تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الوسطية .. الحلقة المفقودة

  1. #1

    افتراضي الوسطية .. الحلقة المفقودة

    تعددت أقوال الباحثين في تحديد المعنى الاصطلاحي للوسطية ، وقد حان بيان الخطأ الذي وقع فيه من كتب وأجهد نفسه ، في محاولة وضع ضوابط للمصطلح ؛ بحيث لا يؤدي اعتماده إلى الغلط في بناء الأحكام والمواقف الشرعية ، فبعضهم جعل الوسطية مرادفاً للخيرية ، وبعضهم اشترط لإطلاق الوسطية تحقق ضابطين ، هما : الخيرية ، والبينية .
    ومكمن الخطأ أنّ الوسطية كمصطلح لم يأتِ نصٌّ بالأمر بها ، إذ الوسط -كلفظ مطلق - لا يدلّ على الخيرية مطلقاً ، بل يحتمل ذلك ، ويحتمل غيره .
    ومن هنا نجد أنّ النصوص إنّما نصت نصاً على المعاني الفاضلة الّتي يصحّ وصفها بالوسطية ، وليس العكس .
    وهذا يجعلنا نتوقف أمام محاولة البعض وضع ضوابط للوسطية باعتبارها منهجاً وضابطاً مستقلاً توزن به تصرفات المؤمن .
    صحيح أنّ المدح والثناء بشيء يدل على الأمر ، لكن حين يكون الأمر ليس منصوصاً على ضوابطه يكون للعقل مجال كبير فيه ، وما كان للعقل مجال كبير فيه أصبح مظنة الاجتهاد والتحسين ، الذي لا يخلو بحال من الأحوال من تأثير الهوى ، أو المذهب ، أو الأغراض الشخصية .
    ولا يهمنا في هذا السياق إثبات العلاقة بين الخيرية والوسطية ، لأننّا في بحثنا نتكلم عن الوسطية في الإسلام ، أي أننا أمام بحث شرعي ، والبحث الشرعي هدفه الأول والأساس إثبات دلالة النصوص والأصول والقواعد على الحكم الشرعي ، فما ثبت به النص فهو الخير والعدل ، أمّا وصفه بالوسطية من عدمه فهذا ليس مما أُمِرنا به ابتداءً.
    وليس معنى هذا أنّ اعتبار حال التوسط مهمل أو غير ضروري ، بل هو مما أُمِرنا بملاحظته والاهتمام به كوصف نفسيّ إيماني ، لا كأصل عقليٍّ لبناء الأحكام والمواقف الشّرعيّة.
    ومن هنا كان الكلام في الوسطية كمصطلح كلام في الحقيقة غير مجدٍ ، لأنّه نظريٌّ لا عملي ، ولهذا السبب - أيضاً - لا نجد للسّلف كلاماً في تحديد معنى الوسطية كمصطلح .
    وإذا تأمّلنا في النّصوص وكلام أئمة العلم والسنة ، تبيّن لنا أنّ المعنى الصحيح للوسطية المحمودة شرعاً هو : موافقة الحق ، فالشّريعة محفوظة منصوص عليها ، لا تحتاج في مسائلها وأحكامها إلى معرفة طريقة الوسط أو الوسطيّة ، بل الأصل أنّ ما وافق الشرع ، فهو الوسطية، عينها ، وحقيقتها ، ونفسها ، وما خالف الشّرع فهو مائل عن الوسطية ،إمّا إلى إفراط ، أو إلى تفريط .
    أمّا مالم يكن منصوصاً ، بل هو محلّ اجتهاد ، سواء كان مسألة شرعية أم كان أمراً دنيوياً ، فالأصل أن يبحث فيه بتجرّد دون تأثّر بالتوسط ، بل البرهان ، والدليل ، وفعل السلف ، والمصلحة ، والمفسدة ، هي الضوابط الّتي تحدّد وجه الصّواب في موارد الاجتهاد ، وما الوسطية إلاّ أحد الضّوابط والمرجّحات الّتي تعين على معرفة الصّواب ، واستيقانه بعد ترجيحه .
    فإذا اختلف العلماء في حكم شيء ما بين موجب ومبيح ، فلا يجوز أن يتّجه الباحث مباشرةً إلى التوسّط فيقول بالاستحباب ، لأنّ كلّ حكم شرعي له دليله الّذي يستند عليه ، سواء كان إباحةً ، أم وجوباً ، أم تحريماً .
    فهذا الذي ذكرناه نظر لا يصلح ، بل الوسطية في المسائل والوقائع تكون مرجّحة مقوّيةٌ لما يظهر صوابه من الاختيارات ، فالوسطية نظر لاحق لا سابق .
    ومنشأ ذلك هو قصور الإنسان في رؤية الوسطية ، واختلاف النظر في تعيينها ، ولهذا أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي .
    فمثلاً : بينما يرى أهل السنة أنهم وسط بين المعطلة وبين المشبهة ، يرى الأشاعرة أنهم وسط بين الجهمية ، وبين المشبهة ، الذين هم عندهم أهل السنة مثبتة الصفات .
    وبهذا نعرف الخطأ الذي وقع فيه من استحسن بعض الأحكام والأقوال لمجرد أنه رآها وسطاً .
    وبسبب هذا الاضطراب والخطأ في معرفة حقيقة الوسطيّة ومعاييرها ، تنكّر لها بعض الكتّاب المعاصرين ، وعدّوا الكلام فيها نظرياً لا حقيقةً له ، يقول معتزّ الخطيب : «ثم إننا حين نقول: إن الوسطية هي بتلك المنزلة من الإسلام فأين تقع المذاهب الإسلامية التي هي نتاج جدل وتفاعل المسلمين مع النص الديني؟ المذاهب الفقهية والعقدية على السواء. فهل تقع داخل الوسطية الإسلامية التي هي روح الإسلام أم خارجه؟ وإذا وصفت جميعًا بالوسطية من أشعرية وسلفية وماتريدية ومعتزلة إلى غير ذلك فأي معنى للوسطية بين هذه المختلفات التي تصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان؟ ومن يملك مشروعية احتكار ذلك النعت وسلبه عن الآخرين؟ (1)
    ويقول الدكتور تركي الحمد «فعندما نتحدث مثلاً عن الوسطية وننظر لها، فإننا نتفق حين نكون في دائرة التجريد والعموم، ولكننا نختلف حين ننتقل إلى دائرة المحسوس والخصوص، تماماً مثلما نتفق على جمال الغابة حين نراها من بعيد، ولكننا نختلف على جمال الأشجار حين نكون في قلب الغابة ، أسئلة كثيرة تثار حين الانتقال من التجريد إلى التجسيد، فحين الحديث عن الوسط والوسطية تثار أسئلة مثل: من يحدّد ما هو الوسط الذهبي المبتغى؟ وبأي معيار يكون التحديد؟ وهل أنّ هذا الوسط كمي أو كيفي؟ وما هو الفيصل بين الكمي والكيفي، وغير ذلك من أسئلة لا بد أن تثار حين نحاول تجسيد ما هو مجرد وعام. وفي الختام، ليس هناك إلا من يدعي بأن الوسطية ملك يمينه وحده، وكل وسطية تعارض أو تتعارض مع وسطيته هي وسطية مدعاة، تطرف في ثوب وسطية، إفراط أو تفريط، وبذلك نصل إلى ما يمكن تسميته صراع «الوسطيات» .
    ويقول – أيضاً -: « ففي نهاية المطاف، فإن الوسطية مفهوم غامض، حين نهبط من سماء التجريد، ونسبي حين الحديث عن الدنيا المحسوسة لا المثال المتوخى » ، ويقول أخيراً : « لقد آن أوان التخلي عن مثل هذه المفاهيم التي لا تعني شيئاً في النهاية، وتأسيس خطاب جديد لا يكون همه مجرد المفاهيم بقدر ما يهمه تحديد معيار ملموس للحكم بصلاح الدول والمجتمعات أو فسادها، بعيداً عن غموض تلك المفاهيم التي شتت وفرقت أكثر مما قربت أو قدمت حلاً عملياً لمشكلات عملية، وليس مشكلات لا تقبع إلا في أذهان أصحابها»(2).
    وكلام الدكتور فيه تعويم كبير ، وقد يكون له عذر في ذلك ، بسبب أنّ أكثر الطّرح الّذي ينادي للوسطية في الوقت الرّاهن إنّما ينطلق من قناعته بمسلّمات ثابتة لديه ، راسخة في عقله ، أنّه هو ومن يمثّلهم أهل التوسّط والاعتدال ، وهذا يتكرّر بعدد التيارات الّتي تنادي بالوسطية ، حتّى تكوّن لدينا بحق ما سمّاه (صراع الوسطيّات).
    لكنّ هذا الكلام بالطّبع لا يلزمنا هنا ، بعد أن عرفنا أنّ الوسطيّة ليست ضابطاً عقلياً ومعياراً فكرياً لمعرفة الصواب والخطأ .
    الوسطيّة فضيلة وصف الله به هذه الأمّة وكتابها وشريعتها ، وبهذا تيقّنّا أنّ الشريعة ونصوصها القطعيّة وثوابتها ومعالمها الشّامخة هي المعيار للصّواب والخطأ في حياة البشريّة ، بغضّ النّظر عن وصف الآخرين لذلك بالوسط أم لا ، فالشّريعة هي الحاكمة .
    وإذا تبيّنّا وعلمنا حكم الشّريعة ونصوص الدّين فتلك هي الوسطيّة الّتي ننشدها ، وبهذا يتبيّن خطأ ما نحا الدّكتور تركي الحمد .
    وقد تنبّه لهذا البروفيسور أبو يعرب المرزوقي في أحد مقالاته حيث قال : «إن مفهوم الوسطية القرآني أسيء فهمه، فمادة (و س ط)، لم ترد في القرآن إلا في خمس آيات لا غير، وكلها تتعلق بالتوسط الوجودي، أعني التوسط الذي يصف حالة موجودة خبريًّا ولا يتكلم في التوسط القيمي الذي يكلف بتحقيق الوسط، فهو فيها جميعًا خبري ووجودي وليس إنشائيًّا وقيميًّا... فالوسطية حال وجودية يتصف بها المسلمون» (3)
    وما دام الكلام هنا عن وسطية الإسلام ، فإنّ الذي يجب تأكيده أن وسطية الإسلام ثبتت بوصف الله - تعالى - له بذلك ، لا بنظر بشري .
    وعليه فوسطية الإسلام مقطوعٌ بها في أحكامه العلمية والعملية والتربوية .
    وبهذا يصبح من الواجب أن يتوجّه من ينشد الوسطية والاعتدال في الدين إلى النص الشرعي مباشرة ، فإذا تحقق من ثبوته أولاً ، ومن فهمه بفهم العلماء والأئمة الّذين بيّنوه وعملِهم به ثانياً ، فإنه حينئذ قد عرف الوسطية والاعتدال حقاً من كتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .
    فالوسطية ليست علة تُشرع من أجلها الأحكام ، وإنما هي وصف يُشير إلى الحكم الشّرعي، مثلها مثل الحكم والغايات الّتي يذكرها العلماء للحكم الشرعي .
    ولهذا يرى الباحث من خلال تتبعه للنصوص الشرعية أنها أمرت بأحوال نصت عليها هي بلا شك ظاهرة الاعتدال والوسطيّة .
    لكن لم تأمر بشيء تحت مسمى الوسط ، وهذا يشير إشارة واضحة إلى أنّ اعتماد الوسطية كحال يُستنبط منه الحكم الشرعي أمر غير صحيح ، والدليل على هذا هو غياب هذا الضابط في كلام السلف في نصوص وقواعد الاستدلال .
    ====
    (1) (مجلة الكلمة الإلكترونية الجمعة 11 ، مايو 2007)
    (2) تركي الحمد ، الشرق الأوسط الاثنيـن 14 ربيـع الاول 1425 هـ 3 مايو 2004 العدد 9288
    (3) الملتقى الفكري للإبداع تعليق على بحث الأستاذ محمد عمارة، مقال في وسطية العقلانية الإسلامية .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    964

    افتراضي رد: الوسطية .. الحلقة المفقودة

    جزاكم الله خيرًا ..
    أخي أباعمر : بما أنك مهتم بـ ( الوسطية ) ، فتكرمًا اطلع على لفظ ( الوسطية ) من كتابي " المستدرك على معجم المناهي " ، وهو موجود في مكتبة الألوكة .. ففيه ما أراه مفيدًا لكل من أراد الحديث عن هذا المصطلح .
    وفقكم الله ..

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •