأيام) قيل: كهذه، وقيل: كل يوم كألف سنة.

    يدبر الأمر أي يقضي ويقدر، على حسب مقتضى الحكمة أمر الخلق كله، و ما من شفيع إلا من بعد إذنه تقرير لعظمته وعز جلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله. ذلكم الله إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي ذلك العظيم الموصوف بما وصف به هو ربكم أي الذي رباكم لتعبدوه فاعبدوه أي وحدوه بالعبادة. أفلا تذكرون أي تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة، لا ما تعبدونه.
    [ ص: 3324 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 4 ] إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون

    إليه مرجعكم جميعا أي بالموت أو النشور، أي لا ترجعون في العاقبة إلا إليه، فاستعدوا للقائه وعد الله حقا أي صدقا، ثم علل وجوب المرجع إليه بقوله سبحانه إنه يبدأ الخلق أي من النطفة ثم يعيده أي بعد الموت ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط أي بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، أو بإيمانهم ; لأنه العدل القويم، كما أن الشرك ظلم عظيم، وهو الأوجه لمقابلة قوله: والذين كفروا لهم شراب من حميم أي من ماء حار قد انتهى حره وعذاب أليم وجيع يخلص ألمه إلى قلوبهم بما كانوا يكفرون تعليل لقوله لمقابلة قوله، فإن معناه ليجزي الذي كفروا بشراب من حميم، وعذاب أليم، بسبب كفرهم، لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب بجعله حقا مقررا لهم، كما تفيده (اللام) وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة. والعقاب واقع بالعرض بكسبهم، وعلى أنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما لا تحيط العبارة به لفخامته وعظمته، ولذلك لم يعينه.
    ثم نبه تعالى، للاستدلال على وحدته في ربوبيته، بآثار صنعه في النيرين، إثر الاستدلال بما مر من إبداع السماوات والأرض، بقوله سبحانه:
    [ ص: 3325 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 5 ] هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون

    هو الذي جعل الشمس ضياء للعالمين بالنهار والقمر نورا أي لهم بالليل" والضياء أقوى من النور وقدره منازل الضمير لهما، بتأويل كل واحد منهما، أو للقمر، وخص بما ذكر، لكون منازله معلومة محسوسة، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدة في تواريخ العرب "لتعلموا عدد السنين والحساب" أي حساب الشهور والأيام، مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات: ما خلق الله ذلك إلا بالحق أي بالحكمة البالغة يفصل الآيات لقوم يعلمون أي يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك لقوم يعلمون الحكمة في إبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على وحدة مبدعها.

    قال السيوطي: هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب ومنازل القمر والتاريخ، ثم نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضا بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 6 ] إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون

    إن في اختلاف الليل والنهار أي في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر وما خلق الله في السماوات والأرض أي من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك لآيات لقوم يتقون أي لآيات عظيمة دالة على وحدة مبدعها، وكمال قدرته، وبالغ حكمته، وخص "المتقين" لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها، فإن الداعي إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى، والحذر من العاقبة.

    [ ص: 3326 ] تنبيه:

    في هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة، وأودع فيها المنافع الظاهرة، وأبدع في كل كائن صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، وميز الإنسان وعلمه البيان -يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته، ليبلغ عنه شرائع عامة، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة، كما أشار إلى ذلك بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 7 ] إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون [ 8 ] أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون [ 9 ] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم [ 10 ] دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين

    إن الذين لا يرجون لقاءنا أي فلا يتوقعون الجزاء ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أي لا يتفكرون فيها أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم أي بسببه، إلى مأواهم، وهي الجنة، وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها، وانسياق النفس إليها، لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم [ ص: 3327 ] أي من تحت منازلهم أو بين أيديهم. دعواهم فيها سبحانك اللهم أي: دعاؤهم هذا الكلام; لأن "اللهم" نداء، ومعناه: اللهم إنما نسبحك، كقول القانت: اللهم إياك نعبد. يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى، كما يقال: شكا يشكو شكاية وشكوى، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره آية: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وتحيتهم فيها سلام أي ما يحيي به بعضهم بعضا، أو تحية الملائكة إياهم، كما في قوله تعالى: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم أو تحية الله عز وجل لهم، كما في قوله تعالى: سلام قولا من رب رحيم و (التحية) التكرمة بالحالة الجلية. أصلها: أحياك الله حياة طيبة. و (السلام) بمعنى السلامة من كل مكروه وآخر دعواهم أي وخاتمة دعائهم هو التسبيح أن الحمد لله رب العالمين أي حمده تعالى: والمراد من الآية أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك. وإيثار التعبير عن "وبحمدك" بقوله "وآخر" إلخ رعاية للفواصل، واهتماما بالحمد وما معه من النعوت الجليلة تذكيرا بمسماها، والآية تدل على سمو هذا الذكر; لأنه دعاء أهل الجنة وذكر الملائكة كما قالوا: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ولذلك ندب قراءته بعد تكبيرة الإحرام.

    قال الرازي: لما استسعد أهل الجنة بذكر "سبحانك اللهم وبحمدك"، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية، والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء.

    ولما بين تعالى وعيده الشديد، أتبعه بما دل على أن من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيوية ; لأن حصوله في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف فقال تعالى:
    [ ص: 3328 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 11 ] ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون

    ولو يعجل الله للناس وهم الذين لا يرجون لقاءه تعالى لكفرهم الشر أي الذي كانوا يستعجلون به، فإنهم كانوا يقولون: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ونحو ذلك: استعجالهم بالخير أي تعجيلا مثل استعجالهم الدعاء بالخير لقضي إليهم أجلهم أي لأميتوا وأهلكوا فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون أي في ضلالهم وشركهم يترددون.

    لطيفة:

    زعم الزمخشري أن معنى استعجالهم بالخير، أي تعجيله لهم الخير، وضع الأول موضع الثاني إشعارا بسرعة إجابته لهم، وإسعافه بطلبتهم، حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم. وعندي أنه صرف اللفظ الكريم عن ظاهره بلا داع. ولا بلاغة فيه أيضا، وإن توبع فيه والحرص على موافقة عامل المصدر له ليكونا من باب واحد، غير ضروري في العربية، والشواهد كثيرة.

    وجوز الرازي أن يكون "يعجل" أصله يستعجل. عدل عنه تنزيها للجناب الأقدس عن وصف طلب العجلة، فوصف بتكوينها، ووصف الناس بطلبها ; لأنه الأليق.

    ولعل الأليق أن "استعجالهم" مصدر لفعل دل عليه ما قبله، والتقدير، ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلون به استعجالهم. وإنما حذف إيجازا ; للعلم به، ويوافقه قوله تعالى: ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير فإنه في معنى ما هنا.
    [ ص: 3329 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 12 ] وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون

    وإذا مس الإنسان الضر دعانا أي لكشفه وإزالته لجنبه حال من فاعل (دعا) واللام بمعنى (على) أي على جنبه، أي مضطجعا أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر أي مضى على طريقته الأولى كأن لم يدعنا إلى ضر أي كشفه مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون أي من الإعراض عن الذكر، واتباع الشهوات. والآية سيقت احتجاجا على المشركين، بما جبلوا عليه كغيرهم من الالتجاء إليه تعالى عند الشدائد، علما بأنه لا يكشفها إلا هو، ليطرحوا عبادة ما لا يضر ولا ينفع، ويستيقنوا أنه الإله الأحد، الذي لا يعبد سواه، وفيها نعى عليهم سوء منقلبهم، إثر كشف كرباتهم، وتحذير من مثل صنيعهم.

    ثم ذكرهم تعالى بعظيم قدرته مما وصل إليهم من نبأ الأقدمين ليتقوه، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 13 ] ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين

    ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا أي بالتكذيب والكفر وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا أي فقرر عليهم الحجة بالوجوه الكثيرة. وما كانوا ليؤمنوا بتلك البينات ولا بغيرها، فجزاهم بالإهلاك المعروف فيهم. كذلك نجزي القوم المجرمين
    [ ص: 3330 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 14 ] ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون

    ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون الخطاب للذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها، لننظر كيف تعملون من خير أو شر، فنعاملكم حسب عملكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 15 ] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم

    وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش، بأنهم إذا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة، قالوا له: ائت بقرآن غير هذا، أي جئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر. قال تعالى لنبيه: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي أي ليس ذلك إلي، إنما أنا مبلغ عن الله تعالى.

    قيل: إنما اكتفى بالجواب عن التبديل ; للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولا، من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها. وأن التصدي لذلك، مع كونه ضائعا; ربما يعد من قبيل المجاراة مع السفهاء، إذ لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء. ولأن ما يدل على استحالة [ ص: 3331 ] الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى، فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل والحقيقة. وقوله: إن عصيت ربي أي بالتبديل والنسخ من عند نفسي.

    قال السيوطي في (الإكليل) استدل به من منع نسخ القرآن بالسنة. اهـ.

    قال الزمخشري: فإن قلت: فما كان غرضهم، وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح; قلت: الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن، ففيه أنه من عندك، وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر. وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع، ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه، وتصحيحا لافترائه على الله -انتهى -.

    ولما بين بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته; أشار إلى تحقيق حقية القرآن، وكونه من عنده تعالى بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 16 ] قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون

    قل لو شاء الله ما تلوته عليكم

    قال الزمخشري: يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمرا عجيبا خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع، ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء، فيقرأ عليكم كتابا فصيحا، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحونا بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان ويكون ناطقا بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفا من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه، وألصقهم به.

    [ ص: 3332 ] ولا أدراكم به أي ولا أعلمكم به على لساني فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أي من قبل نزوله، لا أتعاطى شيئا مما يتعلق بنحوه، ولا كنت متواصفا بعلم وبيان، فتتهموني باختراعه. أفلا تعقلون أي فتعلموا أنه ليس إلا من الله، لا من مثلي.

    قال الزمخشري: وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم "ائت بقرآن غير هذا" من إضافة الافتراء إليه.

    تنبيه:

    رأى أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام; لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم، واقتصار حاله عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي، وامتناع الاستبداد بالرأي، من غير تعرض هناك ولا هاهنا ; لكون القرآن في نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر، ولا لكونه عليه السلام غير قادر على الإتيان بمثله، أن يستشهد هاهنا على المطلوب مما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان. كما ينبئ عنه تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى.

    والمعنى: قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي، لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة. فضلا عما فيه كذب أو افتراء، أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد، مستحيل أن يفتري على الله، ويتحكم على الخلق كافة، بالأوامر والنواهي الموجبة لسفك الدماء، وسلب الأموال، ونحو ذلك، وأن ما أتى به وحي مبين، تنزيل من رب العالمين -انتهى-.

    وما استنسبه رحمه الله، اقتصر عليه ابن كثير، ثم استشهد بقول هرقل ملك الروم [ ص: 3333 ] لأبي سفيان، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال هرقل له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت لا! وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة، وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق.
    والفضل ما شهدت به الأعداء


    فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله.

    وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.

    وعن ابن المسيب: ثلاثا وأربعين سنة، والصحيح المشهور الأول.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 17 ] فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون [ 17 ].

    فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته استفهام إنكاري معناه الجحد. أي لا أحد أظلم ممن تقول على الله تعالى، وزعم أنه تعالى أرسله وأوحى إليه، أو كفر بآياته، كما فعل المشركون بتكذيبهم للقرآن، وحملهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام.

    إنه لا يفلح المجرمون أي لا ينجون من محذور، ولا يظفرون بمطلوب، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله وترتيب عدم الفلاح على من افترى الوحي، وعده صادق بلا مرية، فإن مفتريه يبوء بالخزي والنكال، ولا يشتبه أمره على أحد بحال.

    [ ص: 3334 ] وقد ذكر أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب -وكان صديقا له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعد- فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو! وماذا أنزل على صاحبكم -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرؤون سورة عظيمة قصيرة. فقال: وما هي؟ فقال: والعصر إن الإنسان إلخ، ففكر مسيلمة ساعة ثم قال: وأنا قد أنزل علي مثله! فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر.. إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر. كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله! إنك لتعلم أني أعلم أنك لكذاب.

    وقال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل منه، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: فكان أول ما سمعته يقول: « أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام » . قال حسان:


    لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 18 ] ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون

    ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم أي الأوثان التي هي جماد [ ص: 3335 ] لا تقدر على نفع ولا ضر، أي ومن شأن المعبود القدرة على ذلك. ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض أي أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوما له -وهو العالم المحيط بجميع المعلومات- لم يكن موجودا، فكان خبرا ليس له مخبر عنه.

    فإن قلت: كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه.

    وقوله في السماوات ولا في الأرض تأكيد لنفيه ; لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم -كذا في الكشاف-. سبحانه وتعالى عما يشركون أي عن الشركاء الذي يشركونهم به، أو عن إشراكهم.

    ثم أشار تعالى إلى أن التوحيد والإسلام ملة قديمة كان عليها الناس أجمع، فطرة وتشريعا، بقوله تعالى:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #396
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُونُسَ
    المجلد التاسع
    صـ 3336 الى صـ 3350
    الحلقة (395)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 19 ] وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون

    وما كان الناس إلا أمة واحدة أي حنفاء متفقين على ملة واحدة، وهي فطرة الإسلام والتوحيد التي فطر عليها كل أحد فاختلفوا باتباع الهوى وعبادة الأصنام، فالشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة صرفا للناس عن وجهة التوحيد، ولذلك بعث الله الرسل بآياته وحججه البالغة ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة"، ولولا [ ص: 3336 ] كلمة سبقت من ربك أي بتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة لقضي بينهم أي عاجلا فيما فيه يختلفون بتمييز الحق من الباطل، بإبقاء المحق، وإهلاك المبطل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 20 ] ويقولون لولا أنـزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين

    ويقولون لولا أنـزل عليه آية من ربه أي من الآيات التي اقترحوها تعنتا وعنادا، وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة، التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر، بديعة غريبة في الآيات فقل إنما الغيب لله أي هو المختص بعلم الغيب، المستأثر به، لا علم لي ولا لأحد به. يعني أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو.

    فانتظروا إني معكم من المنتظرين أي فيما يقضيه الله تعالى في عاقبة تعنتكم، فإن العاقبة للمتقين. وقد قال تعالى في آية أخرى: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وقال تعالى: إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية وقال تعالى ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين أي فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا لمقترحهم، لفرط عنادهم. ولا يخفى أن القرآن الكريم لما قام به الدليل القاهر على صدق نبوته، عليه السلام، لإعجازه، كان طلب آية أخرى سواه من مقترحهم- مما لا حاجة له في صحة نبوته، وتقرير رسالته، فمثلها يكون مفوضا إلى مشيئته تعالى، فترد إلى غيبه، وسواء أنزلت أو لا، فقد ثبتت نبوته، ووضحت رسالته، صلوات الله عليه.

    [ ص: 3337 ] ثم أكد تعالى ما هم عليه من العناد واللجاج، مشيرا إلى أنهم لا يذعنون، ولو أجيبوا لمقترحهم، بما يعهد منهم من عدولهم عنه تعالى بعد كشفهم ضرهم إلى الإشراك، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 21 ] وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون

    وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم إذا لهم مكر في آياتنا أي يتبين مكرهم ويظهر كامن شركهم، فهم في وقت الضراء في الإقبال عليه تعالى لكشفها، كالمخادع الذي يظهر خلاف ما يبطن، ثم ينجلي أمره بعد قل الله أسرع مكرا أي عقوبة، أي عذابه أسرع وصولا إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق، وتسمية العقوبة بالمكر لوقوعها في مقابلة مكرهم وجودا أو ذكرا. إن رسلنا أي الذين يحفظون أعمالكم يكتبون ما تمكرون أي مكركم، أو ما تمكرونه، وهو تحقيق للانتقام، وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الحفظة، فضلا عن العليم الخبير.

    ثم بين تعالى نوعا من أنواع مكرهم في آية إنجائهم من لجج البحر بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 22 ] هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين

    هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك أي السفن [ ص: 3338 ] وجرين أي السفن بهم أي بالذين فيها بريح طيبة أي لينة الهبوب، موافقة للمرغوب وفرحوا بها لأمن الآيات جاءتها ريح عاصف أي ذات شدة وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم أي أحاط بهم أسباب الهلاك، وهي شدة الموج والريح دعوا الله أي للتخلص منها مخلصين له الدين وهو الدعاء لأنهم حينئذ لا يدعون معه غيره لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين أي العابدين لك شكرا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 23 ] فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون

    فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق أي يفسدون فيها، ويسارعون إلى ما كانوا عليه من الشرك ونحوه يا أيها الناس أي الناسين نعمة الخلاص بالإخلاص واستجابة الدعاء إنما بغيكم على أنفسكم أي وباله عليكم. متاع الحياة الدنيا خبر محذوف أو هو متاع. أو خبر ثان أو هو الخبر لـ (بغيكم) و (على) متعلق به. وقرئ بالنصب مصدر لمحذوف، أي نمتعكم. أو مفعول به له. أي تبغون ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون أي في الدنيا وهو وعيد بجزائهم على البغي.
    ثم بين تعالى شأن الدنيا وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود بقوله:

    [ ص: 3339 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 24 ] إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون

    إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض أي امتزج به لسريانه فيه، فالباء للمصاحبة، أو هي للسببية، أي اختلط بسببه حتى خالط بعضه بعضا، أي التف بعضه ببعض، والأول أظهر مما يأكل الناس والأنعام من الزروع والثمار والكلأ والحشيش حتى إذا أخذت الأرض زخرفها أي حسنها وبهجتها وازينت أي بأصناف النبات وظن أهلها أنهم قادرون عليها أي متمكنون من تحصيل حبوبها وثمرها وحصدها أتاها أمرنا أي عذابنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا أي كالمحصود من أصله كأن لم تغن أي لم تنبت بالأمس أي قبيل ذلك الوقت. و (الأمس) مثل في الوقت القريب كذلك نفصل الآيات أي بالأمثلة تقريبا لقوم يتفكرون أي في معانيها.

    تنبيه:

    قال القاشاني: البغي ضد العدل، فكما أن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل، وهيأة وحدانية لها، فائضة من نور الوحدة على النفس، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل، بحيث يستلزمها جميعا، فصاحبها في غاية البعد عن الحق، ونهاية الظلمة، كما قال: الظلم ظلمات يوم القيامة. فلهذا قال: "على أنفسكم" لا على المظلوم ; لأن المظلوم [ ص: 3340 ] سعد به، وشقي الظالم غاية الشقاء، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا ; إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية، ولذات حيوانية، تنقضي بانقضاء الحياة الحسية التي مثلها في سرعة الزوال، وقلة البقاء، هذا المثل الذي مثل به، من تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر، ثم فسادها ببعض الآفات سريعا قبل الانتفاع بنباتها، ثم تتبعها الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم.

    وفي الحديث: « أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة » ; لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى. انتهى.

    وسمعت بعض المشايخ يقول: قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة، وذلك لمبارزتهما الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه، ومخالفتهما إياه في حكمته وعدله. انتهى.

    ولما ذكر تعالى الدنيا وسرعة تقضيها، رغب في الجنة ودعا إليها، وسماها دار السلام، أي من الآفات والنقائص، لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معرضا للآفات كما مر، فقال سبحانه:
    [ ص: 3341 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 25 ] والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 26 ] للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

    والله يدعو إلى دار السلام أي يدعو الخلق بتوحيده إلى جنته ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم أي دين قيم يرضاه، وهو الإسلام.

    للذين أحسنوا الحسنى وزيادة أي للذين أحسنوا النظر، فعرفوا مكر الدنيا والشهوات، فأعرضوا عنها، وتوجهوا إلى الله تعالى، فعبدوه كأنهم يرونه، المثوبة الحسنى، وهي الجنة، وزيادة على المثوبة، وهي التفضل كما قال تعالى: "ويزيدهم من فضله" ، وأعظم أنواعه النظر إلى وجهه تعالى الكريم. ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحد من الصحابة والتابعين. ورفعها ابن جرير إلى النبي صلوات الله عليه، عن أبي موسى وكعب بن عجرة، وأبي. وكذا ابن أبي حاتم.

    وروى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: للذين أحسنوا إلخ، وقال: « إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله! ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم » وهكذا رواه مسلم.

    [ ص: 3342 ] ولا يرهق وجوههم قتر أي لا يغشاها غبرة سوداء من أثر حب الدنيا والشهوات ولا ذلة أي أثر هوان، وكسوف بال، من أثر الالتفات إلى ما دون الله تعالى.

    قال الناصر: وفي تعقيب الزيادة بهذه الجملة مصداق لصحة تفسير الزيادة بالرؤية الكريمة، فإن فيه تنبيها على إكرام وجوههم بالنظر إلى وجه الله تعالى، فجدير بهم أن لا يرهق وجوههم قتر البعد، ولا ذلة الحجاب، عكس المحرومين المحجوبين، فإن وجوههم مرهقة بقتر الطرد وذلة البعد.

    وقوله تعالى: أولئك أي الذين أحسنوا أصحاب الجنة هم فيها خالدون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 27 ] والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

    والذين كسبوا السيئات أي الشرك والمعاصي جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم أي واق يقيهم العذاب كأنما أغشيت أي ألبست وجوههم قطعا أي أجزاء من الليل مظلما لفرط سوادها وظلمتها. وذلك لارتكابهم الهيئة المظلمة من الميول الطبيعية، والأعمال الردية، والقصد الإخبار بأبدع تشبيه عن سواد وجوههم. وقد ذكر هذا المعنى في غير ما آية أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
    ثم بين تعالى ما ينال المشركين يوم الحشر من التوبيخ والخزي بقوله سبحانه:

    [ ص: 3343 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 28 ] ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون

    ويوم نحشرهم جميعا يعني المشركين ومعبوداتهم للمقاولة بينهم ثم نقول للذين أشركوا أي معبوديهم بالله، مع توقعهم الشفاعة منهم مكانكم أنتم وشركاؤكم أي الزموا مكانكم، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. قال القاشاني: معناه قفوا مع ما وقفوا معه في الموقف من قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم، وتبرؤ المعبود من العابد لانقطاع الأغراض الطبيعية التي توجب تلك الوصل.

    ومعنى قوله فزيلنا بينهم أي مع كونهم في الموقف معا، فرقنا بينهم، وقطعنا الوصل التي بينهم، فلا يبقى من العابدين توقع شفاعة، ولا من المعبودين إفادتها، لو أمكنتهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون إذ لم تكن عبادتكم عن أمرنا، بل عن أمر الشيطان، فكنتم عابديه بالحقيقة، بطاعتكم إياه، وعابدي ما اخترعتموه في أوهامكم من أباطيل فاسدة، وأماني كاذبة.

    قيل: القول مجاز عن تبرئهم من عبادتهم، وأنهم عبدوا أهواءهم وشياطينهم ; لأنها الآمرة لهم دونهم ; لأن الأوثان جمادات وهي لا تنطق. وقيل: ينطقها الله الذي أنطق كل شيء ، فتشافههم بذلك، مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها.
    [ ص: 3344 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 29 ] فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين

    فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم أي: لنا لغافلين أي الله يعلم أنا ما أمرناكم بذلك وما أردنا عبادتكم إيانا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 30 ] هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون

    هنالك أي في ذلك المقام المدهش، حين قطع المواصلة، وإنكار الشركاء العبادة تبلو كل نفس ما أسلفت أي تختبر وتذوق كل نفس ما أسلفت من العمل، فتعاين أثره من قبح وحسن، ورد وقبول، كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ليكتنه حاله، وهذا كقوله تعالى: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر وقوله: يوم تبلى السرائر

    وردوا إلى الله مولاهم الحق الضمير للذين أشركوا، أي ردوا إلى الله المتولي جزاءهم بالعدل والقسط وضل عنهم ما كانوا يفترون أي ضاع عنهم ما افتروه من اختراعاتهم، وأصول دينهم ومذهبهم، وتوهماتهم الكاذبة، وأمانيهم الباطلة. أي ظهر ضياعه وضلاله ولم يبق له أثر فيهم.

    وفي هذه الآية تبكيت شديد للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا، ولم يأمرهم بذلك، ولا رضي به، ولا أراده، بل تبرأ منهم أحوج ما يكونون إلى المعونة. والمشركون أنواع وأقسام، وقد ذكرهم تعالى في كتابه، وبين أحوالهم، ورد عليهم أتم رد.

    ثم احتج على المشركين على وحدانيته باعترافهم بربوبيته وحده بقوله سبحانه وتعالى:
    [ ص: 3345 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 31 ] قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون

    قل من يرزقكم من السماء والأرض بالإمطار والإنبات وهل يمكن إلا ممن له التصرف العام فيها أمن يملك السمع والأبصار أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة، كقوله تعالى: قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار

    ومن يخرج الحي من الميت يعني النسمة من النطفة، أو الطير من البيضة، أو السنبلة من الحب ويخرج الميت من الحي كأن يخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر. وقيل: المراد أن يخرج المؤمن من الكافر أو الكافر من المؤمن. ومن يدبر الأمر أي ومن يلي تدبير أمر العالم كله، بيده ملكوت كل شيء، تعميم بعد تخصيص فسيقولون الله إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحه فقل أفلا تتقون أي أفلا تخافون بعد اعترافكم، من غضبه لعبادة غيره اتباعا للهوى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 32 ] فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون

    فذلكم إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله الله ربكم الحق الثابت وحدانيته ثباتا لا ريب فيه، لمن حقق النظر فماذا بعد الحق إلا الضلال يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال، أي فما بعد حقية ربوبيته إلا بطلان ربوبية ما سواه، وعبادة غيره، انفرادا أو شركة فأنى تصرفون أي عن الحق [ ص: 3346 ] الذي هو التوحيد، إلى الضلال الذي هو الشرك، وأنتم تعترفون بأنه الخالق كل شيء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 33 ] كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون

    كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون أي ثبت حكمه وقضاؤه على الذين تمردوا في كفرهم، وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه. وقوله أنهم لا يؤمنون بدل من الكلمة، أي حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله منهم ذلك. أو أراد بالكلمة العدة بالعذاب و أنهم لا يؤمنون تعليل بمعنى (لأنهم لا يؤمنون) أفاده الزمخشري- أي كقوله تعالى: قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقوله تعالى: أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار قيل: الذين فسقوا مظهر وضع موضع ضمير المخاطبين للإشعار بالعلية، و(الفسق) هنا التمرد في الكفر، فآل الكلام إلى أن كلمة العذاب حقت عليهم، لتمردهم في كفرهم، ولأنهم لا يؤمنون، وهو تكرار. وأجيب بأنه تصريح بما علم ضمنا من الذين فسقوا أو دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان.

    ثم احتج أيضا على حقية التوحيد وبطلان الشرك بما هو من خصائصه تعالى، من بدء الخلق وإعادته، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 34 ] قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون

    قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده أي من يبدؤه من النطفة، ويجعل فيه الروح ليتعرف إليه، ويستعمله أعمالا، ثم يحييه يوم القيامة، ليجزيه بما أسلف [ ص: 3347 ] في أيامه الخالية. وإنما نظمت الإعادة في سلك الاحتجاج مع عدم اعترافهم بها ; إيذانا بظهور برهانها، للأدلة القائمة عليها سمعا وعقلا، وإن إنكارها مكابرة وعنادا لا يلتفت إليه، وإشعارا بتلازم البدء والإعادة وجودا وعدما، يستلزم الاعتراف به الاعتراف بها. ثم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يبين لهم من يفعل ذلك، فقيل له: قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون أي فكيف تصرفون إلى عبادة الغير، مع عجزه عما ذكر. ثم احتج عليهم أيضا، إفحاما إثر إفحام، بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 35 ] قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون

    قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق أي بوجه من الوجوه، كبعثة الرسل، وإيتاء العقل. وتمكين النظر في آيات الكون، والتوفيق للتدبر. قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق وهو تبارك وتعالى- أحق أن يتبع أي يعبد ويطاع أمن لا يهدي أي إلا أن يهديه الله تعالى -نزل منزلة من يعقل لإفحامهم- وقيل معناه: أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينقل، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء، إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه. وقد قرئ ((أمن لا يهدي)) بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، أصله يهتدي، أدغمت التاء في الدال، ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء؛ وقرئ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، لأنه لما نقلت الحركة التقى ساكنان، فكسر أولهما للتخلص من التقائهما، وقرئ بسكون [ ص: 3348 ] الهاء وبتخفيف الدال، على معنى (يهتدي) والعرب تقول: يهدي بمعنى يهتدي. يقال: هديته فهدي، أي اهتدى.

    وقوله تعالى فما لكم مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار والتعجب. أي: أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم، فضلا عن هداية غيرهم شركاء. وقوله كيف تحكمون مستأنف، أي كيف تحكمون بالباطل، حيث تزعمون أنهم أنداد الله؟!
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 36 ] وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون

    وما يتبع أكثرهم أي في اعتقادهم ألوهية الأصنام إلا ظنا اعتقادا غير مستند لبرهان، بل لخيالات فارغة، وأقيسة فاسدة. والمراد ب(الأكثر): الجميع إن الظن لا يغني من الحق أي من العلم والاعتقاد الحق شيئا أي من الإغناء. فـ " شيئا" في موضع المصدر، أي غناء ما. أو مفعول لـ " يغني" ، و " من الحق" حال منه. إن الله عليم بما يفعلون وعيد على اتباعهم الظن، وإعراضهم عن البرهان.

    تنبيه:

    قال الرازي في هذه الآية:

    اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا، ثم بالهداية ثانيا، عادة مطردة في القرآن. فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك، فقال: الذي خلقني فهو يهدين وعن موسى عليه السلام مثله فقال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق [ ص: 3349 ] فسوى والذي قدر فهدى وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإنسان له جسد وروح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية، فهاهنا أيضا لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله: أمن يبدأ الخلق ثم يعيده أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية، والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح، كما قال تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد، وإنما أعطى الحواس، لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم. وأيضا فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم، أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة. أما الأحوال الروحانية، والمعارف الإلهية، فإنها كمالات باقية أبد الآباد، مصونة عن الكون والفساد. فعلمنا أن الخلق تبع للهداية، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية، ولاضطراب العقول وتشعب الأفكار كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده. والهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق، أو عن تحصيل معرفتها، وعلى كل فقد بينا أنها أشرف المراتب، وأعلى السعادات، وأنها ليست إلا منه تعالى. وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق، ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك، كانت عبادتها جهلا محضا، وسفها صرفا. فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال. اهـ.
    ثم بين تعالى حقية هذا الوحي المنزل، رجوعا إلى ما افتتحت به السورة من صدق نبوة المنزل عليه، ودلائلها في آيات الله الكونية، والمنبئة عن عظيم قدرته، وجليل عنايته، بهداية بريته، فقال تعالى:

    ثم بين [ ص: 3350 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 37 ] وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين

    وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله لامتناع ذلك; إذ ليس لمن دونه تعالى كمال قدرته التي بها عموم الإعجاز ولكن تصديق الذي بين يديه أي مصدقا للتوراة والإنجيل والزبور بالتوحيد، وصفة النبي صلى الله عليه وسلم، و (تصديق) منصوب على أنه خبر (كان) أو علة لمحذوف، أي أنزله تصديق إلخ. وقرئ بالرفع خبرا لمحذوف، أي: هو تصديق الذي بين يديه. أي وبذلك يتعين كونه من الله تعالى ; لأنه لم يقرأها، ولم يجالس أهلها، وتفصيل الكتاب أي وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، من قوله كتاب الله عليكم كما قال علي رضي الله عنه: فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم. لا ريب فيه من رب العالمين أي منتفيا عنه الريب، كائنا من رب العالمين، أخبار أخر لما قبلها.

    قال أبو السعود: ومساق الآية، بعد المنع عن اتباع الظن ; لبيان ما يجب اتباعه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #397
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُونُسَ
    المجلد التاسع
    صـ 3351 الى صـ 3365
    الحلقة (396)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 38 ] أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين

    أم يقولون افتراه أي بل أيقولون. فـ (أم) منقطعة مقدرة بـ (بل والهمزة) عند الجمهور، والهمزة للإنكار. أي ما كان ينبغي ذلك. وقيل: متصلة، ومعادلها [ ص: 3351 ] مقدر. أي أيقرون به بعد ما بينا من حقيقته أم يقولون افتراء قل فأتوا بسورة مثله أي إن كان الأمر كما تزعمون، فأتوا، على وجه الافتراء، بسورة مثله في البلاغة، وحسن الصياغة، وقوة المعنى، فأنتم مثل في العربية والفصاحة، وأشد تمرنا في النظم وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين أي ادعوا من دونه تعالى، ما استطعتم من خلقه، للاستعانة به على الإتيان بمثله -إن صدقتم في أني اختلقته- فإنه لا يقدر عليه أحد.

    قال أبو السعود: وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء، للتنصيص على براءتهم منه تعالى، وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 39 ] بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين

    بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي، إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل، أي سارعوا إلى التكذيب به، وفاجؤوه في بديهة السماع، وقبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه، ويقفوا على تأويله ومعانيه وما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه ليس مما يمكن أن يقدر عليه مخلوق، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية، إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة، وبيان الاستقامة، أنكرها [ ص: 3352 ] في أول وهلة، واشمأز منها، قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد ; لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه، وفساد ما عداه من المذاهب. وسر التعبير بما لم يحيطوا بعلمه الإيذان بكمال جهلهم به، وأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم علمهم به -كذا في الكشاف وأبي السعود-.

    ولما يأتهم تأويله أي بيان ما يؤول إليه، مما توعدهم فيه. وهذا المعنى هو الصحيح في الآية. وقد مشى عليه غير واحد.

    قال في (تنوير الاقتباس): أي عاقبة ما وعدهم في القرآن.

    وقال الجلال: أي عاقبة ما فيه من الوعيد.

    وقال القاشاني: تأويله: أي ظهور ما أشار إليه في مواعيده، وأمثاله مما يؤول أمره وعلمه إليه، فلا يمكنهم التكذيب ; لأنه إذا ظهرت حقائقه لا يمكن لأحد تكذيبه.

    كذلك كذب الذين من قبلهم أي بآيات الرسل، قبل التدبر في معانيها.

    فانظر كيف كان عاقبة الظالمين أي من هلاكهم بسبب تكذيبهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 40 ] ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين [ 41 ] وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 42 ] ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون

    ومنهم من يؤمن به أي يصدق به في نفسه، ولكن يكابر بالتكذيب ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين

    [ ص: 3353 ] وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون أي إن أصروا على تكذيبك، فتبرأ منهم، فقد أعذرت.

    ثم أشار إلى أنهم ممن طبع على قلوبهم بقوله تعالى: ومنهم من يستمعون إليك أي إذا قرأت القرآن أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون أبرزهم في عدم انتفاعهم بسماعهم، لكونهم لا يعون ولا يقبلون، بصورة الصم المعتوهين: أي أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم، ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم؟ لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل فقد تم الأمر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 43 ] ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون

    ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون كذلك أبرزهم لعدم انتفاعهم بمشاهدة أدلة الصدق وأعلام النبوة، بصورة العمى المضموم إلى عماهم فقد البصيرة. أي: أتحب هداية من كان كذلك؟ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، أما مع الحمق فجهد البلاء. يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا، كالصم والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول -كذا في الكشاف-.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 44 ] إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون

    إن الله لا يظلم الناس شيئا بتعذيبهم من غير أن تقوم الحجة عليهم، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ومن غير أن يكونوا سليمي الحواس والمدارك، فإنه لعدله لا يفعل ذلك. ولكن الناس أنفسهم يظلمون بالكفر والتكذيب وعدم استعمال حاساتهم ومداركهم فيما خلقت له.
    [ ص: 3354 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين

    ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار أي: شيئا قليلا يتعارفون بينهم أي يعرف بعضهم بعضا، كأنهم لم يتعارفوا إلا قليلا. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله أي بالبعث بعد الموت وما كانوا مهتدين أي من الكفر والضلالة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 46 ] وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون [ 47 ] ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون

    وإما نرينك بعض الذي نعدهم أي من العذاب أو نتوفينك أي قبل ذلك فإلينا مرجعهم أي فننجزهم ما وعدناهم كيفما دار الحال ثم الله شهيد على ما يفعلون أي من مساوئ الأفعال.

    ولكل أمة رسول أي منهم، أرسل لهدايتهم، وتزكيتهم بما يصلحهم فإذا جاء رسولهم أي فبلغهم ما أرسل به فكذبوه قضي بينهم بالقسط أي بالعدل، فأنجي الرسول وأتباعه، وعذب مكذبوه وهم لا يظلمون أي في ذلك القضاء المستوجب لتعذيبهم ; لأنه من نتائج أعمالهم.

    وقال القاشاني في قوله تعالى قضي بينهم أي بهداية من اهتدى منهم، وضلالة [ ص: 3355 ] من ضل وسعادة من سعد، وشقاوة من شقي، لظهور ذلك بوجوده، وطاعة بعضهم إياه لقربه منه، وإنكار بعضهم له لبعده عنه. أو قضى بينهم بإنجاء من اهتدى به وإثابته، وإهلاك من ضل وتعذيبه، لظهور أسباب ذلك بوجوده -انتهى-. فالآية على هذا كقوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وجوز أن يكون المعنى: لكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه، وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، قضى بينهم بإنجاء المؤمنين، وعقاب الكافرين. كقوله تعالى: وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 48 ] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ 49 ] قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون

    ويقولون متى هذا الوعد استبعادا له، واستهزاء به إن كنتم صادقين أي في أنه يأتينا، ولما فيه من الإشعار بكون إتيانه بواسطة النبي صلوات الله عليه، قيل: قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا أي مع ذلك أقرب حصولا، فكيف أملك لكم حتى أستعجل في جلب العذاب لكم وتقديم الضر، لما أن مساق النظم لإظهار العجز عنه، وأما ذكر النفع فلتوسيع الدائرة تعميما. والمعنى لا أملك شيئا ما.

    إلا ما شاء الله أي أن أملكه، أو لكن ما شاء الله كائن، فالاستثناء متصل أو منقطع. وصوب أبو السعود الثاني، بأن الأول يأباه مقام التبرؤ من أن يكون، عليه الصلاة والسلام، له دخل في إتيان الوعد. وبسط تقريره.

    [ ص: 3356 ] وأفاد بعض المحققين أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن الكريم للدلالة على الثبوت والاستمرار، كما في هذه الآية، وقوله: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك قال: والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى، لا بطبيعتها في نفسها، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل. اهـ. وهو نفيس جدا فليحرص على حفظه.

    وقوله تعالى لكل أمة أجل أي لكل واحد من آحاد كل أمة أجل معين إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قال القاشاني: درجهم إلى شهود الأفعال بسلب الملك والتأثير عن نفسه، ووجوب وقوع ذلك بمشيئة الله، ليعرفوا آثار القيامة. ثم لوح إلى أن القيامة الصغرى هي بانقضاء آجالهم المقدرة عند الله بقوله: لكل أمة أجل الآية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 50 ] قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون

    قل أرأيتم أي أخبروني إن أتاكم عذابه أي الذي تستعجلون به بياتا أي ليلا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون أي ولا شيء منه بمرغوب البتة.

    لطائف:

    الأولى – (أرأيت) يستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية، وهو أصل وضعه، ثم استعملوه بمعنى (أخبرني) والرؤية فيه يجوز أن تكون بصرية وعلمية، فالتقدير: أأبصرت حالته العجيبة، أو أعرفتها؟ فأخبرني عنها. ولذا لم يستعمل في غير الأمر العجيب. ولما كانت رؤية الشيء سببا لمعرفته، ومعرفته سببا للإخبار عنه، أطلق السبب القريب [ ص: 3357 ] أو البعيد، وأريد مسببه، وهل هو بطريق التجوز كما ذهب إليه كثير، أو التضمين كما ذهب إليه أبو حيان- كذا في (العناية).

    الثانية - سر إيثار (بياتا) على (ليلا) مع ظهور التقابل فيه ; الإشعار بالنوم والغفلة، وكونه الوقت الذي يبيت فيه العدو، ويتوقع فيه، ويغتنم فرصة غفلته، وليس في مفهوم الليل هذا المعنى، ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش، حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار، أو النهار كله محل الغفلة، لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو غذاء، أو زمان قيلولة، كما في قوله: بياتا أو هم قائلون بخلاف الليل، فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات، فلذا خص بالذكر دون النهار. و (البيات) بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم، لا بمعنى البيتوتة.

    الثالثة -قيل: إن استعجالهم العذاب، كان المقصود منه الاستبعاد والاستهزاء، دون ظاهره، فورود (ما) هنا في الجواب على الأسلوب الحكيم. لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا الاستبعاد أن الموعود منه تعالى، وأنه افتراء، فطلبوا منه تعيين وقته تهكما وسخرية، فقال في جوابهم هذا التهكم لا يتم إذا كنت مقرا بأني مثلكم، وأني لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا، فكيف أدعي ما ليس لي به حق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح، ولم يلتفت إلى تهكمهم واستبعادهم -أفاده الطيبي-.

    الرابعة - سر إيثار ماذا يستعجل منه المجرمون على (ماذا يستعجلون منه) هو الدلالة على موجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام، لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعا من مجيئه، وإن أبطأ، فضلا عن أن يستعجله -كذا في (الكشاف)-.

    قال في (الانتصاف): وفي هذا النوع البليغ نكتتان:

    إحداهما: وضع الظاهر مكان المضمر.

    [ ص: 3358 ] والأخرى: ذكر الظاهر بصيغة زائدة مناسبة للمصدر.

    وكلاهما مستقل بوجه من البلاغة والمبالغة -والله أعلم-.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 51 ] أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون

    أثم إذا ما وقع آمنتم به إنكار لإيمانهم بنزول العذاب بعد وقوعه حقيقة، داخل مع ما قبله من إنكار استعجالهم به بعد إتيانه حكما، تحت القول المأمور به. أي: أبعد ما وقع العذاب وحل بكم حقيقة آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان؟ إنكارا لتأخيره إلى هذا الحد، وإيذانا باستتباعه للندم والحسرة، ليقلعوا عما هم عليه من العناد، ويتوجهوا نحو التدارك قبل فوت الفوات -أفاده أبو السعود -.

    وقوله تعالى: آلآن وقد كنتم به تستعجلون على إرادة القول. أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد معاينة العذاب ، آلآن آمنتم به ؟ وذلك إنكارا للتأخير، وتوبيخا عليه. وسر وضع " تستعجلون" موضع (تكذبون) الذي يقتضيه الظاهر ; الإشارة إلى أن المراد به الاستعجال السابق، وهو التكذيب والاستهزاء، استحضارا لمقالتهم، فهو أبلغ من (تكذبون).

    وقيل: الاستعجال كناية عن التكذيب، وفائدة هذه الحال استحضارها. هذا ما ذكروه، ولا مانع من بقاء الاستعجال على حقيقته، يدل عليه آية: وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة إلخ، فهم مع تهكمهم رضوا بأن يعاينوا آية يعذبون بها، لما في قلوبهم من مرض العناد العضال، والجهل المصم المعمي، ولذلك أجيبوا بأن العذاب هل فيه ما يستعجل منه! أي فمثل هذا الاستعجال لا يصدر ممن [ ص: 3359 ] له مسكة من عقل ; إذ لا يستعجل إلا ما يرجى خيره، ثم أعلمهم بعدم فائدة إيمانهم وقتئذ، وما يوبخون به، إنكارا للتأخير -والله أعلم-.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 52 ] ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون [ 53 ] ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين

    ثم قيل للذين ظلموا أي أشركوا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون في الآخرة إلا بما كنتم تكسبون أي تقولون وتعملون في الدنيا.

    ويستنبئونك أي يستخبرونك أحق هو أي الوعد بعذاب الخلد، أو ادعاء النبوة أو القرآن: قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين أي بفائتين العذاب. فهو لاحق بكم لا محالة، من (أعجزه) الشيء إذا فاته. ويصح كونه من (أعجزه) بمعنى وجده عاجزا. أي: ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزا عن إدراككم، وإيقاعه بكم.

    لطائف:

    الأولى- دل سؤالهم هذا على محض جهلهم أو عنادهم، لما ثبت من البرهان القاطع على نبوته بمعجز القرآن، وإذا صحت النبوة لزم القطع بصحة كل ما ينبئهم عنه، مما يصدعهم به.

    الثانية- إنما أمر بالقسم لاستمالتهم، وللجري على ما هو المألوف في المحاورة، من تحقيق المدعي، فإن من أقسم على خير، فقد كساه حلة الجد، وخلع عنه لباس الهزل: إنه لقول فصل وما هو بالهزل

    [ ص: 3360 ] الثالثة- لما كانت الناس طبقات، كان منهم من لا يسلم إلا ببرهان حقيقي، ومنهم من لا ينتفع به، ويسلم إلا بالأمور الإقناعية، نحو القسم، كالأعرابي الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله عن رسالته وبعثه، وأنشده بالذي بعثه، ثم اقتنع بقوله صلوات الله عليه: « اللهم نعم » فقال: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة، -رواه البخاري في أوائل كتاب العلم-.

    الرابعة- قال ابن كثير: هذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ: وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم وفي التغابن: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير -انتهى -.

    وقد استمد ابن كثير هذا مما ذكره شيخه الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) قال: وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعا، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع، ثم ذكر هذه الآيات، ثم قال: وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه - فتحاكم إليه يوما هو وخصم له، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود، فتهيأ للحلف، فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف، ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني عن الحلف، وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه؟ قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جدا، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم. انتهى.
    [ ص: 3361 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 54 ] ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون

    ولو أن لكل نفس ظلمت أي بالشرك بالله، أو التعدي على الغير، أو مطلقا ما في الأرض أي من الأموال لافتدت به أي لجعلته فدية لها من العذاب وأسروا الندامة أي أخفوها أسفا على ما فعلوا من الظلم. وضمير " أسروا" للنفوس، المدلول عليها بـ (كل نفس). والعدول إلى صيغة الجمع ; لتهويل الخطب، بكون الخطب بطريق الاجتماع لما رأوا العذاب أي عاينوه وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون أي فيما فعل بهم من العذاب ; لأنه جزاء ظلمهم. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 55 ] ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 56 ] هو يحيي ويميت وإليه ترجعون

    ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون إعلام بأن له الملك كله، وأنه المثيب المعاقب، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق، وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجى، ولا يغتر به المغترون -كذا في الكشاف-.
    [ ص: 3362 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 57 ] يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين

    يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم أي تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد، والإنذار والبشارة، والزجر عن الذنوب المورطة في العقاب، والتحريض على الأعمال الموجبة للثواب، لتعملوا على الخوف والرجاء وشفاء لما في الصدور أي القلوب من أمراضها، كالشك والنفاق، والغل والغش، وأمثال ذلك، بتعليم الحقائق، والحكم الموجبة لليقين، وتصفيتها بقبول المعارف، والتنور بنور التوحيد وهدى أي لنفوسكم من الضلالة ورحمة للمؤمنين أي لمن آمن به، بالنجاة من العذاب والارتقاء إلى درجات النعيم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 58 ] قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون

    قل بفضل الله يعني القرآن الذي أكرموا به وبرحمته يعني الإسلام فبذلك أي فبمجيئهما فليفرحوا أي لا بالأمور الفانية القليلة المقدار، الدنيئة القدر والوقع هو خير مما يجمعون أي من الأموال وأسباب الشهوات، إذ لا ينتفع بجميعها ولا يدوم، ويفوت به اللذات الباقية، بحيث يحال بينهم وبين ما يشتهون.

    والفاء داخلة في جواب شرط مقدر، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فيهما فليفرحوا. أو هي رابطة لما بعدها بما قبلها، لدلالتها على تسبب ما بعدها عما قبلها. والفاء الثانية زائدة لتأكيد الأولى، أو الزائدة الأولى، لأن جواب الشرط في الحقيقة فليفرحوا و (بذلك) مقدم من تأخير، وزيدت فيه الفاء للتحسين. وكذلك جوز أن يكون بدلا من قوله بفضل الله وبرحمته
    [ ص: 3363 ] ثم بين تعالى أن من فضله على الناس تبيين الحرام من الحلال على ألسنة الرسل، لئلا يفتروا عليه الكذب بتحريم ما أحل أو عكسه، كما فعل المشركون، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 59 ] قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون

    قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق أي ما خلق لكم من حرث وأنعام فجعلتم منه حراما وحلالا أي أنزله تعالى رزقا حلالا كله، فبغضتموه، وقلتم: هذا حلال وهذا حرام، كقولهم: هذه أنعام وحرث حجر ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا قل آلله أذن لكم في الحكم بالتحريم والتحليل، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه أم على الله تفترون أي تختلقون الكذب،
    ثم بين وعيد هذا الافتراء بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 60 ] وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون

    وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة أي فيما يفعل بهم، وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم، حيث أبهم أمره إن الله لذو فضل على الناس في إنزال الوحي وتعليم الحلال والحرام ولكن أكثرهم لا يشكرون أي هذه النعمة، فيستعملون ما وهب إليهم من الاستعداد والعلوم في مطالب النفس الخسيسة، ولا يتبعون ما هدوا إليه.
    [ ص: 3364 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 61 ] وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين

    وما تكون في شأن أي أمر ما وما تتلو منه أي التنزيل من قرآن أي سورة أو آية ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه أي تخوضون وتندفعون فيه وما يعزب أي يغيب عن ربك من مثقال ذرة أي نملة أو هباء في الأرض ولا في السماء أي في دائرة الوجود والإمكان.

    وقوله تعالى: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين كلام برأسه، مقرر لما قبله، أي مكتوب مبين، لا التباس فيه. والمراد بالآية البرهان على إحاطة علمه تعالى بحال أهل الأرض، بأن من لا يغيب عن علمه شيء كيف لا يعرف حال أهل الأرض، وما هم عليه مع نبيه صلى الله عليه وسلم؟! وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 62 ] ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 63 ] الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 64 ] لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم

    ألا إن أولياء الله جمع ولي، وهو في الأصل ضد العدو، بمعنى المحب، وجاز كونه هنا بمعنى الفاعل، أي الذين يتولونه بالطاعة، كقوله تعالى: ومن يتول الله ورسوله [ ص: 3365 ] والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وبمعنى المفعول أي الذي يتولاهم بالإكرام، كقوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وقوله: إنما وليكم الله ورسوله الآية -وكلا المعنيين متلازمان: لا خوف عليهم من لحوق مكروه، ولا هم يحزنون أي من الفزع الأكبر، كما في قوله تعالى: لا يحزنهم الفزع الأكبر

    الذين آمنوا أي بكل ما جاء من عند الله تعالى وكانوا يتقون أي يخافون ربهم، فيفعلون أوامره، ويتجنبون مناهيه، من الشرك والكفر والفواحش. ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمحذوف، كأنه قيل: من أولئك وما سبب فوزهم بذاك الإكرام؟ فقيل: هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى، المفضيين إلى كل خير، المنجيين من كل شر، أو النصب بمحذوف.

    وقوله تعالى: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة (البشرى) مصدر إما باق على مصدريته، والمبشر به محذوف، أي لهم البشارة فيهما بالجنة، وإنما حذف للعلم به من آيات أخر، كقوله تعالى: الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا إلى قوله: يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم وقوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون وإما مراد به المبشر به، وتعريفه للعهد، كقوله سبحانه: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #398
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُونُسَ
    المجلد التاسع
    صـ 3366 الى صـ 3380
    الحلقة (397)






    وقوله تعالى: لا تبديل لكلمات الله أي لمواعيده ذلك أي بشراكم، وهي [ ص: 3366 ] الجنة، هو الفوز العظيم أي المنال الجليل، الذي لا مطلب وراءه، كيف؟ وقد فازوا بالجنة وما فيها، ونجوا من النار وما فيها.

    تنبيه:

    هذه الآية الكريمة أصل في بيان أولياء الله، وقد بين تعالى في كتابه، ورسوله في سنته، أن لله أولياء من الناس، كما أن للشيطان أولياء. وللإمام تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة، كتاب في ذلك سماه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) نقتبس منه جملة يهم الوقوف عليها، لكثرة ما يدور على الألسنة من ذكر الولي والأولياء. قال رحمه الله: إذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء، كما فرق الله ورسوله بينهما. فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما في هذه الآية، وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، أو فقد آذنته بالحرب... » الحديث- وهذا أصح حديث يروى في الأولياء، دل على أن من عادى وليا لله، فقد بارز الله بالمحاربة.

    وفي حديث آخر: « وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب » أي: آخذ ثأرهم ممن عاداهم، كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب، وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر، ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطي، ومنعوا من يحب أن يمنع.

    والولاية ضد العداوة. وأصل الولاية المحبة والقرب. وأصل العداوة البغض والبعد.

    [ ص: 3367 ] وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وإمام المتقين، الذي بعثه الله بأفضل كتبه، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، فلا يكون وليا لله إلا من آمن به، وبما جاء به، واتبعه ظاهرا وباطنا. ومن ادعى محبة الله وولايته، وهو لم يتبعه ; فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان. وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله، ولا يكونون من أوليائه. فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه. قال تعالى: قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق الآية، وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله، لسكناهم مكة، ومجاورتهم البيت، فأنزل تعالى: وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون وكما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله، وليس وليا لله، بل عدو له، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام، يقرون في الظاهر بالشهادتين، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك، مثل ألا يقروا باطنا برسالته عليه السلام، وإنما كان ملكا مطاعا، ساس الناس برأيه، من جنس غيره من الملوك. أو يقولون إنه رسول الله إلى الأميين خاصة. أو يقولون إنه مرسل إلى عامة الخلق، وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم، ولا يحتاجون إليه، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته، كما كان الخضر مع موسى. أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه، وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة، وهم موافقون له فيها. وأما الحقائق الباطنة، فلم يرسل بها، أو لم يكن يعرفها، أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته، فهؤلاء كلهم كفار، مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله. وإنما أولياء الله: الذين وصفهم تعالى بولايته بقوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون

    [ ص: 3368 ] ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، مرسل إلى جميع الثقلين الإنس والجن. فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ما جاء به، وكفر ببعض، فهو كافر ليس بمؤمن.

    ومن الإيمان به، الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه، في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه. فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر من أولياء الشيطان.

    وأما خلق الله تعالى للخلق، ورزقه إياهم، وإجابته لدعائهم، وهدايته لقلوبهم، ونصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع، ودفع المضار، فهذا لله وحده، يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل.

    ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن، ولا ولي لله تعالى. كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم، وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من مشركي العرب والترك والهند وغيرهم، ممن كان من حكماء الهند والترك، وله علم أو زهد وعبادة في دينه، وليس مؤمنا بجميع ما جاء به، فهو كافر، عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولي لله. كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارا مجوسا، وكذلك حكماء اليونان مثل: أرسطو وأمثاله، كانوا مشركين، يعبدون الأصنام والكواكب. وفي أصناف المشركين من هذه الطوائف من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمؤمن بالرسل، ولا يصدقهم فيما أخبروا به، ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين، ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم، فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة [ ص: 3369 ] الذين تنزل عليهم الشياطين. قال تعالى: هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين تنـزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات، وخوارق العادات، إذا لم يكونوا متبعين للرسل، فلا بد أن يكذبوا وتكذبهم شياطينهم، ولا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين، واقترنت بهم، فصاروا من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن.

    ومن الناس من يكون فيه إيمان، وفيه شعبة من نفاق، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان » . وفي صحيح مسلم: « وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم » .

    وإذ كان أولياء الله هم (المؤمنون المتقون)، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانا وتقوى، كان أكمل ولاية لله. فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل، بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله، بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق.

    وأولياء الله على طبقتين: سابقون ومقربون وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز. فالأبرار أصحاب اليمين، هم المتقربون إلى الله بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات. وأما السابقون المقربون، فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا [ ص: 3370 ] الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم، أحبهم الرب حبا تاما، كما قال تعالى: « ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه » يعني الحب المطلق.

    ثم إذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا، لهذه الآية ; فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله. وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته، وإن قدر أنه لا إثم عليه، مثل أطفال الكفار، ومن لم تبلغه الدعوة، وإن قيل إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولا، فلا يكونون من أولياء الله، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين. فمن يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بفعل السيئات، لم يكن من أولياء الله.

    وكذلك المجانين والأطفال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ » . وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث عائشة رضي الله عنها، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول. ولكن الصبي المميز تصح عباداته، ويثاب عليها عند جمهور العلماء، وأما المجنون الذي رفع عنه القلم، فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، بل لا يصلح هو، عند عامة العقلاء لأمور الدنيا، كالتجارة والصناعة، فلا يصلح أن يكون بزازا ولا عطارا ولا حدادا ولا نجارا، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء. فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته، ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، ولا ثواب ولا عقاب، بخلاف الصبي [ ص: 3371 ] المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع، بالنص والإجماع، وفي مواضع فيها نزاع. وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون وليا لله، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله، لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوعا من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع. فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب، لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية، كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله، إن لم يعلم ما يناقض ولاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله؟ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر، دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أو يقول إن الأنبياء ضيقوا الطريق، أو هم قدوة العامة دون الخاصة، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان، فضلا عن ولاية الله عز وجل. فمن احتج بما يصدر عن أحدهم، من خرق عادة، على ولايتهم، كان أضل من اليهود والنصارى. وكذلك المجنون، فإن كونه مجنونا يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات، التي هي شرط في ولاية الله. ومن كان يجن أحيانا، ويفيق أحيانا، إذا كان في حال إفاقته مؤمنا بالله ورسوله، ويؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم، فهذا إذا جن، لم يكن جنونه مانعا من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك، وكذلك من طرأ عليه الجنون، بعد إيمانه وتقواه، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله، والقلم مرفوع عنه في حال جنونه.

    فعلى هذا، فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض، ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك، لم يكن لأحد أن يقول: هذا ولي لله، فإن هذا إن لم يكن مجنونا، بل كان [ ص: 3372 ] متولها من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة، ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر; وإن كان مجنونا باطنا وظاهرا قد ارتفع عنه القلم. فهذا وإن لم يكن معاقبا عقوبة الكافرين، فليس هو مستحقا لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله، ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنا بالله متقيا، كان له من ولاية الله بحسب ذلك، وإن كان له في حال فيه كفر أو نفاق، أو كان كافرا أو منافقا ثم طرأ عليه الجنون، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق.

    فصل

    وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ضفره، إذا كان كلاهما مباحا، كما قيل: كم من صديق في قباء، وكم من زنديق في عباء. بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن، وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار والصناع والزراع. وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم (القراء) فيدخل فيهم العلماء والنساك. ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء واسم (الصوفية)، نسبة إلى لباس الصوف. هذا هو الصحيح، وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل إلى (صوفة بن أد) قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك، وقيل إلى أهل الصفا، وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصفة، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى. وهذه أقوال ضعيفة، فإنه لو كان كذلك لقيل: صفي، أو صفائي، أو صفي، ولم يقل صوفي، وصار أيضا اسم الفقراء يعنى به أهل السلوك، وهذا عرف حادث، وقد تنازع الناس، أيما أفضل: مسمى الصوفي [ ص: 3373 ] أو مسمى الفقير؟ ويتنازعون أيضا: أيما أفضل؟ الغني الشاكر، أو الفقير الصابر؟ والصواب في هذا كله ما قاله تبارك وتعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الناس أفضل؟ قال: « أتقاهم » ، فدل الكتاب والسنة على أن أكرم الناس عند الله أتقاهم. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى » . وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس رجلان: مؤمن تقي وفاجر شقي » .

    فصل

    وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به مما نهى الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى، وتكون من الشيطان لبسها عليه، لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان، وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى. فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان [ ص: 3374 ] وما استكرهوا عليه، ولم يؤثم النبي صلى الله عليه وسلم المجتهد المخطئ بل جعل له أجرا على اجتهاده، وجعل خطأه مغفورا له، ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط، لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي الله، إلا أن يكون نبيا، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه، إلا أن يكون موافقا، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه. والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: طرفان ووسط. فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي الله وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه، وسلم إليه جميع ما يفعله. ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع، أخرجه عن ولاية الله بالكلية، وإن كان مجتهدا مخطئا، وخيار الأمور أوساطها، وهو ألا يجعل معصوما ولا مأثوما، إذا كان مجتهدا مخطئا، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده. والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله. وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين، لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف، ويقول: هذا خالف الشرع.

    وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن كان في أمتي أحد فعمر منهم » . وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة. والمحدث الذي يأخذ عن قلبه أشياء، ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم، ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته، ولا يقول لهم: أنا محدث ملهم [ ص: 3375 ] مخاطب، فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني. فأي من ادعى له أصحابه أنه ولي الله، وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة -فهو وهم مخطئون. ومثل هذا من أضل الناس. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه، وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقول، هو وهم على الكتاب والسنة. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم. ولذا قال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة. وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لقوله تعالى: وإن تطيعوه تهتدوا وقال أبو عمرو بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.

    فأولياء الله تعتبر بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام. فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان. أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات، ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، لا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان، على سماع كلام الرحمن ; فهذه علامات أولياء الشيطان، لا علامات أولياء الرحمن -انتهى ملخصا-.

    [ ص: 3376 ] والكتاب مما يلزم الوقوف عليه، ومطالعته بالحرف، ففيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره، فرحم الله جامعه، وجزاه خيرا. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 65 ] ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم

    ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يسمعه من تآمرهم في إيصال مكروه له، ومجاهرتهم بتكذيبه، ورميه بالسحر ونحوه، أي: لا تتأثر بقولهم، وشاهد عز الله وقهره، لتنظر إليهم بنظر الفناء وترى أعمالهم وأقوالهم، وما يهددونك به كالهباء، فمن شاهد قوة الله وعزته يرى كل القوة والعزة له، لا قوة لأحد ولا حول. فقوله تعالى: إن العزة لله تعليل للنهي على طريقة الاستئناف، كأنه قيل: ما لي لا أحزن؟ فقيل: إن العزة لله، أي الغلبة والقهر في ملكته وسلطانه، لا يملك أحد شيئا منها أصلا، لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم، وينصرك عليهم: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إنا لننصر رسلنا وقوله هو السميع أي لأقوالهم فيك، فيجازيهم العليم أي لما ينبغي أن يفعل بهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 66 ] ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

    ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض أي كلهم تحت ملكته وتصرفه وقهره، لا يقدرون على شيء بغير إذنه ومشيئته وإقداره إياهم. وقوله: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون تأكيد [ ص: 3377 ] لما سبق من اختصاص العزة به تعالى، لتزيد سلوته صلوات الله عليه، وبرهان على بطلان ظنونهم وأقوالهم المبنية عليها. وفي (ما) من قوله وما يتبع وجهان:

    أحدهما: أنها نافية، و (شركاء) مفعول (يتبع)، ومفعول (يدعون) محذوف لظهوره. أي: ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، شركاء في الحقيقة، وإن سموها شركاء لجهلهم، فاقتصر على أحدهما لظهور دلالته على الآخر. ويجوز أن يكون (شركاء) مفعول (يدعون)، ومفعول (يتبع) محذوف، لانفهامه من قوله إن يتبعون إلا الظن أي ما يتبعون يقينا، إنما يتبعون ظنهم الباطل.

    والوجه الثاني: أنها استفهامية، منصوبة بـ(يتبع)، و (شركاء) مفعول (يدعون) أي: أي شيء يتبع هؤلاء؟ أي: إذا كان الكل تحت قهره وملكته فما يتبعون من دون الله ليس بشيء، ولا تأثير له ولا قوة، إن يتبعون إلا ما يتوهمونه في ظنهم، ويتخيلونه في خيالهم، وما هم إلا يقدرون وجود شيء لا وجود له في الحقيقة.

    ثم نبه تعالى على انفراده بالقدرة الكاملة، والنعمة الشاملة، ليدل على توحده سبحانه باستحقاق العبادة، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 67 ] هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون

    هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه أي خلقه لكم لتستقروا فيه من نصبكم وكلالكم: والنهار مبصرا أي مضيئا، تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم.

    قيل: الآية من باب الاحتباك. والتقدير: جعل الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم، فحذف من كل من الجانبين ما ذكر في الآخر، اكتفاء بالمذكور عن المتروك. وإسناد الإبصار إلى النهار مجازي، كقوله:


    ما ليل المحب بنائم


    [ ص: 3378 ] إن في ذلك أي الجعل المذكور لآيات لقوم يسمعون أي هذه الآيات ونظائرها، سماع تدبر واعتبار.

    ثم شرع في نوع آخر من أباطيلهم بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 68 ] قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون

    قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه تنزيه له عن أن يجانس أحدا، أو يحتاج إليه، وتعجب من كلمتهم الحمقاء هو الغني أي الذي وجوده بذاته، وبه وجود كل شيء، فكيف يماثله شيء؟! ومن له الوجود كله، فكيف يجانسه شيء؟! والجملة علة لتنزيهه، وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة، إما للتقوي به، أو لبقاء نوعه له ما في السماوات وما في الأرض تقرير لغناه، أي فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا إن عندكم من سلطان بهذا أي: ما عندكم من حجة بهذا القول الباطل توضيح لبطلانه، بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض، أي ليس بعد هذا حجة تسمع. والمراد تجهيلهم، وأنه لا مستند لهم سوى تقليد الأوائل، واتباع جاهل لجاهل.

    تنبيه:

    دلت الآية على تسمية البرهان سلطانا.

    قال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): إنه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطانا. قال ابن عباس رضي الله عنه: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهذا كقوله تعالى إن عندكم من سلطان بهذا يعني ما عندكم من حجة بما قلتم، إن هو إلا قول على الله بلا علم. وقوله تعالى: إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنـزل الله بها من سلطان [ ص: 3379 ] يعني ما أنزل بها حجة ولا برهانا، بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم. وقوله تعالى أم لكم سلطان مبين يعني حجة واضحة. إلا موضعا واحدا اختلف فيه، وهو قوله: ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه فقيل: المراد به القدرة والملك، أي ذهب عني مالي وملكي، فلا مال لي ولا سلطان. وقيل: هو على بابه، أي انقطعت حجتي وبطلت، فلا حجة لي. والمقصود: أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانا ; لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره، فله بها سلطان على الجاهلين، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب، وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن. فالحجة تأسر القلب وتقوده، وتذل المخالف، وإن أظهر العناد والمكابرة، فقلبه خاضع لها ذليل، مقهور تحت سلطانها. بل سلطان الجاه إن لم يكن معه علم يساس به، فهو بمنزلة سلطان السباع والأسود ونحوها، قدرة بلا علم ولا رحمة، بخلاف سلطان الحجة، فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة، ومن لم يكن له اقتدار في علمه، فهو إما لضعف حجته وسلطانه، وإما لقهر سلطان اليد والسيف له، وإلا فالحجة ناصرة نفسها، ظاهرة على الباطل قاهرة له - انتهى-.

    أتقولون على الله ما لا تعلمون توبيخ وتقريع على جهلهم. قال الزمخشري: لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله، فذاك جهل وليس بعلم.

    وقال أبو السعود: فيه تنبيه على أن كل مقالة لا دليل عليها، فهي جهالة، وأن العقائد لا بد لها من برهان قطعي، وأن التقليد بمعزل من الاعتداد به.
    [ ص: 3380 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 69 ] قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 70 ] متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون

    قل إن الذين يفترون على الله الكذب باتخاذ الولد، وإضافة الشركاء لا يفلحون أي لا يفوزون بمطلوب أصلا. متاع في الدنيا مبتدأ خبره محذوف، أي لهم تمتع يسير في الدنيا ثم إلينا مرجعهم أي بالموت ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون أي بسبب كفرهم. والآية لبيان أن ما يتراءى من فوزهم بالحظوظ الدنيوية بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح. كأنه قيل: كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم؟ فقيل: هو متاع يسير في الدنيا، وليس بفوز بالمطلوب.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #399
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ يُونُسَ
    المجلد التاسع
    صـ 3381 الى صـ 3395
    الحلقة (398)





    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 71 ] واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون

    واتل عليهم نبأ نوح أي خبره الذي له شأن وخطر، مع قومه المغترين بعزة الأموال والأعوان، ليتدبروا ما فيه من صحة توكله على الله، ونظره إلى قومه، بعين عدم المبالاة بهم، وبمكايدهم، وزوال ما تمتعوا به من النعيم، بإغراقهم بالطوفان، فلعلهم يكفون عن كفرهم، وتلين أفئدتهم ويستيقنون صحة نبوتك إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر أي شق وثقل عليكم مقامي أي مكاني، يعني نفسه، أو مكثي بين أظهركم مددا [ ص: 3381 ] طوالا، ألف سنة إلا خمسين عاما، أو قيامي بالدعوة إلى الله، من رؤيتكم ذلتي بقلة الأموال والأعوان، ومنع عزتكم بهما عن الانقياد لي وتذكيري بآيات الله أي بحججه وبراهينه، أو تخويفي بعذابه فعلى الله توكلت أي اعتمدت في دفع ما قصدتموني به فأجمعوا أمركم أي شأنكم في إهلاكي وشركاءكم يعني آلهتهم وهو تهكم بهم، أو نظراءهم في الشرك. و (الواو) بمعنى مع، أو معطوف على (أمركم) بحذف المضاف، أي: وأمر شركائكم، أو منصوب بمحذوف، أي ادعوا شركاءكم، وذلك لأن (أجمع) يتعلق بالمعاني، يقال: (أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه): ثم لا يكن أمركم عليكم غمة أي مستورا. من (غمه إذا ستره) بل مكشوفا تجاهرونني به ثم اقضوا إلي أي أدوا إلي ذلك الأمر الذي تريدون بي ولا تنظرون أي ولا تمهلوني.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 72 ] فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين

    فإن توليتم أي عن الإيمان بما جئتكم به فما سألتكم من أجر أي جعل على عظتكم، أي فلا باعث لكم على التولي والنفور إن أجري إلا على الله أي ما ثوابي على التذكير إلا عليه تعالى، يثيبني به، آمنتم أو توليتم وأمرت أن أكون من المسلمين أي المستسلمين له وحده بالإيمان به، ونبذ كل معبود دونه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 73 ] فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين

    فكذبوه يعني نوحا بما جاءهم، عنادا، بعد أن قامت عليهم الحجة، فحقت عليهم كلمة العذاب، وأرسل عليهم الطوفان فنجيناه أي من الغرق ومن معه في الفلك [ ص: 3382 ] وجعلناهم خلائف أي خلفاء عن المغرقين وعمار الأرض وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين أي منتهى أمرهم. والمراد بـ (المنذرين) المكذبين. والتعبير به إشارة إلى إصرارهم عليه، حيث لم يفد الإنذار فيهم. وقد جرت السنة الربانية أن لا يهلك قوم بالاستئصال إلا بعد الإنذار ; لأن من أنذر فقد أعذر. وفي الأمر بالنظر تهويل لما جرى عليهم، وتحذير لمن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 74 ] ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين

    ثم بعثنا من بعده أي من بعد نوح رسلا إلى قومهم يعني هودا وصالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا فجاءوهم بالبينات أي الآيات الدالة على صدقهم، المفيدة هدايتهم فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل أي بسبب تعودهم تكذيب الحق، وتمرنهم عليه; لأنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية، مكذبين بالحق فحالهم بعدها كحالهم قبلها، هذا على أن ضمير (كانوا) و (كذبوا) لقوم الرسل. وجاز عود ضمير (كانوا) لقوم الرسل، و (كذبوا) لقوم نوح. أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي بمثله كذلك نطبع على قلوب المعتدين أي المجاوزين مقتضيات حقائق الأشياء بخذلانهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 75 ] ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين

    ثم بعثنا من بعدهم أي من بعد هؤلاء الرسل موسى وهارون إلى فرعون [ ص: 3383 ] وملئه بآياتنا يعني التسع فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين أي كفارا ذوي آثام عظام.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 76 ] فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين

    فلما جاءهم الحق من عندنا يعني الآيات المزيحة للشك قالوا يعني من فرط التمرد إن هذا لسحر مبين أي تلبيس ظاهر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 77 ] قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون

    قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أي على وجه لم يترك لكم شبهة مقالتكم الحمقى، من أنه سحر، فحذف المحكي المقول لدلالة الكلام عليه. ثم قال: أسحر هذا استفهام إنكار من قول موسى لا من قولهم. فهو مستأنف لإنكار كونه سحرا، وتكذيب لقولهم، وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ. وليس أسحر هذا مقولهم، لأنهم بتوا القول بأنه سحر، فكيف يستفهمون عنه؟ -كذا قيل-.

    ولا أرى مانعا من أن يكون مقولهم، والهمزة وسطت مزيدة لتكون مؤكدة لما قبلها من الاستفهام، ومن لطائفها الاحتراس عن إيهام فاعلية سحر لـ جاءكم بادئ بدء، وأسلوب القرآن فوق كل أسلوب. أو الهمزة ومدخولها من مقولهم الأول، حين فوجئوا بخارقة موسى، وقولهم المذكور قبل إن هذا لسحر حكاية لقولهم الذي بتوا عليه أمرهم. ثم رأيت الناصر في (الانتصاف) أشار لهذا حيث قال:

    وأما القراءة الثانية -يعني قراءة ((آالسحر))- على الاستفهام، ففيها -والله أعلم- إرشاد إلى أن قول موسى أولا: أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا حكاية لقولهم، ويكون: [ ص: 3384 ] أسحر هذا هو الذي قالوه. ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا إن هذا لسحر مبين وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعا، بدؤوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقا، والاستهزاء بالحق إنكار له بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبت من الإخبار. ألا ترى أنهم يقولون في قوله: (أأنت أم سالم، أبلغ في البت من قوله مخبرا: أنت أم سالم) ثم ثنوا بصيغة الخبر الخاصة ببت الإنكار، ودعوى أنه سحر، فقالوا: إن هذا لسحر مبين فحكى الله تعالى عنهم هذا القول الثاني، ووبخهم موسى على قولهم الأول، ومعنى العبارتين ومآلهما واحد. وإما ألا يكونوا قالوا سوى أسحر هذا على سبيل الإنكار حسبما تقدم، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله ; لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار، وبت القول أنه سحر، وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه، ولم يؤده بعبارة أخرى. وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة، لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني.

    وحاصل هذا البحث أن قول موسى عليه السلام: أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا إنما حكى فيه قولهم، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهما، فقال: ما جئتم به آالسحر (على قراءة الاستفهام) قرضا بوفاء على السواء، والذي يحقق لك أن الاستفهام والإخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام ما جئتم به السحر على الوجهين: الخبر والاستفهام، على ما اقتضته القراءتان وهو قول واحد، دل أن مؤدى الأمرين واحد، ضرورة صدق الخبر.

    وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب أو إضمار مفعول (تقولون) استشكال وقوع الاستفهام محكيا بالقول، والمحكي عنهم الخبر، وقد أوضحنا أن لا تنافر ولا تنافي بين الأمرين.

    قال الناصر: فشد بهذا الفصل عرى التمسك، فإنه من دقائق النكت، والله الموفق.

    [ ص: 3385 ] وقوله تعالى: ولا يفلح الساحرون من كلام موسى قطعا، أتى به تقريرا لما سبق ; لأنه لما استلزم كون الحق سحرا، كون من أتى به ساحرا، أكد الإنكار السابق، وما فيه من التوبيخ والتجهيل بذلك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 78 ] قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين

    قالوا أي لموسى أجئتنا لتلفتنا أي لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا يعنون عبادة الأصنام وتكون لكما الكبرياء أي الملك والسلطان: في الأرض أي أرض مصر وما نحن لكما بمؤمنين أي لتبقى عزتنا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 79 ] وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم

    وقال فرعون أي حفظا لعزته، ودفعا لتعزز موسى ائتوني بكل ساحر عليم أي ماهر في فنه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 80 ] فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون

    فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون أي من أصناف السحر، قال بعضهم: جواز الأمر بالسحر لدحضه، وكذلك طلب إيراد الشبه لتحل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 81 ] فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين

    فلما ألقوا أي عصيهم وحبالهم ليضاهوا معجزة موسى بعصاه قال موسى [ ص: 3386 ] ما جئتم به السحر أي هو السحر، لا ما جئتكم به مما سميتموه سحرا: إن الله سيبطله أي سيمحقه بالكلية بمعجزتي، فلا يبقى له أثر إن الله لا يصلح عمل المفسدين أي بل يسلط عليه الدمار.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 82 ] ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون

    ويحق الله الحق بكلماته أي يثبته ويقويه بها ولو كره المجرمون أي ذلك. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 83 ] فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين

    فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه معطوف على مقدر معلوم من مواقع أخر، أي فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون إلخ. قيل: الضمير من قومه لفرعون، وهم ناس يسير من قومه، آمنوا به سرا، والأظهر أنهم قوم موسى، وهم بنو إسرائيل، الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب، فهم الذين آمنوا به على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم أي يعذبهم وإن فرعون لعال أي مستكبر في الأرض أي أرض مصر وإنه لمن المسرفين أي المتجاوزين الحد بالظلم والفساد، وبادعاء الربوبية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 84 ] وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين

    وقال موسى أي تطمينا لقلوبهم، وإزالة للخوف عنهم يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا [ ص: 3387 ] أي فإليه أسندوا أمركم في العصمة مما تخافون، وبه ثقوا، فإنه كافيكم ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقوله إن كنتم مسلمين أي مخلصين وجوهكم له.

    قال القاشاني: جعل التوكل من لوازم الإسلام، وهو إسلام الوجه لله تعالى، أي: إن كمل إيمانكم ويقينكم، بحيث أثر في نفوسكم، وجعلها خالصة لله ; لزم التوكل عليه. وإن أريد (الإسلام) بمعنى الانقياد، كان شرطا في التوكل، لا ملزوما له، وحينئذ يكون معناه: إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا، بشرط أن تكونوا منقادين. كما تقول: إن كرهت هذا الشجر فاقلعه إن قدرت -انتهى-.

    وقال الكرخي: قوله تعالى إن كنتم مسلمين أي: منقادين لأمره. فقوله فعليه توكلوا جواب الشرط الأول، والشرط الثاني وهو إن كنتم مسلمين شرط في الأول. وذلك أن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود، فالشرط الثاني شرط في الأول. ولذلك لم يجب تقديمه على الأول. قال الفقهاء: المتأخر يجب أن يكون متقدما، والمتقدم يجب أن يكون متأخرا، مثاله: قول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا، فمجموع قوله: (إن دخلت الدار فأنت طالق) مشروط بقوله (إن كلمت زيدا) والمشروط متأخر عن الشرط، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ، متقدما في المعنى، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخرا في المعنى، فكأنه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق، فلو حصل هذا المعلق قبل إن كلمت زيدا لم يقع الطلاق. فقوله تعالى: إن كنتم آمنتم إلخ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين بقوله: إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل. والأمر كذلك، لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام، [ ص: 3388 ] وهو الانقياد لتكاليف الله، وترك التمرد والإيمان عبارة عن معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد، وما سواه محدث تحت تدبيره وقهره. وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إليه تعالى، ويحصل في القلب نور التوكل على الله تعالى. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 85 ] فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين

    فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين أي موضع فتنة لهم، أي عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا. قال الحاكم: دلت على حسن السؤال بالنجاة من الظلمة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 86 ] ونجنا برحمتك من القوم الكافرين

    ونجنا برحمتك من القوم الكافرين أي: من كيدهم، ومن شؤم مشاهدتهم، والعبودية لهم.

    قال القاضي: وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولا، لتجاب دعوته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 87 ] وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين

    وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا أي اتخذا بها بيوتا مباءة تلازمونها لتجتمع كلمتكم في شأنكم واجعلوا بيوتكم قبلة أي مصلى وأقيموا الصلاة أي في بيوتكم، قال بعضهم: كانوا خائفين، وفي ذلك دلالة على جواز كتم الصلاة عند الخوف. وبشر المؤمنين أي بالنصرة في الدنيا، والجنة في العقبى.
    [ ص: 3389 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 88 ] وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم

    وقال موسى أي يدعو الله تعالى في إذهاب عزة فرعون ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة أي ما يتزين به من اللباس والمراكب والحلي وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك أي بالتكبر عليك وعلى آياتك ورسلك. وقوله " ليضلوا" متعلق بـ " آتيت" ، وأعيد " ربنا" توكيدا، و (لام) " ليضلوا" لام العاقبة والصيرورة. أي: آتيتهم النعم المذكورة ليشكروها ويتبعوا سبيلك، فكان عاقبة أمرهم أنهم كفروا وضلوا عن سبيلك، وتجويز جعل اللام للعلة استدراجا، أو لام الدعاء عليهم بذلك -توسع في غير متسع، ونبو عن لطف المساق وسره، فإن موسى لما رأى القوم مصرين على الكفر والعناد أخذ في الدعاء عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يقدم بين يدي دعائه ما دفعه واضطره إلى الابتهال; لتحق إجابته، ولذا بين أولا ضلالهم عن السبيل بكفرانهم للنعم، وعتوهم على المحسن بها تمهيدا لقوله: ربنا اطمس على أموالهم أي أهلكها ; لأنهم يستعينون بنعمتك على معصيتك. وأصل (الطمس) محو الأثر والتغيير واشدد على قلوبهم أي اجعلها قاسية، واطبع عليها، حتى لا تنشرح للإيمان فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أي يعاينوه ويوقنوا به، بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك، وقوله فلا يؤمنوا جواب للدعاء، أو دعاء بلفظ النهي.

    قال ابن كثير: هذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنه لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء. كما دعا نوح عليه السلام [ ص: 3390 ] فقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ولهذا استجاب تعالى لموسى فيهم هذه الدعوة التي شركه فيها أخوه هارون كما أخبر بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 89 ] قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون

    قال تعالى قد أجيبت دعوتكما فاستقيما أي على أمري، ولا تعجلا، فإن مطلوبكما كائن في وقته لا محالة ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي في الاستعجال، أو عدم الوثوق بوعده تعالى، أو يعني فرعون وقومه، بقوله سبحانه.

    ثم أشار تعالى إلى إجابته دعاءهما في إهلاك فرعون وقومه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 90 ] وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين

    وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم أي لحقهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا أي لأجل البغي عليهم والاعتداء حتى إذا أدركه الغرق قال يرجو النجاة من الغرق آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين وذلك أن موسى عليه السلام لما رغب إلى فرعون أن يطلق الإسرائيليين من عبوديته، ويأذن لهم بالسراح إلى فلسطين ليعبدوا ربهم، أبى وتمرد، فضربه الله وقومه بالآيات التسع، كما [ ص: 3391 ] تقدم في سورة (الأعراف) فأذن لموسى وشعبه بالخروج من مصر، فارتحل بنو إسرائيل جميعا بمواشيهم وأثاثهم، ثم ندم فرعون وملؤه على إطلاقهم من خدمتهم، فاشتد فرعون وجنوده في أثرهم ليردهم، فأدركهم وهم نازلون عند البحر، فرهب الإسرائيليون من مقدمه، وضجوا إلى موسى، فسكن روعهم، وأعلمهم ما يشاهدون من نجاتهم، وهلاك عدوهم، وأوحى تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر، فانشق، ودخل بنو إسرائيل في وسطه على اليبس الذي جعله تعالى آية كبرى، ونفذوا منه إلى شاطئه، وتبعهم فرعون وجنوده، حتى إذا توسطوا البحر، مد موسى يده على البحر، فارتد إلى ما كان عليه، وغرق فرعون بمن معه. ولما أحس بالغرق، لاذ إلى الإيمان يبغي النجاة، فقيل له:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 91 ] آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين

    آلآن أي تؤمن وتسلم لتنجو من الغرق وقد عصيت قبل أي كفرت بالله من قبل الغرق، وكنت من المفسدين أي بالضلال والإضلال، والظلم والعتو.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 92 ] فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون

    فاليوم ننجيك ببدنك أي نخرجك من البحر بجسدك الذي لا روح فيه، فرآه بنو إسرائيل ملقى على شاطئ البحر ميتا، وفي التعبير عن إخراجه من القعر إلى الشاطئ (بالتنجية) التي هي الخلاص من المكروه تهكم واستهزاء لتكون لمن خلفك من الأمم الكافرة آية أي عبرة من الطغيان والتمرد على أوامره تعالى. وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.

    [ ص: 3392 ] تنبيه:

    قال الشهاب الخفاجي في (العناية): لا يقبل إيمان المرء حال اليأس والاحتضار، كما يدل عليه صريح الآية: فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وأما ما وقع في (الفصوص) من صحة إيمانه، وأن قوله آمنت به بنو إسرائيل إيمان بموسى عليه السلام -فمخالف للنص والإجماع، وإن ذهب إلى ظاهره الجلال الدواني رحمه الله. وله رسالة فيه طالعتها، وكنت أتعجب منها حتى رأيت في (تاريخ حلب) للفاضل الحلبي أنها ليست له، وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي. وقد ردها القزويني، وشنع عليه وقال: إنما مثاله مثال رجل خامل الذكر، لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس، كما في المثل (خالف تعرف) وفي (فتاوى ابن حجر رحمه الله) أن بعض فقهائنا كفر من ذهب إلى إيمان فرعون، ولذا قيل: إن المراد بفرعون (في كلامه) النفس الأمارة، وهذا كله مما لا حاجة إليه -انتهى كلام الشهاب-.

    أقول: ذكر شيخنا العطار رحمه الله في كتابه (الفتح المبين في رد اعتراض المعترض على محيي الدين) خاتمة في بطلان ما نسب إلى هذا العارف من القول بصحة إيمان فرعون ونجاته، قال رحمه الله:

    ليعلم أنه شاع فيما بين أهل العلم بأن حضرة محيي الدين رضي الله عنه قال بإيمان فرعون ونجاته، والحال أنه ليس كذلك، كما ستطلع عليه من النقل عنه، نعم، بحث في صحة القول بإيمان فرعون ونجاته وعدمها، حيث الأخذ من الآيات القرآنية، فكان ذلك منه مجرد بحث في الدليل لا غير، وما كان هذا قولا بإيمانه قطعيا، وقد بنى مسألة نجاة فرعون وإيمانه على أصلين من أصوله، وافقه عليهما جم غفير من العلماء الأعلام.

    الأصل الأول- في بيان حقيقة إيمان اليأس، فإيمان اليأس عنده، وعند جم غفير من [ ص: 3393 ] العلماء هو ما كان عند مشاهدة العذاب البرزخي، كحال المحتضر لا غير، ففي هذه الحالة لا ينفع الإيمان، وهذا متفق عليه بين أهل العلم. وذهب قوم إلى أن إيمان اليأس ما كان عند رؤية العذاب دنيويا أو أخرويا، فالإيمان في أي حالة من الحالتين لا ينفع. وعند هذا العارف وجماعة: أن رؤية العذاب الدنيوي لا تمنع صحة الإيمان، وإن أوجبت الهلاك في الدنيا، فإن سنة الله قاضية بأن يتحتم وقوع الهلاك الدنيوي لمن رأى هذا العذاب، وإن آمن ونجا من عذاب الآخرة، إلا قوم يونس، فإنه تعالى نجاهم منه، كما ذكره تعالى.

    الأصل الثاني- من أصوله رضي الله عنه: أن من حقت عليه الكلمة لا يتلفظ بمادة الإيمان بقصد الإيمان، وإن تلفظ بها لا يقصده، فلا بد من تكذيب الله تعالى له، ولو بالحكاية عنه، كما قال تعالى: وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم وكما قال: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا فكذبهم تعالى في دعواهم. وهذا الأصل مأخوذ من قوله تعالى: إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم فكلمة " حتى" للغاية، فغيا تعالى إيمانهم إلى حين رؤية العذاب الأليم، وهو الأخروي لا غير، فإنه هو الذي يوصف بالأليم. ونفى تعالى عنهم وقوع الإيمان قبل ذلك، فوقوعه منهم قبله قصدا، محال بنص هذه الآية.

    إذا تقرر هذان الأصلان، فلنرجع إلى ما قاله هذا الحبر في شأن فرعون في (الفتوحات المكية) وفي (الفصوص). فالذي ذكره في (الفتوحات) عند ذكره طبقات أهل النار فيها: هو أن فرعون من أهل النار، حيث قال في هذا البحث: كفرعون وأضرابه، فخص له ولهم من النار طبقة مخصوصة يؤبدون فيها. وأشار إلى كفره في موضع آخر منها عند ذكره هذا الحديث وهو: « أعوذ بك منك» قال: استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقام [ ص: 3394 ] الاتحاد الذي كان عليه فرعون وهو قوله: أنا ربكم الأعلى وعلى هذه الإشارة وما تقدم، يكون فرعون كافرا عنده، كما هو عند عامة الخلق، وعلى هذا لا إشكال ولا كلام.

    بقي القول على إيمان فرعون ونجاته من حيث الدليل، وهو مجرد بحث مع الذين ذهبوا إلى كفره قطعيا، وليس لهم هذا القطع، لما أن الدليل القرآني يعطي خلافه، قال تعالى: حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت الآية، فذكر فرعون هنا الإيمان ثلاث مرات: اثنتان في الجناب الإلهي، والأخيرة تعمه، والإيمان بموسى حيث قال: وأنا من المسلمين ولم يكن مسلما إلا من جمع بين الإيمان بالله وبرسوله.

    ثم قال شيخنا رحمه الله: وفي (الفتوحات) و (الفصوص) ما حاصله: أن إيمانه لم يكن عند اليأس، لا على مذهبه ومذهب من وافقه، ولا على مذهب غيره. أما الأول فلأن إيمانه كان عند رؤية العذاب الدنيوي، لا عند احتضاره، والإيمان عند رؤية العذاب الدنيوي لا يعد يأسا عنده، وعند جمع. وأما على الثاني، فلأن قول فرعون ما كان عند يأسه من الحياة الدنيوية، فإنه علم أن من آمن بما آمن به قوم موسى كان له المشاركة في الطريق اليبس التي كانت للمؤمنين، وقد شاركهم في إيمانهم، فكان الغالب على ظنه أو يقينه المعاملة الخاصة بالمؤمنين والمشاهدة له، وما علم سنة الله في خلقه بأنه لا بد من الهلاك الدنيوي لمن كانت حالته كذلك، والهلاك في الدنيا لا يدل على عدم النجاة في الآخرة، وهو ظاهر. وعلى هذا فإيمانه لم يكن حال اليأس على المذهبين، فالأول بيقين، والثاني بحسب ما يظهر، ولا بعد بأنه كان طامعا في النجاة بيقين، لعموم المشاركة. هذا، وإن مذهب هذا العارف الخاص به هو البناء على اتساع الرحمة الإلهية، والأخذ بالظواهر من الآيات، ومع ذلك فلما ذكر البحث في شأن إيمان فرعون ونجاته، مع من قال بخلافهما، قال: إن الوقف في شأن إيمان فرعون هو الأسلم، لما شاع عند الخلق عامة من شقائه، وهذا منه صريح في أنه كان باحثا في إيمانه ونجاته من ظاهر اللفظ القرآني بحثا، لا جازما بهما -انتهى ملخصا-.

    [ ص: 3395 ] ثم أنبأ تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل إثر نعمة إنجائهم من عدوهم وإهلاكه، وإخلالهم بشكرها وأداء حقوقها بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 93 ] ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون

    ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق أضيف المكان إلى الصدق ; لأن عادة العرب إذا مدحت شيئا، أن تضيفه إلى الصدق، تقول: رجل صدق. وقدم صدق. وقال تعالى: مدخل صدق و مخرج صدق إذا كان عاملا في صفة صالحا للغرض المطلوب منه، كأنهم لاحظوا أن كل ما يظن به فهو صادق.

    وقوله تعالى ورزقناهم من الطيبات وهي المن والسلوى في التيه وبعده، مما فاض عليهم من الأرض التي تدر لبنا وعسلا فما اختلفوا حتى جاءهم العلم أي ما تفرقوا على مذاهب شتى في أمر دينهم، إلا من بعد ما جاءهم العلم الحاسم لكل شبهة، وهو ما بين أيديهم من الوحي، الذي يتلونه. أي: وما كان حقهم أن يختلفوا، وقد بين الله لهم، وأزاح عنهم اللبس. ونظير هذه الآية في النعي عليهم اختلافهم، قوله تعالى: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وقوله جل ذكره: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب وفيه أكبر زاجر وأعظم واعظ عن الاختلاف في الدين، والتفرق فيه.

    إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #400
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,398

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ هود
    المجلد التاسع
    صـ 3396 الى صـ 3410
    الحلقة (399)





    [ ص: 3396 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 94 ] فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين

    فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك من قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل فاسأل الذين يقرءون الكتاب أي التوراة من قبلك فإنه عندهم على نحو ما أوحي إليك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أي الشاكين في أنه منزل من عنده.

    تنبيه:

    لا يفهم من هذه الآية ثبوت شك له صلوات الله عليه، فإن صدق الشرطية لا يقتضي وقوعها، كقولك. (إن كانت الخمسة زوجا، كانت منقسمة بمتساويين) والسر في مثلها تكثير الدلائل وتقويتها، لتزداد قوة اليقين، وطمأنينة القلب، وسكون الصدر، ولذا أكثر تعالى في كتابه من تقرير أدلة التوحيد والنبوة والرجعة. أو السر هو الاستدلال على تحقيق ما قص، والاستشهاد بما في الكتاب المتقدم، وأن القرآن مصدق لما فيه، أو وصف الأحبار بالرسوخ في العلم، بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلوات الله عليه، تعريضا بالمشركين، أو تهييج الرسول صلوات الله عليه، وتحريضه ليزداد يقينا، كما قال الخليل صلوات الله عليه: ولكن ليطمئن قلبي وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال حين نزول الآية: « لا أشك ولا أسأل » أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة -أو الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، على حد: (إياك أعني واسمعي يا جارة). وفيه من قوة التأثير في القلوب ما لا مزيد عليه، بمثابة [ ص: 3397 ] ما لو خاطب سلطان عاملا له على بلدته بحضور أهلها بوصاياه وأوامره الرهيبة، فيكون ذلك أفعل في النفوس، أو الخطاب لكل من يسمع. أي: إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك... وأيد هذا بقوله تعالى بعد: قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فكأنه أشار إلى أن المذكور في أول الآية رمزا، هم المذكورون بعد صراحة، وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بمقادحة العلماء المنبهين على الحق.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 95 ] ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين

    ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين هو أيضا من باب التهييج والإلهاب والتثبيت، وأجرى بعضهم ها هنا قاعدة، فقال: النهي عن كل شيء، إن كان لمن تلبس به فمعناه تركه، وإن كان لغيره فمعناه الثبات على عدمه، وألا يصدر منه في المستقبل كما هنا -انتهى- أو يأتي الوجهان الأخيران قبل هنا أيضا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 96 ] إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون [ 97 ] ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم

    إن الذين حقت عليهم كلمت ربك أي قوله الكريم، وأمره بعذابهم، كما قال: ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم أي كدأب آل فرعون وأضرابهم. أي: وعند رؤية العذاب يرتفع التكليف فلا ينفعهم إيمانهم.
    [ ص: 3398 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 98 ] فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين

    فلولا كانت قرية آمنت أي فهلا كانت قرية من القرى المهلكة آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته، كما فعل فرعون، وفي هذا التخصيص معنى التوبيخ فنفعها إيمانها بأن يقبله الله منها، ويكشف عنها بسببه العذاب، إلا قوم يونس أي لكن قومه لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين أي إلى آجالهم.

    هذا، وقد جوز أن تكون الجملة في معنى النفي، لتضمن حرف التحضيض معناه، فيكون الاستثناء متصلا ; لأن المراد من القرى أهاليها، كأنه قال: ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس. ويؤيده قراءة الرفع على البدل.

    روي أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى نينوى، من أرض الموصل، وكانت مدينة عظيمة، مسيرة ثلاثة أيام، وهي قصبة بلاد الآشوريين، بانيها آشور أو نينوس بن نمرود، وكلاهما من أولاد بني نوح، وكانت من أقدم مدن العالم وأشهرها، والمؤرخون الوثنيون يصفونها بأن ارتفاع أسوارها كان مائة قدم، ودائراتها ستون ميلا، وهي محصنة بألف وخمسمائة قلعة، طول الواحدة منهن مائتا قدم. قيل: أهلها كانوا يبلغون نحو ستمائة ألف. وخلفاء نمرود في هذه المدينة دأبوا على تحسينها، وتوسيع بنائها، وقويت شوكة الآشوريين في تلك الأيام حتى خضع لهم أكثر ممالك آسيا، فتجبروا وتمردوا، وكانوا كلما ظفروا في غاراتهم يستغرقون في النهب والمظالم، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام، واسمه في العبرية (يونان)، لينذرهم بأنهم لكفرهم واقترافهم الموبقات سيحل بهم العذاب بعد أربعين يوما فتنقلب بهم نينوى. ثم خرج يونس من بينهم فأصحر، فلما فقدوه وبلغ أميرهم قول يونس ; [ ص: 3399 ] تخوفوا نزول العذاب الذي أنذروا به، فقذف الله في قلب أميرهم الإيمان والتوبة، فنزل عن عرشه، وألقى عنه حلته، والتف بمسح، وجلس على التراب، وآمن بالله، وآمن أهل نينوى كلهم، وأمر أن ينادى بنينوى بالصيام، فلا يذوق أحد طعاما ولا شرابا، وألا ترعى البهائم ولا تسقى، وأن يلبس الناس المسوح، صغيرهم وكبيرهم، وأن يجتمعوا في صعيد واحد، يجهرون بتسبيح الله، والإنابة إليه، والاستغفار له، والتوبة عما أسلفوا من الظلم والجرم، وأن يحضروا أطفالهم وذويهم ومواشيهم معهم. ففعلوا وتضرعوا إلى الله، واستكانوا لجلاله، وسألوه أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فلما علم منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف عنهم العذاب ورحمهم. وسيأتي في (سورة الصافات) زيادة في نبأ يونس عما هنا.

    تنبيهات:

    الأول: يروي بعض المفسرين هنا أن العذاب تدلى عليهم، وغشيهم، وجعل يدور على رؤوسهم، وغامت السماء غيما أسود، ونحو هذا. وليس في التنزيل بيان لهذا، ولا في صحيح السنة، وكأن من زعمه فهمه من لفظ (كشفنا)، ولا صراحة فيه.

    قال القرطبي: معنى كشفنا عنهم عذاب الخزي أي العذاب الذي وعدهم يونس أن ينزل بهم لا أنهم رأوه حينئذ، فلا خصوصية، أي كما روي عن قتادة أن هذا الكشف لم يكن لأمة من الأمم إلا لقوم يونس خاصة، فإنه لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا علامته.

    الثاني: في الآية إشارة إلى أنه لم يوجد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى، إثر بعثته وإنذاره، إلا قوم يونس، والبقية دأبهم التكذيب، كلهم أو أكثرهم، كما قال تعالى: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون

    [ ص: 3400 ] وفي الحديث الصحيح: « عرض علي الأنبياء، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس، والنبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد» .

    الثالث: أخرج ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء يرد القدر، وذلك في كتاب الله: إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا الآية.

    وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الدعاء يرد القضاء، وقد نزل من السماء. اقرؤوا إن شئتم: إلا قوم يونس الآية.

    وأخرج ابن مردويه عن عائشة مرفوعا، في قوله تعالى: إلا قوم يونس لما آمنوا قال عليه السلام: « دعوا » -كذا في (الإكليل)-.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 99 ] ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين

    ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم أي بحيث لا يشذ عنهم أحد جميعا أي مجتمعين على الإيمان، لا يختلفون فيه. أي: لكنه لا يشاؤه لمخالفته للحكمة التي بني عليها أساس التكوين والتشريع أفأنت تكره الناس أي على ما لم يشأ الله منهم حتى يكونوا مؤمنين أي ليس ذلك عليك، ولا إليك، كقوله تعالى: [ ص: 3401 ] ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم وترويح لقلبه مما كان يحرص عليه من إيمانهم، كقوله تعالى: لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات

    ولذا قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 100 ] وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون

    وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله أي بإرادته وتوفيقه، فلا تجهد نفسك في هداها، فإنه إلى الله ويجعل الرجس أي الخذلان على الذين لا يعقلون أي حججه وأدلته، لما على قلوبهم من الطبع.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 101 ] قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

    قل انظروا أي تفكروا ماذا في السماوات والأرض أي من الآيات الدالة على توحيده، وكمال قدرته. قال السيوطي: في الآية دليل على وجوب النظر والاجتهاد، وترك التقليد في الاعتقاد. وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون أي وما تنفع الآيات والرسل المنذرون، أو الإنذارات عمن لا يؤمن، و (ما) استفهامية أو نافية.
    [ ص: 3402 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 102 ] فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين

    فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم أو وقائعه تعالى فيهم كما يقال (أيام العرب) لوقائعها، من التعبير بالزمان عما وقع فيه، كما يقال (المغرب) للصلاة الواقعة فيه. قل أي تهديدا لهم فانتظروا أي ما هو عاقبتكم، إني معكم من المنتظرين وقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 103 ] ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين

    ثم ننجي رسلنا عطف على محذوف معلوم من السياق، كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا المرسلة إليهم والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين أي من كل شدة وعذاب. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 104 ] قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين

    قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم إنما أوثر الخطاب باسم الجنس -أعني الناس- مصدرا بحرف التنبيه; تعميما للتبليغ، وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم، وعبر عما هم فيه من القطع بالشك ; للإيذان بأنه أقصى ما يمكن خطوره، [ ص: 3403 ] وإلا فإن وضوح صحته، وبرهان حقيته أوضح من الشمس في رائعة النهار. وقدم ترك عبادة الغير على عبادته تعالى ; إيذانا بمخالفتهم من أول الأمر، وفي تخصيص التوفي بالذكر متعلقا بهم - ما لا يخفى من التهديد ; إذ لا شيء أشد عليهم من الموت. وأمرت أن أكون من المؤمنين أي: بأعلى مراتب التوحيد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 105 ] وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين

    وأن أقم وجهك للدين حنيفا أي مائلا عن الأديان الباطلة.

    لطيفتان:

    الأولى: إقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى، والإعراض عما سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء، يقيم وجهه في مقابلته، بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا ; إذ لو التفت بطلت المقابلة، فلذا كني به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين، فالمراد بالوجه الذات. أي اصرف ذاتك وكليتك للدين، فاللام صلة.

    الثانية: جملة (وأن أقم) عطف على (أن أكون). وجاز حكاية صلة (أن) بصيغة الأمر، لأنه لا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب وبين الخبر، لأن القصد وصلها بما يتضمن معنى المصدر، وهو يحصل بكل فعل. وقال بعضهم: إن هنا فعلا مقدرا. أي وأوحي إلي أن أقم، وأنه يجوز أن تكون (أن) مصدرية ومفسرة، لأن في المقدر معنى القول دون حرفه، ثم رجحه بأنه يزول فيه قلق العطف، ويكون الخطاب في وجهك في محله. ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها، ولا قلق في هذا العطف، وأمر الخطاب سهل; لأنه لملاحظة المحكي، والأمر المذكور معه، كذا في (العناية).

    وقوله تعالى: ولا تكونن من المشركين تهييج وحث له على عبادة الله تعالى، ومنع لغيره، كما تقدم.
    [ ص: 3404 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 106 ] ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين

    ولا تدع أي: لا تعبد من دون الله ما لا ينفعك أي لا في الدنيا ولا في الآخرة إن عبدته ولا يضرك إن لم تعبده فإن فعلت أي: عبدته فإنك إذا من الظالمين أي الضارين لنفسك، أو بوضع الأمر في غير موضعه إن الشرك لظلم عظيم
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 107 ] وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم

    وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم لما نهى تعالى عن عبادة الأوثان، ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر، بين أنه سبحانه هو الضار النافع، الذي إن أصاب بضر لم يقدر على كشفه إلا هو وحده، دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به؟! وكذلك إن أراد بخير لم يرد أحد ما يريده من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟! فهو الحقيقي، إذا بأن توجه إليه العبادة دونها.

    لطائف:

    قيل: ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني، للإشارة إلى أنهما متلازمان، فما يريده يصيبه، وما يصيبه لا يكون إلا بإرادته، لكنه صرح في كل منهما بأحد الأمرين ; إشارة إلى أن الخير مقصود بالذات له تعالى، والضر إنما وقع جزاء لهم على أعمالهم، وليس مقصودا بالذات، فلذا لم يعبر فيه بالإرادة.

    [ ص: 3405 ] وقيل: قصد الإيجاز، فذكر في كل من الفقرتين المتقابلتين ما يدل على إرادة مثله في الأخرى لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب، وهو نوع من البديع يسمى احتباكا.

    قال أبو السعود: على أنه قد صرح بالإصابة حيث قيل (يصيب به) إظهارا لكمال العناية بجانب الخير، كما ينبئ عنه ترك الاستثناء فيه، أي: يصيب بفضله الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير.

    روى ابن عساكر عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفخات ربكم، فإن لله نفخات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوه أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم » . ورواه عن أبي هريرة بمثله.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 108 ] قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل

    قل أي لأولئك الكفرة الفجرة، بعد ما بلغتهم دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وأنذرتهم يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم يعني القرآن فمن اهتدى أي بالإيمان به، فإنما يهتدي لنفسه أي منفعة اهتدائه لها خاصة ومن ضل أي بالكفر به فإنما يضل عليها ي فوبال الضلال عليها. والمعنى: لم يبق لكم بمجيء الحق عذر، ولا على الله حجة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه، وفيه تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه السلام، من جلب نفع أو ضر، كما يلوح به إسناد المجيء إلى الحق، من غير إشعار يكون ذلك بواسطته -أفاده أبو السعود-.

    وما أنا عليكم بوكيل أي بحفيظ موكول إلي أمركم، وإنما أنا بشير ونذير.
    [ ص: 3406 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 109 ] واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين

    واتبع ما يوحى إليك أي في التبليغ، وإن لم يهتدوا به واصبر أي على أذاهم في الدعوة، حتى يحكم الله أي لك بالنصرة عليهم والغلبة: وهو خير الحاكمين وقد حكم وشاء قتلهم وأسرهم يوم بدر، وله الأمر من قبل ومن بعد.
    [ ص: 3407 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    11- سورة هود

    أضيفت إليه لتضمنها نبأه مع قومه، وتمييزا لها، وإن تضمنت أنباء غيره من الأنبياء عليهم السلام.

    وقال المهايمي: سميت به لقوله: إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم الدال على توحيد الأفعال، مع استقامته بإعطاء كل مستعد ما يستعد له، المقتضية للأحكام والجزاء، وهي من أعظم المقاصد. اهـ.

    وهي مكية. واستثنى منها ثلاث آيات أنزلت بالمدينة فألحقت بها: فلعلك تارك أفمن كان على بينة من ربه وأقم الصلاة طرفي النهار

    وآياتها مائة وثلاث وعشرون.

    روى الحاكم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! قد شبت! قال: قد شيبتني (هود) و (الواقعة) و (المرسلات) و (عم يتساءلون) و (إذا الشمس كورت) ورواه هو والترمذي عن ابن عباس.

    وروي أيضا عن أنس وسهل وعمران، وفي رواية: شيبتني هود وأخواتها ذكر يوم القيامة وقصص الأمم.

    وفي رواية: شيبتني هود وأخواتها. وما فعل بالأمم.

    [ ص: 3408 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 1 ] الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير

    الر تقدم الكلام على مثلها في أول سورة البقرة فليتذكر.

    كتاب أحكمت آياته أي نظمت نظما رصينا محكما معجزا، وأثبتت دائمة على حالها لا تتبدل ولا تتغير ولا تفسد، محفوظة عن كل نقص وآفة ثم فصلت أي لأنواع من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، كما تفصل القلائد بالفرائد. أو جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية، أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد، أي: بين ولخص.

    قيل: (ثم) هنا للتراخي في الحكم، أي الرتبة، أو التراخي بين الإخبارين، لا للتراخي في الوقت، لأن التفصيل والإحكام صفتان لشيء واحد، لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فليس بينهما ترتب وتراخ، وهذا التكلف على أن (ثم) تقتضي الترتيب، وقد خالف قوم في اقتضائها إياه، كما حكاه في (المغني).

    من لدن حكيم خبير أي إحكامها وتفصيلها من لدن حكيم بناها على علم وحكمة، لا يمكن أحسن منها، وأشد إحكاما، وخبير بتفاصيلها على ما ينبغي في النظام الحكمي في تقديرها وتوقيتها وترتيبها -قاله القاشاني-.

    قال الزمخشري: وفيه طباق حسن ; لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها، أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور.
    [ ص: 3409 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 2 ] ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير

    ألا تعبدوا إلا الله قال القاشاني: أي تنطق عليكم بلسان الحال والدلالة، ألا تشركوا بالله في عبادته، وخصوه بالعبادة.

    وقال الزمخشري: " ألا" مفعول له، أي لئلا. أو (أن) مفسرة، لأن في تفصيل الآيات معنى القول، كأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم ألا تعبدوا إلا الله.

    وقوله تعالى: إنني لكم منه نذير وبشير كلام على لسان الرسول، أي إنني أنذركم، من الحكيم الخبير، عقاب الشرك وتبعته، وأبشركم منه بثواب التوحيد وفائدته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [3 ] وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير

    وأن استغفروا ربكم أي من الشرك ثم توبوا إليه بالطاعة. أو المعنى: ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، كقوله: ثم استقاموا

    يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى أي يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة واسعة، ونعم متتابعة إلى وقت وفاتكم، كقوله: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة

    ويؤت كل ذي فضل فضله أي ويعط كل ذي فضل في العمل الصالح في الدنيا أجره، وثواب فضله في الآخرة.

    وإن تولوا أي تتولوا عن التوحيد والتوبة إليه فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير وهو يوم القيامة.

    [ ص: 3410 ] قال القاشاني: (كبير) أي شاق عليكم، وهو يوم الرجوع إلى الله، القادر على كل شيء، أي يوم ظهور عجزكم، وعجز ما تعبدون، بظهوره تعالى في صفة قادريته، فيقهركم بالعذاب، ولذا قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [ 4 ] إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير [ 5 ] ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور

    إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير

    ثم بين تعالى إعراضهم بجسمهم أيضا، إثر الإشارة إلى توليهم بقلبهم، بقوله: ألا إنهم يثنون صدورهم أي يزورون عن الحق واستماعه بصدورهم: ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون أي في قلوبهم وما يعلنون أي يجهرون بأفواههم إنه عليم بذات الصدور أي بما في ضمائر القلوب. ونظير ما حكي هنا عن مشركي مكة من كراهتهم لاستماع كلامه تعالى; ما قاله تعالى عن قوم نوح: وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا وما ذكرناه هو أظهر ما تحمل عليه الآية -والله أعلم-.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •