بوركتَ..
وكلام الشيخ رحمه الله بهذا الإطلاق وبهذه العبارة = خطأ ظاهر..
بل تمثيله بابن سينا بالذات يُظهر هذا الخطأ..
ولو مثل الشيخ بالكندي = لصح كلامه صحة تامة.والصواب في الكندي أنه معتزلي تفلسف..
أما الشيخ الرئيس فصلة إلهياته بالمعتزلة قليلة..وأكثر تأثره في الإلهيات ..هو من الفلسفات القديمة..وليس أرسطو فقط.
بل رؤوس مسائل الإلهيات كحدوث العالم وعلم الله وصفاته ونظرية الفيض والصدور والعناية وعقل الله والبرهان على المحرك الأول ..
كل ذلك فلسفة قديمة محضة وصلتها بفلسفة المعتزلة ليست كبيرة(وبعض ذلك كربط الشيخ بين الحادث والمحدث عند المعتزلة وبين الواجب والممكن عند ابن سينا هو : محض اجتهاد وليس نصاً في الصلة)،وهو-أي ابن سينا- يخلط بين فلسفة أرسطو وبين الأفلطونية المحدثة وشذرات من فلسفة أفلاطون..وأرى أن شيخ الإسلام أتي في تقريره هذا من جهتين :
الأولى : عدم اطلاع الشيخ على كتب طبقات المعتزلة الأولى فلعله ظن فيها ما ليس فيها.
والثانية : أن ابن سينا لا يلتزم عبارة أرسطو ولا يقف عند نصوصها وكان يُخطيء في فهمها فلربما اشتبهت صلة كلامه بكلام أرسطو.
بل شيخ الإسلام نفسه نسب فكرة من أفكار ابن سينا للمتكلمين في موضع ثم عاد وقرر نسبة أصل من أصول تلك الفكرة لأرسطو في موضع آخر..
فيقول : ((فلما رأى ابن سينا وأمثاله من المتأخرين ما فيها من الضلال عدلوا إلى طريقة الوجود والوجوب والإمكان وسرقوها من طريق المتكلمين المعتزلة وغيرهم)).
يقول الشيخ نفسه في موضع آخر : ((كون الشيء مفعولا مصنوعا مع كونه مقارنا لفاعله أزلا وأبدا ممتنع ويقولون أيضا : إن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا موجودا تارة ومعدوما أخرى فأما ما كان دائم الوجود فهذا عند عامة العقلاء ضروري الوجود وليس من الممكن الذي يقبل الوجود والعدم وهذا مما وافق عليه الفلاسفة قاطبة حتى ابن سينا وأتباعه ..
وأكثر الفلاسفة من أتباع ارسطو وغيره مع الجمهور يقولون : إن الإمكان لا يعقل إلا في المحدثات ..
و ابن سينا قد ذكر أيضا في غير موضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم كما قاله سلفه وسائر العقلاء)).
ونبه شيخ الإسلام في نفس الموضع على مسألة في نظرية الواجب والممكن تفرد بها ابن سينا.
وإذاً : فنظرية الواجب والممكن قسم منها متفق عليه بين ابن سينا وأرسطو وغيرهما ..وقسم تفرد بها ابن سينا..وفكرة الممكنات وصلتها بالمحدثات فكرة فلسفية قديمة = فالقول بأنه سرق دليل الواجب والممكن من المتكلمين فيه مبالغة من الشيخ فيما أرى..
ومن أمثلة بناء ابن سينا على كلام أرسطو ما نقدم له بقول الشيخ : ((ولا ريب أن مسائل الإلهيات كالنبوات ليس لأرسطو وأتباعه فيها كلام طائل أما النبوات فلا يعرف له فيها كلام وأما الإلهيات فكلامه فيها قليل جدا وأما عامة كلام الرجل فهو في الطبيعيات والرياضيات ولهم كلام في الروحانيات من جنس كلام السحرة والمشركين وأما كلامهم في واجب الوجود نفسه فكلام قليل جدا مع ما فيه من الخطأ وهم لا يسمونه واجب الوجود ولا يقسمون الوجود إلى واحب وممكن وإنما فعل هذا ابن سينا وأتباعه ولكن يسمونه المحرك الأول والعلة الأولى كما قد بسط أقوالهم في موضع آخر )).
فالكلام في المحرك الأول هو كلام أرسطو كما يُقر الشيخ وابن سينا تكلم بواجب الوجود..لكن الذي ننبه إليه هاهنا أن ابن سينا أعمل أيضاً برهان المحرك الأول إلى جانب نظرية الواجب والممكن ..وهذا لا أظن الشيخ ينفيه..لكن أحببتُ أن أبين أنه حتى قليل الإلهيات الأرسطية -في نظر الشيخ- أخذه ابن سينا وزاد فيه..
الخلاصة :
أعتقد أن العبارة العادلة التي تُقلل نسبة الخطأ لكلام الشيخ = ليست عبارة الصفدية يا أبا عاصم وإنما هي عبارته في ((درء التعارض)) : ((المقصود ذكر طرق هؤلاء ومنتهى نظرهم ومعرفتهم وأن خيار ما في كلام ابن سينا وأمثاله إنما تلقاه من طرق المتكلمين كالمعتزلة ونحوهم مع ما فيهم من البدعة. وأما ما ذكره هذا من طريقة الفقهاء فهي أضعف وأقل فائدة في العلوم الإلهية من طريقة ابن سينا بكثير فإن ابن سينا أدخل الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق المتكلمين وطرق الفلاسفة والصوفية ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقا حتى نفقت على كثير من أهل الملل بخلاف فلسفة القدماء فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإلهية ما لا يخفى على أحد ))..
فهذه العبارة وما فيها من ذكر الموارد :
1- المتكلمون : وهو خيار كلام ابن سينا وليس أكثره ولا أغلبه.
2- طرق الفلاسفة : وهذا أعم من أرسطو.
3- المتصوفة : وهو من أجناس فلسفات اليهود والنصارى والهنود.
=
هي العبارة الأعدل والأقرب للصحة ويبقى وصف بعض الموارد بالطغيان على الأخر = محض اجتهاد..
ه